قال السهيلي " وولد بالغفر من المنازل وهو مولد النبيين". ومنزلة الغفر لمن لا يعرف من منازل القمر، يوافق طلوعها السنوي تقريبا الثاني عشر من شهر نونبر ؟؟ وقال الذهبي "نظرت في ان يكون مولده صلى الله عليه وسلم في ربيع وأن يكون ذلك في العشرين من نيسان - شهر أبريل- فرأيته بعيدا من الحساب يستحيل أن يكون مولده في نيسان إلا أن يكون مولده في رمضان" (سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي -ج 1- ص 336).
ولد الرسول محمد بن عبد الله حسب الرواية السائدة بمكة، يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وبعث يوم الاثنين على رأس الأربعين من عمره الشريف في شهر رمضان، وقدم المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعد ان بعثه الله بثلاث عشرة سنة، وتوفي - بعد عشر سنين كوامل- يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، في العام الحادي عشر للتاريخ العمري. (السيرة النبوية، ابن هشام الحميري- ج 1 ص 155. ج 2 ص 427).
ثمة أقوال أخرى غيبت في قاع الذاكرة الروائية، فقيل لاثنتي عشرة خلت من رمضان. وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر. وقيل في المحرم لخمس بقين منه...، ليستقر قول جماهير أهل السنة بالخصوص على ما ورد أعلاه من تقرير لا يخلو من اشكالات و تناقضات حسابية، في ظل استحالة مولده بربيع الأول لما كانت بعثته في شهر رمضان على رأس الأربعين من عمره الشريف؟ واستحالة مواطأة هذه الأثانين المذكورة كلنداريا، ما يجعلها والحالة هذه أياما شبحية لا وجود لها في الرزنامة السائدة، وأقرب إلى تواريخ محددة بالتقدير الحسابي الارتجاعي؛ أكثر من كونها أخبارا أصيلة عن شهود عيان. ولم يتجاوز الاخباريون على ما يبدو فيما يخص تحديد تأريخ المولد سقف طرح 53 عاما، وهي عمره الشريف ساعة هجرته - كما نص على ذلك ابن اسحاق في السيرة- من تأريخ وصوله إلى المدينة في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، الموافق في الكرنولوجيا السائدة شتنبر 622 ميلادية، ثم أضافوا إليه عشرة أعوام كاملة، لتكون وفاة النبي بالتالي في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من العام الحادي عشر للتاريخ العمري، الموافق يونيو 632 ميلادية. فكأن القوم لم تتوفر لهم من كسور الأيام إلا الثاني عشر فاحتاجوا إلى اعتبار جل مدد مراحل دعوته مددا كاملة بعمليات طرح وجمع لا أقل ولا أكثر، ليكون الناتج دائما هو الثاني عشر من ربيع أول، فكان تقريرهم مولده في الثاني عشر من ربيع الأول حاصل عملية حسابية لا محصلة رواية عن شاهد عيان، وأنى لهم ذلك وربيع قريش ربيع ضلالة لا ربيع عدة مستقيمة؟
الواقع أن كل حوادث السيرة النبوية لا تخلو من اشكالات كرنولوجية في الأيام والشهور والأعوام. هذا الاضطراب سمة أساسية لا يستثني حدثا، بل إنه يعدو أمرا مألوفا في العشرية النبوية بالمدينة المنورة، فلا يمكن - بصرف النظر عن تعدد الأقوال في التأريخ - موافقة تأريخ معركة بدر القتال: الجمعة السابع عشر من رمضان السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق مارس 624 ميلادية في الكلندار المعتمد، ولا تمكن الكرنولوجية السائدة إلا من موافقة جمعة حجة الوداع كلنداريا في العام العاشر للتأريخ العمري، لتسع خلون من ذي الحجة، الموافق مارس 632 ميلادية، وما دون ذلك فهو في جله أيام شبحية في الغالب الأعم، مثلا هذا الاثنين المشهور لاثنتي عشرة ليلة خلت، شبحي في ربيع المولد والهجرة والوفاة، من المستحيل الوقوف عليه في رزنامة الأيام المتاحة.
