جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثاني والعشرون) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لذلك يتم تعريف مفهوم الوعي من خلال تعارضين: من ناحية، تعارض الوعي والمتعارض مع (ob-jet) في مقابل الذات (في الألمانية Gegenstand تعني حرفيا ما يتعارض مع، ويحوله المترجمون إلى "ob-jet" وهم يحتفظون ب "objet" لكلمة ألمانية أخرى:Objekt)؛ تعارض المعرفة والحقيقة من ناحية أخرى. كل تعارض من هذه التعارضين يعطي لمفهوم الوعي معنى مختلفا. يكون له معنى ذاتي عندما يشير إلى نشاط معين للعقل، النشاط الذي من خلاله تميز الذات معرفتها عن الأشياء التي تتعلق بها: وهذا ما يمكن أن نسميه، في اللغة الهوسرلية، النشاط "الإدراكي النيوماتيكي" للوعي، الترابط بين الفعل الفكري "القصدي" والموضوع المقصود. لكن يجب أن يفهم الوعي أيضا بالمعنى الإبستيمولوجي، بموجبه يكون فهما عفويا من قبل العقل لما يشكل حقيقة تمثلاته، أو معرفته. وفقا لهذا التصور للحقيقة، تُعتبر الأشياء الخارجية مستقلة في حد ذاتها عن المعرفة، وهي في ذاتها يجب أن تتوافق معها المعرفة حتى تكون صحيحة. نصادف المفهوم التقليدي عن الحقيقة باعتبارها "توافق" المعرفة مع موضوعها. لماذا ننسب هذا التصور عن الحقيقة إلى الوعي؟ لأنها تُخضع معرفتها تلقائيا لمثل هذا الطلب على الحقيقة، والاهتمام بالدقة ( Richtigkeit ) في الاصطلاح الهيجلي.
يتم إذن تعريف مفهوم "الوعي" من خلال ثنائية مزدوجة: تنضاف إلى ثنائية الوعي وموضوعه ثنائية المعرفة والحقيقة. فقط الثنائية الثانية، ذات الطبيعة الإبستيمولوجية، هي موضوع النقد الذي تطور عبر "الفينومينولوجيا" وأدى إلى النتيجة التي صيغت في فصل “المعرفة المطلقة”: إنما في عرض المعرفة على شكل مفهوم، وليس في ما وراء المعرفة، ينبغي البحث عما يشكل أعلى درجة من حقيقة المعرفة (الدقة هي فقط أدنى درجة من الحقيقة). في مرحلة المعرفة المطلقة، سيتم القضاء على التعارضات المكونة للوعي، بين المعرفة والموضوع، المعرفة والحقيقة، الوجود-من-أجل-الوعي والوجود في ذاته. سوف يفسح الوعي المجال للعلم، للمفهوم الذي يُفهم على أنه وحدة الفكر والوجود:
"إذا كانت كل لحظة، في فينومينولوجيا الروح، هي الاختلاف بين المعرفة والحقيقة، وكذلك الحركة التي يتم فيها إزالة هذا الاختلاف، في المقابل، لا يحتوي العلم على مثل هذا الاختلاف وإزالته، لكن، بما أن للحظة شكل المفهوم، فهي تجمع بين الشكل التعارضي (obj-ectivale) للحقيقة وشكل الذات التي تعرف في وحدة مباشرة" (890/432).
شكل الوعي

من خلال ربط معرفته بأشياء محددة، يتطلب الوعي أن تتوافق معرفته مع هذه الاشياء. يوفر هذا المطلب المعيار الداخلي الذي يجعل نقده المحايث ممكنا. في الواقع، يتوقف محتوى هذا المعيار في كل مرة على نوع المعرفة التي يتم أخذها بعين الاعتبار. تتمثل أطروحة هيجل في أن كل شكل أو بنية أو جشطالت للوعي يتميز بنوع معين من المعرفة، يتضمن تصورا محددا عن الموضوعية وبالتالي عن الحقيقة. إن متطلبات التماثل، والتماسك، بين تصور المعرفة وتصورات الموضوعية والحقيقة الناتجة عنها تشكل المعيار الذي على ضوئه سيقيس كل شكل من أشكال الوعي صحة معرفته.
