ملخص البحث:
يحاول هذا البحث الكشف عن مدى تقدم نظرة ابن رشد إلى قضايا المرأة ضمن الشروط المعرفية والوضعيات الاجتماعية في عصره. فعندما كان يشرح كتاب "الجمهورية" لأفلاطون قدم أطروحة متكاملة بهذا الصدد يمكن اختزالها كالتالي:
تشترك المرأة والرجل في النوع والطبع والكفاءات الذهنية والعملية وإن اختلفت عنه في بعض الخصائص والوظائف. وحالة التردي التي كانت تعيشها النساء في المجتمع العربي المسلم آنذاك تعود إلى تصورات خاطئة موروثة من ثقافة قبلية ـ أبويّة تحرم المرأة من اكتساب الفضائل والمهارات عبر تجربتي التعالم الجاد والعمل الخلاق. وتغيير هذه الوضعية البائسة يقتضي تغيير وتجاوز تلك التصورات الخاطئة والمتحيزة ضد المرأة والتي لابد أن تورث المجتمع كله الضعف المادي والمعنوي نظراً لكون النساء يشكلن أغلبية المجتمع.
وبما أن هذه الأطروحة الرشدية جزء من جهوده في سبيل إعادة بناء الوعي لدى النخب الفاعلة وتنظيم العلاقات فيما بين أفراد المجتمع وفق منطق العقل والعدل والمصلحة المشتركة فإن الحوار معها مبرر ومفيد اليوم في المستويين النظري والعملي. فالقضية المشكلة لا تزال مطروحة علينا في هذين المستويين كما لا يخفى على كثيرين منا. ووجودها في مختلف مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة من الحدة، يعني فيما يعنيه أنها إشكالية حضارية كبرى لا يمكن لأحد أن يحقق تنمية أو نهضة أو تقدماً من دون حسمها وفق منطق العقل الذي يتصل بمنطق الشرع أوثق الاتصال بحسب ابن رشد وأمثاله.
1 ـ مدخل: الفقرة ـ النص:
لم يتعرض ابن رشد (520 ـ595 هـ/1126 ـ 1198م) لقضايا المرأة بشكل مباشر إلا في فقرة موجزة يبدو كما لو أن الصدف وحدها هي التي دفعته إليها. ففي سياق اختصاره لكتاب "السياسة"(1) لأفلاطون كتب هذه الفقرة التي تبرز مدى أصالة فكره وعمق آرائه وجرأة مواقفه مقارنة مع خطاب الفقهاء التقليديين الذين كرسوا الكثير من التصورات القبلية ـ الذكورية المتحيزة ضد المرأة. فإذا كان هؤلاء قد أدمجوا الكثير من التصورات الأسطورية الخرافية ضمن خطاباتهم "الشرعية" لتغدو جزءاً من المعتقدات الدينية بالنسبة لعامة الناس، بل ولدى فئات كثيرة من النخب المتعلقة من الجنسين، فإن ابن رشد لم يتردد في بيان تهافتها ونفيها في ضوء منطق العقل ومقاصد الشريعة وتجارب الحياة الإنسانية كما سيلاحظ.
ونظراً لتعدد ترجمات الفقرة بعد أن فقد النص الأصلي لابن رشد فإننا سننقلها كما صاغها محمد عابد الجابري في "العقل الأخلاقي العربي"(2) بلغة قريبة جداً من لغة ابن رشد ومن ثم نناقشها بما يتناسب مع طبيعة هذه المقاربة وأهدافها.
يكتب الجابري: "وعندما طرح أفلاطون مسألة ما إذا كان من الواجب أن تشارك النساء الرجال في مهام حفظ المدينة، أم أنه من الأفضل جعل مهمتهن مقصورة على الإنجاب وتدبير البيت.... الخ، تدخل ابن رشد ليبدي رأيه من خلال أربع ملاحظات".
ـ فمن الناحية المبدئية: "قلت إن النساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد من الغاية الإنسانية، فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم فيها (في الأفعال الإنسانية)، وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف. أعني أن الرجال أكثر كداً في الأعمال الإنسانية من النساء، وإن لم يكن من غير الممتنع أن تكون النساء أكثر حذقاً في بعض الأعمال، كما يظن ذلك في فن الموسيقى العملية، ولذا يقال إن الألحان تبلغ كمالها إذا أنشأها الرجال وعملتها (أدتها) النساء. فإذا كان كذلك، وكان طبع النساء والرجال طبعاً واحداً في النوع، وكان الطبع الواحد بالنوع إنما يقصد به في المدينة العمل، فمن البين إذن أن النساء يقمن في هذه المدينة بالأعمال نفسها التي يقوم بها الرجال. إلا أنّه بما أنهن أضعف منهم فقد ينبغي أن يكلفن من الأعمال بأقلها مشقة".
ـ ومن الناحية العملية: "إنا نرى نساءً يشاركن الرجال في الصنائع، إلا أنهن في هذا أقل منهم قوة، وإن كان معظم النساء أشد حذقاً من الرجال في بعض الصنائع، كما في صناعة النسيج والخياطة وغيرهما. وأما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بيّنٌ من حال ساكني البراري وأهل الثغور. ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة".
ـ ومن الناحية الشرعية: فإنه "لما ظُنَّ أن يكون هذا الصنف نادراً في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الإمامة، أعني الإمامة الكبرى، ولإمكان وجود هذا بينهن أبعدت ذلك بعض الشرائع".
ـ أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بوضعية المرأة في المجتمع العربي، وفي الأندلس بصفة خاصة يقول: "وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتُّخذن للنسل وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهن (الأخرى). ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب. ولكونهن حملاً ثقيلاً على الرجال صرن سبباً من أسباب فقر هذه المدن. وبالرغم من أن الأحياء منهن فيها ضعف عدد الرجال، فإنهن لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية، وإنما ينتدبن في الغالب لأقل الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسيج، عندما تدعو الحاجة إلى الأموال بسبب الإنفاق، وهذا كله بين بنفسه"
(ص 387 ـ 388).
وبعد إيراد الفقرة بهذا الترتيب المنطقي الواضح يقول الجابري: "إن موقف ابن رشد هنا بيّن بنفسه لا يحتاج إلى تعليق"، وهو قول وجيه تماماً إذا ما اقتنعنا بأن الأمر يتعلق بآراء عرضية ترد في كلام استطرادي من نص طويل لا يتصل بقضايا المرأة لأن موضوعه هو "علم السياسة" أو فن إدارة المجتمع والدولة من منظور "العلم المدني"(3).
أما حينما تقرأ الفقرة ذاتها ضمن خطابات ثقافية متنوعة عن المرأة سابقة لابن رشد ولاحقة عليه فإن الأمر يختلف ولابد. فمن منظور هذا السياق الخطابي المتسع يمكن أن تتحول إلى "نص" موجز كثيف ينطوي على عناصر أطروحة متكاملة ينبغي الحوار معها بطريقة تضمن الكشف عن أبعادها الدلالية الغنية كل الغنى نظرياً وعملياً. فابن رشد صاحب مشروع معرفي تكامل في أبعاده الفكرية والاجتماعية يستند في مجمله على وعي عميق بضرورة استحضار المنطق البرهاني (الأرسطي) عند البحث الجاد في أي قضية. وإذا كان في هذا الكتاب "لم يسجن نفسه في نص أفلاطون، بل تصرف كشريك في إنتاج النص"، وكان يريد أن يستقل "بنظرية خاصة في المدينة الفاضلة"، كما يقول الجابري بحق، فلا بد أن أطروحته عن المرأة جزء أساسي من هذه النظرية التي هي جزء مشروع أعم وأشمل. سنركز إذن على هذه القضية التي لم يتوقف عندها الجابري كثيراً كما لاحظنا، مع أنه من أبرز الذين يحاورون المشروع الرشدي الخلاق ويسعون إلى بلورته وإعادة تفعيله في الفكر العربي المعاصر فيما نعتقد(4). وسنقاربها لا من منظور الباحث في الفكر الفلسفي وإنما من منظور الناقد المقارن الذي يحلل الخطاب في تعبيراته الأكثر خصوصية وتميزاً من أجل إعادة بناء الصورة العامة للمرأة وإبراز دلالاتها الفكرية والاجتماعية لدى فيلسوف نزعم أنه أراد أن يحدث قطيعة جدية في هذا المجال مع الخطابات المعاصرة له والسابقة عليه، فيما عدا ابن حزم. ونستثني ابن حزم لأننا نجد في كتابه الشهير "طوق الحمامة" أطروحة عن الحب تعلي من شأن المرأة عموماً، وليس حينما تكون عاشقة ومعشوقة فحسب، وهذا ما بيناه بالتفصيل في بحث سابق عن هذا الكتاب الفريد من نوعه في تراثنا(5). من هذا المنظور نعتقد أن الأطروحتين تتكاملان في ما يتعلق بنفيهما لكثير من الصور النمطية التي شاعت في الخطابات الذكورية التي عادةً ما تستند إلى تصورات أسطورية خرافية ما قبل إسلامية وإن ظلت تبرر تحيزاتها ضد المرأة من منظورات دينية كما لا يخفى على الباحثين والباحثات.
في دراسة بعنوان "ملاحظات أولية حول وضعية المرأة عند ابن رشد"(6) تطرق الباحث أحمد عبد الحليم عطية للقضية ببعض التفصيل ليخلص إلى نتائج لا تختلف في العمق عما أشار إليه الجابري وباحثون آخرون من قبلهما. فقد حرص على وضع آراء ابن رشد عن قضايا المرأة في سياقات فكرية عامة، واستعاد أهم آراء الباحثين ممن تنبه إلى أن ابن رشد كان مفكراً أصيلاً لـه اجتهاداته الخاصة في هذه القضية وفي كل قضية تصدى لها. لكن نظراً لغلبة منهج الاستشهاد والاستطراد على المقاربة فقد خلت تقريباً من التحليلات المعمقة ومن الاجتهادات الخاصة بالذات الباحثة. هكذا حينما نصل إلى الفقرات الأخيرة من الدراسة حيث يتم التركيز على قضية المرأة لا نكاد نعثر على جديد لأن الباحث اكتفى بملاحظات أولية عامة وكأنه أراد أن يظلّ وفياً لطبيعة الدراسة وهدفها المعلن في العنوان. وبصيغة أكثر تحديداً نقول إن الباحث تعامل، مثله مثل الجابري، مع "آراء" ابن رشد الجزئية الواضحة في هذه الفقرة ولم يعاينها كعناصر في أطروحة متكاملة قد لا تكشف التعبيرات المكثفة سوى خطوطها العامة وهو ما سنحاول بيانه في هذا البحث.
إطار البحث وفرضيته الأساسية:
لا يخفى علينا اليوم أن الخطابات المعرفية الشائعة قبل ابن رشد وفي زمنه لم تكن قد طرحت قضايا المرأة في الثقافة وحقوقها في المجتمع كإشكالية مستقلة عن غيرها. وهذا أمر بدهي في اعتقادنا لأن هذه القضايا جزء من منظومة حقوق الإنسان التي لم تصبح موضوعاً للبحث بشكل جدي إلا في العصر الحديث كما لا يخفى على أحد منا. بناء عليه يمكننا أن نتفهم بشكل أدق وأعمق الأهمية القصوى لآراء ابن رشد ومواقفه ليس لكونها سابقة لزمنها أو متجاوزة لشروطها المعرفية في السياق الإسلامي، بل لأن الباحث يجد فيها ما يدل على أمرين مهمين غاية الأهمية. الأمر الأول أن هذا المفكر كان يعي جيداً أهمية دور المرأة في الأسرة والمدينة والدولة، وهذا الوعي هو الذي دفعه إلى معاينة القضية من منظور شمولي جديد لا نجد ما يوازيه في عمقه وجرأته لدى غيره من المفكرين المسلمين، ودونما اتباع لأفلاطون في كل ما قال بشأنها. الأمر الثاني هو أن الوعي بهذه القضية في مستوياتها الفكرية والدينية والاجتماعية هو الذي يبرر لنا الحديث عن "أطروحة" أصيلة غنية متكاملة وليس عن آراء عابرة أو عن أفكار عرضية متفرقة. هنا تحديداً نبلور الفرضية الأساسية للبحث ومفادها أن فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها لم يفرد لقضايا المرأة عملاً مستقلاً لكنها ما إن طرحت عليه في سياق تلخيصه وشرحه لكتاب عن "السياسة" حتى باشر التفكير فيها بشكل جدي ليعيد بناءها على أسس فلسفية وشرعية وواقعية متكاملة تبدو متجاوزة لما كتب عن المرأة في تراثنا وقريبة كل القرب مما يطرحه الفكر الحديث بهذا الصدد. لم يكن عبد الله العروي مبالغاً حينما نبهنا إلى أن ابن رشد كان يقف في طليعة الأفق المعرفي المتاح في زمنه ولذا علينا ألا نستغرب أن تكون بعض أطروحاته تتجاوز في قيمتها النظرية والعملية ما ينتجه كثير من المثقفين العرب اليوم(7). أما مقارنة فكره بما نجده لدى ممثلي الخطاب الديني السلفي فهي غير واردة لأن مواقفهم من حقوق المرأة، ومن حقوق الإنسان، ظلت تقليدية عموماً، بل إنها كثيراً ما تتراجع كلما تقدم الزمن كما لاحظته الباحثة فاطمة الزهراء أزرويل في بحث لها عن الموضوع(8). من هذا المنطلق يصبح الحوار مع كتابات ابن رشد عن المرأة، أو عن علاقات الدين بالفلسفة، والمجتمع بالدولة، والمثقف بالسلطة، شكلاً من أشكال التأصيل المعرفي للفكر العقلاني الحواري في ثقافتنا وحياتنا. فهذا الفقيه المجتهد والمفكر المجدد عمل بشكل منهجي صارم ومنتظم على إعمال منطق العقل النقدي في كل القضايا التي تصدى لها وكأنه كان يريد لمشروعه الفكري أن يمثل إضافة معرفية نوعية إلى المرجعيات الثقافية التقليدية السائدة في عصره. وأطروحته عن المرأة دالة بذاتها على أنه كان يعي جيداً أن التصورات النمطية المتحيزة ضدها موجودة في كل المجتمعات والثقافات البشرية، بقدر ما كان واعياً كل الوعي بأن استعمال سلطة المقدس لتكريس تصورات خاطئة كهذه لابد أن يعمق مختلف أشكال الضعف في الأسرة والمجتمع والدولة كما سنلاحظ. لنحاول تقصي عناصر الصورة وبيان أهم دلالاتها، وسنبدأ من الخاص إلى العام انسجاماً مع الخطاب الرشدي ذاته.
2 ـ صورة المرأة في ضوء منطق العقل:
نحن ندرك اليوم جيداً أن وضعيات المرأة في الثقافة والحياة عادة ما تكون مجال رهانات متنوعة تشارك فيها قوى اجتماعية مختلفة باختلاف أشكال وعيها ومواقعها وتطلعاتها. والقانون العام لتحولات التاريخ يفيدنا بأن السلطات والمؤسسات الرسمية المهيمنة على المجال العام في حقبة ما أو في مجتمع معين لابد أن تنحاز إلى منظومات الأفكار والقيم التي تكرس مشروعيتها وتضمن مصالحها. وهي تتخذ هذا الموقف وتدافع عنه بكل الوسائل الرمزية والعملية المتاحة بغض النظر عن مدى تحقيقه لمصالح الأغلبية العظمى من أفراد المجتمع من جهة، وعن مدى تطابقه مع منطق العقل ومنطق العدل من جهة أخرى. ولقد بين ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وتزفتان تودوروف، تمثيلاً لا حصراً، آليات اشتغال هذا الخطاب أو ذاك في مراحل محددة من التاريخ لتبرير مختلف أشكال الهيمنة على الآخر والغير، سواءٌ في دائرة علاقات المجتمع بذاته أو في سياق علاقاته بمجتمعات وشعوب أخرى مختلفة عنه(9).
لا نريد الاستطراد في هذه القضية التي أصبحت مجالاً مشتركاً لكثير من الدراسات الفلسفية والنقدية والثقافية كما نعلم. نريد التذكير فحسب بأن "المرأة" تمثل فئة من فئات "الآخر الداخلي" في المجتمع، مثلها مثل الأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية(10). وحينما تطرح الخطابات التقليدية قضايا وتناقش وضعياتها في الفكر أو في الحياة الواقعية العملية، لابد أن تعمل بوعي أو بدون وعي لتكريس مقولات اختلافها عن الرجل من منظور "تراتبي تفاضلي" في منطلقاته وغاياته، وهكذا تظل أدنى منزلة من الرجل. هذا تحديداً ما كان يعيه ابن رشد ويحاول نقده ونقضه ليحل محله منظور "أفقي تكاملي" أكثر انسجاماً مع منطق العقل الذي يبني عليه أطروحته، وأكثر تحقيقاً لمبدأ العدل ولمقتضيات المصالح الإنسانية العامة التي تتغياها خطابات الحكمة والشريعة في مجملها كما يفترضه فقيه فيلسوف مثله.
ومما يدل على وجاهة ما نذهب إليه أنه يبدأ حديثه عن المرأة بتقرير واحد من تلك الحقائق البسيطة الثابتة التي يلح جاك بوفريس(11) على ضرورة التذكير بها كلما حجبت لسبب ما، ومفادها أن النساء والرجال "نوع واحد في الغاية الإنسانية". مرجعية الحقيقة هنا لا تتمثل في الرأي الفردي والاجتهاد الشخصي، بل في الفكر الفلسفي العقلاني الذي كان معروفاً متداولاً في أوساط بعض النخب الثقافية العربية الإسلامية قبل ابن رشد وفي عصره. وتبرز الأهمية القصوى لهذه المرجعية في كون الفكر لا يختلق حقيقة كهذه بقدر ما يكشفها ويسميها ضمن بناء نظري متماسك يعين الذات المفكرة على معرفة الإنسان وتحديد هويته تدرجاً من العام إلى الخاص، وبهذا ينفي الأساس الأبستمولوجي للتصورات الأسطورية الخرافية عن المرأة دونما حاجة إلى كثير من الجدل.
فالإنسان من هذا المنظور هو كائن ينتمي إلى جنس الحيوان في المستوى الوجودي (والبيولوجي). لكنه يصبح "نوعاً إنسانياً" بفضل العقل الذي يدرك به ذاته وعالمه، وبفضل النطق الذي يسمح له بالتعبير عن أحاسيسه ومشاعره وأفكاره وحاجاته. وفي مرتبة ثالثة تتعلق بالخصائص والوظائف الفسيولوجية ينقسم هذا "النوع الواحد" إلى مذكر ومؤنث انقساماً يسمح بتكاثره واستمرارية وجوده غيره من الأنواع الحيوانية والنباتية وهكذا.
في هذا المستوى المنطقي البسيط إلى حد البداهة لا مجال إذن للتمييز التفاضلي بين المرأة والرجل بما أنهما يشتركان في النوع الإنساني والطبع الإنساني والعقل الإنساني والغاية الإنسانية كما يلح ابن رشد منذ بداية الفقرة. لا مجال لتمييز كهذا لأن اختلافهما من حيث الجنس (الجندر) هو اختلاف تكامل وظيفي ضروري لوجود الإنسان في الزمن والمكان إذ لا يمكن عقلياً أن نتصور وجود الرجل من دون المرأة والعكس صحيح تماماً.
بناءً على هذه الحقيقية التي يفترض ألا ينكرها منطق العقل السوي مهما كان فطرياً بسيطاً يبدأ ابن رشد في إعلان رأيه وتحديد موقفه الخاص بصدد "الأفعال" أو الأعمال الإنسانية لكل من الرجل والمرأة من المنظور التكاملي ذاته. فحينما يتجه الخطاب إلى هذه القضية "الثقافية" تبرز المشكلة وتُطرح على "المفكر" لأنها مطروحة من قبل ومن بعد في عالم الواقع وعلاقات الحياة اليومية في مجتمعات كثيرة. بل إن المشكلة الجزئية قد تتحول إلى إشكالية معقدة يورثها الأسلاف للأخلاف، لأن الثقافات البشرية لا تنبع دائماً من منطق العقل ولا تتحرى مبدأ العدل عندما توزع أنشطة العمل ومكاسبه بين أفراد المجتمع أو بين النساء والرجال(12). وحينما يستبعد المفكر منطق القوة وما يتولد عنه من أشكال الظلم للأفراد والفئات الأضعف في أي مجتمع فإنه يقرر أن النساء يمكن، بل ويفترض من حيث المبدأ، أن يشتركن مع الرجال في "كل" الأعمال والمجالات وفق معيار الكفاءة الفردية وليس وفق معيار الجنس المؤنث أو المذكر. نعم، يعترف ابن رشد أنهن يختلفن عنهم "بعض الاختلاف" بحسب هذا المعيار الأخير، لكن الصيغة هنا تدل على معنى القلة من جهة، وعلى معنى النسبية من جهة أخرى كما يلاحظ. فإذا كانت تجربة الحياة العامة ذاتها تبين أن الرجال "أكثر كدّاً" في الأعمال فإنها تبين في الوقت نفسه أن النساء "أكثر حذقاً" في أعمال أخرى، وإذن لا يوجد تفاضل هنا لأن الاختلاف هنا اختلاف تمايز نسبي وليس اختلاف تميّز مطلق. إن دلالة العبارة في هذا المقام تتحدد أفقياً وتكاملياً، وليس عمودياً وتراتبياً، ما دامت بعض الأنشطة العملية الشاقة تتطلب القوة العضلية، والرجال عموماً أقدر عليها من النساء، وبعضها الآخر يتطلب الحذق والمهارة، والنساء عموماً أقدر عليها من الرجال. المثل الذي يضربه فيلسوف قرطبة دليلاً على وجاهة الرأي المعرفي بهذا الصدد هو "صناعة الألحان التي تبلغ كمالها إذ أنشأها الرجال ونفذتها أو أدته النساء" كما يقول. ورغم أن عملاً كهذا قد يبدو ثانوياً، وربما مرذولاً في البيئة الإسلامية، إلا أن دلالته كمثل يستعيده ابن رشد من سابقيه، هي الأهم، لأن تكامل الأدوار والوظائف في هذا المجال وفي غيره هو الذي يعلي من قيمة الجهد المشترك بين النساء والرجال ويفضي بالإنجاز إلى درجة "الكمال" كما يلاحظ(13). وإذا ما تجاوزنا هذا البعد الوظيفي المباشر سنلاحظ إن ابن شد يؤصل مبدأ "المساواة" بين الرجل والمرأة في مجالات العمل كلها، مرة في ضوء منطق العقل الفلسفي العارف، ومرة في ضوء منطق العقل الإنساني العام كما يمكنه أن يتجلى في تجربة الحياة اليومية. فهو يحتكم، بعكس أفلاطون، لمنطق عقلاني غير مثالي، ولذا يعطي لتجربة الحياة الواقعية قيمتها لتعزيز دلالات الفكرة النظرية أو لتعديلها وإضفاء النسبية عليها. إنه لا يجهل أو يتجاهل أن المرأة عادة ما تحمل وتلد وترضع، وأن حالة من الضعف البدني لابد أن تصاحبها في فترات كهذه، ولذلك يقول: "فقد ينبغي أن يكلفن من الأعمال بأقلها مشقة". وإذا كانت حالة ضعف عابرة كهذه لا تنفي مبدأ المساواة فإن لعبارة ابن رشد بعداً دلالياً آخر يحقق مطلب "العدالة" ولذا يبدو لنا غاية في الأهمية من منظور وأصالة الخطاب الرشدي وراهنيته المشار إليها آنفاً. نقصد تحديداً هذا البعد الإنساني النبيل الذي يستشف من منطق العبارة لا من منطوقها ويتمثل في ضرورة تجنيب المرأة الأعمال الأكثر مشقة لا لضعفها أو بدواعي الشفقة عليها، وإنما لتوفير طاقاتها الخلاقة للعناية بالأطفال الذين هم الأحوج للرعاية والتربية، أو لإنجاز الأعمال الدقيقة التي تحتاج أكثر من غيرها للحذق والرهافة(14).