باستثناء ربيع الأول السائد كمحل للهجرة النبوية، حيث تتطابق الظروف الموسمية للرواية (جد النخل، تمر أم جرذان، الحر، قصة اسلام عبدالله بن سلام... ) مع التوطين الزمني السائد في شهر شتنبر 622 ميلادية، فإن التنافر بين حيثيات المتن الروائي والتوطين السائد أمر لا يمكن اغفاله، في بدر القتال شهد عبدالله بن مسعود في صحيح البخاري أنه كان يوما حارا غيرت فيه الشمس جثثت القتلى، لنجد في مفارقة عجيبة التوطين الزمني السائد هو شهر مارس؟ في تضاعيف سردية غزوة السويق أن المشركين ألقوا أزوادهم في الحرث، فيما التوطين السائد هو شهر يوليوز؟ غزا رسول الله غزوة تبوك في حر شديد، في زمان طابت فيه الثمار وحلت الظلال وكان ذلك في أكتوبر ونونبر؟
إن هذا التنافر بين الظروف المناخية - الواردة عرضا في متن الرواية السيرية- وبين التوطين الزمني السائد لأحداثها ليقف شاهدا على تشوه القوالب الكرنولوجية لمصادر السيرة ومخالفتها للقالب الكرنولوجي السائد من حيث مبدأ العد وتعاقب الشهور والأزمنة، ما يجعل معظم أحداث السيرة النبوية ضمن أزمنة شبحية لا ندري عنها شيئا، تتوارى طي قوالب ابتدعها أصحاب السير والمغازي، ولا وجود لها إلا في أذهانهم، هذا علما أن الخلاف حول مبدأ العد خلاف قديم، فقد قيل "أخطأ الناس في العدد ما عدوا من مبعثه، ولا من وفاته، إنما عدوا من مقدمه المدينة" والحديث في البخاري عن سهل بن سعد دون عبارة أخطأ الناس العدد الموجودة عند غيره، واستعر الخلاف بين مؤيد للتأريخ النبوي بربيع الأول منذ أول يوم، وبين من زعم أن التأريخ لم يكن إلا مع عمر بن الخطاب.
أمام كل ذلك، تعدو مسألة إعادة تحقيق المولد النبوي حاسمة في إعادة ضبط تواريخ السيرة النبوية ضبطا علميا وكرنولوجيا يقف سدا منيعا أمام محاولات الطعن في الصدقية التاريخية للنبي محمد، والتأسيس على الكرنولوجيا النبوية لتبرير القتال في الشهر الحرام بمبرر أن الرسول غزا فيه وبعث السرايا دونما أدنى حريجة، فهل يزعم زاعم أن قريشا قد احتجت على خرق المسلمين لحرمة الشهر الحرام وفق مبدأ العدة المستقيمة في سرية عبدالله بن جحش إلى بطن نخلة وهي التي كانت تعتد بضلالة النسي الجاهلي؟ حتى يصح تأريخ السرية العبثي السائد حاليا في رجب العدة المستقيمة من العام الثاني للتأريخ العمري؟ أم هي المواطأة؟ أم أن القرءان نزل عبثا بتقريع المسلمين على خرق حرمة شهر ضلالة ؟
يكشف حدث الكسوف الذي شهدته سماء المدينة زمن وفاة ابراهيم ابن النبي من مارية القطبية عن تخلف القالب الكرنولوجي لمدرسة الواقدي بسبعة أشهر عن القالب السائد. أرخ الواقدي الحدث في ربيع الأول من سنة عشر، ودل التحقيق الفلكي أن ذلك كان في شهر شوال من العام العاشر للتأريخ العمري، يكشف هذا الفارق الزمني بين القالبين أن المصادر الروائية قد وطنت حدث الهجرة النبوية في شهري شعبان ورمضان من العام 622 ميلادية وسمتهما ربيعا أولا.
لم يستعلن الرسول بتحريم ضلالة النسي الجاهلي إلا في السنة التاسعة من التاريخ العمري، ما جعل معظم أحداث السيرة قبل ذلك مؤرخة في ذاكرة الرواة شهود العيان وفق شهور الضلالة، ودل التحقيق التاريخي الذي أنجزناه في كتب السيرة أن "ابن اسحاق" ومن تبعه قد أرخوا في الأصل ضحية النسي الجاهلي، حدث الهجرة النبوية خطأ بيوم الاثنين لتنثي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول النسي المواطئ لشهر شعبان العدة المستقيمة الموافق 4 مارس 622 ميلادية غريغورية.