لكن كيف يمكن للوعي أن يتحقق بالضبط مما إذا كانت معرفته متوافقة بالفعل مع حقيقته؟ إذا كان متطلب الحقيقة مفهوما ببساطة بمعنى متطلب الملاءمة لشيء في ذاته، فلن يتمكن الوعي أبدا من إجراء فحص حقيقة معرفته، لأنه لا يملك سوى الوصول إلى الوحود من اجله لهذا الشيء في ذاته. (الفقرة 12). إنما إذن بمعنى آخر يكون من الممكن المقارنة بين المعرفة والحقيقة. لأن كل شكل من أشكال الوعي يفترض مسبقا تصورا معينا للموضوعية، للشيء في ذاته، يمكن للفحص أن يتمثل في مواجهة نمط المعرفة الذي يجب أن يكون مع تصور الموضوعية المرتبط به. لا يتعلق الأمر بمقارنة المعرفة بالواقع كما يوجد في ذاته، بشكل مستقل عن المعرفة التي يمتلكها الوعي عنه، بل هناك تصوران: التصور الذي بكونه الوعي عما يجب أن تكون عليه المعرفة، والتصور عما يجب أن تكون عليه حقيقة موضوع المعرفة. بهذا المعنى كتب هيجل أن "التمييز الذي تم للتو [بين المعرفة والحقيقة] يقع فيه [في الوعي]". ويضيف: “إذا كنا نسمي المعرفة مفهوما بينما نسمي الجوهر أو الحقيقة الموجود أو المتعارض-مع (l ob-jet)، فإن الفحص يتمثل في النظر لمعرفة ما إذا كان المفهوم يتوافق مع المتعارض-مع” (§ 12، 16).
هكذا تؤدي فكرة شكل الوعي إلى الفكرة الأصلية التي بموجبها يفترض كل نمط من المعرفة تصورا معينا للحقيقة يحمل هو نفسه أنطولوجيا خاصة، في هذه الحالة، تصورا لنمط الموضوعية التي يفترض فيها أن تأخذها المعرفة في الاعتبار والتي يفترض فيها في المقابل أن تؤسس قيمة هذه المعرفة. توجد علاقة متبادلة بين تصور المعرفة وتصور الموضوعية تظهر بشكل واضح في الفصول الثلاثة الأولى. إن نقطة البداية في "الفينومينولوجيا" هي "اليقين الحسي". يشير هذا المفهوم إلى نمط من المعرفة: المعرفة الحسية المباشرة بوجود شيء ما هنا والآن، والحدس التجريبي لشيء ما عن طريق الأحاسيس البصرية، اللمسية السمعية، إلخ .. وبشكل متلازم، في هذا الشكل الأول من الوعي، يُنظر إلى الموضوعية على أنها مجموعة من الحقائق الأولية الموجودة مباشرة، بشكل مستقل عن بعضها البعض، مثل "أعيان". في الفصل التالي، يعتبر الإدراك الشكل الأكثر موضوعية للمعرفة، لأنه لا يدرك وجود شيء هنا والآن فحسب، بل يوحد مجموعة من الصفات المحسوسة (المتصورة كخصائص للشيء) ومتعين جوهري (أصبح معرفة بهذا الشيء الذي تظهر طبيعته في خصائصه). يُنظر إلى الموضوعية بشكل مترابط على أنها مجموعة من الأشياء، أي وحدات جوهرية هي بمثابة خصائص مختلفة. في الفصل الثالث، تُفهم الموضوعية من الآن على أنها مجموعة ديناميكية من القوى الخارجية في الظواهر، التي تتوافق معها المعرفة من خلال فهم مجموعة من القوانين التي تحكم العلاقات الثابتة بين هذه الظواهر.