وفي كل الأحوال فإن منطق التعبيرات ومنطوقها يفيدان بأنه عند انتفاء أسباب الضعف العابر، والإيجابي بمعنى ما، عن أي امرأة ولأي سبب، تصبح المساواة هي الأصل، والأصل أحق أن يعتبر ويتبع. ومما يدل دلالة أكيدة على إيمان ابن رشد بهذا المبدأ وبما يترتب عليه من دلالات غنية، كما يلاحظ، أنه يستطرد بعض الاستطراد ليحصر معاني ضعف المرأة في بعض المقامات والسياقات ومن ثم ينفي كونه حقيقة مطلقة من منظور العقل أو من منظور تجربة الحياة. هكذا يكتب عن "صناعة الحرب" التي لا شك أنها تتطلب القوة البدنية والمهارة الذهنية، ليؤكد أن النساء يشاركن فيها كما الرجال، والشاهد عنده "حال ساكني البراري وأهل الثغور" كما يقول. فالمثل هنا بليغ الدلالة في المستويين النظري والواقعي، لأن سكان هذه الفضاءات عادة ما يكونون في علاقات توتر وصراع مع غيرهم، إما بحكم نمط العيش القاسي في البيئات الصحراوية، أو بحكم مجاورة الخصوم والأعداء على الحدود، وبالتالي فإن مشاركة المرأة في العمل الحربي أمر واقع وضروري في الوقت نفسه.
ثم تتراكم الدلالات الإيجابية في التعبير ذاته لأن لمفهوم "صناعة الحرب" هنا معنى مفتوحاً يمكن أن يشمل تصنيع أدوات الحرب، والتدرب على استعمالها عند الاقتضاء، بقدر ما يشمل عمليات التخطيط والإدارة والقيادة للعمل الحربي ذاته. ومشاركة المرأة في عمل جاد متنوع كهذا لابد أن ينفي عنها كل أوهام الضعف المطلق، وسواء تعلق الأمر بقوة الذهن أو بقوة البدن. ومما يعزز وجاهة هذه القراءة أن الكاتب المعروف بحرصه الشديد على دقة العبارة لا يستعمل في هذه الجملة أدوات تقييد أو تقليل أو احتمال مثل "ربما" "بعض" "يظن" "قد يكون"... وهي صيغ حوارية كثيرة الورود في خطابه كما نعلم.
وتبلغ الأطروحة الرشدية عن مبدأ "المساواة" ذروتها المنطقية حينما يتحدث عن مجالين من مجالات العمل الأكثر رفعة وقيمة رمزية وعملية وهما "الحكمة" و"الرياسة" التي كان يحتكرها الرجال في أثينا كما في المدن والدول الإسلامية(15). فنظراً لكون بعض النساء "مجبولات على الذكاء وحسن الاستعداد فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة" كما ينص عليه فيلسوف قرطبة. وقول كهذا يدل على أن هذا المفكر يعي جيداً أن "الممتنع" غير "الممنوع"، وأن الثقافات أو المجتمعات التي تمنع النساء عن الاشتغال بالفلسفة، أو عن تولي الملك أو الرئاسة أو الإمامة، الصغرى أو الكبرى، تستند إلى منطق آخر غير منطق العقل والعدل، أي إلى ما نسميه اليوم منطق "الإيديولوجيا"، وتحديداً "الإيديولوجيا الذكورية"(16). وهنا ربما يقال إن استعماله صيغة "بعض النّساء" ينفي ما نذهب إليه إذ قد يدل على أن "الذكاء وحسن الاستعداد" خصال موجودة عند "أكثر الرجال" وغير موجودة إلا عند "القلة" من النساء، لكن هذا المعنى ينتفي من وجهين مختلفين ومتكاملين:
الوجه الأول يدل عليه استعمال الكاتب لكلمة "مجبولات" التي تفيد بأن هذه الخصال أو الصفات فطرية مترتبة عن الانتماء للنوع الإنساني والاشتراك في الطبع والعقل والغاية الإنسانية، وبالتالي فلا يمكن أن تكون موجودة في جنس أو في عرق اكثر من الآخر من حيث المبدأ.
والوجه الثاني يدل عليه منطق الخطاب في عموم الفقرة التي ترد فيها الجملة الاستطرادية هذه حيث يلح ابن رشد، وبصيغ متنوعة، على معاني النسبية والتكامل في كل اختلاف بين المرأة والرجل كما رأينا.
من هذا المنظور المزدوج تصبح العبارة السابقة معادلة تماماً للقولة بأن "بعض" البشر أو بعض الأفراد مجبول على الذكاء وحسن الاستعداد ولذا يكون منهم "حكماء وأصحاب رياسة"، ولا فرق هنا بين رجال ونساء. أما احتكار بعض الرجال لبعض الأعمال والوظائف فهو خلل ثقافي اجتماعي يشبه الخلل المتمثل في احتكار بعض الأسر أو "البيوتات" للرياسة، وبذلك بقوة التغلب وليس بقوة الحق. هنا أيضاً لا مجال للشك في وجاهة هذا التأويل لأن ابن رشد ما حرص على تلخيص كتاب السياسة والتعليق عليه إلا ليكشف هذا الخلل ويحاول نشر الوعي به والعمل على تجاوزه لأن آثاره لابد أن تكون كارثية على المجتمع والأسرة والفرد. فالدولة أو "المدينة" هي صورة كبيرة للأسرة، واحتكار السلطة فيهما من قبل بعض الرجال هو خلل لا يمكن أن ينتج عنه غير محصول من جنسه، مثله مثل المقدمات الخاطئة التي لا يمكن أن تفضي إلى نتائج صحيحة من منظور العقل البرهاني المحكم. وبصيغة أكثر وضوحاً نقول إن ابن رشد صاحب فكر شمولي متماسك ونظرة نقدية عميقة ولذا "يبدو في هذا الكتاب في صورة حديثة جداً، يندد بجميع أشكال التسلط والاستبداد، ويؤمن بالتقدم، وينشد الإصلاح في الحكم والسياسة كما نشده في مجال العقيدة الدينية والعلم والفلسفة"(17).
وحينما تتجمع هذه الدلالات الصريحة والضمنية ندرك على الفور أن ابن رشد يقدم هنا المرتكز المعرفي لأطروحة نظرية متكاملة يتجاوز بها الفلاسفة من قبله، وخاصة أفلاطون المعروف بجفائه واحتقاره للمرأة وهو "الحكيم" البارز، كما يتجاوز بها فقهاء المسلمين الذين يكادون يجمعون بمختلف مذاهبهم على عدم جواز تولي المرأة الولاية الكبرى وإن اختلفوا فيما هو دون ذلك(18). هنا تحديداً قد يتساءل الباحث المسلم المعاصر عما إذا كانت هذه الأطروحة الرشدية مخالفة لتعاليم الشريعة الإسلامية ومقاصدها أم أنهم الفقهاء التقليديون الذين يخالفونها إذ يعتمدون على بعض النصوص ويهملون بعضها الآخر تماشياً مع ذلك الفقه الذكوري المتمركز حول الرجل والذي بلغ ذروة صياغته الإيديولوجية في كتابات الغزالي كما بيناه في دراسة سابقة؟. لنتأمل المسألة من هذا المنظور بإيجاز يقتضيه المقام، ولا يجب أن ننسى أننا أمام المشكلة الأكثر تعقيداً، لأننا نبحث غير بعيد عن مجال "المقدس" الذي يؤثر في الناس أكثر من غيره بالأمس واليوم.
3 ـ صورة المرأة ضمن منطق الشرع
في مستهل هذه الفقرة لابد أن يتجه التحليل من النص الحاضر إلى النص الغائب، ونعني به "النص الشرعي" الذي لا يحضر في عبارة ابن رشد إلا كخلفية بعيدة يتعين على القراءة أن تستحضرها لبناء أطروحته من مختلف مكوناتها ومرجعياتها. من هذا المنطلق لا نجد ضرورة لتتبع آراءه الفقهية عن المرأة في كتاباته الأخرى، كما دعى إليه أحمد عبد الحليم، لأننا أمام عمل فكري يتجاوز النظر في القضايا الجزئية المعتادة ولابد من الحوار معه في هذا المستوى الشمولي في المقام الأول(19).
فبعد أن يقول ابن رشد أن النساء ممن جبلن على الذكاء وحسن الاستعداد هن مؤهلات للحكمة والرياسة مثلهن مثل الرجال، يضيف أنه: "لما ظُنَّ أن يكون هذا الصنف نادراً في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الإمامة، أعني الإمامة الكبرى، ولإمكان وجود هذا بينهن أبعدت ذلك بعض الشرائع".
ولعل أول ما يلفت الانتباه في العبارة هو استعمال مفهوم "الشرائع" بصيغة الجمع وعدم التقييد بالنعت مما يفيد بأن القول هنا تعميمي لا يخص الشريعة الإسلامية حصراً، كما بدا للجابري، بل يشمل "كل" الشرائع الدينية، وربما غير الدينية، التي يمنع بعضها ويقبل بعضها الآخر مسألة الولاية الكبرى للمرأة. وهذا المعنى العام الشامل الذي يبرره منطوق القول هو الأقرب إلى منطق الخطاب ومقصده لدى كاتب مفكر يؤصل للقضايا في مستوى الكليات وليس الجزئيات والفرعيات، أي أن ما ينطبق على الشريعة الإسلامية ينطبق على غيرها في هذا المستوى.
أما حين نركز على الشريعة الإسلامية فإن الأطروحة الرشدية تتحدد وتبرز أهميتها النظرية والوظيفية ضمن خطاب مختلف بالضرورة عن غيره، وإن كان اختلافه لا يعني تميزه أو أفضليته المطلقة في هذا المقام المعرفي الشمولي.
فنحن نعرف مسبقاً أن لفيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها أطروحة شخصية متفردة وجريئة، بالنسبة لعصره كما بالنسبة لعصرنا الراهن، بلورها في كتابه (فصل المقال) حيث ذهب إلى أن منطق الحكمة يتصل أوثق الاتصال بمنطق الشريعة العميق ومقاصدها البعيدة، وفق مبدأ "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له". وإذا ما ظهر تعارض ما بينهما فمن واجب الفقيه المفكر المجتهد مثله أن يؤول النص الديني في ضوء منطق البرهان المحكم إلا حين يتعلق الأمر بالمعتقدات والشعائر والأحكام التي ورد فيها نص قطعيّ الثبوت قطعي الدلالة يخرجها من مجال الاجتهاد والنظر العقلي أصلاً(20). في ضوء هذه الأطروحة العامة يبدو جلياً أن ابن رشد يدرك تماماً أن اشتغال المرأة بالفلسفة أو الرياسة يظل أمراً خلافياً يترتب الحكم فيه بالمنع أو الإباحة على "الظن"، أي على الرأي الشخصي الذي لا يلزم غير صاحبه أن يأخذ به. وانسجاماً مع فكره العقلاني الحواري هاهو يطرح القضية ويبرز الاختلافات فيها ومن ثم يبدي رأيه الخاص وموقفه المستقل على هذا النحو الموجز والواضح في الوقت نفسه كما يلاحظ. فتأكيده نصاً على "إمكان وجود" المرأة "الحكيمة" أو "الحاكمة" في عالم الواقع يكشف عن رأي جريء ينفي بصيغة منطقية ضمنية وحاسمة ذلك الحكم الظني التوهمي الذي لم ينقضه أحد من الفقهاء المعتبرين من قبله فيما نعلم. بل إن التدقيق في العبارة المختزلة يبين لنا أن عملية النفي هنا تتم بشكل مضعف. فالحكم بالمنع مخالف لمنطق العقل الذي يعتبره ابن رشد وأمثاله يقيناً متى ما احتكم لشروط البرهان. ثم إنه حكم مخالف لمنطق الشرع المتمثل في تلك التجربة التاريخية التي امتدحها القرآن الكريم ذاته في خبر بلقيس الملكة العاقلة الصالحة وقدم عنها صورة إيجابية تماماً، وخاصة عند مقارنتها بصورة أولئك الملوك الذين "إذا دخلوا قرية أفسدوها"!. فخبر تاريخي ـ ديني كهذا لابد أن يستحضر في خلفية الرأي في هذا المقام الاجتهادي الجاد كل الجدية. وهو لابد أن يستحضر هنا لأن الفيلسوف المجدد والفقيه المجتهد وقاضي القضاة الذي ينتظر منه العدل في كل حكم لم يكن ليذهب إلى هذا الرأي الجريء الذي يمكن أن يصدم النخب الخاصة قبل العامة، لو علم أنه يتعارض مع نص دينيّ قطعي الثبوت والدلالة. أما والأمر مجال آراء مختلفة واجتهادات مفتوحة فمن حقه وواجبه أن يدلي فيه برأي قد يخالف فيه كل الفقهاء من قبله دونما مخالفة للدين في ذاته، وهذا معنى أصيل في كل اجتهاد معرفي خلاق في الشرعيات والفكريات بالأمس واليوم.
وحينما نأخذ مسافة كافية من العبارة المكثفة هذه يمكن أن تتعزز وجاهة هذه التأويلات من منظور ديني أعم وأشمل. فمما لاشك فيه أن ابن رشد يدرك جيداً أن في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على دلالة صريحة قاطعة على أن مفاهيم الإنسان، الناس، الإنس، البشر، بني آدم.. عادة ما تستعمل في الخطاب القرآني لتشمل النوع الإنساني من دون تمييز بين مذكر ومؤنث. كما لا يخفى على فقيه وقاض مثله أن انتماء المرأة والرجل إلى آدم وحواء، أي إلى نوع أو أصل واحد، يعني بالضرورة أنهما متساويان من حيث المبدأ في الطبع (الجبلة) والعقل والغايات الإنسانية، تماماً كما تقول به الفلسفة أو الحكمة. كذلك لابد أنه يعي تمام الوعي أن معايير الإيمان والصلاح والتقوى ومعاني التكريم والتفضيل وحسن الخلق والتقويم والتصوير المتكررة كثيراً في القرآن والسنة ولا تفرق بين أفراد الأمة أو بين أفراد المجتمع المسلم بحسب الجنس أو العرق أو اللون أو اللسان أو الرتبة الاجتماعية(21). فالناس كلهم من هذا المنظور خلق الله، وهم مكلفون بخلافة الأرض وبعمرانها، وهم كلهم من حيث المبدأ سواسية كأسنان المشط، وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح.. وهكذا.
في هذا المستوى المتعلق بالأصول والمبادئ العمومية تتفق إذن المرجعيتان الدينية الإلهية والفلسفية البشرية وإن اختلفتا في أساليب التعبير عن الحقيقة ومناهج البحث عنها وأساليب الحث على الالتزام بما يترتب عليها من قيم وسلوكيات.
وإذا كان ابن رشد لا يستحضر هذه المرجعية في هذه الفقرة عن المرأة بشكل مباشر لتعزيز رأيه والإقناع به فذلك لأن مقام الخطاب لا يستدعيها، ولأن من المفترض أن تكون حاضرة في خلفية وعي القارئ المفترض لخطاب فقيه مجتهد وقاض متمكن مثله. بصيغة أخرى نقول إنه لم يكن ليجد مبرراً نظرياً أو تداولياً للتذكير في مقام معرفي خاص على بدهيات ومسلمات أولية لا تخفى على أي مسلم عادي كالقول بأن المرأة إنسان، وأن الله خلقها ليستمر وجود النوع الإنساني، وكرمها بالعقل وكلفها بالعمل الصالح لكي تحاسب على نتائج أقوالها وأفعالها بموجب هذا التكريم وهذا التكليف مثلها مثل الرجل تماماً.. الخ.
القضية المشكلة، أو "الإشكالية"، تبقى إذن قضية الخلفيات المعرفية والمقاصد الإيديولوجية التي عادة ما توجه القراءات الفردية لنصوص الشريعة. فقراءات كهذه كانت وستظل منتوجات ثقافية مختلفة ولابد، وسواء تعلق الأمر باختلاف تنوع وتكامل وتعايش و"رحمة"، أو باختلاف تعارض وتناقض و"تنازع" على السلطان والمصالح. بالنسبة لشخص مثل ابن رشد تكتسب التأويلات وجاهتها النظرية والعملية بقدر ما تلتزم بمنطق العقل المحكم من جهة، وبقدر ما تحقق المقاصد الشرعية والمصالح الإنسانية للإنسان، نوعاً وأمة ومجتمعاً وفرداً(22).
أما حينما يراد التحقق من مدى وجاهة هذه القراءة أو تلك فلا بد من اختبارها في مستوى معطيات الواقع وعلاقات البشر حيث أن لكل منها تأثيرات وانعكاسات لا يمكن أن يجهلها المفكر الحر والفقيه المجتهد وإن جهلها أو تجاهلها غيره. من هذا المنظور يطل بنا ابن رشد على واقع مأساوي تهيمن عليه القراءات الذكورية للنصوص الدينية التي عادة ما تغذي ثقافة مختلفة معتلة تتجلى تأثيراتها السلبية على المرأة والرجل في كل مجالات الحياة ومستوياتها.
4 ـ صورة المرأة المسلمة بحسب تجربة الحياة اليومية:
في مستوى تجربة الحياة اليومية في المجتمع العربي المسلم الذي ينتمي إليه ابن رشد ويكتب عنه وله بمعنى ما، تكثر الشواهد الدالة على أن الثقافة السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك هي في مجملها ثقافة متحيزة ضد المرأة كل التحيز. ومع خطورة الدور الذي يلعبه الدين في مجتمع كهذا، إلا أن سبب تدني مكانة المرأة ليس الدين في ذاته بل تأويلات "الفقهاء الرجال" لنصوصه التي يوجهونها لتبرير ثقافة يمكن وصفها مباشرة بأنها "ناقصة عقل ودين". ونصفها على هذا النحو لأنها حين تتناول قضايا المرأة لا تحترم منطق العقل ولا تستقيم مع منطق الشرع الذي يتحرى مبدأ العدل، ولا تحقق مصلحة عامة للمجتمع المسلم إلاَّ في أضيق الحدود، وهذه هي المفارقة التي تنبه لها ابن رشد وحذر منها.
فهذه الثقافة التي تضرب بجذورها بعيداً في مجهول التاريخ بثقافاته الشعبية والرسمية هي التي تجعل "الرجال" يتخذون "النساء" للنسل والقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتنشئة، ولا غرابة بعد هذا أن تزول عنهن "الكفايات" وتتعطل فيهن "الفضائل" التي هن ميسرات لها في الأصل(23).
وعند التدقيق في دلالات الكلمات عند مفكر دقيق صارم مثل ابن رشد يتضح لنا مدى تردي وضعيات المرأة وأحوال الواقع الاجتماعي الذي يتحول إلى مختبر لتبين مدى وجاهة أي قراءة. فمفهوم "النسل" هنا يعني الحفاظ على السلالة أو على الأسر التي كانت، ولا تزال غالباً إلى اليوم، تتباهى بكثرة الأولاد الذكور وتكره كثرة البنات لأنهن يصبحن عبئاً عليها في مجتمع يحتقر المرأة ويحط من كرامتها ويعتبرها عاراً وعورة لنقص فطري في عقلها ودينها وخلقها!.
ومفهوم القيام "بواجبات الزوج" لن يتعدى معناه في هذا السياق إشباع شهوات الرجل وخدمته فيما هو يتفرغ للأعمال الجليلة كما لو أن المرأة تحولت عملياً إلى نوع آخر من أنواع الرقيق والإماء والجواري خلافاً للدين الذي يحث على المساواة في الحقوق الواجبات بين الزوجين مثلما يحث على تبادلية معاني المودة والرحمة والمحبة والتساكن في كل علاقة بينهما(24).
ومفاهيم "الإنجاب والرضاعة" ستأخذ معنى الولادة والرعاية الأولية التي لا تميز الإنسان عن بقية الكائنات الحيوانية إلاَّ بعض التمييز. حتى مفهوم "التربية" أو "التنشئة" هنا لا قيمة دلالية كبيرة له لأن المرأة التي زالت عنها الكفاية وحرمت من اكتساب الفضائل العليا لا يمكنها أن تربي أحداً على قيم ومبادئ وخصال هي محرومة منها. جل ما تستطيعه امرأة كهذه هو أن تربي البنت على الخضوع والاستلاب فتكون صورة مكرورة لها، وان تربي الابن على احتقار المرأة والتعالي الأجوف على النساء مثله مثل أبيه، وهكذا تتكرر دورة البؤس من جيل لجيل(25).
