قطار المواجع – د. الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

بلغ القطار المحطة النهائية منهكا بعد رحلة دامت ساعات متواصلة. تدافع الناس نزولا. ازدحام كبير يملأ المحطة التي ضجت بالحركة والنداءات والصراخ. أحضان وقبلات ودموع وشوق ولهفة بعد طول انتظار.

كئيبا بقي القطار ووحيدا يلفه الظلام. بدا لي كشيخ هرم اتشح بالعجز والضعف بعد أن أفنى كل عمره في عناق سرمدي مع السكة الحديدية، لا تضجره حرارتها فيتصبب عرقه، ولا تتسرب برودتها إلى مفاصله فتقض الآلام مضجعه. تناثرت سنوات عمره بين المدن والقرى والمداشر، يشقها جميعا في حياد تام، لا يُقيم فيها علاقات ولا يترك خلفه دموعا ونداءات ولا حتى تلويحات باليدين لتوديعه. تناثرت سنواته بين السهول والوهاد، تراه أحيانا منسابا في سيره يتلوى مثل ثعبان في صحراء فسيحة، وتراه أحيانا أخرى يلهث لييصّعّد هضبة أو مرتفعا. يتنكب المحطات الواحدة تلو الأخرى. يمضي غير عابئ بالذين يحملهم في جوفه، هو يعرف أن منهم المخمور والعابد والمقامر والمريض والمعافى والأرملة والمطلقة وبنت الليل والطالب والجندي والعامل والكادح والراغب في التجول. وغيرهم كثير. يصغي إلى همساتهم ويكتم أسرارهم.

سبع ساعات قضيناها محشورين في عربته الحديدية لا يؤنسنا سوى أزيز عجلاته في احتكاكها المتواصل على الحديد، وصوت صافرته الذي يعلو بين الفينة والأخرى، كأن سائقه يريد أن يطمئننا أنه لا يزال يقظا في هذا الليل الذي يحمل المجاهل والمواجع والمآسي والأفراح. أجساد كثيرة متناثرة فوق مقاعد نُتِفت حافاتها وخُطَّت على ظهورها تواريخ وقصص وحروف ورسوم متنوعة، ورود وقلوب مزقتها الأسهم وآهات تكاد تنطق بها اللوحات الخشبية...علامات تشهد كلها على عبور الكثير من الملتاعين والمحرومين والموجوعين والمكلومين عبر هذه العربة ثم مضوا بعد أن تخلصوا من بعض ما أرّقهم.

تتجدد الوجوه في كل محطة، فتلفظ العربات الكثيرين ويمتلئ جوفها بالكثيرين، فتتغير الأنفاس وتتبدل روائح العطور وتتجدد الأحاديث. سحنات وأصوات وحقائب وصناديق وأكياس تتكدس في الأروقة وبين المقاعد وعلى حافات الكراسي. يصعد الواحد خالي الوفاض وينزل وقد احتطب كثيرا من الحكايات. ينزل وقد ضج هاتفه بأرقام كثيرة ينسى أصحابَها وتتلاشى ملامحهم بمجرد عبور باب المحطة، ثم في أقرب مقهى يريح جسده المنهك ويتخلص من كل تلك الأرقام من ذاكرته وذاكرة هاتفه كأن وجودها حمل ثقيل عليه، وعليه أن يزيحه.

في الزوايا المعتمة من العربات تحتمي الأجساد بدفء بعضهما من لسعات البرد الحادة، تدنو الأنفاس وتتشابك الأيدي وتتعانق الأفخاذ وتتعانق السيقان، وقد تُسرق بعض القبلات في غفلة من المسافرين. هكذا تنشأ العلاقات العابرة بين البعض دون نية سابقة. تكفي نظرة وابتسامة لتنشأ العلاقة التي عادة تنتهي بنزول أحد الطرفين فيمضي دون وداع. وسرعان ما يلتقط الماكث في العربة نظرة عابرة من عين أخرى تترصده. علاقات لا تنتهي، مساحتها مسافة سفر، والقطار يشهد كل ذلك ويصمت، يتقن الكتمان، لا يبوح بأسرار الذين ائتمنوه على أسرارهم. يمضي معاندا الليل ومتوغلا في الظلام الموحش، يعبر الأنفاق ويمرق غير هيّاب ولا متردد.

