ماهي الفلسفة/ او ماهو الفكر الاسلامي الأصيل؟. إن سؤال الذات هذا يستحضر الى ذهننا الموقف القائل إن أصالة هذا الفكر كان مُعبر عنها في مدارس الكلام، هذا التحديد للذات وبهذه الكيفية نفكر من خلاله في اسلام البداية/البدايات.
ليس ثمة أهمية تفرض نفسها حصرا، ذلك ان ما يسترعي التفكير في البداية [مرحلة الاختيارات المفتوحة] هو الطريقة التي يمكن بها تحديد الذات في الحال/الراهن، لسنا نحاول اتخاذ التاريخ مدرسة بل نجعل منه مصباحا للبحث فقط عن مجموع الشروط التي تظافرت لتحقيق ممكن ما، وقد نوفق او يحدث العكس، ماهي الاختيارات التي كانت ممكنة، قد يكون من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا السؤال، والذي يمكن الوصول إليه هو تحديد العلامات/علامات الطريق التي لم يتم اتباعها او تلك الاختيارات التي لم يسر فيها العقل، ذلك ان النتيجة المعكوسة في مقدورها ان تقدم تفسيرا، ولنعط مثالا بالرؤية الجمالية الاسلامية ،حيث يقدم الاستاذ موهوب مثالا في غاية الدقة مستحضرا النص الذي يبني هذه الذهنية/الرؤية الإسلامية، وليس تفكير الاستاذ في المسألة محاولة إسقاط آليات منهجية تقتضي رؤى معينة على حقبة معينة ما، وإنما فكر الاستشراف الذي ينخرط فيه الاستاذ ومساءلته الممكن حيث يرفض « ما ذهبت اليه الاتجاهات التاريخية التي تعتقد ان كل فترة تاريخية سابقة إلا وهي ضرورةً فقيرة من جهة الغني التاريخي، من جهة المعنى، بالمقارنة مع الفترة اللاحقة عليها»[1]
تكمن حداثة/ طلائعية التجربة الجمالية الاسلامية في الحدود التي تصل بالتجريد اليها، حيث تغلي [ مُفترض حامل الصورة] وتلغي حدود المضمون الفني الذي يستدعي موضوعا يتمثل/ يحضر فيه. هذه الذهنية/التجربة الطلائعية [ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال انه ممرد من قوارير. (قرآن كريم) ] يلاحظ الاستاذ ان هذا العمل الفني ذهب بالتجريد إلى غاية محو/الغاء الحدود بين الثقافي والطبيعي، حيث التجربة [ معاناة] تستحضر/ تتصل مباشرة بالمثال/ النموذج، وهذه امكانيه من امكانات الخروج من اسار فكر التعين/ الحضور، والذي نفكر فيه الان هو لماذا لم يتم الذهاب في هذا الاختيار أم أنه لم يتم قراءة العلامة المؤدية إليه جيدا.
في مقابل هذه الرؤية كان نبذ الوثن كذلك نفسه حاجزا، فموقف الفقه من التصوير معروف، غير اننا لا نستطيع ان نتفق حول مفهوم التصوير هل هو مجرد الرسم ام الاشكال المنحوتة، غير أن سؤالا بهذا الحجم لم يكن ليقف امام خصوصية التجربة الجمالية الاسلامية الطلائعية، هذا الإمكان لم يتم طرقه بشكل كافي من اجل التقدم فيه.
هذا قد يسقطنا في نوع من الالتباس، غير أن إمكانيةً ظل الذهن حابلا بها، لو تم التقدم فيها او مراودتها لفكت هذا الإسار الذي تسقطنا فيه هذه المفارقة، اذ ظلت النظرية لاحقة للممارسة والممارسة سابقة عن النظرية، بل وصل النموذج الذهني إلى تسوية في شأن هذه القضية، وهي ان يجعل من كل واحدة منهما هي الاخرى، كانت هذه المفهمة الفعلية [ فلسفة الفعل/العمل] أقدر من أي مفهمة اخرى من تقديم سبل/طرق من الجدة والإبداع في الادب والفن والنقد وفي الفكر، ذلك انها مفهمة تؤمن بنوع مغاير من التجربة« أي فعل اختبار ومعاناة من البداية الى النهاية» [2] وبهذه الطريقة نحاول التفكير في الممكن.
و عودا على بدء في إعادة السؤال ماهو الفكر الاسلامي الاصيل؟ نستحضر هنا الموقف القائل بأن علم الكلام هو الفكر الاسلامي الأصيل، وليس أقدر من المدارس الكلامية من يعبر على هذا الفكر، ولكن هل نستطيع اليوم ان نقول عن انسان ما انه معتزلي واخر اشعري واخر مرجئي [...] وما الى ذلك. إن الممارسة والملاحظة تبدي لنا أن هناك افراد يتبنون مواقف تصدر عن ترسبات هذه التحديدات، ولكن لا تصدر عن رؤية منهجية لها مقدماتها ونتائجها كما تم في إمكان التاريخ الاول، حيث الان ليس بمقدورنا أن نسميها تسمية المدارس.