ليس فيما تذهب إليه قراءتنا أي مبالغة لأن التوصيفات المقتضبة التي يوردها ابن رشد عن واقعه ومجتمعه تحتمل هذه المعاني وما هو أبلغ وأسوأ منها. هكذا تصاغ العبارة التالية صياغة منطقية مباشرة وصارمة الدلالة وكأنها النتيجة الوحيدة المنطقية لما قبلها:
ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب أو (النباتات).
فتشبيه الكائن الإنساني بجنس النبات ينطوي على مفارقات غنية الدلالات. المفارقة الأولى أن الكاتب يتعفف عن تشبيه النساء بأنواع من جنس الحيوانات المستقبحة كما فعل الغزالي، وفي الوقت ذاته يبين درجة التدني التي وصلت إليها حالهن إذ نزلن عن مرتبة الكائنات ذوات الروح إلى مرتبة أقل منها(26). المفارقة الثانية تكشفها القراءة المتعمقة حينما نركز على بعد دلالي أهم وأخطر لا يمكن الجزم بحضوره في وعي الكاتب لكن السياق يبرره ويستحضره دونما حاجة إلى تمحّل أو اسقاطات. فالتعبير هنا مجازي إيحائي ينفتح على ذاكرة ثقافية بعيدة الجذور في الماضي لكنها مؤثرة بقوة في الذهنيات والعلاقات بالأمس واليوم. ووجود فئة عريضة من المجتمع، النساء، تشبه الأعشاب أو "نباتات الرعي" يستدعي منطقياً وجود فئة ثانية تشبه الكائنات التي ترعى هذه النباتات، ومنطق التداعي ذاته يقودنا إلى فئة ثالثة تشبه "الرعاة" وهكذا!. ومما يعزز وجاهة الدلالات السلبية المتعالقة هذه أن الفقرة كلها ترد في خطاب عن السياسة التي هي علم أو فن إدارة مجتمع المدينة أو الدولة، لكن مقولات الراعي والرعية كانت ولا تزال تستعمل كثيراً ضمن هذا الخطاب في السياق الثقافي العربي تحديداً كما نعلم(27).
إننا ندرك اليوم جيداً أن للكلمات ذاكرتها الدلالية الخاصة، ومفردات كهذه لابد أن تحيل إلى تلك الثقافة الرعوية التي تنتجها وتتداولها جماعات قبلية بدوية بسيطة الوعي محدودة الأنشطة والعلاقات بخلاف مجتمعات المدينة التي تتميز بتنوع فئاتها وكثرة أنشطتها وتعقيد علاقاتها بحيث تستدعي سياسة متطورة من جنسها. هنا تصل دلالات المفارقة في تلك العبارة الموجزة إلى ذروتها حيث أن علاقات الرجال بالنساء في المنزل تصبح صورة مصغرة لعلاقات الحكام بالمحكومين في المجتمعات العربية المسلمة لأن كلتيهما محكومة بالمنطق العميق ذاته لتلك الثقافة القبليّة الرعوية حتى والناس يعيشون في حواضر كبرى ودول متسعة. وبصيغة أخرى نقول إن هذه الدلالة التأويلية تصبح مشروعة تماماً حينما نقرأ عبارة ابن رشد عن المرأة ضمن سياق "خطاب سياسي يواجه السياسة مواجهة صريحة مسلحة بالعلم والفلسفة" كما يقول الجابري(28). من هذا المنظور تصبح علاقات التشاكل والتفاعل بين هيمنة الرجال على النساء والآباء على الأبناء في مجال الأسرة وهيمنة الحاكم "الراعي" على المحكومين "الرعية" في مجال المدينة أو الدولة، في حكم المسلمات حتى وإن لم يتم التصريح بها.
وفي كل الأحوال لابد لهذا الاستطراد ما يبرره من زاوية ثانية حيث نلاحظ أن ابن رشد لا يلبث أن يربط بشكل صريح هذه المرة بين الوضعيات المتردية للمرأة وتردي الوضع الاقتصادي الذي لا يستطيع الإنسان السوي أن ينكر أحواله ومعطياته الماثلة.
فالنساء يشكلن أغلبية مطلقة في مجتمع تتخطف رجاله فتن الداخل وحروب الخارج. ونظراً لكونهن يعشن في حكم البطالة المباشرة أو المقنعة يصبحن "سبباً من أسباب فقر هذه المدن" لأن اعتمادهن على مردودية عمل الأقلية من الرجال الذين توفرهم الحروب العبثية أو المشروعة، لابد منطقياً أن يؤدي إلى فقر الأسرة والمدينة والدولة. وتبلغ الدلالات المأساوية لوضعية كهذه ذروتها حينما تتحول النساء إلى كائنات هامشية ضعيفة تابعة لسلطة الرجل التي يمكن أن تنقلب إلى "تسلط" في أية لحظة سوء تفاهم أو خلاف لأنهن الطرف الأضعف في مجمل العلاقات. وبيان هذه الوضعيات لا ينطوي على أي معنى لإدانة المرأة أو لاتهام "جنس النساء" بالضعف كما يمكن أن يلح عليه الفقهاء التقليديون. فالسبب الحقيقي الذي يولد هذه الوضعيات المأساوية يتمثل في تلك الثقافة القبلية الذكورية "المؤسْلَمة" التي تمتلئ بالتصورات الفاسدة والأحكام المختلة المعتلة عن الذات الإنسانية في المرأة والرجل. كأننا نقول إن ثقافة تعامل المرأة كقاصر، وتحرمها من الكفايات والفضائل التي تكتسب بفضل تجربتي التعلم الجاد والعمل الخلاق، وتفضل ألا تخرج لأن مكانها الأمثل هو "قعر البيت" بتعبير الغزالي.. لابد أن تفضي إلى وضعية متردية في عمومها كهذه(29). أما حينما تضغط الحاجة على "رب الأسرة" أو على أمير المدينة وملك الدولة فإن المرأة تنتدب لمباشرة "أقل الأعمال شأناً كما في صناعة الغزل والنسيج". هذه إذن حالة استثنائية تثبت تلك القاعدة العبثية التي تعطل الطاقات الذهنية والعملية في النساء اللائي يشكلن أغلبية المجتمع العربي المسلم، وباسم مقولات خاطئة وتصورات فاسدة تتوارث من جيل لجيل وكأنها من صميم العقيدة! (30).
هكذا تكتمل الأطروحة النظرية ببيان تأثيرات الثقافة السائدة في علاقات الواقع الكئيب الذي يصفه ابن رشد قبل ثمانية قرون، وبخطاب يبدو كما لو كان يصف ويحلل واقع الحال في معظم مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم!. فالفقر ليس قدراً لا مهرب منه إلا إليه. وحتى إذ يكون كذلك في حالة بعض الأفراد الذين تخونهم الصدف والحظوظ، فإنه يظل في جزء أساسي منه نتيجة للثقافة التي ينشأ عليها الرجال والنساء ويمتثلون لأفكارها وقيمها ومعاييرها عندما يكبرون ومن ثم فلا يمكن تفهمه ومعالجته بمنطق الصدقات. منطق ابن رشد لا يختلف في العمق عن منطق الباحثين الجادين في العصر الحديث ممن يربطون قضايا التنمية والتقدم في الماديات بمدى التطور في المجالات الاجتماعية والفكرية والعلمية إلى حد أنه يمكننا القول بأن فقر الثقافة يؤدي إلى فقر المجتمع(31). لقد أدرك قبل غيره أنّ تعديل التصورات الخاطئة عن المرأة هو تحرير لطاقاتها حتى تشارك في كل عمليات الإنتاج الفكري والعلمي والمادي، أما بقاء الثقافة على ما هي عليه فإنه يعني المزيد من أشكال الفقر والتخلف في كل المجالات والمستويات.
الصورة العامة ـ تماسك البنية ومفارقات الدلالات والوظائف:
حينما نحاول الربط بين أهم ما ورد في الفقرات السابقة سنلاحظ على الفور أن بنية الصورة العامة للمرأة في خطاب ابن رشد تتكون من عناصر متنوعة، مختلفة ومتكاملة، وهذا يدل بذاته على غناها الفكري رغم محدودية تعبيراتها. هناك مرجعيات فلسفية وشرعية وواقعية يتم اختزالها من أجل إعادة بناء التصورات الذهنية لتتطابق مع حقيقة هذا الكائن الإنساني الغني الذي تتعاضد مرجعيات تقليدية متنوعة لنفيه إلى مرتبة أدنى من مرتبة "الرجل"، بل أدنى من مرتبة الكائن الحي كما لاحظه ابن رشد. وتقديم المرجعية الفلسفية العقلانية على ما سواها كان كافياً بحد ذاته للكشف عن بدهيات منسية كالقول بان المرأة والرجل يشتركان في كل المقومات التي تميز الإنسان العاقل الناطق المؤهل لكل معاني حريته وكرامته، وأن أي اختلاف بينهما بعد هذا هو من قبيل الأمور النسبية والإيجابية في الوقت نفسه(32). ومما يعزز الوجاهة المعرفية والتداولية لمرجعية "أجنبية" كهذه أنها لا تتنافى مع المرجعية الدينية المحلية، فضلاً عن كثرة الشواهد الدالة على صدقيتها في مستوى تجارب الحياة لكثير من المجتمعات التي تباشر فيها النساء كل الأعمال الجادة مثلهن مثل الرجال. هذا من حيث البنية العامة، أما من حيث الدلالة فإن هناك مفارقات تلفت النظر وتتطلب التفسير والتأويل. فحينما نركز على صورة المرأة في ذهن ابن رشد نلاحظ بوضوح أن ما يكتبه عن وضعياتها وقضاياها في الخطاب الذي يتبناه ويطوره يكشف عن مدى احترامه لها ذاتاً إنسانية وجنساً أنثوياً وشخصية فردية وفاعلاً اجتماعياً لديه كل الطاقات الخلاقة التي تؤهله للمشاركة باقتدار في أي نشاط ذهني أو عملي. لكن الصورة التي يقدمها عنها في واقع مجتمعه العربي المسلم بكل واقعية وجرأة هي صورة لكائن بشري جاهل ضعيف تحاصره الثقافة السائدة بكل أنواع العوائق التي تسلبه حقوقه، بل تكاد تفقده أبسط معاني إنسانيته. والمسافة الفاصلة بين الصورتين هي التي تبرر الأطروحة لدى مفكر يعي جيداً أن تدني مرتبة المرأة في الثقافة والحياة دليل خلل في منظومات الأفكار والقيم والمعايير لابد، منطقياً، أن يؤدي إلى أشكال من الخلل يعانيها الجسد الاجتماعي كله وإن كان نصيب النساء من المعاناة هو الأكبر(33). وهذا الوعي هو ذاته ما يبرر لنا ولغيرنا تبين مفارقة أخرى تتعلق بالأطروحة حينما تقرأ في سياقها الاجتماعي التاريخي وليس في سياقها الفكري فحسب.
فهي تبدو في المستوى النظري قوية متماسكة لأنها تنبني على مقولات عقلانية محكمة بسيطة وواضحة من جهة أولى، وعلى فهم شمولي عميق لمبادئ الشريعة العامة ومقاصدها البعيدة من الجهة ثانية، وعلى احترام كبير للمرأة عموماً يعززه تعاطف واضح مع المرأة المسلمة المضطهدة من جهة ثالثة كما رأينا.
أما في المستوى الوظيفي فالمؤكد أن الأطروحة تظل ضعيفة كل الضعف ليس لخلل فيها وإنما لأن تفعيلها في علاقات الواقع كان يتطلب تدخل عوامل من خارج الخطاب كانت غائبة في مجملها. فالمرأة ذاتها ليست حاضرة في جدل يبدو أنه يدور بين رجال من فئة "الخاصة"، أو النخبة كما نسميها اليوم، وتزداد معاني هذا الغياب فداحة حينما نتذكر أن النساء يشكلن ضعفي عدد الرجال كما يقول ابن رشد(34).. وتدخل السلطات القائمة لتعديل الخطابات التقليدية وتطويرها لتكون أقرب إلى منطق العقل والعدل والمصلحة العامة، هو أمر ممكن لكنه لم يكن متوقعاً آنذاك بكل بساطة. لماذا؟. لأن القبول برأي مفكر مجدد وفقيه مجتهد مثل ابن رشد، ومثل ابن حزم من قبله، يعني فيما يعنيه تنازل ممثلي هذه السلطات "الذكورية" طواعية عن كثير من امتيازاتهم المادية والرمزية في الأسرة والمجتمع والدولة. العامل الثالث يتمثل في عدم وجود قوى اجتماعية جديدة تتبنى منطق التغيير أو الإصلاح وتفعل خطابه في مختلف علاقات الحياة ومجالات العمل والتبادل اليومي ضمن سيرورة ما يعرف اليوم بالحراك، أو الصراع الاجتماعي. وفي شروط تاريخية كهذه لم يكن من المتوقع أن تؤدي الأطروحة الجريئة المحكمة إلى تغيير جذري في الصور النمطية المتوارثة عن المرأة والرجل والآخر والعالم.
بناء على هذا كله يُطرح التساؤل التالي: هل يعني هذا كله أن الجهد الفكري يفقد قيمته ما لم يكن فاعلاً في واقعه وعصره؟. لا نعتقد ذلك لأننا ما إن نعاين الأمور من منظور الراهن حتى نكتشف أن أطروحات ابن رشد بصدد هذه القضية، وقضايا كثيرة لم تحسم بعد في ثقافتنا، لا تزال تحتفظ بقيم رمزية وعملية كثيرة بالنسبة للباحثين والباحثات في مجتمعنا العربي على وجه التحديد.
فأطروحة جريئة كهذه قد تضع المفكر، ذاتاً وخطاباً، في مواجهة مباشرة مع خطابات الحاكم التقليدي، والفقيه التقليدي، والرجل التقليدي، ودونما سند يذكر من خارج الخطاب كما رأينا. وهذا موقف مهم في ذاته، ومهم من حيث أن الباحث الذي يريد أن يتصدى بجدية لقضايا الإنسان والمجتمع والسلطة ينبغي أن يتوقعه ويتحمل تبعاته كمسؤولية معرفية وأخلاقية(35).. ليس في هذا القول مبالغة.
فالأطروحة ترد في سياق كتابة عن "السياسة" يهيمن عليها الطرح الفكري العقلاني المجرد، لكنها لا يمكن أن تبرأ من الأخلاقية والمقاصد "الإيديولوجية" لأن السياسة "علم عملي" بامتياز كما لاحظه الجابري وألح عليه(36). من هذا المنظور يصبح في حكم المؤدّد أن أطروحته عن المرأة جزء من أطروحة كبرى كانت تهدف إلى عقلنة التصورات وأنسنة العلاقات وإصلاح الوضعيات لتتحرر الطاقات وتفعل فعلها الخلاق في كل البنى الاجتماعية. نعم، لاشك أن هناك حدوداً للعقلانية الرشدية بينها ناصيف نصار بدقة(37)، لكن جهوده الفكرية ومواقفها العملية تظل مساهمة مبكرة خلاقة في تفكيك سلطة التابو الثلاثي الذي لا يزال يشكل عائقاً ابستمولوجياً وإيديولوجياً قوياً أمام أي مفكر أو باحث في مجتمعاتنا(38).
كذلك يقدم لنا ابن رشد درساً لا أقل قيمة حين يكتب من موقع الفيلسوف العقلاني مرة، ومن موقع الفقيه المسلم مرة ثانية، ومن موقع المواطن المثقف المنشغل بأحوال مجتمعه مرة ثالثة. فتنويع المرجعيات والمنظورات والتعبيرات هو ما يمكن الباحث من تحليل القضية في مختلف جوانبها لاستكشاف أبعادها المتنوعة المتعالقة، ومن مخاطبة كل فئة من القراء بما يتناسب مع وعيها ومرجعيات قراءتها، وهذه سمات حوارية في أي خطاب يحترم شروط المعرفة بقدر ما يحترم المتلقي قارئاً نموذجياً أو مفترضاً أو واقعياً متعيناً(39). لقد تقصينا أهم مظاهر النزعة الحوارية ووظائفها في الكتابة الرشدية في بحث سابق(40)، لكنها تكتسب هنا أهمية قصوى نظرياً وتداولياً. فالإشكالية لا تزال قائمة. والحوار مع الخطاب الرشدي بصددها يقتضي الخروج عن الأطر المعرفية التقليدية والحوار مع ما هو متاح اليوم من مفاهيم ومصطلحات ومناهج وأطروحات من مختلف العلوم الإنسانية. بل إن الحوار يمكن أن يمتد إلى العلوم الطبيعية الدقيقة التي يمكن لبعضها أن يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التحيز ضد المرأة يعود إلى هيمنة تصورات عتيقة لا سند لها في خطابات الفكر والعلم والدين، تماماً كما توصل إليه ابن رشد منذ قرون. فالحوارية بهذا المعنى الفكري المتسع تعترف بمشروعية كل الآراء والمواقف ووجهات النظر من حيث المبدأ، لكنها لا تضعها في مرتبة واحدة حينما يتعلق الأمر بالحكم على القضايا والوقائع التي تمس وجود الإنسان وحقوقه ويفترض أن يفصل فيها القول وفق منطق العقل ومبادئ المساواة وقيم العدالة ومعايير المصالح المشتركة للأغلبية العظمى من الأفراد(41). ومن هذا المنظور لعل أهم درس يقدمه لنا ابن رشد هو أن تعديل صورة المرأة في الذهنيات وتفعيل دورها في علاقات العمل والإنتاج لا يتم من دون قطيعة جدية مع تلك التصورات الخرافية الأسطورية التي تنبه لها وحاول تفكيكها وبين تهافتها وسعى إلى تجاوزها بحسب ما كانت تتيحه له ولأمثاله شروط المعرفة والحياة في عصره.
عودة إلى الصورية:
يدرك الباحثون في مجال الصورية ـ Imagologie(42) أن الصور النمطية للمرأة، وللآخر المختلف عموماً، هي جزء من تصورات عتيقة عن الإنسان والكون تمتد جذورها بعيداً في المنظومات الثقافية التقليدية التي تشكل الوعي العام وتغذي المخيال الجماعي لدى غالبية الأفراد. وتفكيك الصور النمطية للإنسان في الخطابات الأدبية والفكرية والدينية هي ممارسة علمية ممكنة تماماً بالنسبة للباحث الفرد، وشرط معرفي ـ أبستمولوجي أساسي لوجاهة البحث، لكنها كانت ولا تزال ذات طابع إشكالي في المستويات الأخرى. ولإبراز أهم ملامح هذه الإشكالية يكفي أن نعود إلى معطيات الواقع حيث نتبين أفق العلاقة بين سلطة المعرفة التي ينتجها الباحثون والباحثات وقد تؤثر في شرائح متنوعة من المجتمع من جهة، وسلطة الإيديولوجيات السائدة والقوى التقليدية الممثلة لها والمدافعة عنها من جهة أخرى.
فمما لاشك فيه اليوم أن تلك العوامل المساندة الغائبة في عصر ابن رشد هي حاضرة في الواقع ومؤثرة بقوة في العلاقات الراهنة والتطلعات المستقبلية.
أعداد النساء المتعلمات الواعيات بذواتهن والمطالبات بحقوقهن تتزايد بانتظام مما يعني أن المرأة أصبحت فاعلاً أساسياً في مجال الثقافة وفي معظم مجالات العمل حتى في أكثر البيئات الاجتماعية محافظة وتحيزاً ضدها(43). ثم إن هذه النماذج الجديدة للمرأة الباحثة والأديبة والمعلمة والطبيبة والحقوقية والإعلامية وسيدة الأعمال.. الخ، هي جزء من فئات اجتماعية جديدة أصبحت تتبنى منطق الإصلاح وتنشد التغيير قولاً وعملاً لتحسين شروط عملها وحياتها وموتها. كذلك لابد أن الخطاب الكوني الراهن يحضر هو أيضاً كعامل مساند يضغط بقوة وبشكل متصل على كل الثقافات التقليدية التي لا تزال تقاوم الاندماج في عصرها وفق شروطه وليس بحسب تصوراتها العتيقة عن ذاتها وعالمها. وهنا لا عبرة بما يقال عن القوى التي تتحكم في خطاب كهذا وتوجهه لمصلحتها، لأن مختلف أشكال التمييز ضد المرأة أصبحت ممارسات غير مقبولة من جهة المنظمات المدنية والرسمية المعنية بحقوق الإنسان فرداً في العالم وعضواً في المجتمع وسيدة الأعمال.. الخ، هي جزء من فئات اجتماعية جديدة أصبحت تتبنى منطق الإصلاح وتنشد التغيير قولاً وعملاً لتحسين شروط عملها وحياتها وموتها. كذلك لابد أن الخطاب الكوني الراهن يحضر هو أيضاً كعامل مساند يضغط بقوة وبشكل متصل على كل الثقافات التقليدية التي لا تزال تقاوم الاندماج في عصرها وفق شروطه وليس بحسب تصوراتها العتيقة عن ذاتها وعالمها. وهنا لا عبرة بما يقال عن القوى التي تتحكم في خطاب كهذا وتوجهه لمصلحتها، لأن مختلف أشكال التمييز ضد المرأة أصبحت ممارسات غير مقبولة من جهة المنظمات المدنية والرسمية المعنية بحقوق الإنسان فرداً في العالم وعضواً في المجتمع ومواطناً في الدولة، وهذا ما تهمنا دلالاته في مقام البحث.