تلتقط الأذن أحاديث متنوعة، نكتا ماجنة، تحاليل سياسية، أخبارا رياضية، يتحول الجميع فجأة إلى متخصصين في كل المجالات، ينتقلون من موضوع إلى آخر دون قيود، فتقودهم الرياضة إلى السياسة ومنها إلى الحروب فإلى أحوال السوق الاقتصادية والبورصة فأثمان المنتوجات الفلاحية وغيرها. ولكل مناسبة حديثها، ولكل حدث قوله. أكاذيب وأراجيف تتقن نسجَ خيوطها عقولٌ فارغةٌ لا تصلح إلا لصناعة الفايك نيوز. في عربات القطار يختلط الحابل بالنابل ويدلي كلٌّ بِدَلْوه، فهو في مأمن مادام لا أحد سيسجل ما يُقال. تسري الشائعات بين العربات سريانا عجيبا، تضاف إلى الحكاية بعض المنكهات لتستلذها النفوس. لكن كل ذلك سرعان ما يتلاشى عندما يرتفع صوت الصافرة معلنا بلوغ محطة، ثم يتلو صوت الصافرة المزعج صوت أنثوي عذب ينبئ عن اسم المحطة ويدعو قاصديها إلى عدم النزول إلا بعد التأكد من توقف القطار تماما. عقولنا شاردة ونحن دوما في حاجة إلى من يذكّرنا بالخطر الذي ينتظرها في حال تهوُّرِنا. لماذا لا يصدر الصوت المحذِّر من داخل كل فرد منا؟ أَبلغ بنا نفي الذات حد عدم الإصغاء لندائها؟. لكن تلك النصائح تذهب سدى، ويتلاشى ذلك الصوت العذب وسط الصراخ والضجيج واحتكاك الحقائب بحديد العربة، فما إن تنخفض سرعة القطار حتى يسارع البعض إلى فتح الأبواب والارتماء فوق الرصيف كأنهم يستعجلون التخلص من لوثة العربات وصخبها. تغيب عن الأذهان حكمة بالغة وهي أن الحذر يضمن السلامة.

على مشارف المحطة الأخيرة أنّ القطار أنّةً أخيرة ثم شخر وهمد مثل جسد نُزعت روحه فظل وعاء فارغا بلا حركة، تراخت عضلاته وسينام إلى أن يوقظه سائقه ليعده لرحلة العودة.

تركت القطار والعربات خلفي وسرت مع السائرين مدفوعا بين الأجساد المتلاطمة.

المحطة لا تهدأ والحركة فيها لا تتوقف، تغص قاعة الانتظار بالوافدين، يتزاحم الناس، العيون تدور في محاجرها والألسن تلوك الأسئلة والاستفسارات. لا حديث إلا عن المواعيد المختلة والقطارات المعطلة والسكك المقطوعة. يرفع الداخل إلى المحطة منذ خطواته الأولى عينيه إلى اللوحة الالكترونية المعلقة في مواجهة كل داخل، يتفرس مواعيد السفرات. سب وشتم وقذارة تتناثر من الأفواه، هذا يسب سائق التاكسي الذي سلك به طريقا معقدة طمعا في مزيد من المال، وذاك يلعن الازدحام المروري الذي عطّله، والآخر يصب جام غضبه على القائمين على المحطة لأنهم لم يحينوا مواعيد السفرات لتوافق ما أخبرته به شبكة الانترنيت...لغط وضجيج وهرولة وقهقهات. هذا يسرع غير عابئ باصطدام حقيبته ببعض بالأجساد وصاما أذنيه على ما كيل له من شتم وسب ليلحق بالقطار قبل مغادرته. والآخر عليه أن يُذعن لانتظارٍ قد يطول ساعات حتى يجهز محرك القطار الذي أنهكته الرحلات المتواصلة فاحتاج إلى من يجدد عزمه.

