الكتابة عن الهامش في الرواية هي تحويل الهامش إلى مادة أدبية أو جعله مرجعا للتخييل الروائي ، وهي ممارسة تسعى لتجاوز بورجوازية الرواية بعدما درج مؤرخو الأدب على الاهتمام بالأدب الرسمي أو الراقي أو الرفيع وبالتالي بالأدباء الكبار والأعلام المشاهير والعباقرة... وغضوا الطرف عن كل ما يسمى أدبا ثانويا أو هامشيا أو شعبيا أو هجينا... بدعوى أن هذه الأشكال لا ترقى من حيث المكانة ولا من حيث اللغة إلى الآداب الأولى فهي "مجرد آداب تتسبب في إفساد الذوق في إشارة إلى مضامينها غير الأخلاقية أو موضوعاتها المغرقة في الخصوصية والمحلية..." انظر الفن التاسع لسعيد علوش .
وقد تناولت العديد من الدراسات الاجتماعية والاقتصادية هذا المفهوم ومشتقاته { فقر ـ تمييز ـ اقصاء ....}بالدرس والتحليل ، لينتقل إلى الدراسات الأدبية ، ومن خلال استقراء هذه الدراسات ،نقف على أن الهامش يدرس في مقابل المركز ، مع ما يسم هذا الهامش من دونية واقصاء وتمييز .
و حينما نعود للمعجم نجد أن التهميش مرتبط بهذه المعاني فالهامش هو حاشية الكتاب والجزء الخالي من الكتابة ، وعلى هامش الأمر أي خارجا عنه وبمعزل منه ، وفلان يعيش على الهامش : أي يعيش منفردا غير مندمج في المجتمع ، مهمل ، منعزل ، كما أن الجذر اللغوي "همش" يحمل دلالات إضافية ، فهمش الرجل : أكثر من الكلام في غير صواب ، وهمش الجراد : تحرك ليثور ، وهمشه الكلب : عضه ، فالدلالات المعجمية وإن كانت متعددة ولكنها تعضد بعضها البعض فالهامش هو الحاشية والنبذ والعزلة والاقصاء مع يستتبعه من تمرد وثورة على النظم الاجتماعية المتعارف عليها .
إن أدب الهامش هو أدب للرفض ، أدب للمعارضة ، وأدب " ينتج خارج المؤسسة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو أكاديمية ، الذي يقع بعيدا عن الرعاية والاحتضان بل ويجري العمل على نبذه واستبعاده من دائرة الضوء وقد تسلط عليه الرقابة " حسن البحراوي ، مجلة علامات ، العدد 18 ص : 9
و فمن الطبيعي أن تتسم كتابة الهامش بالثورة على الخطاب الرسمي وتجاوز الخطوط الحمراء وكسر الطابوهات ، وفسح المجال للمقصيين لاسماع صوتهم ، ويمكن اعتبار رواية خلف السور بقليل ضمن هذا التوجه الذي يستقي مادته من عوالم المهمشين ويسمح لهم بالبوح .
1 ـ تيمة التهميش في رواية خلف السور بقليل
رواية " خلف السور بقليل " هي باكورة الأعمال الرواية للكاتب المغربي عبد السميع بناصر ، وقد سبقتها مجموعتان قصصيتان الأولى حب وبطاقة تعريف والثانية الرقص مع الأموات ، وتقع الرواية في 145 صفحة ، وتتصدر صفحة الغلاف إلى جانب اسم المؤلف وعنوان الرواية لوحة تشكيلية للفنان التشكيلي المغربي عيسى إيكن .
أ ـ التهميش في العنوان
السور هو كل ما يحيط بشيء من بناء وغيره ، والسور هنا يحيط بالمدينة { المركز } في مقابل الأكواخ البدائية التي تقع خارجه {الهامش } ، " ولكن هؤلاء القرويين أبوا إلا أن يوسعوها بأكواخهم التي كثرت وانتشرت خارج السور الكبير كبقع سرطانية مقيتة «
إن أحداث الرواية تقع خلف هذا السور الذي يفصل بين فضاءين ، فضاء تتوفر فيه شروط الحياة الكريمة ، وفضاء مهمش تنعدم فيه أبسط ضروريات الحياة.
ب ـ التهميش في العناوين الفرعية
حمل القسم الأول من الرواية اسم علم لشخصية البطل " حميمصة" ولايخفى التهميش في هذا الاسم الذي ورد مصغرا تصغير تحقير دلالة على قصر الحجم وانعدام الشأن .
أما القسم الثاني من الرواية الموسوم ب "مذكرات رجل المزبلة" ، فقد ورد اسم رجل مضافا إلى المزبلة ، وهو فضاء للتخلص من الفضلات وكل ما لم تعد للناس به حاجة ، إنه فضاء للتهميش بامتياز
أما القسم الأخير فقد جاء موسوما بالمتشرد ، وهو صورة أخرى من صور التهميش ، مع ما يقتضيه من انعدام المأوى والعمل ، والتسكع بدون هدف .