ومع كل هذه المعطيات الجديدة والإيجابية، ما إن نغير المنظور لنرى الوجه المقابل حتى ندرك أن الأبعاد الإشكالية للقضايا التي حللها ابن رشد لا تزال ماثلة، وبقوة، أمام الجميع اليوم وكأن النواة الصلبة للخطاب المعادي للمرأة لن تتفتت إلا بشكل تدريجي وعلى مدى زمني طويل. فالسلطات المهيمنة في أي مجتمع تقليدي عادة ما تمتلك من القدرات والوسائل ما يمكنها من التحكم في مجمل المؤسسات والخطابات. ومما يزيد من قدراتها على الهيمنة والسيطرة أنها كثيراً ما تجد بين النخب المتعلمة، ومن الجنسين، من يعينها على تحويل التراث المشترك إلى "إيديولوجيا خاصة" تكرس الأفكار والتصورات والانتماءات القديمة لتضفي المشروعية على ممارساتها كما لاحظه باحثون كثيرون، وقد حلله داريوش شايجان بعمق نادر(44). كذلك لا يخفى اليوم على الباحثين والباحثات أن الوضعية المتردية للمرأة هي جزء من وضعيات ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية لا أقل تردياً، مما يعني أن سيرورة التطور التاريخي العام ذاتها تفيدنا بأنه من المستبعد حدوث تغييرات جوهرية في وضعية دون الأخرى.
وفي كل الأحوال فإن كثيرين وكثيرات يدركون جيداً اليوم أن العمل المعرفي والميداني من أجل تعديل أو تغيير منظومات الأفكار والقيم والمعايير المتحيزة ضد المرأة هو من أهم واجباتهم المعرفية ومن صميم استحقاقاتهم الفردية والاجتماعية.
الباحث المقارن يعمل في هذا السياق العام ليقدم ما لديه من اجتهادات يفترض أن تختلف عن جهود غيره وإن تكاملت معها منطلقاً وغاية. فالصور النمطية كلها تؤدي وظائف متنوعة داخل شبكة معقدة من العلاقات والتفاعلات الرمزية والمادية. إنها في التحليل الأخير جزء من لغة تحمل وتنقل سلسلة لا تنتهي من الأفكار والقيم والمعايير التي تؤثر في قناعات الأفراد وتوجه سلوكياتهم بغض النظر عن مدى وعيهم بكونها صحيحة أو فاسدة، نافعة لهم أو ضارة بهم. كأننا نقول مع دانييل هنري باجو(45) أن ثبات الصور النمطية عن المرأة، وعن الآخر المختلف عموماً، هو مؤشر قوي على خلل عميق في اللغة الثقافية السائدة لابد أن ينعكس بصور شتى في علاقات الحياة اليومية وتفاعلات البشر. فصور كهذه عادة ما تتغذى على مرجعيات خرافية أسطورية تجافي منطق العقل ولا تساير منطق العلم ومنتوجاته المتجددة من عصر لعصر ومن مكان لآخر. ولغتها هي دائماً لغة فقيرة جامدة مثلها مثل التعبيرات المسكوكة في الحديث اليومي، ومثل التشبيهات والاستعارات المكرورة في النص الأدبي. والرسالة التي تحملها وتنقلها لغة كهذه هي رسالة أحادية أو منغلقة على دلالات مستنفذة لأنها معروفة سلفاً. أما وظيفتها العامة في أي خطاب يستعيدها ليكرسها فهي عدائية بك بساطة لأنها تختزل الكائن الإنساني في أشباح وأطياف وهمية لا تتطابق مع كينونته الغنية، ولا تحترم هويته كذات فردية عاقلة حرة كريمة، وقد تشل طاقاته الخلاقة كذات اجتماعية مؤهلة للفاعلية في الحياة وللتفاعل مع الآخر والغير كما أدركه جيداً ابن رشد.
بناء على هذا كله تفيدنا البحوث في هذا المجال بأمرين غاية في الأهمية. الأول منهما أن الصور النمطية للمرأة خطيرة على المجتمع كله لأنها تشوه الذات الإنسانية فيها بقدر ما تشوه وعي الرجل بذاته وتفسد علاقاته بغيره، بدءاً بأقرب الناس إليه، أي المرأة الأم والزوجة والبنت والأخت. أما الأمر الثاني فهو أن تحليل صور كهذه في الخطابات الأدبية المتخيلة لا يكفي إذ لابد أن يمتد، من حين لآخر، ليشمل الخطابات الفكرية والقانونية والسياسية الأكثر تأثيراً في الحياة وللتفاعل مع الآخر والغير كما أدركه جيداً ابن رشد.
بناء على هذا كله تفيدنا البحوث في هذا المجال بأمرين غاية في الأهمية. الأول منهما أن الصور النمطية للمرأة خطيرة على المجتمع كله لأنها تشوه الذات الإنسانية فيها بقدر ما تشوه وعي الرجل بذاته وتفسد علاقاته بغيره، بدءاً بأقرب الناس إليه، أي بالمرأة والزوجة والبنت والأخت. أما الأمر الثاني فهو أن تحليل صور كهذه في الخطابات الأدبية المتخيلة لا يكفي إذ لابد أن يمتد، من حين لآخر، ليشمل الخطابات الفكرية والقانونية والسياسية الأكثر تأثيراً في الحياة اليومية للبشر بما أنها هي التي تتحول إلى مرجعيات معتبرة للسلوكيات والعلاقات، وسواء كانت رسمية أو عرفية(46).
خاتمة البحث:
تكشف تلك الفقرة القصيرة أن ابن رشد لم يكن ليفرد لقضايا المرأة حيزاً واسعاً في كتاباته لأنها لم تكن مطروحة موضوعاً للجدل ضمن الخطاب الثقافي العارف في عصره ومن قبله. تلخيصه لكتاب أفلاطون في السياسة هو ما دفعه للتوقف عندها وتحليلها بإيجاز وعمق. لقد أدرك جيداً أن صورة المرأة ككائن إنساني حر عاقل مؤهل لكل الأعمال الذهنية والعملية لا تتطابق مع صورتها في الواقع حيث تهيمن تصورات تقليدية متحيزة ضدها بأكثر من معنى. كما أدرك أن تدني أحوالها وأحوال المجتمع من ثمة هو النتيجة المنطقية لهذه التصورات التي يتوهم الناس، غالبيتهم، أنها من قبيل البدهيات التي لا مجال للشك فيها، هذا إن لم يقال لهم أنها من قبيل المقدسات التي لا يجوز لأحد التشكيك فيها. الصورة إذن جزء عضوي في ثقافة عامة تختزل المرأة في صورة الزوجة، وتختزل هذه مرة في صورة الجارية التي يتمتع بها الرجل كما يشاء متى يشاء، ومرة في صورة الخادمة التي تؤمن له الراحة ليتفرغ هو لما يريد ويستطيع من الأعمال خارج المنزل، ومرة في صورة الآلة الوظيفية التي ينجب منها ما يؤمن استمرارية سلالته ويعزز مكانته في مجتمع ذكوري ليس للمرأة ـ الإنسان حضور فاعل في ثقافته وحياته. ومع أن المفكر كان منشغلاً بأطروحات نظرية تهدف إلى إصلاح الخطابات السائدة في أوساط النخب السياسية والدينية إلا أن أطروحته عن المرأة جزء متمم لأطروحاته في تلك المجالات. وعدم معاينتها من هذا المنظور، أو التعامل معها كمجرد آراء وأفكار عابرة، ربما كان دليلاً على "ذكورية" القراءات الراهنة نظراً للتعالق القوي فيما بينها، نظرياً وعملياً، ما لاحظنا. وإذا كان الحوار مع خطاب ابن رشد حول هذه القضية يهتدي بأطروحته العامة ويسعى إلى تفكيك هذه الصورة بهدف تجاوزها فإن منطق البحث ذاته يفضي بنا إلى القول بضرورة تفكيك وتجاوز الصور التقليدية التي تبالغ في تبجيل "الرجل" وتقدمه كما لو كان وحده "الإنسان الكامل". فهذه الصورة النمطية هي النقيض لصورة المرأة. وتضخم سلطاته رباً للأسرة، وزعيماً للعشيرة أو القبيلة، وشيخاً للمذهب أو للطريقة، وحاكماً للدولة متحكماً في مواطنين ينحطون إلى منزلة الرعية أو الرعاع، هو نتيجة لخلل في التصورات ذاتها!. أطروحة ابن رشد العامة تنبني على منطق عميق ينفي الصورتين معاً. فهما وجهان لعملة واحدة. ورفضه للجهالات والضلالات التي تولد علاقات التسلط وتبرر ما ينتج عنها من أشكال التراتب والتفاضل في مجال يعني رفضها في المجالات الأخرى كافة.
لعلنا لا نبالغ إذ نقول إنه كان نموذجاً للمفكر المسلم الذي أدرك جيداً أن إعادة بناء الوعي العام في ضوء منطق العقل ومبدأ المساواة وقيم العدالة هو الشرط الأساسي لتحسن ظروف الحياة والعمل في مختلف البنى الاجتماعية بدءاً ببنية الأسرة وانتهاء ببنية الدولة. ومما يدل على ريادة فكره وراهنيته أن خطابه يبدو كما لو كان يخاطبنا، من المنظور العقلاني ذاته وضمن الرؤية الإنسانية عينها، ليؤكد لنا وجاهة ما توصل إليه منذ ثمانية قرون. فالصور النمطية كلها يمكن أن تختفي تماماً من الفكر الذي يحتكم لمنطق العقل ويحترم منتوجاته بالأمس واليوم. وهي يمكن أن تحضر وتغيب في الخطاب الديني بحسب منطقات القراءات البشرية الدنيوية وغاياتها، وهذا مما نقرأه ونسمعه كل يوم. لكنها يمكن أن تظل حاضرة بقوة في الثقافة السائدة لدى أغلبية الناس ولفترة طويلة، لا بسبب الجهل فحسب، وإنما لأن هناك من لا يريد لهم أن يتجاوزوا ثقافتهم العتيقة، وكأن من شروط عمليات السيطرة والتحكم بقاء كل تصوراتهم الأسطورية الخرافية عن الذات والآخر والعالم والكون.. ولأطول فترة ممكنة!.
هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بمشاعية النساء عند أفلاطون. فالمؤكد أن ابن رشد لم يكن ليتبنى الفكرة وإن عرضها، من باب الأمانة العلمية، بعد هذه الفقرة مباشرة. ولم يكن ليتبناها لأنها غير منسجمة مع عقيدته وأخلاقيات مجتمعه، وهذا دليل آخر على أن أصالة فكره واستقلالية مواقفه مما يتعين علينا الإفادة منه اليوم وغداً لكي نتجنب الشطط في خطاب بعض الحركات النسوية المعاصرة.
(* ) أستاذ جامعي، وباحث سعودي.
(1) بين أيدينا نسخة الكتاب بعنوان: تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية) نقلة إلى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي. دار الطليعة، بيروت، 1998 (ط1). لكننا نفضل الإحالة إلى النسخة بعنوان: الضروري في السياسة ـ مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. نقله عن العبرية الدكتور احمد شحلان. مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة التراث الفلسفي. مؤلفات ابن رشد (4). بيروت 1998م (مقدمة تحليلية شاملة للجابري). ومن الجدير بالذكر أن الاختلاف في عنوان الكتاب لا يزال قائماً ما بينه الباحث جمال الدين العلوي في كتابه "المتن الرشدي". دار توبقال. الدار البيضاء. 1986 ص 16.
(2) محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001 (ط1). وقد اعتمدنا على الفقرة ص 387 ـ 388 لأنها بدت لنا أكثر دقة وتنظيماً من جهة، وأكثر قرباً من لغة ابن رشد وأسلوب كتابته من جهة أخرى (منقولة عن ترجمة شحلان، ص 124 وما بعدها).
(3) مفهوم "العلم العملي" في نظرية المعرفة الكلاسيكية يقابل مفهومي "العلم النظري" و"العلم الإلهي"، ويذهب الجابري إلى أن ابن رشد مؤسس حقيقي لهذا العلم في التراث العربي. مقدمة "الضروري في السياسة (مرجع سابق) ص 33..
(4) حاور الجابري المشروع الرشدي منذ أطروحته عنه عام 1978م وفي كثير من كتبه اللاحقة وذلك لبلورة أفكاره وتفعيلها من جديد، وليس صدفة أنه هو المشرف على نشر مؤلفاته ضمن المشروع ذاته، وهناك آخرون تبنوه معه وخاصة في المغرب.
(5) البحث مقبول للنشر في مجلة محكمة، وليس من اللائق في اعتقادنا تجاوز هذه الإشارة العابرة إليه حتى يتم تداوله.
(6) هذا هو البحث الأول في سلسلة تتجه في المسار ذاته، وهو معد للنشر في مجلة محكمة ولذا نكتفي بما قلناه آنفاً عن البحث السابق.
(7) العروي، عبد الله، مفهوم العقل. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 1996م.
(8) المرنيسي، فاطمة. وآخرون. صور نسائية. ترجمت جورجيت قسطون. دمشق (دار النشر وتاريخه غير مذكورين). دراسة فاطمة الزهراء ص 167 وما بعدها.
(9) كل كتابت فوكو، وكتابات إ سعيد بعد "الاستشراق"، وكتابات تودوروف ما بعدها البنيوية (خاصة: نحن والآخرون، وفتح أمريكا) تركز على هذه القضايا، وهي غيض من فيض لأن الفكر الغربي الحديث أصبح منشغلا بها في العقود الأخيرة وكأننا أمام رد فعل عام على فظائع الحروب التي ارتكبها القوى الاستعمارية ضد الآخرين ثم ضد شعوبها لاحقاً كما نعلم.
(10) أصبحت قضايا الآخر المختلف مطروحة بجدية وانتظام في السياق العربي الراهن، وكموضوع لكثير من التخصصات، ومنها الدراسات المقارنة طبعاً. أنظر على سبيل المثال الكتاب الجماعي الهام: صورة الآخر، العربي ناظراً ومنظوراً إليه. تحرير الطاهر لبيب. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1999م خاصة القسم الخامس "داخل الحدود" ص 651 وما بعدها.
(11) وردت آراء الفيلسوف ضمن كتاب أصدرته جريدة لوموند الفرنسية ضمن مطبوعاتها السنوية للعام 1987 وتضمن سلسلة حوارات مع أبرز المفكرين المعاصرين. وهذا المفكر يلح على ضرورة العودة إلى ما يسميه "الحقائق البسيطة الدائمة" التي أهملتها فلسفات اللغة وموت الإنسان من بنيوية وتفكيكية وغيرها، وهذه نزعة قوية اليوم في عموم أوروبا. انظر بالفرنسية:
Entertien avec Le monde. Philosophies. La decouverte. Paris. 1984. p 75.
(12) يدرك الباحثون جيداً أن المجتمع الذكوري يوزع النشاطات على الجنسين بحسب منطقه الخاص ثم يحول تسويغها وعقلنتها من منظورات ثقافية لا أساس لها سيكولوجياً أو بيولوجياً، أي أنها إيديولوجياً فحسب. انظر: فاطمة المرنيسي. ما وراء الحجاب (ترجمة أحمد صالح) حوران للنشر. دمشق 1970م. ص 110 وما بعدها.
(13) رغم أن فلاسفة مسلمين معتبرين ألفوا رسائل في الموسيقى إلا أن هناك من لا يزال يجادل في كونها حلالاً، ولهذا نقول إن المثل مهم لدلالته على تفتح ذهن ابن رشد وجرأة موقفه حينما ختم الفقرة بتقبل فكرة أن تربى المرأة من الحفظة ـ عسكر الحراسة ـ على الموسيقى والرياضة كالرجال: الضروري.. (م. س) ص 126.
(14) هذه الدلالة ذات البعد الإنساني قد تتصل برؤية ابن رشد الدينية لكنها تظل منسجمة تماماً مع نزعته العقلانية لأن منطق العقل ما إن يتصل بمبدأ العدل حتى تتولد في الخطاب، وهذا ما يميز عقلانية عن أخرى.
(15) نعتبر هذه ذروة الأطروحة في المستوى النظري العام لأنه لم يسبق لأحد من الفقهاء المعتبرين قبل أن رشد أن قال بهذا الرأي وأصله على هذا النحو، ولسنا نعرف أحداً منهم اليوم، ومن أي مذهب، يجهر برأي جريء كهذا. أما إفلاطون فلم يكن يعلي من شأن المرأة ولذا يتجاوزه ابن رشد أيضاً بقول كهذا.
(16) نستعمل مفهوم الإيديولوجيا هنا بمعنييه العام (تصورات الثقافة العامة في مجتمع ما) والخاص (خطاب سياسي لجماعة محددة تنافس غيرها على السلطة) ونزعم أن العروي أهم من اشتغل على المفهوم في كتابه: الأيديولوجيا. المركز الثقافي العربي. بيروت/الدار البيضاء، 1999 (ط 6).
(17) مقدمة الضروري في السياسة، م. س، ص 27.
(18) من المعروف أن ابن رشد ينفي "الإجماع" كمصدر للتشريع لأنه غير ممكن بكل بساطة، وهذه نظرة واقعية وعقلانية، ثم إن التاريخ القديم والحديث عرف نساء تولين رئاسة دول إسلامية كبيرة كمصر وباكستان وبنغلادش وإندونيسيا مما يدل على وجاهة رأيه أيضاً.
(19) تقصي الآراء الجزئية عن المرأة في كتب ابن رشد لاشك أنه مهم لمقارنتها مع غيرها في السياق الفقهي، لكنه ليس مهماً في سياق تحليل أطروحة فكرية عامة كهذه.
(20)اختلف الباحثون حول مدلول هذه العبارة الرشدية لكننا ممن يفهمها على النحو "العقلاني" الذي بينه الجابري وليس كما يفهمها محمد عمارة وآخرون من ممثلي التيارات الدينية التوفيقية اليوم.
(21) كثيرة هي الدراسات التي تزعم أن الإسلام كفل للمرأة كامل حقوقها، لكن هذه قضية مثيرة للجدل لأن تحويل المبادئ العامة إلى تشريعات عملية لصالح المرأة لم يتحقق في الماضي ولكي يتحقق اليوم لابد من تظافر السلطتين السياسية والدينية كما حدث في تونس ثم في المغرب.
(22) نزعم أن ابن رشد أول من تنبه إلى خطورة تأويل النصوص الدينية للحجر على المرأة داخل المنزل وحرمانها من خوض تجارب التعلم والعمل لأن المجتمع كله يدفع الثمن فقراً معرفياً ومادياً ما يبينه في هذه الفقرة.
(23) هذا موضوع تقصاه كثير من الباحثين والباحثات، وما كتبته جيرمين تيون في (الحريم والأعمام) حول وضعية المرأة في الثقافات المتوسطية مهم جداً، ونحيل بالعربية إلى كتاب الغذامي: (المرأة واللغة). المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، 1996.
(24) صورة المرأة الجارية أو الأمة المملوكة للرجل شائعة في تراثنا وقد حللها كثيرون، منهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وفاطمة المرنيسي وسواهم، ولا غرابة أن تسمى البنت "جارية" إلى اليوم في الخطاب الفقهي التقليدي. بل إن المفارقة تبلغ ذورتها حينما نعلم أن الجارية كانت تتمتع أحياناً بحريات وفرص تعلم وحياة تحلم بها الحرة لأنها قد توصلها إلى ذروة الهرم الاجتماعي!.
(25) المرأة التقليدية عادة ما تتبنى قيم الذكورة في الخطاب السائدة كالرجل تماماً لأن الجميع يحسبونها بدهيات أو مقدسات وهذه ظاهرة موجودة في ثقافات كثرة. انظر: الرجولة المتخيلة. إعداد مي غصوب. دار الساقي. لندن، 2002م. ولإدراك مدى شيوع هذه القيم حتى في الخطاب العلمي الحديث انظر كذلك: أنثوية العلم. د. ليندا جين شيفرد (ترجمة د. يمنى الخولي) عالم المعرفة، الكويت، 2004.
(26) تشبيه المرأة بالنبات هو دليل خطير على مدى الاستلاب العام للذات الإنسانية الفردية فيها وتدني ثقافة المجتمع ككل. أما تشبيه الغزالي للمرأة بالخنزيرة والكلبة والعقربة والحية.. الخ فهو دليل احتقار لها وتحذير منها وتحريض على المزيد من العداء نحوها ومن هنا يختلف المنطقان ويتعارضان كلياً.
(27) لا تزال هذه اللغة الرعوية شائعة في الخطاب السياسي التقليدي بشقيه الديني والدنيوي، وهذا ليس له علاقة بالحديث الشهير [كلكم راع..] لأن دلالاته من العمومية والانفتاح بحيث تشمل كل العلاقات ويمكن أن تتجه عند ابن رشد وأمثاله إلى معاني التشارك في المسؤوليات والحقوق في المقام الأول.
(28) مقدمة الضروري في السياسة (م.س) ص 25. ومن الجدير بالذكر أن نظرية "العصبية" التي تتحكم في بنية الدولة الإسلامية بحسب ابن خلدون تظل نظرية ذكورية لأن المرأة لا مقام لها في العصبيتين القبلية والدينية إلا تابعاً أو موضوعاً للحماية وللتبادل ضمن دائرة قرابية يفضل أن تكون ضيقة.
(29) تفضيل بقاء المرأة في البيت ليس دائماً بهدف التربية والعناية بالأسرة كما ذهب إليه كثيرون، ومنهم رائد الفكر الليبرالي ستيورات مل، بل هو خوف الفتنة منها وعليها، ولذا يأخذ معنى الحجر والتملك.
(30) الحقيقة أن الغزايل لا يكتب عن المرأة إلا ويشوه صورتها بكل الصيغ الغزالي والأخطر من ذلك أنه يؤول آيات وأحاديث كثيرة لتبرير التحيزات ضد المرأة مثله مثل كل الفقهاء التقليديين الذين يذهبون إلى أن "المرأة ناقصة عقل ودين" وقد خالفهم ابن حزن وابن رشد في هذا الاتجاه، لكن دونما تأثير يذكر لخطاباتهم العقلانية المفعمة بالمعاني الإنسانية بالأمس واليوم.
(31) كثيرون هم الذين يربطون الوضع الاقتصادي المتردي للمجتمعات بالوضعيات الثقافية، وليس من الصدفة أن يقال إن "مجتمعات المعرفة" هي الأكثر غنى وتقدماً في مختلف المجالات اليوم. انظر مثلاً: في بناء الإنسان العربي. حامد عمار. دار المعرفة الجامعية. إسكندرية، 1988. أما هذه الوضعية الكئيبة للمجتمع الأندلسي كما يصفه ابن رشد فقد تكون أكثر دقة وواقعية من تلك الصور الأدبية التي تقدم لنا مجتمعاً ثرياً متفتحاً، لعله خاص بالطبقات الأرستقراطية الثرية التي كان الأدباء يرتادون مجالسها. ودليلنا على ذلك أنها أقرب إلى واقع الحال في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم.