فتية يخاتلون حقيبة غفل عنها صاحبها، أو يتربصون بجيب سترة أو قميص أطلت من حافته ورقة نقدية، أو ينشبون عيونهم في حقيبة يد تحملها امرأة وحيدة، أو يتصيدون هاتفا جوالا في جيب بنطلون خلفي. الكل يشاهد ما يحصل ولا أحد يجرؤ على التدخل، "نفسي، نفسي". فكم من وجه شُوِّه بشفرة حلاقة لأن صاحبه نبّه غافلا، وكم من جسد طعن بسكين لأن صاحبه حاول التصدي لسارق أراد الفرار بعد فشل محاولته في انتزاع هاتف من بين يدي فتاة أرادت أن تلتقط لنفسها صورة تشهد على وقوفها يوما في هذه المحطة الضاجة بالحركة والحياة.وكم...وكم...وكم...قصص وحكايات كثيرة تشهد عليها الساعة الحائطية المتشبثة بالجدار رغم توقف عقاربها عن الحركة منذ استُبدلت باللوحة الالكترونية.

شبابيك التذاكر موصدة غالبا، لا تفتح إلا قبيل انطلاق الرحلات. محظوظ من يقف مسندا ذراعه على حافة الشباك، لكن حظه سرعان ما يتعثر عندما يمد ورقة نقدية إلى قاطع التذاكر فينظر إليها بازدراء ويطلب منه الانتظار قليلا. لا يهتم العون بأوجاع المسافرين وآلامهم، يتلهى بهاتفه الجوال بين قطع تذكرة وقطع الأخرى، يتصفح الفايسبوك على مهل، يرد على بعض الرسائل، يكتب تعليقا أو يغيّر صورة صفحته حتى تلائم ذوق إحدى صديقاته الكثيرات ضجرت من صورته القديمة. فيتأفف الناس وتسري بينهم همهمات ويرتفع صوت من الخلف داعيا قاطع التذاكر إلى الإسراع لأن القطار لا ينتظر. عندها فقط يزم قاطع التذاكر شفتيه ويزوي ما بين حاجبيه ويُطل برأسه من النافذة الصغيرة ليتطلع إلى صاحب الصوت فيعد له ما يختار من عقوبة عندما يصل أمام النافذة. فينكس الجميع رؤوسهم فلا يظفر بشيء فيعود إلى كرسيه ويواصل عمله ولهوه.

يدخل بعض رجال الأمن بهو المحطة، فيثير وصولهم جلبة وتساؤلات. يطلبون الهويات، يتطلعون إلى الوجوه، يتفرسون الملامح. يقودهم حدسهم الأمني إلى شابين يستران ملامحهما بكمامتين. يتقدم منهما عون ويطلب منهما الوثائق فيمتنعان، يتعلل أحدهما بأنه نسيها في مكان إقامته، ويتذرع الثاني بضياعها. يدعوهما إلى مرافقته منبها إلى عدم إثارة ضجة في المحطة فيمتنعان ويرفضان الانصياع لأمره. يمسك أحدهما من كتفه فينزعها الشاب بعنف وقوة..يسوء الموقف وتعلو الضجة وتشرئب الأعناق نحو ما يحدث. يندفع عونان فيطرحان الشاب أرضا ويقيدان يديه إلى الخلف. تراجع الجميع عندما سحب الشاب الثاني من بين أثوابه مسدسا ولوح به في الفضاء متوعدا بالقتل لكل من تسول له نفسه الدنو منه. مشهد لا يُشاهد إلا في الأفلام البوليسية على شاشات التلفاز. تراجع الشاب حامل المسدس إلى الوراء خطوتين واحتمى بالجدار، وطلب فك قيد مرافقه فلُبِّي طلبه دون تردد. وقبيل تحرير الشاب المقيد انطلقت رصاصة من شباك التذاكر لتخترق جمجمة الشاب شاهر المسدس. تهاوى الجسد وخيط دم يرسم نصف دائرة على الجدار الأبيض. حدث كل شيء في لحظة.

وفي لحظة أخليت المحطة وألغيت كل الرحلات. وارتفع في الفضاء صوتا صفارتيْ إنذار، أحدهما لسيارة إسعاف، والأخرى لسيارة البوليس.