ج ـ " تيشكا "الفضاء المهمش
" تيشكا" إنه الحي الذي يتجاور فيه الإنسان مع الجرذان والقمل وسائر الحشرات ... تيشكا ... الحي الذي تستقبل مزابله المرء بقذارتها قبل أناسه ... خلف السور العالي الذي يضرب سدا بين العمارات الشاهقة والأكواخ الواطئة " إن تشيكا هو هذا الحي الصفيحي الذي نبت خلف سور المدينة ليشوه جماليتها ، فبدا كجرح متقيح على صفحة وجه جميل ، خلقه القرويون الذي سعوا خلف بريق المدينة ، وسراب العيش الكريم ، لتتلاشى احلامهم وتحل محلها الكوابيس ، نبت تيشكا وتوسع جالبا معه الكوارث والجرائم ونقمة سكان المدينة الذين أوجسوا منه ومن سكانه خيفة : " تفو ملؤوا البلاد ، أينما حلوا يخربونها " لما يسوده من انحلال وفوضى وعنف " يحدث أحيانا أن تقوم معارك دموية بين أصحاب الدكاكين أو المقاهي أنفسهم ، فتسري الحمية في نفوس الجميع ، فيختلط كل شيء على الرائي الصحون تتطاير في الهواء والكراسي التي كانت مكان راحة الأجساد صارت تهديدا للرؤوس غير المنتبهة " .
تيشكا هو فضاء لهدر الكرامة الانسانية حيث تنعدم أبسط شروط الحياة ، فلا ماء ولا كهرباء ، فهو مجرد أكواخ يقطنها أصحابها متعايشين مع الحشرات والهوام ، ينامون ويأكلون ويتغوطون داخلها " يا للسخرية ، حتى حاجتنا صرنا نقضيها داخل بيوتنا "
د ـ الشخصيات المهمشة
يحضر بوجمعة أو حميمصة كعلامة على الشخصية المهمشة ، التي تسعى للخروج من واقع التهميش ولكن الواقع لا يرتفع ، فأقصى ما بلغه في سعيه هذا هو جمع الاسلاك النحاسية وقطع الالمنيوم من المزبلة ، حيث سيلتقي شخصية مهمشة أخرى وهو العسكري المطرود من سلك الجندية والذي اختار العيش على الهامش في كوخ على أطراف هذا المطرح ، إن الإنتماء إلى تيشكا سيقف حاجزا بين حميمصة وحبيبته المدينية التي سعى من أجلها إلى أن يكون " رجلا" وأن يشتغل ليضمن لنفسه شقة ولكي لا تكون حبيبته " قذرة " كبقية فتيات تيشكا ، ولكن سور التهميش كان أعلى من أحلامه وطموحاته.
هـ ـ التهميش والعنف
تحضر تيمة العنف كصفة ملازمة للتهميش كشكل من أشكال التمرد على هذا الواقع ، فالرواية تحفل بمقاطع العنف اللفظي والجسدي ، فالأب والأم في صراع دائم يطال الأبناء أيضا :
ـ أجي أولد البغلة
عقبت رقية في غضب : البغلة لا تلد ، قل يا بن البغل
ـ اسكتي يا بنت الخانزة ، الله يرزقك شي مصيبة أنت وأولادك
هذا العنف الذي ينسحب على كل سكان تيشكا ، من خصامات بين الأزواج وضرب وسب للأبناء ، وشجار بين الجيران ، إلى عنف السلطة التي هدمت أكواخ التشكيين بعدما أوهمتهم بتوفير سكن لائق .
وتحضر السخرية كشكل من أشكال العنف الممارس على التشكيين في المدرسة مثلا ، فهم مضرب الأمثال لسوء المصير بالنسبة للمتهاونين من أبناء المدينة " هل تريديون أن تصبحوا في المستقبل كأبناء تيشكا ؟
هذا الخطاب الساخر الذي يغدي الميز بين المركز والهامش حتى على مستوى اللغة : " انتباه بالنسبة للتيشكيين أقول : تمخر لا تعني تسرق ".
و ـ التهميش والتحرش
إن التهميش يحط من منزلة الإنسان ويهدر قيمته ليتحول إلى مجرد "لحم رخيص " ليقع التمرد على القيم والأخلاق والأعراف الاجتماعية وتسود الخيانات والتحرش والتعاليق البذيئة " ستذوقين الخير عندما تتزوجين وستشبعين منه " ، " الردفان اللذان تعيرينني بهما هما جواز مرورك نحو الزواج ، وإن لم تنفخيهما بقيت عانسا ".
على سبيل الختم
إن المهمشين الذين تحتفي بهم الرواية أبطال بلا مجد ، شخصيات عادية متعلقة بأهداب الحياة ، تحاول أن تعيش في مجتمع لا يرحم ، تواجه القهر والقمع والحاجة وتبحث لها عن مكان تحت الشمس وبأي الطرق الممكنة ، تحلم بغد أفضل وتحفر في الصخر للخروج من السور الذي يطوقها ، وقد تتمكن من تسلقه وقد تبقى قابعة " خلف السور بقليل " .
خالد الخراز ـ المملكة المغربية