(32) معظم الفلاسفة الجادين في تاريخنا كانوا يقدمون المرجعية الفلسفية على غيرها عند النظر في قضايا الإنسان والطبيعة والعالم، لكن ابن رشد هو الأكثر جرأة وتماسكاً في الطرح كما نلاحظ ولاحظه كثيرون قبلنا.
(33) المرأة هي مضطهدة المضطهدين كما قال عنها ماركس، لأنها الأكثر ضعفاً في العلاقات الرمزية والمادية السائدة في أي مجتمع كوري.
(34) لا عبرة هنا بوجود بعض الأديبات والمعلمات والمثقفات في بعض المدن لأن المرأة ظلت غائبة عن المجال الثقافي إلى عهد قريب، وفي مختلف المجتمعات التقليدية، ولعل الوضعية هذه لم تبدأ في التغير الجدي إلا منذ النصف الثاني من القرن العشرين كما نعلم.
(35)التصدي للرجل حاكماً وفقيهاً ورباً للأسرة يعني التصدي لكل السلطات القمعية المهيمنة في المجتمع، ومن هنا خطورته كممارسة معرفية وكموقف أخلاقي. للمزيد من التفاصيل عن الموضوع أنظر الكتاب المتميز حقاً لعبد الله حموده: الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد المجيد جحفه. دار توبقال. الدار البيضاء، 2000م.
(36) هذه الحوافز والمقاصد هي في حكم البدهيات، وخاصة في خطاب الفكر السياسي، أنظر الجابري: مقدم الضروري في السياسة (م. س).
(37) أنظر للباحث كتابه: التفكيلا والهجرة. دار الطليعة. بيروت 1970 م، ص 34 وما بعدها. وكذلك البحث الهام بعنوان: وضع المرأة في الدساتير العربية. ص 205 وما بعدها من الكتاب ذاته.
(38) نستعمل هنا مفاهيم نقدية من نظريات القراءة تميز بين صور القراء في ذهن منشئ النص، أي نص. ولعله من البدهي القول بأن سلطات بعض النماذج من القراء تتزايد في المجتمعات القمعية، وقد تتحول إلى عائق كبير أمام حريات التفكير والتخيل والتعبير، والأخبار الكثيرة عن محاكمات الكتاب ومنع كتبهم واغتيال بعضهم دليل على ذلك.
(39) ألقي البحث في إطار ندوة عن ابن رشد عقدت في القاهرة من 11 إلى 14 مايو، 2002م، وستنشر موادها في كتاب.
(40) الحوارية عند باختين ذات مرجعية فلسفية في العمق وإن تجلت كظاهرة أدبية بارزة في روايات دستويفسكي، وقد بينا ذلك في دراسات سابقة.
(41)الصورية فرع حديث نسبياً من الدراسات المقارنة أنجزنا في إطارها بحث الدكتوراة عن "صورة الغرب في الرواية العربية المعاصرة". السوربون الثالثة، 1989م. (سعيد علوش يستعمل مصطلح "الصورولوجية"وهي كلمة نفضل عدم استعمالها لثقلها وعجمتها).
(42) المجتمع في السعودية مثلاً هو من أكثر المجتمعات محافظة وتشدداً تجاه المرأة ومع ذلك ينتشر فيه تعليم المرأة بكثافة، ومجالات عملها تتسع بانتظام. للمزيد من المعلومات حول القضية انظر لفطمة المرنيسي: ما وراء الحجاب (م. س) ص 32 وما بعدها.
(43) تحويل الدين إلى إيديولوجيا مذهبية ظاهرة متصلة على مدى تاريخنا بعد الخلافة الراشدة، وهو دليل على ضعف الفكر السياسي في الثقافة العربية والإسلامية عموماً. أنظر للمفكر الإيراني داريوش شايجان كتابه المهم: ما الثورة الدينية. (ترجمة وتقديم محمد الرحموني) دار الساقي. لندن 2004م.
انظر بالفرنسية: L,imagerie culturelle. Bucarest. 1981. وقد ترجمنا البحث بإذن من الباحث ونشرناه مع مقابلة مطولة معه في مجلة "دراسات شرقية" التي كرسنا عدديها 1 ـ 2 لقضايا الآخر المختلف. دار الفابيتا. باريس 1985م. وقد استكملها الباحث بدراسة عنوانها: "من الصورة إلى التصور" نشرت في كتاب جماعي بعنوان: تدقيقات في الأدب .
ـ ومن الناحية العملية: "إنا نرى نساءً يشاركن الرجال في الصنائع، إلا أنهن في هذا أقل منهم قوة، وإن كان معظم النساء أشد حذقاً من الرجال في بعض الصنائع، كما في صناعة النسيج والخياطة وغيرهما. وأما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بيّنٌ من حال ساكني البراري وأهل الثغور. ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة".
ـ ومن الناحية الشرعية: فإنه "لما ظُنَّ أن يكون هذا الصنف نادراً في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الإمامة، أعني الإمامة الكبرى، ولإمكان وجود هذا بينهن أبعدت ذلك بعض الشرائع".
ـ أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بوضعية المرأة في المجتمع العربي، وفي الأندلس بصفة خاصة يقول: "وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتُّخذن للنسل وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهن (الأخرى). ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب. ولكونهن حملاً ثقيلاً على الرجال صرن سبباً من أسباب فقر هذه المدن. وبالرغم من أن الأحياء منهن فيها ضعف عدد الرجال، فإنهن لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية، وإنما ينتدبن في الغالب لأقل الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسيج، عندما تدعو الحاجة إلى الأموال بسبب الإنفاق، وهذا كله بين بنفسه"
(ص 387 ـ 388).
وبعد إيراد الفقرة بهذا الترتيب المنطقي الواضح يقول الجابري: "إن موقف ابن رشد هنا بيّن بنفسه لا يحتاج إلى تعليق"، وهو قول وجيه تماماً إذا ما اقتنعنا بأن الأمر يتعلق بآراء عرضية ترد في كلام استطرادي من نص طويل لا يتصل بقضايا المرأة لأن موضوعه هو "علم السياسة" أو فن إدارة المجتمع والدولة من منظور "العلم المدني"(3).
أما حينما تقرأ الفقرة ذاتها ضمن خطابات ثقافية متنوعة عن المرأة سابقة لابن رشد ولاحقة عليه فإن الأمر يختلف ولابد. فمن منظور هذا السياق الخطابي المتسع يمكن أن تتحول إلى "نص" موجز كثيف ينطوي على عناصر أطروحة متكاملة ينبغي الحوار معها بطريقة تضمن الكشف عن أبعادها الدلالية الغنية كل الغنى نظرياً وعملياً. فابن رشد صاحب مشروع معرفي تكامل في أبعاده الفكرية والاجتماعية يستند في مجمله على وعي عميق بضرورة استحضار المنطق البرهاني (الأرسطي) عند البحث الجاد في أي قضية. وإذا كان في هذا الكتاب "لم يسجن نفسه في نص أفلاطون، بل تصرف كشريك في إنتاج النص"، وكان يريد أن يستقل "بنظرية خاصة في المدينة الفاضلة"، كما يقول الجابري بحق، فلا بد أن أطروحته عن المرأة جزء أساسي من هذه النظرية التي هي جزء مشروع أعم وأشمل. سنركز إذن على هذه القضية التي لم يتوقف عندها الجابري كثيراً كما لاحظنا، مع أنه من أبرز الذين يحاورون المشروع الرشدي الخلاق ويسعون إلى بلورته وإعادة تفعيله في الفكر العربي المعاصر فيما نعتقد(4). وسنقاربها لا من منظور الباحث في الفكر الفلسفي وإنما من منظور الناقد المقارن الذي يحلل الخطاب في تعبيراته الأكثر خصوصية وتميزاً من أجل إعادة بناء الصورة العامة للمرأة وإبراز دلالاتها الفكرية والاجتماعية لدى فيلسوف نزعم أنه أراد أن يحدث قطيعة جدية في هذا المجال مع الخطابات المعاصرة له والسابقة عليه، فيما عدا ابن حزم. ونستثني ابن حزم لأننا نجد في كتابه الشهير "طوق الحمامة" أطروحة عن الحب تعلي من شأن المرأة عموماً، وليس حينما تكون عاشقة ومعشوقة فحسب، وهذا ما بيناه بالتفصيل في بحث سابق عن هذا الكتاب الفريد من نوعه في تراثنا(5). من هذا المنظور نعتقد أن الأطروحتين تتكاملان في ما يتعلق بنفيهما لكثير من الصور النمطية التي شاعت في الخطابات الذكورية التي عادةً ما تستند إلى تصورات أسطورية خرافية ما قبل إسلامية وإن ظلت تبرر تحيزاتها ضد المرأة من منظورات دينية كما لا يخفى على الباحثين والباحثات.
في دراسة بعنوان "ملاحظات أولية حول وضعية المرأة عند ابن رشد"(6) تطرق الباحث أحمد عبد الحليم عطية للقضية ببعض التفصيل ليخلص إلى نتائج لا تختلف في العمق عما أشار إليه الجابري وباحثون آخرون من قبلهما. فقد حرص على وضع آراء ابن رشد عن قضايا المرأة في سياقات فكرية عامة، واستعاد أهم آراء الباحثين ممن تنبه إلى أن ابن رشد كان مفكراً أصيلاً لـه اجتهاداته الخاصة في هذه القضية وفي كل قضية تصدى لها. لكن نظراً لغلبة منهج الاستشهاد والاستطراد على المقاربة فقد خلت تقريباً من التحليلات المعمقة ومن الاجتهادات الخاصة بالذات الباحثة. هكذا حينما نصل إلى الفقرات الأخيرة من الدراسة حيث يتم التركيز على قضية المرأة لا نكاد نعثر على جديد لأن الباحث اكتفى بملاحظات أولية عامة وكأنه أراد أن يظلّ وفياً لطبيعة الدراسة وهدفها المعلن في العنوان. وبصيغة أكثر تحديداً نقول إن الباحث تعامل، مثله مثل الجابري، مع "آراء" ابن رشد الجزئية الواضحة في هذه الفقرة ولم يعاينها كعناصر في أطروحة متكاملة قد لا تكشف التعبيرات المكثفة سوى خطوطها العامة وهو ما سنحاول بيانه في هذا البحث.
إطار البحث وفرضيته الأساسية:
لا يخفى علينا اليوم أن الخطابات المعرفية الشائعة قبل ابن رشد وفي زمنه لم تكن قد طرحت قضايا المرأة في الثقافة وحقوقها في المجتمع كإشكالية مستقلة عن غيرها. وهذا أمر بدهي في اعتقادنا لأن هذه القضايا جزء من منظومة حقوق الإنسان التي لم تصبح موضوعاً للبحث بشكل جدي إلا في العصر الحديث كما لا يخفى على أحد منا. بناء عليه يمكننا أن نتفهم بشكل أدق وأعمق الأهمية القصوى لآراء ابن رشد ومواقفه ليس لكونها سابقة لزمنها أو متجاوزة لشروطها المعرفية في السياق الإسلامي، بل لأن الباحث يجد فيها ما يدل على أمرين مهمين غاية الأهمية. الأمر الأول أن هذا المفكر كان يعي جيداً أهمية دور المرأة في الأسرة والمدينة والدولة، وهذا الوعي هو الذي دفعه إلى معاينة القضية من منظور شمولي جديد لا نجد ما يوازيه في عمقه وجرأته لدى غيره من المفكرين المسلمين، ودونما اتباع لأفلاطون في كل ما قال بشأنها. الأمر الثاني هو أن الوعي بهذه القضية في مستوياتها الفكرية والدينية والاجتماعية هو الذي يبرر لنا الحديث عن "أطروحة" أصيلة غنية متكاملة وليس عن آراء عابرة أو عن أفكار عرضية متفرقة. هنا تحديداً نبلور الفرضية الأساسية للبحث ومفادها أن فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها لم يفرد لقضايا المرأة عملاً مستقلاً لكنها ما إن طرحت عليه في سياق تلخيصه وشرحه لكتاب عن "السياسة" حتى باشر التفكير فيها بشكل جدي ليعيد بناءها على أسس فلسفية وشرعية وواقعية متكاملة تبدو متجاوزة لما كتب عن المرأة في تراثنا وقريبة كل القرب مما يطرحه الفكر الحديث بهذا الصدد. لم يكن عبد الله العروي مبالغاً حينما نبهنا إلى أن ابن رشد كان يقف في طليعة الأفق المعرفي المتاح في زمنه ولذا علينا ألا نستغرب أن تكون بعض أطروحاته تتجاوز في قيمتها النظرية والعملية ما ينتجه كثير من المثقفين العرب اليوم(7). أما مقارنة فكره بما نجده لدى ممثلي الخطاب الديني السلفي فهي غير واردة لأن مواقفهم من حقوق المرأة، ومن حقوق الإنسان، ظلت تقليدية عموماً، بل إنها كثيراً ما تتراجع كلما تقدم الزمن كما لاحظته الباحثة فاطمة الزهراء أزرويل في بحث لها عن الموضوع(8). من هذا المنطلق يصبح الحوار مع كتابات ابن رشد عن المرأة، أو عن علاقات الدين بالفلسفة، والمجتمع بالدولة، والمثقف بالسلطة، شكلاً من أشكال التأصيل المعرفي للفكر العقلاني الحواري في ثقافتنا وحياتنا. فهذا الفقيه المجتهد والمفكر المجدد عمل بشكل منهجي صارم ومنتظم على إعمال منطق العقل النقدي في كل القضايا التي تصدى لها وكأنه كان يريد لمشروعه الفكري أن يمثل إضافة معرفية نوعية إلى المرجعيات الثقافية التقليدية السائدة في عصره. وأطروحته عن المرأة دالة بذاتها على أنه كان يعي جيداً أن التصورات النمطية المتحيزة ضدها موجودة في كل المجتمعات والثقافات البشرية، بقدر ما كان واعياً كل الوعي بأن استعمال سلطة المقدس لتكريس تصورات خاطئة كهذه لابد أن يعمق مختلف أشكال الضعف في الأسرة والمجتمع والدولة كما سنلاحظ. لنحاول تقصي عناصر الصورة وبيان أهم دلالاتها، وسنبدأ من الخاص إلى العام انسجاماً مع الخطاب الرشدي ذاته.
2 ـ صورة المرأة في ضوء منطق العقل:
نحن ندرك اليوم جيداً أن وضعيات المرأة في الثقافة والحياة عادة ما تكون مجال رهانات متنوعة تشارك فيها قوى اجتماعية مختلفة باختلاف أشكال وعيها ومواقعها وتطلعاتها. والقانون العام لتحولات التاريخ يفيدنا بأن السلطات والمؤسسات الرسمية المهيمنة على المجال العام في حقبة ما أو في مجتمع معين لابد أن تنحاز إلى منظومات الأفكار والقيم التي تكرس مشروعيتها وتضمن مصالحها. وهي تتخذ هذا الموقف وتدافع عنه بكل الوسائل الرمزية والعملية المتاحة بغض النظر عن مدى تحقيقه لمصالح الأغلبية العظمى من أفراد المجتمع من جهة، وعن مدى تطابقه مع منطق العقل ومنطق العدل من جهة أخرى. ولقد بين ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وتزفتان تودوروف، تمثيلاً لا حصراً، آليات اشتغال هذا الخطاب أو ذاك في مراحل محددة من التاريخ لتبرير مختلف أشكال الهيمنة على الآخر والغير، سواءٌ في دائرة علاقات المجتمع بذاته أو في سياق علاقاته بمجتمعات وشعوب أخرى مختلفة عنه(9).
لا نريد الاستطراد في هذه القضية التي أصبحت مجالاً مشتركاً لكثير من الدراسات الفلسفية والنقدية والثقافية كما نعلم. نريد التذكير فحسب بأن "المرأة" تمثل فئة من فئات "الآخر الداخلي" في المجتمع، مثلها مثل الأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية(10). وحينما تطرح الخطابات التقليدية قضايا وتناقش وضعياتها في الفكر أو في الحياة الواقعية العملية، لابد أن تعمل بوعي أو بدون وعي لتكريس مقولات اختلافها عن الرجل من منظور "تراتبي تفاضلي" في منطلقاته وغاياته، وهكذا تظل أدنى منزلة من الرجل. هذا تحديداً ما كان يعيه ابن رشد ويحاول نقده ونقضه ليحل محله منظور "أفقي تكاملي" أكثر انسجاماً مع منطق العقل الذي يبني عليه أطروحته، وأكثر تحقيقاً لمبدأ العدل ولمقتضيات المصالح الإنسانية العامة التي تتغياها خطابات الحكمة والشريعة في مجملها كما يفترضه فقيه فيلسوف مثله.
ومما يدل على وجاهة ما نذهب إليه أنه يبدأ حديثه عن المرأة بتقرير واحد من تلك الحقائق البسيطة الثابتة التي يلح جاك بوفريس(11) على ضرورة التذكير بها كلما حجبت لسبب ما، ومفادها أن النساء والرجال "نوع واحد في الغاية الإنسانية". مرجعية الحقيقة هنا لا تتمثل في الرأي الفردي والاجتهاد الشخصي، بل في الفكر الفلسفي العقلاني الذي كان معروفاً متداولاً في أوساط بعض النخب الثقافية العربية الإسلامية قبل ابن رشد وفي عصره. وتبرز الأهمية القصوى لهذه المرجعية في كون الفكر لا يختلق حقيقة كهذه بقدر ما يكشفها ويسميها ضمن بناء نظري متماسك يعين الذات المفكرة على معرفة الإنسان وتحديد هويته تدرجاً من العام إلى الخاص، وبهذا ينفي الأساس الأبستمولوجي للتصورات الأسطورية الخرافية عن المرأة دونما حاجة إلى كثير من الجدل.
فالإنسان من هذا المنظور هو كائن ينتمي إلى جنس الحيوان في المستوى الوجودي (والبيولوجي). لكنه يصبح "نوعاً إنسانياً" بفضل العقل الذي يدرك به ذاته وعالمه، وبفضل النطق الذي يسمح له بالتعبير عن أحاسيسه ومشاعره وأفكاره وحاجاته. وفي مرتبة ثالثة تتعلق بالخصائص والوظائف الفسيولوجية ينقسم هذا "النوع الواحد" إلى مذكر ومؤنث انقساماً يسمح بتكاثره واستمرارية وجوده غيره من الأنواع الحيوانية والنباتية وهكذا.
في هذا المستوى المنطقي البسيط إلى حد البداهة لا مجال إذن للتمييز التفاضلي بين المرأة والرجل بما أنهما يشتركان في النوع الإنساني والطبع الإنساني والعقل الإنساني والغاية الإنسانية كما يلح ابن رشد منذ بداية الفقرة. لا مجال لتمييز كهذا لأن اختلافهما من حيث الجنس (الجندر) هو اختلاف تكامل وظيفي ضروري لوجود الإنسان في الزمن والمكان إذ لا يمكن عقلياً أن نتصور وجود الرجل من دون المرأة والعكس صحيح تماماً.
بناءً على هذه الحقيقية التي يفترض ألا ينكرها منطق العقل السوي مهما كان فطرياً بسيطاً يبدأ ابن رشد في إعلان رأيه وتحديد موقفه الخاص بصدد "الأفعال" أو الأعمال الإنسانية لكل من الرجل والمرأة من المنظور التكاملي ذاته. فحينما يتجه الخطاب إلى هذه القضية "الثقافية" تبرز المشكلة وتُطرح على "المفكر" لأنها مطروحة من قبل ومن بعد في عالم الواقع وعلاقات الحياة اليومية في مجتمعات كثيرة. بل إن المشكلة الجزئية قد تتحول إلى إشكالية معقدة يورثها الأسلاف للأخلاف، لأن الثقافات البشرية لا تنبع دائماً من منطق العقل ولا تتحرى مبدأ العدل عندما توزع أنشطة العمل ومكاسبه بين أفراد المجتمع أو بين النساء والرجال(12). وحينما يستبعد المفكر منطق القوة وما يتولد عنه من أشكال الظلم للأفراد والفئات الأضعف في أي مجتمع فإنه يقرر أن النساء يمكن، بل ويفترض من حيث المبدأ، أن يشتركن مع الرجال في "كل" الأعمال والمجالات وفق معيار الكفاءة الفردية وليس وفق معيار الجنس المؤنث أو المذكر. نعم، يعترف ابن رشد أنهن يختلفن عنهم "بعض الاختلاف" بحسب هذا المعيار الأخير، لكن الصيغة هنا تدل على معنى القلة من جهة، وعلى معنى النسبية من جهة أخرى كما يلاحظ. فإذا كانت تجربة الحياة العامة ذاتها تبين أن الرجال "أكثر كدّاً" في الأعمال فإنها تبين في الوقت نفسه أن النساء "أكثر حذقاً" في أعمال أخرى، وإذن لا يوجد تفاضل هنا لأن الاختلاف هنا اختلاف تمايز نسبي وليس اختلاف تميّز مطلق. إن دلالة العبارة في هذا المقام تتحدد أفقياً وتكاملياً، وليس عمودياً وتراتبياً، ما دامت بعض الأنشطة العملية الشاقة تتطلب القوة العضلية، والرجال عموماً أقدر عليها من النساء، وبعضها الآخر يتطلب الحذق والمهارة، والنساء عموماً أقدر عليها من الرجال. المثل الذي يضربه فيلسوف قرطبة دليلاً على وجاهة الرأي المعرفي بهذا الصدد هو "صناعة الألحان التي تبلغ كمالها إذ أنشأها الرجال ونفذتها أو أدته النساء" كما يقول. ورغم أن عملاً كهذا قد يبدو ثانوياً، وربما مرذولاً في البيئة الإسلامية، إلا أن دلالته كمثل يستعيده ابن رشد من سابقيه، هي الأهم، لأن تكامل الأدوار والوظائف في هذا المجال وفي غيره هو الذي يعلي من قيمة الجهد المشترك بين النساء والرجال ويفضي بالإنجاز إلى درجة "الكمال" كما يلاحظ(13). وإذا ما تجاوزنا هذا البعد الوظيفي المباشر سنلاحظ إن ابن شد يؤصل مبدأ "المساواة" بين الرجل والمرأة في مجالات العمل كلها، مرة في ضوء منطق العقل الفلسفي العارف، ومرة في ضوء منطق العقل الإنساني العام كما يمكنه أن يتجلى في تجربة الحياة اليومية. فهو يحتكم، بعكس أفلاطون، لمنطق عقلاني غير مثالي، ولذا يعطي لتجربة الحياة الواقعية قيمتها لتعزيز دلالات الفكرة النظرية أو لتعديلها وإضفاء النسبية عليها. إنه لا يجهل أو يتجاهل أن المرأة عادة ما تحمل وتلد وترضع، وأن حالة من الضعف البدني لابد أن تصاحبها في فترات كهذه، ولذلك يقول: "فقد ينبغي أن يكلفن من الأعمال بأقلها مشقة". وإذا كانت حالة ضعف عابرة كهذه لا تنفي مبدأ المساواة فإن لعبارة ابن رشد بعداً دلالياً آخر يحقق مطلب "العدالة" ولذا يبدو لنا غاية في الأهمية من منظور وأصالة الخطاب الرشدي وراهنيته المشار إليها آنفاً. نقصد تحديداً هذا البعد الإنساني النبيل الذي يستشف من منطق العبارة لا من منطوقها ويتمثل في ضرورة تجنيب المرأة الأعمال الأكثر مشقة لا لضعفها أو بدواعي الشفقة عليها، وإنما لتوفير طاقاتها الخلاقة للعناية بالأطفال الذين هم الأحوج للرعاية والتربية، أو لإنجاز الأعمال الدقيقة التي تحتاج أكثر من غيرها للحذق والرهافة(14).