تجربة الوعي
يقصد هيجل بتجربة الوعي العملية التي يقوم خلالها الوعي، في كل شكل من أشكاله، بفحص حقيقة معرفته، أو يضع "واقع" معرفته على المحك. ماذا يعني استخدام هذا الأفهوم في هذا السياق؟ للوهلة الأولى، يبدو أن مفهوم التجربة يُفهم بالمعنى الإبستيمولوجي للتجريب: قد يبدو أن الأمر يتعلق بعملية تواجه فيها التمثلات الأشياء التي من المفترض أن تبلغ عنها، ومن ثم قد يعني مصطلح التجربة تحديد النتيجة السلبية لهذا الإجراء، كما هو الحال في التكذيب التجريبي. ومع ذلك، كما لاحظنا، فإن المواجهة ليست بين المعرفة وموضوعها، بل بين المعرفة وتصور الموضوعية الذي يبدو أنه يضمن حقيقتها. فضلا عن ذلك، فإن أصالة المفهوم الهيجلي للتجربة تكمن في أنه لا يشير فقط إلى العملية التي تؤدي إلى التكذيب من خلال التجربة، بل كذلك إلى التغيير في المعرفة الناتج عنها. وأخيرا، يرجع ذلك إلى أن هذا التغيير لا يأتي فقط من البحث عن معرفة أكثر ملاءمة للأشياء التي يتعلق الامر بمعرفتها، كما هو الحال في منطق التجريب، بل من إنتاج معرفة أخرى تفترض تصورا مختلفا لمعرفة الموضوعات التي يتعين معرفتها.
بعبارة أخرى، التجربة هنا ليست اكتمال شكل من أشكال الوعي، أو تحسن نمط معين من المعرفة، بل هي الانتقال إلى شكل آخر من أشكال الوعي، أو تغيير النموذج الإرشادي بطريقة أو بأخرى. إن مصطلح التجربة يؤخذ وفق معانيه الإبستيمولوجية بقدر ما يؤخذ وفق معاني أخلاقية أو وجودية، كما سبق أن أشرنا. يتحدث هيجل بالتالي عن “التطهير” (§ 5، 160/55)، وعن اختبار “اليأس” (§ 6، 161/56) وحتى عن “التحويل” (§ 15، 170/61). في الفقرة 13، يحدد طبيعة الحركة الجدلية لتجربة الوعي:
"يختبر الوعي، نتيجة لذلك، أن ما كان بالنسبة إليه سابقا في ذاته، ليس في ذاته، أو أنه لم يكن في ذاته إلا من أجله (الوعي). وبقدر ما يكون هكذا، حتى لموضوعه، يجد أن معرفته لا تتوافق مع هذا الاخير، لا يحافظ مثل هذا المتعارض مع على نفسه؛ أو [مرة أخرى:] يتغير المعيار المرجعي للفحص عندما لا يصمد ما كان من المفترض أن يكون معيارا له في وجه الفحص؛ والفحص ليس فقط فحصا للمعرفة، بل أيضًا للمعيار المرجعي الذي يتضمنه (§ 13، 168/69)
يمكننا بالتالي أن نميز بين ثلاث لحظات في ما يسميه هيجل "تجربة الوعي": اختبار التناقض الذاتي؛ رفض المعرفة والموضوعية المرتبطة بها؛ التحويل إلى شكل جديد.
(1) من خلال مقارنة معرفته بتصوره للموضوعية، يكتشف الوعي أن هذه الأخيرة غير ملائمة للأول، بل تتعارض معه. مثلا، يصبح واعيا بأن اليقين الحسي لا يعرف الحقيقة الأكثر عينية وتفردا، الهذا الخاص الذي استهدفه في البداية، ولكن الهذا المعبر عنه بكلمات ومفاهيم، الكوني؛ ثم يدرك أن الإدراك لا يعرف الوحدة الموضوعية للخصائص، بل وحدتها الذاتية (أن الإدراك حكم)؛ وأخيرا، أن الفهم لا يعرف عالم القوانين الفائقة المعقولية الموجود خلف الظواهر، بل يعرف وحدة الفكر الخاصة بالظاهراتية".
(2) يدرك الوعي أن موضوعه، ما يعتبره في ذاته، ليس إلا شيئا في ذاته بالنسبة إليه: إن تصوره للموضوعية ليس سوى إنتاج لمعرفته الخاصة، التي تنهار معه. لنواصل توضيح هذه العملية باستخدام الأشكال الثلاثة الأولى. بمجرد أن يفهم الوعي أن ما يعتبره هذا فرديا وملموسا يُعطى له في معرفة مجردة وكونية، فإنه لم يعد لديه أي سبب للاعتقاد بأن الواقع في حد ذاته يجب أن يُنظر إليه على أنه "هذا". بمجرد أن اختبر الوعي كون خصائص الأشياء ذاتية كالوحدة المنسوبة إليها في الإدراك، لم يعد لديه أي سبب للاعتقاد بأن الواقع سيتكون من أشياء جوهرية توحد الخصائص الموضوعية. وبالمثل، بمجرد أن يفهم أن الفهم هو ما يختبئ وراء العالم فوق المعقول للقوانين، لم يعد هناك أي سبب لاعتبارها باطنا (موضوعيا) قد يكون أساسا خارجيا (ذاتيًا)، أساس الظاهراتية.