هذا الموقف الذي يذهب الى كون الفكر الاسلامي الأصيل هو الكلام يجعل بادئ ذي بدء القرآن والسنة مصدره، فهذا المصدر بحق عمل على تبديل النموذج الذهني الذي كان سائدا وبناء رؤية جديدة للكون والانسان، وامد هذا الفكر بمنهج تجريبي يمكن التفكير على انه الجامع فعليا للنظرية والممارسة [ فلسفة الفعل/العمل ] وقد مارست هذه الذهنية الاستقراء فيما يذهب الى ذلك الدكتور على سامي النشار*. كذلك هذا الموقف يتبنى فكرة أن علم الكلام الاول لم يكن قد اطلع على الفكر اليوناني وإنما استطاع ان يبدع منهجه ومقدماته[ منطقه] الخاصة هكذا يُجعل من الكلام الفكر الاسلامي الاصيل.
ولكن كيف استطيع باعتباري فردا ينتمي الى هذا المجال أن افكر في الدرس الكلامي؟ عندما نريد الإجابة عن هذا السؤال فإن اشهر مدرسة كلامية تحضر الى الذهن هي المعتزلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى من المفترض أن تكون هي حاملة لواء العقل ولواء المنهج الاسلامي، غير أن المفارقات التي تحضرنا تمكننا من القول انها كانت مشروعا طلائعيا تبنى العقل ولكن قبل ان تكون هي نفسها الارادة السياسية والجهاز الدعائي لهذه الارادة.
« وهنا يجدر بنا الإشارة إلى الكيفية التي أثرت بها حركة الاعتزال في تأسيس الصرامة المنهجية لأهل الحديث، فالمعتزلة انطلاقا من تصورهم لمفهوم العدلية في الاسلام وموقفهم من الصحابة عموما وحدود مسؤوليتهم عن الفتنة ، دفعوا اهل الحديث لعقلية محدودة سينخرط المعتزلة أنفسهم فيما بعد في صيغتها المعدلة»[3] الصيغة المعدلة هي الأشعرية التي توسطت/ اعتدلت في طرحها المسائل التي شغلت المدارس الأخرى، وقد كانت نظرية الكسب ادق تعبير على القدرة التوفيقية والمنهجية لهذه المدرسة، نواصل الى هنا من اجل طرح سؤال الهوية، حيث يعرف المواطن/ الانسان المغربي انطلاقا من منظومة تتمثل هذه العناصر بوجه عام/عمومي [ مسلم الديانة، أشعري العقيدة، مالكي المذهب، جنيدي الطريقة] ونستحضر ما جاء في متن ابن عاشر:
وبعد فالعون من الله المجيد في نظم ابيات للأمي تفيد
في عقد الاشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
هكذا تحضر تلك الرهانات السابقة في تحديد ما هو لاحق، وما يهم هو الوقوف على المحددات التي تحدد الذات راهنا.
ومعقبين على مفارقات المعتزلة يخلص الاستاذ موهوب إلى كونها عملة ذات وجهين في تاريخ الفكر الاسلامي، فهي التي حملت لواء العقل/ العقلانية وفي ذات الوقت كانت اول شكل من اشكال التمركز/ الهيمنة وتأسيس اول ميتافيزيقا في الاسلام، لتكون بذلك المتبنية والمجهضة لحلم العقل في الفكر الاسلامي، كانت المعتزلة من تبنى مشروع العقل ولكن حينما كانت ضمن مشروع مجتمعي يأمل المستقبل، لكن بمجرد تحولها الى إرادة سياسية وجهاز دعاية لهذه الارادة صارت اول من يصادر العقل في تاريخ هذا الفكر، وكانت سببا مباشرا في محنة هذا العقل. هذا وآخر مثال يسوقه الأستاذ موهوب عن أهمية التنقيب في الامكانات المجهضة في التاريخ الاسلامي[4] اعتبار الخوارج مقدمة ذهنية أولية لكل شكل دغمائي طال العقل والمفهوم.
نتعلم اذن من الاستاذ موهوب هذا الدرس؛ كيفية التفكير في راهننا وداخل هذا الراهن وعنه، مع القدرة على استحضار ما يفترض أنه يشكل هذه ( السيرورة/ الصيرورة) المفتوحة على أفق الممكنات المتعددة.
*الإشارة إلى مقالة الاستاذ محمد موهوب اسلام البدايات ضمن كتابه ترجمان الفلسفة
[1] محمد موهوب ؛ ترجمان الفلسفة. المطبعة و الوراقة الوطنية، ط ثالثة 2018 ، ص 199
[2] مصطفى لعريصة، مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير، المطبعة و الوراقة الوطنية، ط اولى 2016 ، ص 13
*انظر علي سامي النشار نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام، ج 1 الباب الاول ، ط 5 1971 طبعة دار المعارف بمصر.
[3] محمد موهوب ترجمان الفلسفة ، ص 201
[4] انظر ترجمان الفلسفة ص 201