وفي كل الأحوال فإن منطق التعبيرات ومنطوقها يفيدان بأنه عند انتفاء أسباب الضعف العابر، والإيجابي بمعنى ما، عن أي امرأة ولأي سبب، تصبح المساواة هي الأصل، والأصل أحق أن يعتبر ويتبع. ومما يدل دلالة أكيدة على إيمان ابن رشد بهذا المبدأ وبما يترتب عليه من دلالات غنية، كما يلاحظ، أنه يستطرد بعض الاستطراد ليحصر معاني ضعف المرأة في بعض المقامات والسياقات ومن ثم ينفي كونه حقيقة مطلقة من منظور العقل أو من منظور تجربة الحياة. هكذا يكتب عن "صناعة الحرب" التي لا شك أنها تتطلب القوة البدنية والمهارة الذهنية، ليؤكد أن النساء يشاركن فيها كما الرجال، والشاهد عنده "حال ساكني البراري وأهل الثغور" كما يقول. فالمثل هنا بليغ الدلالة في المستويين النظري والواقعي، لأن سكان هذه الفضاءات عادة ما يكونون في علاقات توتر وصراع مع غيرهم، إما بحكم نمط العيش القاسي في البيئات الصحراوية، أو بحكم مجاورة الخصوم والأعداء على الحدود، وبالتالي فإن مشاركة المرأة في العمل الحربي أمر واقع وضروري في الوقت نفسه.
ثم تتراكم الدلالات الإيجابية في التعبير ذاته لأن لمفهوم "صناعة الحرب" هنا معنى مفتوحاً يمكن أن يشمل تصنيع أدوات الحرب، والتدرب على استعمالها عند الاقتضاء، بقدر ما يشمل عمليات التخطيط والإدارة والقيادة للعمل الحربي ذاته. ومشاركة المرأة في عمل جاد متنوع كهذا لابد أن ينفي عنها كل أوهام الضعف المطلق، وسواء تعلق الأمر بقوة الذهن أو بقوة البدن. ومما يعزز وجاهة هذه القراءة أن الكاتب المعروف بحرصه الشديد على دقة العبارة لا يستعمل في هذه الجملة أدوات تقييد أو تقليل أو احتمال مثل "ربما" "بعض" "يظن" "قد يكون"... وهي صيغ حوارية كثيرة الورود في خطابه كما نعلم.
وتبلغ الأطروحة الرشدية عن مبدأ "المساواة" ذروتها المنطقية حينما يتحدث عن مجالين من مجالات العمل الأكثر رفعة وقيمة رمزية وعملية وهما "الحكمة" و"الرياسة" التي كان يحتكرها الرجال في أثينا كما في المدن والدول الإسلامية(15). فنظراً لكون بعض النساء "مجبولات على الذكاء وحسن الاستعداد فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة" كما ينص عليه فيلسوف قرطبة. وقول كهذا يدل على أن هذا المفكر يعي جيداً أن "الممتنع" غير "الممنوع"، وأن الثقافات أو المجتمعات التي تمنع النساء عن الاشتغال بالفلسفة، أو عن تولي الملك أو الرئاسة أو الإمامة، الصغرى أو الكبرى، تستند إلى منطق آخر غير منطق العقل والعدل، أي إلى ما نسميه اليوم منطق "الإيديولوجيا"، وتحديداً "الإيديولوجيا الذكورية"(16). وهنا ربما يقال إن استعماله صيغة "بعض النّساء" ينفي ما نذهب إليه إذ قد يدل على أن "الذكاء وحسن الاستعداد" خصال موجودة عند "أكثر الرجال" وغير موجودة إلا عند "القلة" من النساء، لكن هذا المعنى ينتفي من وجهين مختلفين ومتكاملين:
الوجه الأول يدل عليه استعمال الكاتب لكلمة "مجبولات" التي تفيد بأن هذه الخصال أو الصفات فطرية مترتبة عن الانتماء للنوع الإنساني والاشتراك في الطبع والعقل والغاية الإنسانية، وبالتالي فلا يمكن أن تكون موجودة في جنس أو في عرق اكثر من الآخر من حيث المبدأ.
والوجه الثاني يدل عليه منطق الخطاب في عموم الفقرة التي ترد فيها الجملة الاستطرادية هذه حيث يلح ابن رشد، وبصيغ متنوعة، على معاني النسبية والتكامل في كل اختلاف بين المرأة والرجل كما رأينا.
من هذا المنظور المزدوج تصبح العبارة السابقة معادلة تماماً للقولة بأن "بعض" البشر أو بعض الأفراد مجبول على الذكاء وحسن الاستعداد ولذا يكون منهم "حكماء وأصحاب رياسة"، ولا فرق هنا بين رجال ونساء. أما احتكار بعض الرجال لبعض الأعمال والوظائف فهو خلل ثقافي اجتماعي يشبه الخلل المتمثل في احتكار بعض الأسر أو "البيوتات" للرياسة، وبذلك بقوة التغلب وليس بقوة الحق. هنا أيضاً لا مجال للشك في وجاهة هذا التأويل لأن ابن رشد ما حرص على تلخيص كتاب السياسة والتعليق عليه إلا ليكشف هذا الخلل ويحاول نشر الوعي به والعمل على تجاوزه لأن آثاره لابد أن تكون كارثية على المجتمع والأسرة والفرد. فالدولة أو "المدينة" هي صورة كبيرة للأسرة، واحتكار السلطة فيهما من قبل بعض الرجال هو خلل لا يمكن أن ينتج عنه غير محصول من جنسه، مثله مثل المقدمات الخاطئة التي لا يمكن أن تفضي إلى نتائج صحيحة من منظور العقل البرهاني المحكم. وبصيغة أكثر وضوحاً نقول إن ابن رشد صاحب فكر شمولي متماسك ونظرة نقدية عميقة ولذا "يبدو في هذا الكتاب في صورة حديثة جداً، يندد بجميع أشكال التسلط والاستبداد، ويؤمن بالتقدم، وينشد الإصلاح في الحكم والسياسة كما نشده في مجال العقيدة الدينية والعلم والفلسفة"(17).
وحينما تتجمع هذه الدلالات الصريحة والضمنية ندرك على الفور أن ابن رشد يقدم هنا المرتكز المعرفي لأطروحة نظرية متكاملة يتجاوز بها الفلاسفة من قبله، وخاصة أفلاطون المعروف بجفائه واحتقاره للمرأة وهو "الحكيم" البارز، كما يتجاوز بها فقهاء المسلمين الذين يكادون يجمعون بمختلف مذاهبهم على عدم جواز تولي المرأة الولاية الكبرى وإن اختلفوا فيما هو دون ذلك(18). هنا تحديداً قد يتساءل الباحث المسلم المعاصر عما إذا كانت هذه الأطروحة الرشدية مخالفة لتعاليم الشريعة الإسلامية ومقاصدها أم أنهم الفقهاء التقليديون الذين يخالفونها إذ يعتمدون على بعض النصوص ويهملون بعضها الآخر تماشياً مع ذلك الفقه الذكوري المتمركز حول الرجل والذي بلغ ذروة صياغته الإيديولوجية في كتابات الغزالي كما بيناه في دراسة سابقة؟. لنتأمل المسألة من هذا المنظور بإيجاز يقتضيه المقام، ولا يجب أن ننسى أننا أمام المشكلة الأكثر تعقيداً، لأننا نبحث غير بعيد عن مجال "المقدس" الذي يؤثر في الناس أكثر من غيره بالأمس واليوم.
3 ـ صورة المرأة ضمن منطق الشرع
في مستهل هذه الفقرة لابد أن يتجه التحليل من النص الحاضر إلى النص الغائب، ونعني به "النص الشرعي" الذي لا يحضر في عبارة ابن رشد إلا كخلفية بعيدة يتعين على القراءة أن تستحضرها لبناء أطروحته من مختلف مكوناتها ومرجعياتها. من هذا المنطلق لا نجد ضرورة لتتبع آراءه الفقهية عن المرأة في كتاباته الأخرى، كما دعى إليه أحمد عبد الحليم، لأننا أمام عمل فكري يتجاوز النظر في القضايا الجزئية المعتادة ولابد من الحوار معه في هذا المستوى الشمولي في المقام الأول(19).
فبعد أن يقول ابن رشد أن النساء ممن جبلن على الذكاء وحسن الاستعداد هن مؤهلات للحكمة والرياسة مثلهن مثل الرجال، يضيف أنه: "لما ظُنَّ أن يكون هذا الصنف نادراً في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الإمامة، أعني الإمامة الكبرى، ولإمكان وجود هذا بينهن أبعدت ذلك بعض الشرائع".
ولعل أول ما يلفت الانتباه في العبارة هو استعمال مفهوم "الشرائع" بصيغة الجمع وعدم التقييد بالنعت مما يفيد بأن القول هنا تعميمي لا يخص الشريعة الإسلامية حصراً، كما بدا للجابري، بل يشمل "كل" الشرائع الدينية، وربما غير الدينية، التي يمنع بعضها ويقبل بعضها الآخر مسألة الولاية الكبرى للمرأة. وهذا المعنى العام الشامل الذي يبرره منطوق القول هو الأقرب إلى منطق الخطاب ومقصده لدى كاتب مفكر يؤصل للقضايا في مستوى الكليات وليس الجزئيات والفرعيات، أي أن ما ينطبق على الشريعة الإسلامية ينطبق على غيرها في هذا المستوى.
أما حين نركز على الشريعة الإسلامية فإن الأطروحة الرشدية تتحدد وتبرز أهميتها النظرية والوظيفية ضمن خطاب مختلف بالضرورة عن غيره، وإن كان اختلافه لا يعني تميزه أو أفضليته المطلقة في هذا المقام المعرفي الشمولي.
فنحن نعرف مسبقاً أن لفيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها أطروحة شخصية متفردة وجريئة، بالنسبة لعصره كما بالنسبة لعصرنا الراهن، بلورها في كتابه (فصل المقال) حيث ذهب إلى أن منطق الحكمة يتصل أوثق الاتصال بمنطق الشريعة العميق ومقاصدها البعيدة، وفق مبدأ "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له". وإذا ما ظهر تعارض ما بينهما فمن واجب الفقيه المفكر المجتهد مثله أن يؤول النص الديني في ضوء منطق البرهان المحكم إلا حين يتعلق الأمر بالمعتقدات والشعائر والأحكام التي ورد فيها نص قطعيّ الثبوت قطعي الدلالة يخرجها من مجال الاجتهاد والنظر العقلي أصلاً(20). في ضوء هذه الأطروحة العامة يبدو جلياً أن ابن رشد يدرك تماماً أن اشتغال المرأة بالفلسفة أو الرياسة يظل أمراً خلافياً يترتب الحكم فيه بالمنع أو الإباحة على "الظن"، أي على الرأي الشخصي الذي لا يلزم غير صاحبه أن يأخذ به. وانسجاماً مع فكره العقلاني الحواري هاهو يطرح القضية ويبرز الاختلافات فيها ومن ثم يبدي رأيه الخاص وموقفه المستقل على هذا النحو الموجز والواضح في الوقت نفسه كما يلاحظ. فتأكيده نصاً على "إمكان وجود" المرأة "الحكيمة" أو "الحاكمة" في عالم الواقع يكشف عن رأي جريء ينفي بصيغة منطقية ضمنية وحاسمة ذلك الحكم الظني التوهمي الذي لم ينقضه أحد من الفقهاء المعتبرين من قبله فيما نعلم. بل إن التدقيق في العبارة المختزلة يبين لنا أن عملية النفي هنا تتم بشكل مضعف. فالحكم بالمنع مخالف لمنطق العقل الذي يعتبره ابن رشد وأمثاله يقيناً متى ما احتكم لشروط البرهان. ثم إنه حكم مخالف لمنطق الشرع المتمثل في تلك التجربة التاريخية التي امتدحها القرآن الكريم ذاته في خبر بلقيس الملكة العاقلة الصالحة وقدم عنها صورة إيجابية تماماً، وخاصة عند مقارنتها بصورة أولئك الملوك الذين "إذا دخلوا قرية أفسدوها"!. فخبر تاريخي ـ ديني كهذا لابد أن يستحضر في خلفية الرأي في هذا المقام الاجتهادي الجاد كل الجدية. وهو لابد أن يستحضر هنا لأن الفيلسوف المجدد والفقيه المجتهد وقاضي القضاة الذي ينتظر منه العدل في كل حكم لم يكن ليذهب إلى هذا الرأي الجريء الذي يمكن أن يصدم النخب الخاصة قبل العامة، لو علم أنه يتعارض مع نص دينيّ قطعي الثبوت والدلالة. أما والأمر مجال آراء مختلفة واجتهادات مفتوحة فمن حقه وواجبه أن يدلي فيه برأي قد يخالف فيه كل الفقهاء من قبله دونما مخالفة للدين في ذاته، وهذا معنى أصيل في كل اجتهاد معرفي خلاق في الشرعيات والفكريات بالأمس واليوم.
وحينما نأخذ مسافة كافية من العبارة المكثفة هذه يمكن أن تتعزز وجاهة هذه التأويلات من منظور ديني أعم وأشمل. فمما لاشك فيه أن ابن رشد يدرك جيداً أن في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على دلالة صريحة قاطعة على أن مفاهيم الإنسان، الناس، الإنس، البشر، بني آدم.. عادة ما تستعمل في الخطاب القرآني لتشمل النوع الإنساني من دون تمييز بين مذكر ومؤنث. كما لا يخفى على فقيه وقاض مثله أن انتماء المرأة والرجل إلى آدم وحواء، أي إلى نوع أو أصل واحد، يعني بالضرورة أنهما متساويان من حيث المبدأ في الطبع (الجبلة) والعقل والغايات الإنسانية، تماماً كما تقول به الفلسفة أو الحكمة. كذلك لابد أنه يعي تمام الوعي أن معايير الإيمان والصلاح والتقوى ومعاني التكريم والتفضيل وحسن الخلق والتقويم والتصوير المتكررة كثيراً في القرآن والسنة ولا تفرق بين أفراد الأمة أو بين أفراد المجتمع المسلم بحسب الجنس أو العرق أو اللون أو اللسان أو الرتبة الاجتماعية(21). فالناس كلهم من هذا المنظور خلق الله، وهم مكلفون بخلافة الأرض وبعمرانها، وهم كلهم من حيث المبدأ سواسية كأسنان المشط، وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح.. وهكذا.
في هذا المستوى المتعلق بالأصول والمبادئ العمومية تتفق إذن المرجعيتان الدينية الإلهية والفلسفية البشرية وإن اختلفتا في أساليب التعبير عن الحقيقة ومناهج البحث عنها وأساليب الحث على الالتزام بما يترتب عليها من قيم وسلوكيات.
وإذا كان ابن رشد لا يستحضر هذه المرجعية في هذه الفقرة عن المرأة بشكل مباشر لتعزيز رأيه والإقناع به فذلك لأن مقام الخطاب لا يستدعيها، ولأن من المفترض أن تكون حاضرة في خلفية وعي القارئ المفترض لخطاب فقيه مجتهد وقاض متمكن مثله. بصيغة أخرى نقول إنه لم يكن ليجد مبرراً نظرياً أو تداولياً للتذكير في مقام معرفي خاص على بدهيات ومسلمات أولية لا تخفى على أي مسلم عادي كالقول بأن المرأة إنسان، وأن الله خلقها ليستمر وجود النوع الإنساني، وكرمها بالعقل وكلفها بالعمل الصالح لكي تحاسب على نتائج أقوالها وأفعالها بموجب هذا التكريم وهذا التكليف مثلها مثل الرجل تماماً.. الخ.
القضية المشكلة، أو "الإشكالية"، تبقى إذن قضية الخلفيات المعرفية والمقاصد الإيديولوجية التي عادة ما توجه القراءات الفردية لنصوص الشريعة. فقراءات كهذه كانت وستظل منتوجات ثقافية مختلفة ولابد، وسواء تعلق الأمر باختلاف تنوع وتكامل وتعايش و"رحمة"، أو باختلاف تعارض وتناقض و"تنازع" على السلطان والمصالح. بالنسبة لشخص مثل ابن رشد تكتسب التأويلات وجاهتها النظرية والعملية بقدر ما تلتزم بمنطق العقل المحكم من جهة، وبقدر ما تحقق المقاصد الشرعية والمصالح الإنسانية للإنسان، نوعاً وأمة ومجتمعاً وفرداً(22).
أما حينما يراد التحقق من مدى وجاهة هذه القراءة أو تلك فلا بد من اختبارها في مستوى معطيات الواقع وعلاقات البشر حيث أن لكل منها تأثيرات وانعكاسات لا يمكن أن يجهلها المفكر الحر والفقيه المجتهد وإن جهلها أو تجاهلها غيره. من هذا المنظور يطل بنا ابن رشد على واقع مأساوي تهيمن عليه القراءات الذكورية للنصوص الدينية التي عادة ما تغذي ثقافة مختلفة معتلة تتجلى تأثيراتها السلبية على المرأة والرجل في كل مجالات الحياة ومستوياتها.
4 ـ صورة المرأة المسلمة بحسب تجربة الحياة اليومية:
في مستوى تجربة الحياة اليومية في المجتمع العربي المسلم الذي ينتمي إليه ابن رشد ويكتب عنه وله بمعنى ما، تكثر الشواهد الدالة على أن الثقافة السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك هي في مجملها ثقافة متحيزة ضد المرأة كل التحيز. ومع خطورة الدور الذي يلعبه الدين في مجتمع كهذا، إلا أن سبب تدني مكانة المرأة ليس الدين في ذاته بل تأويلات "الفقهاء الرجال" لنصوصه التي يوجهونها لتبرير ثقافة يمكن وصفها مباشرة بأنها "ناقصة عقل ودين". ونصفها على هذا النحو لأنها حين تتناول قضايا المرأة لا تحترم منطق العقل ولا تستقيم مع منطق الشرع الذي يتحرى مبدأ العدل، ولا تحقق مصلحة عامة للمجتمع المسلم إلاَّ في أضيق الحدود، وهذه هي المفارقة التي تنبه لها ابن رشد وحذر منها.
فهذه الثقافة التي تضرب بجذورها بعيداً في مجهول التاريخ بثقافاته الشعبية والرسمية هي التي تجعل "الرجال" يتخذون "النساء" للنسل والقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتنشئة، ولا غرابة بعد هذا أن تزول عنهن "الكفايات" وتتعطل فيهن "الفضائل" التي هن ميسرات لها في الأصل(23).
وعند التدقيق في دلالات الكلمات عند مفكر دقيق صارم مثل ابن رشد يتضح لنا مدى تردي وضعيات المرأة وأحوال الواقع الاجتماعي الذي يتحول إلى مختبر لتبين مدى وجاهة أي قراءة. فمفهوم "النسل" هنا يعني الحفاظ على السلالة أو على الأسر التي كانت، ولا تزال غالباً إلى اليوم، تتباهى بكثرة الأولاد الذكور وتكره كثرة البنات لأنهن يصبحن عبئاً عليها في مجتمع يحتقر المرأة ويحط من كرامتها ويعتبرها عاراً وعورة لنقص فطري في عقلها ودينها وخلقها!.
ومفهوم القيام "بواجبات الزوج" لن يتعدى معناه في هذا السياق إشباع شهوات الرجل وخدمته فيما هو يتفرغ للأعمال الجليلة كما لو أن المرأة تحولت عملياً إلى نوع آخر من أنواع الرقيق والإماء والجواري خلافاً للدين الذي يحث على المساواة في الحقوق الواجبات بين الزوجين مثلما يحث على تبادلية معاني المودة والرحمة والمحبة والتساكن في كل علاقة بينهما(24).
ومفاهيم "الإنجاب والرضاعة" ستأخذ معنى الولادة والرعاية الأولية التي لا تميز الإنسان عن بقية الكائنات الحيوانية إلاَّ بعض التمييز. حتى مفهوم "التربية" أو "التنشئة" هنا لا قيمة دلالية كبيرة له لأن المرأة التي زالت عنها الكفاية وحرمت من اكتساب الفضائل العليا لا يمكنها أن تربي أحداً على قيم ومبادئ وخصال هي محرومة منها. جل ما تستطيعه امرأة كهذه هو أن تربي البنت على الخضوع والاستلاب فتكون صورة مكرورة لها، وان تربي الابن على احتقار المرأة والتعالي الأجوف على النساء مثله مثل أبيه، وهكذا تتكرر دورة البؤس من جيل لجيل(25).
