(الحلم الحقيقي هو أن تفتح عينيك في العتمة، وتتحول الهواجس إلى كائنات، تدهس رؤوس الأفكار).
(هـ. ن)
العاشرة صباحا، يبدو أن السيد مارشينا بلاتيس لم يبارح فراشه كما جرت العادة؛ (العادة هنا، كلمة مبهمة بالنسبة للسيد مارشينا بلاتيس)، سيتفطن بعد سنين إلى أن ينسج اسما مركبا من تصور ذهني ملائم، بالرغم من عفوية العلاقة المنسجمة بين المخ والحركة، فخلص إلى ما يسميه : "لحظة البراءة المذنبة"؛ اللحظة التي تضمنها الآفاق الممتدة عبر النافذة الزرقاء. النافذة التي صممها العم مانيش؛ ماهن البلدة؛ لا تفوته أي حرفة، بدءا من تسييس أحصنة البوتيوك، إلى صناعة الأبواب والنوافذ من غابة "إيراطي"، مرورا بصنع لوحات "التشالابرطا"، والنقر عليها، من أجل تفعيل الخبر اليقين إلى الآخرالمرابط في الجبال المقابلة، بدعوى الحرص الشديد من العدو.
لو استيقظ السيد مارشينا بلاتيس كعادته في الساعة العاشرة، كنا سنرغمه على إعادة تشكيل تاريخ الباسك بتلك الصيغة الراقصة والمنغمرة في المجد الطنان. لكن، بعد أن يتسلل من براءته المذنبة التي تضمنها الآفاق الممتدة عبر النافذة الزرقاء، إنها الاستفزازات البيولوجية المنسوجة بحك العينين؛ ذلك الحك المازوشي إلى حد ما، فتنبعج الصور الأولى داخل البؤبؤ؛ مجسدة الأشكال التي لا يمكن أن يجد لها مكانا ساعات تأليف مسرحية باسطورال، كأنها تلك الأغوال التي تخلق من عدم. قد يحضر الأب الأكبر من تلقاء نفسه، ويحدد الخلاص وفق ما ترغب فيه نشوة الحياة الأولى للخلق، حالما كانت منطقة الباسك بتولا تداعب خصلات أشجارها ارتدادات ريح الخلود. لم يكن ينزع إلى هذه النزوعات اللاهوتية، لكن، بات من الضروري أن يشكل مدخل المسرحية التي تدوم ثلاث ساعات بإشراك كل سكان البلدة صحبة دوابهم وقطعانهم. سيفتتح الأب كليمان كالمألوف العرض بحركات راقصة من يديه، ملوحا بالصليب في الأفق، مع جوقة الكنيسة، و سينشدون نشيد تعميد العمل من خلال كلمة الرب، الابن، وروح القدس. الخلق الأول لبس يعززه وضع السيد مارشينا يده اليمنى داخل محاسنه، كأنه يرغب في نقر زر الوجود، وبعدها يستروح هذه الرائحة. ربما كان الخلق الأول عبارة عن رائحة، بل، عبارة عن لحظة براءة مذنبة. سرعان ما يكرمش أنفه، ويدرج أمر النفور، إلى وجوب الأب كليمان بافتتاح باسطورال للحاجة الملحة من جانبها الفلكلوري فقط، ويتحول قرع أجراس كنيسة سانت أنغراس إلى قرع أجراس الراعي فيرمن من أجل لمّ القطعان. قد يرد سبب إعفائه من تأليف باسطورال هذا العام إلى مؤامرة محبوكة بشكل جيد. كلما حاول أن يكتب بيانا توضيحيا يزعم فيه أنه متشبث بتأليف باسطورال، وأن كل حياته سخرت لهذه المواءمات، يعدل عن الفكرة، ويمزق البيان، الذي يجده استعطافا أكثر من أي شيء. كانت نظرة العمدة صارمة في الاجتماع الأخير، معززا كلامه بحركة لا تنسجم مع التطلعات : لم تعد حالة السيد مارشينا تسمح بالسهر والتأليف. لقد حان وقت الانسجام مع راحته، وحتى لانحمله أكثر من طاقته، بات من الضروري أن نضخ دما جديدا، ونعطي فرصة للأديب شان إينياك، ونكون بذلك راهنا على الماضي وتنميقه بحلة شبابية، تسير بنا نحن الشيوخ نحو المستقبل. وسيبقى السيد مارشينا نجما شرفيا لكل باسطورال.
كلمة "نجم" كانت كصفعة تلقاها السيد مارشينا. أحالته توا على شمعة في مهب الريح. لهذا، بدا في الأيام الأخيرة شديد القلق، هذا القلق المصاحب لحالة من الارتعاش المحموم، لكن هذا لم يمنعه من كتابة باسطورال، بالرغم من إحساسه أنه دون أهمية؛ أو لنقل؛ إنه فعل العادة، أوعلى الأرجح، تلك الطريقة الآلية التي يعمل بها العقل، حين يرغب في التخلص من ثقل ما. يحك السيد مارشينا جبهته، ويدمدم بصوت واهن: إننا نقدم رشوة للموت للتمحيص في تراجيديا الخلود.