أدى اقحامهم محرم التأريخ العمري على هذا القالب الضال في عام حل وترك للمحرم، إلى خلق قالب شبحي على منوال ما هو معمول به في قالب العدة المستقيمة، أقحموا عليه شهر المحرم مطلقا على أساس انه قالب عدة مستقيمة. فعصف ذلك بالتوطين الدقيق لمعظم أحداث السيرة النبوية، وجعلها أحداثا شبحية لا يمكن موافقة تواريخها في الكرنولوجيا السائدة. وكان من نتائج ذلك وتداعياته أن محل الهجرة النبوية في المصادر الروائية قد انتقل من مواطأة شهر شعبان العدة المستقيمة إلى موافقة شهر رمضان العدة المستقيمة من العام نفسه، فكان كل شهر رمضان عدة مستقيمة على مدار أعوام السيرة ربيعا أولا في قالب مصادر المغازي والسير، أما محل الهجرة السائد حاليا في ربيع الأول من العام 622 ميلادية، فوقع في محله الدقيق لمجرد اشتراكه في الاسم مع ربيع المصادر الروائية.
إذا اعتمدنا فارق سبعة أشهر هذا، بين المصادر الروائية ومحل التوطين الدقيق للأحداث، فان محل المولد النبوي الشريف قد كان وفق ذلك في: شهر رمضان المعظم من العام 570 ميلادية، وهو ما يتوافق مع رواية الزبير بن بكار، ومع حيثية نزول القرءان في شهر رمضان، والبعثة النبوية الشريفة على رأس الأربعين من العمر الشريف. وإذا أقصينا العدد 12 من الاعتبار بالرغم من امكانية موافقته بسهولة في شهر رمضان المذكور، والتزمنا بيوم الاثنين، وبالاعتبارات القرآنية والرياضية المحضة ، فإن مولده الشريف كان على التحقيق الدقيق: يوم الاثنين 12 نونبر 570 ميلادية غريغورية، في منزلة الغفر من منازل القمر، لأربع بقين من شهر رمضان العدة المستقيمة، المواطئ بذي الحجة النسي. وكانت بعثته بعد أربعين عاما من عمره الشريف، يوم الاثنين 4 شتنبر 609 ميلادية غريغورية، لأربع بقين من شهر رمضان العدة المستقيمة. ونزل قباء يوم الاثنين لليلة خلت من ربيع الأول العدة المستقيمة الموافق 16 شتنبر 622 ميلادية غريغورية، المواطئ بشوال النسيء، وتوفي يوم الاثنين لهلال ربيع الأول من العام الحادي عشر للتأريخ العمري السائد الموافق 28 ماي 632 ميلادية غريغورية.
يتضح بهذا التحليل أن الاشكالات التي يثيرها تأريخ أحداث السيرة النبوية عامة مردها إلى اختلاف القالب الكرنولوجي لمصادر السير والمغازي وعدم تطابقه مع قالب العدة المستقيمة السائد حاليا، وأن معظم أحداث السيرة بما ذلك بدر القتال، مؤرخة في المصادر بشهور الضلالة، وتداعياتها الشبحية الناتجة عن اقحام المحرم مطلقا عليها. وفي الختام نرجو أن تسارع المؤسسات البحثية المسؤولة إلى اعادة النظر في الكرنولوجيا النبوية السائدة بما يحقق الضبط الذي يليق بسيرة سيد الخلق، ويحقق للمغاربة قصب السبق في العناية المعهودة بهم بالسيرة النبوية على مر الأزمان، فمن شأن استعادة ضلالة النسي - على منوال ما ذكره الأزرقي في كتاب أخبار مكة- وموافقتها مع قالب العدة المستقيمة، أن يطيح بكثير من التواريخ التي تقدم لنا كحقائق مطلقة، وهي الضلالة التي تم تجاهلها تماما ولم تؤخذ بعين الاعتبار نهائيا في تحقيق أحداث السيرة.
محمد بن ابراهيم: باحث في التاريخ والحضارة.