(3) آنئذ يفقد معيار الفحص ذاته معناه. يدرك الوعي أن حقيقة معرفته القديمة لا تتوقف على موضوع يقع في ما وراءه (القديم في ذاته)، بل على توحيد أفضل للحظات معرفته المختلفة. والنتيجة هي "تحويل الوعي" إلى نوع جديد من المعرفة سيولد في حد ذاته مفهوما جديدا عن الشيء في ذاته. يظهر شكل جديد من الوعي يتمثل في تجاوز تناقضات الشكل السابق. وهكذا، ينشأ موضوع الإدراك، الشيء كوحدة لخصائص مختلفة، مباشرة من التجربة السلبية لـ "اليقين الحسي": فبدلاً من الاعتقاد بأن الموضوع هو هذا مفرد لا يمكن التعبير عنه، لا يمكن وصفه، يُدفع الوعي إلى الاعتراف، تحت الإكراه. بسبب تناقضاتها الداخلية، يجب أن يُنظر إلى تلك الموضوعية بشكل مختلف، باعتبارها توحيدا لخصائص كونية مختلفة. وقد تم التخلي عن هذا المفهوم نفسه أثناء الانتقال إلى الشكل الموالي ("القوة والفهم")، حيث لم يعد الموضوع وحدة ثابتة وجوهرية، بل وحدة دينامية تحددها العلاقات التي تحافظ عليها الأشياء مع بعضها البعض وفقا لقوانين الطبيعة.
علمية "فينومينولوجيا الروح"
لقد اعتبرنا حتى الآن أن هذه الحركة المحايثة للوعي، والتي تم تطويرها عبر "الفينومينولوجيا"، تتوافق مع الطريقة التي يختبر بها لاحقيقة معرفته.
لقد انطلقنا من مبدإ أن الفيلسوف لا يحتاج إلى فحص الوعي الطبيعي، وأنه يكفيه أن يصبح متفرجا خالصا، ليلاحظ الطريقة التي ينفي بها كل شكل من أشكال الوعي نفسه حتى في تجربة لاحقيقته. وهذا صحيح جزئيا فقط، لأنه بالنسبة إلى لوعي، تظل نتيجة تجربته سلبية: فهو لا يؤدي في الواقع إلى أي موضوع جديد ولا إلى أي شكل جديد يمكن أن يحتوي في داخله على حقيقة الشكل السابق. إنما الفيلسوف، في موقع المتفرج، هو الذي يستخلص نتيجة إيجابية من كل تجربة للوعي، وهو الذي يستنبط منها شكلا جديدا. يضيف الفيلسوف، الذي يظهر بشكل متحفظ ولكن بانتظام في النص باستخدام "نحن" أو "من أجلنا"، شيئا حاسما من خلال اقتراح تفسير إيجابي (تأملي) للتجربة السلبية (الجدلية) للوعي، وبالتالي تأسيس رابط بين اشكال الوعي، التي بموجبها يظهر كل منها على أنه حقيقة الشكل السابق، كلحظة في قصة، بينما يتم، إذا أخذت منعزلة، تصورها جميعا على أنها مستقلة عن بعضها البعض مكتفية بذاتها. إن ما يضيفه الفيلسوف إلى تجربة الوعي، مثل كونها "لذاتها"، هو بالتالي من ناحية نتيجته الإيجابية، وحقيقته، ومن ناحية أخرى ضرورة الانتقال من كل شكل إلى آخر. يؤكد هيجل على أن هذه الحقيقة وهذه الضرورة هما "من أجلنا" وليس "من أجل الوعي"، أو أن ولادة الموضوع الجديد، وبالتالي أيضًا الشكل الجديد للوعي، تحدث "خلف ظهره":