ليس فيما تذهب إليه قراءتنا أي مبالغة لأن التوصيفات المقتضبة التي يوردها ابن رشد عن واقعه ومجتمعه تحتمل هذه المعاني وما هو أبلغ وأسوأ منها. هكذا تصاغ العبارة التالية صياغة منطقية مباشرة وصارمة الدلالة وكأنها النتيجة الوحيدة المنطقية لما قبلها:
ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب أو (النباتات).
فتشبيه الكائن الإنساني بجنس النبات ينطوي على مفارقات غنية الدلالات. المفارقة الأولى أن الكاتب يتعفف عن تشبيه النساء بأنواع من جنس الحيوانات المستقبحة كما فعل الغزالي، وفي الوقت ذاته يبين درجة التدني التي وصلت إليها حالهن إذ نزلن عن مرتبة الكائنات ذوات الروح إلى مرتبة أقل منها(26). المفارقة الثانية تكشفها القراءة المتعمقة حينما نركز على بعد دلالي أهم وأخطر لا يمكن الجزم بحضوره في وعي الكاتب لكن السياق يبرره ويستحضره دونما حاجة إلى تمحّل أو اسقاطات. فالتعبير هنا مجازي إيحائي ينفتح على ذاكرة ثقافية بعيدة الجذور في الماضي لكنها مؤثرة بقوة في الذهنيات والعلاقات بالأمس واليوم. ووجود فئة عريضة من المجتمع، النساء، تشبه الأعشاب أو "نباتات الرعي" يستدعي منطقياً وجود فئة ثانية تشبه الكائنات التي ترعى هذه النباتات، ومنطق التداعي ذاته يقودنا إلى فئة ثالثة تشبه "الرعاة" وهكذا!. ومما يعزز وجاهة الدلالات السلبية المتعالقة هذه أن الفقرة كلها ترد في خطاب عن السياسة التي هي علم أو فن إدارة مجتمع المدينة أو الدولة، لكن مقولات الراعي والرعية كانت ولا تزال تستعمل كثيراً ضمن هذا الخطاب في السياق الثقافي العربي تحديداً كما نعلم(27).
إننا ندرك اليوم جيداً أن للكلمات ذاكرتها الدلالية الخاصة، ومفردات كهذه لابد أن تحيل إلى تلك الثقافة الرعوية التي تنتجها وتتداولها جماعات قبلية بدوية بسيطة الوعي محدودة الأنشطة والعلاقات بخلاف مجتمعات المدينة التي تتميز بتنوع فئاتها وكثرة أنشطتها وتعقيد علاقاتها بحيث تستدعي سياسة متطورة من جنسها. هنا تصل دلالات المفارقة في تلك العبارة الموجزة إلى ذروتها حيث أن علاقات الرجال بالنساء في المنزل تصبح صورة مصغرة لعلاقات الحكام بالمحكومين في المجتمعات العربية المسلمة لأن كلتيهما محكومة بالمنطق العميق ذاته لتلك الثقافة القبليّة الرعوية حتى والناس يعيشون في حواضر كبرى ودول متسعة. وبصيغة أخرى نقول إن هذه الدلالة التأويلية تصبح مشروعة تماماً حينما نقرأ عبارة ابن رشد عن المرأة ضمن سياق "خطاب سياسي يواجه السياسة مواجهة صريحة مسلحة بالعلم والفلسفة" كما يقول الجابري(28). من هذا المنظور تصبح علاقات التشاكل والتفاعل بين هيمنة الرجال على النساء والآباء على الأبناء في مجال الأسرة وهيمنة الحاكم "الراعي" على المحكومين "الرعية" في مجال المدينة أو الدولة، في حكم المسلمات حتى وإن لم يتم التصريح بها.
وفي كل الأحوال لابد لهذا الاستطراد ما يبرره من زاوية ثانية حيث نلاحظ أن ابن رشد لا يلبث أن يربط بشكل صريح هذه المرة بين الوضعيات المتردية للمرأة وتردي الوضع الاقتصادي الذي لا يستطيع الإنسان السوي أن ينكر أحواله ومعطياته الماثلة.
فالنساء يشكلن أغلبية مطلقة في مجتمع تتخطف رجاله فتن الداخل وحروب الخارج. ونظراً لكونهن يعشن في حكم البطالة المباشرة أو المقنعة يصبحن "سبباً من أسباب فقر هذه المدن" لأن اعتمادهن على مردودية عمل الأقلية من الرجال الذين توفرهم الحروب العبثية أو المشروعة، لابد منطقياً أن يؤدي إلى فقر الأسرة والمدينة والدولة. وتبلغ الدلالات المأساوية لوضعية كهذه ذروتها حينما تتحول النساء إلى كائنات هامشية ضعيفة تابعة لسلطة الرجل التي يمكن أن تنقلب إلى "تسلط" في أية لحظة سوء تفاهم أو خلاف لأنهن الطرف الأضعف في مجمل العلاقات. وبيان هذه الوضعيات لا ينطوي على أي معنى لإدانة المرأة أو لاتهام "جنس النساء" بالضعف كما يمكن أن يلح عليه الفقهاء التقليديون. فالسبب الحقيقي الذي يولد هذه الوضعيات المأساوية يتمثل في تلك الثقافة القبلية الذكورية "المؤسْلَمة" التي تمتلئ بالتصورات الفاسدة والأحكام المختلة المعتلة عن الذات الإنسانية في المرأة والرجل. كأننا نقول إن ثقافة تعامل المرأة كقاصر، وتحرمها من الكفايات والفضائل التي تكتسب بفضل تجربتي التعلم الجاد والعمل الخلاق، وتفضل ألا تخرج لأن مكانها الأمثل هو "قعر البيت" بتعبير الغزالي.. لابد أن تفضي إلى وضعية متردية في عمومها كهذه(29). أما حينما تضغط الحاجة على "رب الأسرة" أو على أمير المدينة وملك الدولة فإن المرأة تنتدب لمباشرة "أقل الأعمال شأناً كما في صناعة الغزل والنسيج". هذه إذن حالة استثنائية تثبت تلك القاعدة العبثية التي تعطل الطاقات الذهنية والعملية في النساء اللائي يشكلن أغلبية المجتمع العربي المسلم، وباسم مقولات خاطئة وتصورات فاسدة تتوارث من جيل لجيل وكأنها من صميم العقيدة! (30).
هكذا تكتمل الأطروحة النظرية ببيان تأثيرات الثقافة السائدة في علاقات الواقع الكئيب الذي يصفه ابن رشد قبل ثمانية قرون، وبخطاب يبدو كما لو كان يصف ويحلل واقع الحال في معظم مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم!. فالفقر ليس قدراً لا مهرب منه إلا إليه. وحتى إذ يكون كذلك في حالة بعض الأفراد الذين تخونهم الصدف والحظوظ، فإنه يظل في جزء أساسي منه نتيجة للثقافة التي ينشأ عليها الرجال والنساء ويمتثلون لأفكارها وقيمها ومعاييرها عندما يكبرون ومن ثم فلا يمكن تفهمه ومعالجته بمنطق الصدقات. منطق ابن رشد لا يختلف في العمق عن منطق الباحثين الجادين في العصر الحديث ممن يربطون قضايا التنمية والتقدم في الماديات بمدى التطور في المجالات الاجتماعية والفكرية والعلمية إلى حد أنه يمكننا القول بأن فقر الثقافة يؤدي إلى فقر المجتمع(31). لقد أدرك قبل غيره أنّ تعديل التصورات الخاطئة عن المرأة هو تحرير لطاقاتها حتى تشارك في كل عمليات الإنتاج الفكري والعلمي والمادي، أما بقاء الثقافة على ما هي عليه فإنه يعني المزيد من أشكال الفقر والتخلف في كل المجالات والمستويات.
الصورة العامة ـ تماسك البنية ومفارقات الدلالات والوظائف:
حينما نحاول الربط بين أهم ما ورد في الفقرات السابقة سنلاحظ على الفور أن بنية الصورة العامة للمرأة في خطاب ابن رشد تتكون من عناصر متنوعة، مختلفة ومتكاملة، وهذا يدل بذاته على غناها الفكري رغم محدودية تعبيراتها. هناك مرجعيات فلسفية وشرعية وواقعية يتم اختزالها من أجل إعادة بناء التصورات الذهنية لتتطابق مع حقيقة هذا الكائن الإنساني الغني الذي تتعاضد مرجعيات تقليدية متنوعة لنفيه إلى مرتبة أدنى من مرتبة "الرجل"، بل أدنى من مرتبة الكائن الحي كما لاحظه ابن رشد. وتقديم المرجعية الفلسفية العقلانية على ما سواها كان كافياً بحد ذاته للكشف عن بدهيات منسية كالقول بان المرأة والرجل يشتركان في كل المقومات التي تميز الإنسان العاقل الناطق المؤهل لكل معاني حريته وكرامته، وأن أي اختلاف بينهما بعد هذا هو من قبيل الأمور النسبية والإيجابية في الوقت نفسه(32). ومما يعزز الوجاهة المعرفية والتداولية لمرجعية "أجنبية" كهذه أنها لا تتنافى مع المرجعية الدينية المحلية، فضلاً عن كثرة الشواهد الدالة على صدقيتها في مستوى تجارب الحياة لكثير من المجتمعات التي تباشر فيها النساء كل الأعمال الجادة مثلهن مثل الرجال. هذا من حيث البنية العامة، أما من حيث الدلالة فإن هناك مفارقات تلفت النظر وتتطلب التفسير والتأويل. فحينما نركز على صورة المرأة في ذهن ابن رشد نلاحظ بوضوح أن ما يكتبه عن وضعياتها وقضاياها في الخطاب الذي يتبناه ويطوره يكشف عن مدى احترامه لها ذاتاً إنسانية وجنساً أنثوياً وشخصية فردية وفاعلاً اجتماعياً لديه كل الطاقات الخلاقة التي تؤهله للمشاركة باقتدار في أي نشاط ذهني أو عملي. لكن الصورة التي يقدمها عنها في واقع مجتمعه العربي المسلم بكل واقعية وجرأة هي صورة لكائن بشري جاهل ضعيف تحاصره الثقافة السائدة بكل أنواع العوائق التي تسلبه حقوقه، بل تكاد تفقده أبسط معاني إنسانيته. والمسافة الفاصلة بين الصورتين هي التي تبرر الأطروحة لدى مفكر يعي جيداً أن تدني مرتبة المرأة في الثقافة والحياة دليل خلل في منظومات الأفكار والقيم والمعايير لابد، منطقياً، أن يؤدي إلى أشكال من الخلل يعانيها الجسد الاجتماعي كله وإن كان نصيب النساء من المعاناة هو الأكبر(33). وهذا الوعي هو ذاته ما يبرر لنا ولغيرنا تبين مفارقة أخرى تتعلق بالأطروحة حينما تقرأ في سياقها الاجتماعي التاريخي وليس في سياقها الفكري فحسب.
فهي تبدو في المستوى النظري قوية متماسكة لأنها تنبني على مقولات عقلانية محكمة بسيطة وواضحة من جهة أولى، وعلى فهم شمولي عميق لمبادئ الشريعة العامة ومقاصدها البعيدة من الجهة ثانية، وعلى احترام كبير للمرأة عموماً يعززه تعاطف واضح مع المرأة المسلمة المضطهدة من جهة ثالثة كما رأينا.
أما في المستوى الوظيفي فالمؤكد أن الأطروحة تظل ضعيفة كل الضعف ليس لخلل فيها وإنما لأن تفعيلها في علاقات الواقع كان يتطلب تدخل عوامل من خارج الخطاب كانت غائبة في مجملها. فالمرأة ذاتها ليست حاضرة في جدل يبدو أنه يدور بين رجال من فئة "الخاصة"، أو النخبة كما نسميها اليوم، وتزداد معاني هذا الغياب فداحة حينما نتذكر أن النساء يشكلن ضعفي عدد الرجال كما يقول ابن رشد(34).. وتدخل السلطات القائمة لتعديل الخطابات التقليدية وتطويرها لتكون أقرب إلى منطق العقل والعدل والمصلحة العامة، هو أمر ممكن لكنه لم يكن متوقعاً آنذاك بكل بساطة. لماذا؟. لأن القبول برأي مفكر مجدد وفقيه مجتهد مثل ابن رشد، ومثل ابن حزم من قبله، يعني فيما يعنيه تنازل ممثلي هذه السلطات "الذكورية" طواعية عن كثير من امتيازاتهم المادية والرمزية في الأسرة والمجتمع والدولة. العامل الثالث يتمثل في عدم وجود قوى اجتماعية جديدة تتبنى منطق التغيير أو الإصلاح وتفعل خطابه في مختلف علاقات الحياة ومجالات العمل والتبادل اليومي ضمن سيرورة ما يعرف اليوم بالحراك، أو الصراع الاجتماعي. وفي شروط تاريخية كهذه لم يكن من المتوقع أن تؤدي الأطروحة الجريئة المحكمة إلى تغيير جذري في الصور النمطية المتوارثة عن المرأة والرجل والآخر والعالم.
بناء على هذا كله يُطرح التساؤل التالي: هل يعني هذا كله أن الجهد الفكري يفقد قيمته ما لم يكن فاعلاً في واقعه وعصره؟. لا نعتقد ذلك لأننا ما إن نعاين الأمور من منظور الراهن حتى نكتشف أن أطروحات ابن رشد بصدد هذه القضية، وقضايا كثيرة لم تحسم بعد في ثقافتنا، لا تزال تحتفظ بقيم رمزية وعملية كثيرة بالنسبة للباحثين والباحثات في مجتمعنا العربي على وجه التحديد.
فأطروحة جريئة كهذه قد تضع المفكر، ذاتاً وخطاباً، في مواجهة مباشرة مع خطابات الحاكم التقليدي، والفقيه التقليدي، والرجل التقليدي، ودونما سند يذكر من خارج الخطاب كما رأينا. وهذا موقف مهم في ذاته، ومهم من حيث أن الباحث الذي يريد أن يتصدى بجدية لقضايا الإنسان والمجتمع والسلطة ينبغي أن يتوقعه ويتحمل تبعاته كمسؤولية معرفية وأخلاقية(35).. ليس في هذا القول مبالغة.
فالأطروحة ترد في سياق كتابة عن "السياسة" يهيمن عليها الطرح الفكري العقلاني المجرد، لكنها لا يمكن أن تبرأ من الأخلاقية والمقاصد "الإيديولوجية" لأن السياسة "علم عملي" بامتياز كما لاحظه الجابري وألح عليه(36). من هذا المنظور يصبح في حكم المؤدّد أن أطروحته عن المرأة جزء من أطروحة كبرى كانت تهدف إلى عقلنة التصورات وأنسنة العلاقات وإصلاح الوضعيات لتتحرر الطاقات وتفعل فعلها الخلاق في كل البنى الاجتماعية. نعم، لاشك أن هناك حدوداً للعقلانية الرشدية بينها ناصيف نصار بدقة(37)، لكن جهوده الفكرية ومواقفها العملية تظل مساهمة مبكرة خلاقة في تفكيك سلطة التابو الثلاثي الذي لا يزال يشكل عائقاً ابستمولوجياً وإيديولوجياً قوياً أمام أي مفكر أو باحث في مجتمعاتنا(38).
كذلك يقدم لنا ابن رشد درساً لا أقل قيمة حين يكتب من موقع الفيلسوف العقلاني مرة، ومن موقع الفقيه المسلم مرة ثانية، ومن موقع المواطن المثقف المنشغل بأحوال مجتمعه مرة ثالثة. فتنويع المرجعيات والمنظورات والتعبيرات هو ما يمكن الباحث من تحليل القضية في مختلف جوانبها لاستكشاف أبعادها المتنوعة المتعالقة، ومن مخاطبة كل فئة من القراء بما يتناسب مع وعيها ومرجعيات قراءتها، وهذه سمات حوارية في أي خطاب يحترم شروط المعرفة بقدر ما يحترم المتلقي قارئاً نموذجياً أو مفترضاً أو واقعياً متعيناً(39). لقد تقصينا أهم مظاهر النزعة الحوارية ووظائفها في الكتابة الرشدية في بحث سابق(40)، لكنها تكتسب هنا أهمية قصوى نظرياً وتداولياً. فالإشكالية لا تزال قائمة. والحوار مع الخطاب الرشدي بصددها يقتضي الخروج عن الأطر المعرفية التقليدية والحوار مع ما هو متاح اليوم من مفاهيم ومصطلحات ومناهج وأطروحات من مختلف العلوم الإنسانية. بل إن الحوار يمكن أن يمتد إلى العلوم الطبيعية الدقيقة التي يمكن لبعضها أن يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التحيز ضد المرأة يعود إلى هيمنة تصورات عتيقة لا سند لها في خطابات الفكر والعلم والدين، تماماً كما توصل إليه ابن رشد منذ قرون. فالحوارية بهذا المعنى الفكري المتسع تعترف بمشروعية كل الآراء والمواقف ووجهات النظر من حيث المبدأ، لكنها لا تضعها في مرتبة واحدة حينما يتعلق الأمر بالحكم على القضايا والوقائع التي تمس وجود الإنسان وحقوقه ويفترض أن يفصل فيها القول وفق منطق العقل ومبادئ المساواة وقيم العدالة ومعايير المصالح المشتركة للأغلبية العظمى من الأفراد(41). ومن هذا المنظور لعل أهم درس يقدمه لنا ابن رشد هو أن تعديل صورة المرأة في الذهنيات وتفعيل دورها في علاقات العمل والإنتاج لا يتم من دون قطيعة جدية مع تلك التصورات الخرافية الأسطورية التي تنبه لها وحاول تفكيكها وبين تهافتها وسعى إلى تجاوزها بحسب ما كانت تتيحه له ولأمثاله شروط المعرفة والحياة في عصره.
عودة إلى الصورية:
يدرك الباحثون في مجال الصورية ـ Imagologie(42) أن الصور النمطية للمرأة، وللآخر المختلف عموماً، هي جزء من تصورات عتيقة عن الإنسان والكون تمتد جذورها بعيداً في المنظومات الثقافية التقليدية التي تشكل الوعي العام وتغذي المخيال الجماعي لدى غالبية الأفراد. وتفكيك الصور النمطية للإنسان في الخطابات الأدبية والفكرية والدينية هي ممارسة علمية ممكنة تماماً بالنسبة للباحث الفرد، وشرط معرفي ـ أبستمولوجي أساسي لوجاهة البحث، لكنها كانت ولا تزال ذات طابع إشكالي في المستويات الأخرى. ولإبراز أهم ملامح هذه الإشكالية يكفي أن نعود إلى معطيات الواقع حيث نتبين أفق العلاقة بين سلطة المعرفة التي ينتجها الباحثون والباحثات وقد تؤثر في شرائح متنوعة من المجتمع من جهة، وسلطة الإيديولوجيات السائدة والقوى التقليدية الممثلة لها والمدافعة عنها من جهة أخرى.
فمما لاشك فيه اليوم أن تلك العوامل المساندة الغائبة في عصر ابن رشد هي حاضرة في الواقع ومؤثرة بقوة في العلاقات الراهنة والتطلعات المستقبلية.
أعداد النساء المتعلمات الواعيات بذواتهن والمطالبات بحقوقهن تتزايد بانتظام مما يعني أن المرأة أصبحت فاعلاً أساسياً في مجال الثقافة وفي معظم مجالات العمل حتى في أكثر البيئات الاجتماعية محافظة وتحيزاً ضدها(43). ثم إن هذه النماذج الجديدة للمرأة الباحثة والأديبة والمعلمة والطبيبة والحقوقية والإعلامية وسيدة الأعمال.. الخ، هي جزء من فئات اجتماعية جديدة أصبحت تتبنى منطق الإصلاح وتنشد التغيير قولاً وعملاً لتحسين شروط عملها وحياتها وموتها. كذلك لابد أن الخطاب الكوني الراهن يحضر هو أيضاً كعامل مساند يضغط بقوة وبشكل متصل على كل الثقافات التقليدية التي لا تزال تقاوم الاندماج في عصرها وفق شروطه وليس بحسب تصوراتها العتيقة عن ذاتها وعالمها. وهنا لا عبرة بما يقال عن القوى التي تتحكم في خطاب كهذا وتوجهه لمصلحتها، لأن مختلف أشكال التمييز ضد المرأة أصبحت ممارسات غير مقبولة من جهة المنظمات المدنية والرسمية المعنية بحقوق الإنسان فرداً في العالم وعضواً في المجتمع وسيدة الأعمال.. الخ، هي جزء من فئات اجتماعية جديدة أصبحت تتبنى منطق الإصلاح وتنشد التغيير قولاً وعملاً لتحسين شروط عملها وحياتها وموتها. كذلك لابد أن الخطاب الكوني الراهن يحضر هو أيضاً كعامل مساند يضغط بقوة وبشكل متصل على كل الثقافات التقليدية التي لا تزال تقاوم الاندماج في عصرها وفق شروطه وليس بحسب تصوراتها العتيقة عن ذاتها وعالمها. وهنا لا عبرة بما يقال عن القوى التي تتحكم في خطاب كهذا وتوجهه لمصلحتها، لأن مختلف أشكال التمييز ضد المرأة أصبحت ممارسات غير مقبولة من جهة المنظمات المدنية والرسمية المعنية بحقوق الإنسان فرداً في العالم وعضواً في المجتمع ومواطناً في الدولة، وهذا ما تهمنا دلالاته في مقام البحث.
ومع كل هذه المعطيات الجديدة والإيجابية، ما إن نغير المنظور لنرى الوجه المقابل حتى ندرك أن الأبعاد الإشكالية للقضايا التي حللها ابن رشد لا تزال ماثلة، وبقوة، أمام الجميع اليوم وكأن النواة الصلبة للخطاب المعادي للمرأة لن تتفتت إلا بشكل تدريجي وعلى مدى زمني طويل. فالسلطات المهيمنة في أي مجتمع تقليدي عادة ما تمتلك من القدرات والوسائل ما يمكنها من التحكم في مجمل المؤسسات والخطابات. ومما يزيد من قدراتها على الهيمنة والسيطرة أنها كثيراً ما تجد بين النخب المتعلمة، ومن الجنسين، من يعينها على تحويل التراث المشترك إلى "إيديولوجيا خاصة" تكرس الأفكار والتصورات والانتماءات القديمة لتضفي المشروعية على ممارساتها كما لاحظه باحثون كثيرون، وقد حلله داريوش شايجان بعمق نادر(44). كذلك لا يخفى اليوم على الباحثين والباحثات أن الوضعية المتردية للمرأة هي جزء من وضعيات ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية لا أقل تردياً، مما يعني أن سيرورة التطور التاريخي العام ذاتها تفيدنا بأنه من المستبعد حدوث تغييرات جوهرية في وضعية دون الأخرى.