كان من الطبيعي أن ينتبه إلى تغيير الصيغ والوضعيات ويجعلها أكثر شبابية من خلال ما يسميه بالمحصلة الجديدة للسلوكات الطائرة، والمرتبطة بالتحولات المبهمة. سيجعل للراعي فيرمن مثلا، قبعة مثلثة هذه المرة، على شاكلة الأميرالات، حين يجوبون المحيط الأطلسي تجاه أمريكا. سيزيل لبدة الخروف الملفوفة على خاصرته الرنانة بقرع الجرس الصغير، وتتحول إلى سروال أسود قصير حد الركبتين وجوربين صوفيين وحذاء أسود بأسماط متاقطعة تشكل رمز الباسك المجيد، و بزة عسكرية حمراء من فوق بأزرار مذهبة. قارعا بقدميه، وهو ينشد ويرقص في خيلاء:
لقد عاد الراعي فيرمن من أمريكا
وبنى بيتا كبيرا بنخلتين فارعتين.
لقد عاد الراعي فيرمن
كأميرال يصدح بالمجد
عوض الجرس الذي
يرتد صداه، وتبتلعه الغابة.
لقد عاد الراعي فيرمن
لقد عاد الراعي فيرمن
عبر البحر هذه المرة.
كان هذا النزر القليل من مخزون البهجة، المعجون بجلال الاطمئنان المؤقت كافيا بأن يعجل بإبداع شخوص معنوية أخرى، ومخففا من وطأة الرعاش المحموم. وبما أن السيد مارشينا يجد صعوبة في تبني الكمال لشخوصه، وعدم فهم منبع فكرة الوجود الآني للخلق، ونكاية كذلك في تبني الطرح النفسي المعتمد على الانغمارات والاستبطانات، فهو يرد فكرة الوجود الآني إلى التشبث بالروائح، الأشكال، الألوان والأصوات الملفوفة بالشرود الهذياني، مع الإلمام طبعا بالمحصلة الجديدة للسلوكات الطائرة، فتفتق الفلاح كيبا يمشي عاقدا ذراعيه خلف ظهره وحماره شالي، يبرطم وراءه، مطالبا بإشعال سيجارة. كان شالي حريصا منذ صغره على أخذ سيجارته الصباحية بفعل براءته المذنبة هو الآخر ــ حسب السيد مارشينا ــ. سيبدو واجما، منتفضا، لاتنفرج أساريره إلا لحظة إدخال الفلاح كيبا يده في جيبه، وإخراج زوادة طابا، ولفها بطريقته المغرية، فتشرق لحظة الوقاحة المحببة على خيشوم شالي. محركا أذنيه، كأنها ردارات، تموقع حسن الصنع. لم يكن السيد مارشينا متحفزا بأن يتكلم بلسان شالي فهو يرفض مبدئيا ذلك في باسطورال. لكن، يجب أن يقحم المحصلة الجديدة للسلوكات الطائرة التي تفرضها الرؤية المسرحية نكاية في الشاب المؤلف أو المستقبل. سيستغني عن ذلك بالنهيق فقط، حتى لا يتأتى لشالي المجد على غرار "بلاطيرو" حمار خوان رامون خمنيث. حاول أن يمشي على يديه ورجليه مبرطما، ومتخلصا من عقب السيجارة الذي أحرقه. معززا ذلك بحركة من رجله اليسرى إلى الخلف عبر ركلة جانبية، لكنه أحس بنخس كهربائي، كاد يفصل قلبه عن جسده، فاستعان بحواف السرير الخشبي من أجل النهوض وهو يلهث. فقد أحس بالرغبة في الأكل عوض الشرب. إنها الرغبة المقلوبة التي تسكن الحيز الخاص من دماغه، مخافة أن يسقط في المبتذل، فكان دافع الجوع هو من فصل تصور شالي، وزج بتصور ذهني آخر، يرتكز على القابلية المعتادة المستندة على الروائح، الأشكال، الألوان والأصوات التي تضمن الخلق الآني، فأزفت السيدة إيلوري بكسوتها السوداء الملفوفة بتنورة بيضاء، مشدودة بسمط أحمرعلى قصعة ظهرها، وهي تلقي خضر حقلها في الآنية الحديدية الحمراء. فقد كان حريصا هذه المرة على أن يرسمها في الدفتر الكبير الخاص بالرسومات لحالات الطوارئ، حين يرغب في أن يسعف الأشكال، الألوان والأصوات، وشرع يغني بنغم متعب أغنيتها المشهورة:
عندما يعود أندوني من الحانة
لايجد سوى الدفء
دفء الحساء
ودفء البيت
لكن، أندوني ينام دون
أن ينعم بالدفء
إني أكره الحان إينكو
إني أكره الحان إينكو..
كان بخار الحساء يتلاشى في كل أطراف البيت، مغذيا التصورات الذهنية الجديدة للسيد مارشينا بلاتيس.
آه، لو استيقظ السيد مارشينا في الساعة العاشرة صباحا، لعلمنا كيف تشابكت روحه مع تراجيديا خلوده.
هشام ناجح كاتب مغربي مقيم بفرنسا.