"يتم توجيه التسلسل الكامل لأشكال الوعي وفقا لضرورة خاصة به. وحدها هذه الضرورة، أو ولادة المتعارض مع الجديد الذي يقدم نفسه للوعي دون أن يعرف كيف يحدث له ذلك، هو ما يحدث لنا بطريقة ما خلف ظهره. ومن خلال ذلك، تدخل لحظة الوجود في ذاته أو من أجلنا في حركتها، التي لا تمثل نفسها للوعي المتضمن في التجربة نفسها؛ لكن محتوى ما نراه يولد يكون من أجلها، ونحن لا نفهم سوى جانبها الصوري أو الواقعة الخالصة، بالنسبة إليها، لولادتها؛ بالنسبة إلبنا، ما يولد على هذا النحو هو فقط متعارض-مع – بالنسبة إلينا، في نفس الوقت حركة وصيرورة. (§ 15، 171/61)
كما يرى هيجل، تكون خاصية العلمية التأملية كشفا للحقيقة على شكل نسقية وضرورة محايثة للمعرفة. إذا كان بإمكان "الفينومينولوجيا" أن تدعي أنها علمية، رغم أنها ليست عرضا للحقيقة على شكل مفهوم، بل على النقيض من ذلك، عرضا للمعرفة غير الحقيقية، أو المعرفة الظاهرة فقط، فلأنها، من ناحية، تكشف حقيقة التجارب التي يختبر فيها الوعي لاحقيقة معرفته، ومن ناحية أخرى لأنها تبرز ضرورة ونسقية الأشكال المختلفة للوعي الطبيعي: “بحكم هذه الضرورة، يكون هذا المسار نفسه المؤدي إلى العلم علما بالفعل" (§ 16، 171/61). أخيرا، تكشف "الفينومينولوجيا" عن نفسها على أنها عملية ذهاب وإياب بين ثلاث وجهات نظر: الوعي الطبيعي الموصوف، والمقحم في أشكال محددة هي بالنسبة إليه شبيهة بالغمامات؛ القارئ الذي يمر عبر الأشكال الجديدة بالنسبة إليه إلى حد ما حسب مستوى ثقافته؛ ووجهة نظر الفيلسوف، "من أجلنا"، التي توضح للقارئ كيف يؤدي كل شكل من أشكال الوعي الطبيعي وظيفة محددة وضرورية في الطريق نحو المعرفة المطلقة. وهذه الضرورة هي التي تجعل علم الفينومينولوجيا ليس مجرد مقدمة، بل أيضا "الجزء الأول من العلم" (109/29).
بعدما رأينا كيف أن الفصل الأول من هذه الدراسة اتخذ من "تجربة الوعي" عنوانا له، نقف الآن على فصلها الثاني الذي كتبه لوكاس بيتود ليتانج تحت عنوان "اليقين الحسي: نقد المعطى". وهكذا نجد هذا الكاتب يشير في البداية إلى أن الفصل الأول من "ظاهريات الروح" عنوانه: «اليقين الحسي أو: الهذا والمقصود كما هو لي» (173/ 63). يتناول هذا الفصل المعرفة التي تعطي نفسها في مقام أول إلى نظر الفينومينولوجي، أي مع أول “أشكال الوعي” المذكورة في المقدمة (171/61). فيم يتمثل هذا الشكل الأول؟ ولماذا يجب أن نبدأ يه؟ إن الإجابة على السؤال الأول هي في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثاني، لأن مكانة اليقين الحسي تفسرها طبيعته، أي مباشريته: "المعرفة التي هي في مقام أول أو بشكل مباشر متعارضنا-مع لا يمكن أن تكون أي آخر غير ما هي ذاتها معرفة مباشرة، معرفة بالمباشر أو بالموجود” ( 173/ 63).
اليقين الحسي يحتل إذن المكانة الأولى في سلسلة تكوينات العقل بفعل المتعارض-مع* لمعرفته وطريقة ارتباطه به: إنه معرفة مباشرة بالمباشر، أي كلية فيها تكون كل من المعرفة و"التعارضية-مع السلبية بالنسبة لهذه المعرفة" (109/29) مباشرتان.
إن المتعارض-مع لليقين الحسي هو الموجود “المباشر” بالمعنى الذي تنتفي فيه الحاجة إلى أي وساطة، مفاهيمية بالخصوص، للولوج إليه؛ وبالتالي فإن معرفة هذا المتعارض-مع تكون هي كذلك مباشرة - اتصال حسي مباشر بالمتعارض-مع. بعبارة أخرى، من أجل اليقين المعقول، شيء ما يُعطى لمعرفتنا على نحو مباشر.
ومع ذلك، لن يكون هناك شك كبير حول الحواس في هذا الفصل، حيث أوضحت المقدمة أن النهج الفينومينولوجي يتم وضعه مباشرة داخل الوعي، من أجل فحص “مقارنة نفسه بذاته” (166/59). يبدأ الوعي هنا باعتبار الموجود المباشر ك"الوجود-في-ذاته"، كال"حقيقة" (166/58)، أو حتى ك"الجوهر" أو "متعارضه-مع" (169/60)؛ أي كما هو موجود حقا، المطلق، وكمعياره المرجعي. هذه المعرفة تأتي أولاً لأنها لا تفترض شيئا وهي مجرد علاقة مباشرة بالمتعارض-مع. في هذا القول التمهيدي، يذكر هيجل أيضا بأن الفينومينولوجيا يجب ألا تقحم عناصر خارجة عن متعارضها-مع، أي المعرفة التي تأخذها في الاعتبار. إنه يقيم توازيا بين الموقف الأول للوعي، المشكل من الإدراك المباشر، وبين الاعتبار العلمي الذي يتناوله، الذي يجب أن يتأمل فقط الحركة الذاتية لمتعارضه-مع دون أن يضيف إليه شيئا.
في هذا الفصل، سوف يتم تدريجيًا توجيه الوعي الحسي إلى تجربة واقعة أن معرفته ومتعارض-مع لهذه المعرفة وسيطان. لقد كانت هذه التجربة محك تنوع كبير من التأويلات، سوف نكتفي بذكر أهمها. يمكن تسمية التأويل الشائع لهذا الفصل، منذ مقالة تشارلز تايلور، بال"متعالي" بمعنى أنه يوضح أن المعرفة المباشرة المفترضة لليقين الحسي تتضمن في النهاية شروطا، هنا وساطات، وبدونها لا يمكن أن تحدث هذه التجربة. وفي أعقاب هذا التاويل، تطورت التعليقات التي تؤكد على القضايا المعرفية والإبستيمولوجية للفصل الثالث. في الآونة الأخيرة، وضد هذا الاتجاه، سعى برادي بومان إلى إظهار إيجابية اليقين الحسي باعتباره معرفة مباشرة غير خارجة عن المطلق.
ينقسم الفصل إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: (1) عرض تمهيدي لليقين الحسي (173-176/63-64)؛ 2) دراسة أكثر تفصيلاً لجدلها الداخلي، بما فيها ثلاثة أقسام فرعية (176-184/64-68)؛ (3) تأمل ختامي ينتقد شكلا معينا من "الواقعية الساذجة" وينتقل إلى الفصل التالي عن الإدراك (184-188/68-70).
المقدمة: المعرفة وموضوع اليقين الحسي
الشكل الأول للوعي، مثل جميع الاشكال التالية، هو شكل المعرفة غير القابلة للانفصال عن متعارض-مع، هذه المعرفة يتم تقديمها أولاً كمعرفة ذات محتوى غني جدا: “المحتوى الملموس لليقين الحسي يجعله يبدو على نحو مباشر كمعرفة أكثر غنى، بل كمعرفة بثراء لا محدود» (173/63).
يوضح هيجل أن الطابع اللامحدود لهذا الثراء واسع النطاق، منتشر عبر الزمان والمكان، بقدر ما هو مكثف، ومتركز في "جزء" واحد. وكيف يمكن أن يظهر اليقين الحسي كمعرفة أكثر ثراء، والمقدمة تصر على عدم كفاية البداية البسيطة (86/ 15)؟ إن ثراء الإحساس، مثلا الإحساس بالعطر أو اللون، يرجع إلى أنه ممتلئ ومكتمل، إلى أنه، من خلاله، يعرف الموجود الحسي بطريقة مباشرة ودون بقية. فكل شيء له لون أو عطر يمكن أن يدركه الإحساس (البعد الممتد)، وهذا اللون أو هذا العطر يدرك في مجمله (البعد المكثف)؛ على الأقل هذا ما يتأكد منه الوعي. ومن ثم فإن هذا اليقين الذاتي لا ينفصل عن "المحتوى الملموس"، أي محتوى الإحساس، لأن هذا المحتوى هو الذي يؤدي في الوعي إلى يقين وجود الموجود المباشر. وبما أنه لا يوجد وسيط يحتمل أن يحدث تحريفاً للمحتوى، فإن هذه المعرفة بالمتعارض-مع تبدو مثل "الأكثر حقيقة" (174/63).
وبقدر ما لا يربط هيجل هذه الشكل الأول صراحةً بفلسفة أو حتى بفترة تاريخية، فقد ظهرت وجهات النظر الأكثر تنوعا في محاولة تحديد من "يختبئ" خلفه. هكذا، أمكن تاويل اليقين الحسي باعتباره موقفا مجردا، لا يدعمه أبدا أي شخص، أو باعتباره موقفًا فلسفيا تحتيا، أو حتى كممثل لهذه الفلسفة أو تلك. دون الحسن في هذه المناقشة، لنلاحظ أنه ليس من العبث أن نسعى في اليقين الحسي إلى تحديد واحد أو أكثر من المواقف الفلسفية الضمنية. يرى البعض أن هذا الشكل الأول يمكن أن يحيل جزئيا إلى أرسطو أو أبيقور بالنظر إلى الجوانب التجريبية لفلسفتيهما؛ ويمكننا أن نذكر أيضا المدرسة الإيلية، ولا سيما بارمينيدس وزينون، لأنهما يضعان الوجود الواحد مبدأً لفلسفتهما، وكذلك محاورة ثياتيتوس لأفلاطون، حيث تظهر الأطروحة التي بموجبها يكون العلم إحساسا. ويشير آخرون إلى أن معاصري هيجل، فيلهلم تراوغوت كروج وغوتلوب إرنست شولز، هم الذين تم استهدافهم في جوانب مختلفة - وربما أيضا مبدأ "المعرفة المباشرة" لفريدريش هاينريش جاكوبي. أخيرا، يرى آخرون أنه يمكننا التعرف في نفس الشكل على العديد من الفلسفات دون تناقض، بما فيها تلك اللاحقة على هيجل، ولا سيما فلسفة برتراند راسل.
تم وصف اليقين الحسي بأنه علاقة مباشرة بسيطة، بيد أن هذه البساطة هي في الواقع وحدة تجمع بين لحظتين. بالفعل، تتضمن العلاقة حدين، قطبين: من ناحية لدينا المعرفة، اليقين (الذاتي)، ومن ناحية أخرى لدينا الحقيقة (الموضوعية). وهذه المعرفة ليست، بحسب العنوان الفرعي للفصل الأول، سوى "المقصود كما هو لي". هذه الترجمة التي قام بها برنارد بورجوا تجعل الفعل معبرا عن الذات das Meinen . يعني الفعل meinen ، الشائع في اللغة الألمانية، أن: يكون لك رأي حول، تفكر، تريد أن تقول، ترى؛ تتم ترجمة Meinung على برأي أو نظر. يلعب هيجل على قرب هذا الجذر من ضمير الملكية mein (mon). هكذا يتم التعبير عن واقعة أن معرفة الوعي الحسي مباشرة، وأنها مدعومة بيقين فردي، ذاتي، وليس بمفاهيم؛ وهذا هو سبب ترجمة جان بيير لوفيفر لـ das Meinen ب"وجهة النظر الحميمية".
من ناحية أخرى، المتعارض-مع هو شيء ما مباشر، "هذا [ Diese ]". هذا المتعارض-مع ليس شيئا قابلا لأن يحدد بوضوح، يمكن تعداد خصائصه، وإلا لن يكون مباشرا. بل يكون قريبا من كيان فردي بمعنى المشار إليه (τόδε τι) الأرسطي. في اليقين الحسي، يكون اليقين والحقيقة متساويين، في هوية مباشرة: ما أنا متأكد منه صحيح. هذه الهوية، التي سنرى تفككها، لن يُعاد اكتشافها، كوسيطة، إلا في نهاية كتاب "ظاهريات الروح".
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42156