وفي كل الأحوال فإن كثيرين وكثيرات يدركون جيداً اليوم أن العمل المعرفي والميداني من أجل تعديل أو تغيير منظومات الأفكار والقيم والمعايير المتحيزة ضد المرأة هو من أهم واجباتهم المعرفية ومن صميم استحقاقاتهم الفردية والاجتماعية.
الباحث المقارن يعمل في هذا السياق العام ليقدم ما لديه من اجتهادات يفترض أن تختلف عن جهود غيره وإن تكاملت معها منطلقاً وغاية. فالصور النمطية كلها تؤدي وظائف متنوعة داخل شبكة معقدة من العلاقات والتفاعلات الرمزية والمادية. إنها في التحليل الأخير جزء من لغة تحمل وتنقل سلسلة لا تنتهي من الأفكار والقيم والمعايير التي تؤثر في قناعات الأفراد وتوجه سلوكياتهم بغض النظر عن مدى وعيهم بكونها صحيحة أو فاسدة، نافعة لهم أو ضارة بهم. كأننا نقول مع دانييل هنري باجو(45) أن ثبات الصور النمطية عن المرأة، وعن الآخر المختلف عموماً، هو مؤشر قوي على خلل عميق في اللغة الثقافية السائدة لابد أن ينعكس بصور شتى في علاقات الحياة اليومية وتفاعلات البشر. فصور كهذه عادة ما تتغذى على مرجعيات خرافية أسطورية تجافي منطق العقل ولا تساير منطق العلم ومنتوجاته المتجددة من عصر لعصر ومن مكان لآخر. ولغتها هي دائماً لغة فقيرة جامدة مثلها مثل التعبيرات المسكوكة في الحديث اليومي، ومثل التشبيهات والاستعارات المكرورة في النص الأدبي. والرسالة التي تحملها وتنقلها لغة كهذه هي رسالة أحادية أو منغلقة على دلالات مستنفذة لأنها معروفة سلفاً. أما وظيفتها العامة في أي خطاب يستعيدها ليكرسها فهي عدائية بك بساطة لأنها تختزل الكائن الإنساني في أشباح وأطياف وهمية لا تتطابق مع كينونته الغنية، ولا تحترم هويته كذات فردية عاقلة حرة كريمة، وقد تشل طاقاته الخلاقة كذات اجتماعية مؤهلة للفاعلية في الحياة وللتفاعل مع الآخر والغير كما أدركه جيداً ابن رشد.
بناء على هذا كله تفيدنا البحوث في هذا المجال بأمرين غاية في الأهمية. الأول منهما أن الصور النمطية للمرأة خطيرة على المجتمع كله لأنها تشوه الذات الإنسانية فيها بقدر ما تشوه وعي الرجل بذاته وتفسد علاقاته بغيره، بدءاً بأقرب الناس إليه، أي المرأة الأم والزوجة والبنت والأخت. أما الأمر الثاني فهو أن تحليل صور كهذه في الخطابات الأدبية المتخيلة لا يكفي إذ لابد أن يمتد، من حين لآخر، ليشمل الخطابات الفكرية والقانونية والسياسية الأكثر تأثيراً في الحياة وللتفاعل مع الآخر والغير كما أدركه جيداً ابن رشد.
بناء على هذا كله تفيدنا البحوث في هذا المجال بأمرين غاية في الأهمية. الأول منهما أن الصور النمطية للمرأة خطيرة على المجتمع كله لأنها تشوه الذات الإنسانية فيها بقدر ما تشوه وعي الرجل بذاته وتفسد علاقاته بغيره، بدءاً بأقرب الناس إليه، أي بالمرأة والزوجة والبنت والأخت. أما الأمر الثاني فهو أن تحليل صور كهذه في الخطابات الأدبية المتخيلة لا يكفي إذ لابد أن يمتد، من حين لآخر، ليشمل الخطابات الفكرية والقانونية والسياسية الأكثر تأثيراً في الحياة اليومية للبشر بما أنها هي التي تتحول إلى مرجعيات معتبرة للسلوكيات والعلاقات، وسواء كانت رسمية أو عرفية(46).
خاتمة البحث:
تكشف تلك الفقرة القصيرة أن ابن رشد لم يكن ليفرد لقضايا المرأة حيزاً واسعاً في كتاباته لأنها لم تكن مطروحة موضوعاً للجدل ضمن الخطاب الثقافي العارف في عصره ومن قبله. تلخيصه لكتاب أفلاطون في السياسة هو ما دفعه للتوقف عندها وتحليلها بإيجاز وعمق. لقد أدرك جيداً أن صورة المرأة ككائن إنساني حر عاقل مؤهل لكل الأعمال الذهنية والعملية لا تتطابق مع صورتها في الواقع حيث تهيمن تصورات تقليدية متحيزة ضدها بأكثر من معنى. كما أدرك أن تدني أحوالها وأحوال المجتمع من ثمة هو النتيجة المنطقية لهذه التصورات التي يتوهم الناس، غالبيتهم، أنها من قبيل البدهيات التي لا مجال للشك فيها، هذا إن لم يقال لهم أنها من قبيل المقدسات التي لا يجوز لأحد التشكيك فيها. الصورة إذن جزء عضوي في ثقافة عامة تختزل المرأة في صورة الزوجة، وتختزل هذه مرة في صورة الجارية التي يتمتع بها الرجل كما يشاء متى يشاء، ومرة في صورة الخادمة التي تؤمن له الراحة ليتفرغ هو لما يريد ويستطيع من الأعمال خارج المنزل، ومرة في صورة الآلة الوظيفية التي ينجب منها ما يؤمن استمرارية سلالته ويعزز مكانته في مجتمع ذكوري ليس للمرأة ـ الإنسان حضور فاعل في ثقافته وحياته. ومع أن المفكر كان منشغلاً بأطروحات نظرية تهدف إلى إصلاح الخطابات السائدة في أوساط النخب السياسية والدينية إلا أن أطروحته عن المرأة جزء متمم لأطروحاته في تلك المجالات. وعدم معاينتها من هذا المنظور، أو التعامل معها كمجرد آراء وأفكار عابرة، ربما كان دليلاً على "ذكورية" القراءات الراهنة نظراً للتعالق القوي فيما بينها، نظرياً وعملياً، ما لاحظنا. وإذا كان الحوار مع خطاب ابن رشد حول هذه القضية يهتدي بأطروحته العامة ويسعى إلى تفكيك هذه الصورة بهدف تجاوزها فإن منطق البحث ذاته يفضي بنا إلى القول بضرورة تفكيك وتجاوز الصور التقليدية التي تبالغ في تبجيل "الرجل" وتقدمه كما لو كان وحده "الإنسان الكامل". فهذه الصورة النمطية هي النقيض لصورة المرأة. وتضخم سلطاته رباً للأسرة، وزعيماً للعشيرة أو القبيلة، وشيخاً للمذهب أو للطريقة، وحاكماً للدولة متحكماً في مواطنين ينحطون إلى منزلة الرعية أو الرعاع، هو نتيجة لخلل في التصورات ذاتها!. أطروحة ابن رشد العامة تنبني على منطق عميق ينفي الصورتين معاً. فهما وجهان لعملة واحدة. ورفضه للجهالات والضلالات التي تولد علاقات التسلط وتبرر ما ينتج عنها من أشكال التراتب والتفاضل في مجال يعني رفضها في المجالات الأخرى كافة.
لعلنا لا نبالغ إذ نقول إنه كان نموذجاً للمفكر المسلم الذي أدرك جيداً أن إعادة بناء الوعي العام في ضوء منطق العقل ومبدأ المساواة وقيم العدالة هو الشرط الأساسي لتحسن ظروف الحياة والعمل في مختلف البنى الاجتماعية بدءاً ببنية الأسرة وانتهاء ببنية الدولة. ومما يدل على ريادة فكره وراهنيته أن خطابه يبدو كما لو كان يخاطبنا، من المنظور العقلاني ذاته وضمن الرؤية الإنسانية عينها، ليؤكد لنا وجاهة ما توصل إليه منذ ثمانية قرون. فالصور النمطية كلها يمكن أن تختفي تماماً من الفكر الذي يحتكم لمنطق العقل ويحترم منتوجاته بالأمس واليوم. وهي يمكن أن تحضر وتغيب في الخطاب الديني بحسب منطقات القراءات البشرية الدنيوية وغاياتها، وهذا مما نقرأه ونسمعه كل يوم. لكنها يمكن أن تظل حاضرة بقوة في الثقافة السائدة لدى أغلبية الناس ولفترة طويلة، لا بسبب الجهل فحسب، وإنما لأن هناك من لا يريد لهم أن يتجاوزوا ثقافتهم العتيقة، وكأن من شروط عمليات السيطرة والتحكم بقاء كل تصوراتهم الأسطورية الخرافية عن الذات والآخر والعالم والكون.. ولأطول فترة ممكنة!.
هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بمشاعية النساء عند أفلاطون. فالمؤكد أن ابن رشد لم يكن ليتبنى الفكرة وإن عرضها، من باب الأمانة العلمية، بعد هذه الفقرة مباشرة. ولم يكن ليتبناها لأنها غير منسجمة مع عقيدته وأخلاقيات مجتمعه، وهذا دليل آخر على أن أصالة فكره واستقلالية مواقفه مما يتعين علينا الإفادة منه اليوم وغداً لكي نتجنب الشطط في خطاب بعض الحركات النسوية المعاصرة.
(* ) أستاذ جامعي، وباحث سعودي.
(1) بين أيدينا نسخة الكتاب بعنوان: تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية) نقلة إلى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي. دار الطليعة، بيروت، 1998 (ط1). لكننا نفضل الإحالة إلى النسخة بعنوان: الضروري في السياسة ـ مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. نقله عن العبرية الدكتور احمد شحلان. مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة التراث الفلسفي. مؤلفات ابن رشد (4). بيروت 1998م (مقدمة تحليلية شاملة للجابري). ومن الجدير بالذكر أن الاختلاف في عنوان الكتاب لا يزال قائماً ما بينه الباحث جمال الدين العلوي في كتابه "المتن الرشدي". دار توبقال. الدار البيضاء. 1986 ص 16.
(2) محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001 (ط1). وقد اعتمدنا على الفقرة ص 387 ـ 388 لأنها بدت لنا أكثر دقة وتنظيماً من جهة، وأكثر قرباً من لغة ابن رشد وأسلوب كتابته من جهة أخرى (منقولة عن ترجمة شحلان، ص 124 وما بعدها).
(3) مفهوم "العلم العملي" في نظرية المعرفة الكلاسيكية يقابل مفهومي "العلم النظري" و"العلم الإلهي"، ويذهب الجابري إلى أن ابن رشد مؤسس حقيقي لهذا العلم في التراث العربي. مقدمة "الضروري في السياسة (مرجع سابق) ص 33..
(4) حاور الجابري المشروع الرشدي منذ أطروحته عنه عام 1978م وفي كثير من كتبه اللاحقة وذلك لبلورة أفكاره وتفعيلها من جديد، وليس صدفة أنه هو المشرف على نشر مؤلفاته ضمن المشروع ذاته، وهناك آخرون تبنوه معه وخاصة في المغرب.
(5) البحث مقبول للنشر في مجلة محكمة، وليس من اللائق في اعتقادنا تجاوز هذه الإشارة العابرة إليه حتى يتم تداوله.
(6) هذا هو البحث الأول في سلسلة تتجه في المسار ذاته، وهو معد للنشر في مجلة محكمة ولذا نكتفي بما قلناه آنفاً عن البحث السابق.
(7) العروي، عبد الله، مفهوم العقل. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 1996م.
(8) المرنيسي، فاطمة. وآخرون. صور نسائية. ترجمت جورجيت قسطون. دمشق (دار النشر وتاريخه غير مذكورين). دراسة فاطمة الزهراء ص 167 وما بعدها.
(9) كل كتابت فوكو، وكتابات إ سعيد بعد "الاستشراق"، وكتابات تودوروف ما بعدها البنيوية (خاصة: نحن والآخرون، وفتح أمريكا) تركز على هذه القضايا، وهي غيض من فيض لأن الفكر الغربي الحديث أصبح منشغلا بها في العقود الأخيرة وكأننا أمام رد فعل عام على فظائع الحروب التي ارتكبها القوى الاستعمارية ضد الآخرين ثم ضد شعوبها لاحقاً كما نعلم.
(10) أصبحت قضايا الآخر المختلف مطروحة بجدية وانتظام في السياق العربي الراهن، وكموضوع لكثير من التخصصات، ومنها الدراسات المقارنة طبعاً. أنظر على سبيل المثال الكتاب الجماعي الهام: صورة الآخر، العربي ناظراً ومنظوراً إليه. تحرير الطاهر لبيب. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1999م خاصة القسم الخامس "داخل الحدود" ص 651 وما بعدها.
(11) وردت آراء الفيلسوف ضمن كتاب أصدرته جريدة لوموند الفرنسية ضمن مطبوعاتها السنوية للعام 1987 وتضمن سلسلة حوارات مع أبرز المفكرين المعاصرين. وهذا المفكر يلح على ضرورة العودة إلى ما يسميه "الحقائق البسيطة الدائمة" التي أهملتها فلسفات اللغة وموت الإنسان من بنيوية وتفكيكية وغيرها، وهذه نزعة قوية اليوم في عموم أوروبا. انظر بالفرنسية:
Entertien avec Le monde. Philosophies. La decouverte. Paris. 1984. p 75.
(12) يدرك الباحثون جيداً أن المجتمع الذكوري يوزع النشاطات على الجنسين بحسب منطقه الخاص ثم يحول تسويغها وعقلنتها من منظورات ثقافية لا أساس لها سيكولوجياً أو بيولوجياً، أي أنها إيديولوجياً فحسب. انظر: فاطمة المرنيسي. ما وراء الحجاب (ترجمة أحمد صالح) حوران للنشر. دمشق 1970م. ص 110 وما بعدها.
(13) رغم أن فلاسفة مسلمين معتبرين ألفوا رسائل في الموسيقى إلا أن هناك من لا يزال يجادل في كونها حلالاً، ولهذا نقول إن المثل مهم لدلالته على تفتح ذهن ابن رشد وجرأة موقفه حينما ختم الفقرة بتقبل فكرة أن تربى المرأة من الحفظة ـ عسكر الحراسة ـ على الموسيقى والرياضة كالرجال: الضروري.. (م. س) ص 126.
(14) هذه الدلالة ذات البعد الإنساني قد تتصل برؤية ابن رشد الدينية لكنها تظل منسجمة تماماً مع نزعته العقلانية لأن منطق العقل ما إن يتصل بمبدأ العدل حتى تتولد في الخطاب، وهذا ما يميز عقلانية عن أخرى.
(15) نعتبر هذه ذروة الأطروحة في المستوى النظري العام لأنه لم يسبق لأحد من الفقهاء المعتبرين قبل أن رشد أن قال بهذا الرأي وأصله على هذا النحو، ولسنا نعرف أحداً منهم اليوم، ومن أي مذهب، يجهر برأي جريء كهذا. أما إفلاطون فلم يكن يعلي من شأن المرأة ولذا يتجاوزه ابن رشد أيضاً بقول كهذا.
(16) نستعمل مفهوم الإيديولوجيا هنا بمعنييه العام (تصورات الثقافة العامة في مجتمع ما) والخاص (خطاب سياسي لجماعة محددة تنافس غيرها على السلطة) ونزعم أن العروي أهم من اشتغل على المفهوم في كتابه: الأيديولوجيا. المركز الثقافي العربي. بيروت/الدار البيضاء، 1999 (ط 6).
(17) مقدمة الضروري في السياسة، م. س، ص 27.
(18) من المعروف أن ابن رشد ينفي "الإجماع" كمصدر للتشريع لأنه غير ممكن بكل بساطة، وهذه نظرة واقعية وعقلانية، ثم إن التاريخ القديم والحديث عرف نساء تولين رئاسة دول إسلامية كبيرة كمصر وباكستان وبنغلادش وإندونيسيا مما يدل على وجاهة رأيه أيضاً.
(19) تقصي الآراء الجزئية عن المرأة في كتب ابن رشد لاشك أنه مهم لمقارنتها مع غيرها في السياق الفقهي، لكنه ليس مهماً في سياق تحليل أطروحة فكرية عامة كهذه.
(20)اختلف الباحثون حول مدلول هذه العبارة الرشدية لكننا ممن يفهمها على النحو "العقلاني" الذي بينه الجابري وليس كما يفهمها محمد عمارة وآخرون من ممثلي التيارات الدينية التوفيقية اليوم.
(21) كثيرة هي الدراسات التي تزعم أن الإسلام كفل للمرأة كامل حقوقها، لكن هذه قضية مثيرة للجدل لأن تحويل المبادئ العامة إلى تشريعات عملية لصالح المرأة لم يتحقق في الماضي ولكي يتحقق اليوم لابد من تظافر السلطتين السياسية والدينية كما حدث في تونس ثم في المغرب.
(22) نزعم أن ابن رشد أول من تنبه إلى خطورة تأويل النصوص الدينية للحجر على المرأة داخل المنزل وحرمانها من خوض تجارب التعلم والعمل لأن المجتمع كله يدفع الثمن فقراً معرفياً ومادياً ما يبينه في هذه الفقرة.
(23) هذا موضوع تقصاه كثير من الباحثين والباحثات، وما كتبته جيرمين تيون في (الحريم والأعمام) حول وضعية المرأة في الثقافات المتوسطية مهم جداً، ونحيل بالعربية إلى كتاب الغذامي: (المرأة واللغة). المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، 1996.
(24) صورة المرأة الجارية أو الأمة المملوكة للرجل شائعة في تراثنا وقد حللها كثيرون، منهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وفاطمة المرنيسي وسواهم، ولا غرابة أن تسمى البنت "جارية" إلى اليوم في الخطاب الفقهي التقليدي. بل إن المفارقة تبلغ ذورتها حينما نعلم أن الجارية كانت تتمتع أحياناً بحريات وفرص تعلم وحياة تحلم بها الحرة لأنها قد توصلها إلى ذروة الهرم الاجتماعي!.
(25) المرأة التقليدية عادة ما تتبنى قيم الذكورة في الخطاب السائدة كالرجل تماماً لأن الجميع يحسبونها بدهيات أو مقدسات وهذه ظاهرة موجودة في ثقافات كثرة. انظر: الرجولة المتخيلة. إعداد مي غصوب. دار الساقي. لندن، 2002م. ولإدراك مدى شيوع هذه القيم حتى في الخطاب العلمي الحديث انظر كذلك: أنثوية العلم. د. ليندا جين شيفرد (ترجمة د. يمنى الخولي) عالم المعرفة، الكويت، 2004.
(26) تشبيه المرأة بالنبات هو دليل خطير على مدى الاستلاب العام للذات الإنسانية الفردية فيها وتدني ثقافة المجتمع ككل. أما تشبيه الغزالي للمرأة بالخنزيرة والكلبة والعقربة والحية.. الخ فهو دليل احتقار لها وتحذير منها وتحريض على المزيد من العداء نحوها ومن هنا يختلف المنطقان ويتعارضان كلياً.
(27) لا تزال هذه اللغة الرعوية شائعة في الخطاب السياسي التقليدي بشقيه الديني والدنيوي، وهذا ليس له علاقة بالحديث الشهير [كلكم راع..] لأن دلالاته من العمومية والانفتاح بحيث تشمل كل العلاقات ويمكن أن تتجه عند ابن رشد وأمثاله إلى معاني التشارك في المسؤوليات والحقوق في المقام الأول.
(28) مقدمة الضروري في السياسة (م.س) ص 25. ومن الجدير بالذكر أن نظرية "العصبية" التي تتحكم في بنية الدولة الإسلامية بحسب ابن خلدون تظل نظرية ذكورية لأن المرأة لا مقام لها في العصبيتين القبلية والدينية إلا تابعاً أو موضوعاً للحماية وللتبادل ضمن دائرة قرابية يفضل أن تكون ضيقة.
(29) تفضيل بقاء المرأة في البيت ليس دائماً بهدف التربية والعناية بالأسرة كما ذهب إليه كثيرون، ومنهم رائد الفكر الليبرالي ستيورات مل، بل هو خوف الفتنة منها وعليها، ولذا يأخذ معنى الحجر والتملك.
(30) الحقيقة أن الغزايل لا يكتب عن المرأة إلا ويشوه صورتها بكل الصيغ الغزالي والأخطر من ذلك أنه يؤول آيات وأحاديث كثيرة لتبرير التحيزات ضد المرأة مثله مثل كل الفقهاء التقليديين الذين يذهبون إلى أن "المرأة ناقصة عقل ودين" وقد خالفهم ابن حزن وابن رشد في هذا الاتجاه، لكن دونما تأثير يذكر لخطاباتهم العقلانية المفعمة بالمعاني الإنسانية بالأمس واليوم.
(31) كثيرون هم الذين يربطون الوضع الاقتصادي المتردي للمجتمعات بالوضعيات الثقافية، وليس من الصدفة أن يقال إن "مجتمعات المعرفة" هي الأكثر غنى وتقدماً في مختلف المجالات اليوم. انظر مثلاً: في بناء الإنسان العربي. حامد عمار. دار المعرفة الجامعية. إسكندرية، 1988. أما هذه الوضعية الكئيبة للمجتمع الأندلسي كما يصفه ابن رشد فقد تكون أكثر دقة وواقعية من تلك الصور الأدبية التي تقدم لنا مجتمعاً ثرياً متفتحاً، لعله خاص بالطبقات الأرستقراطية الثرية التي كان الأدباء يرتادون مجالسها. ودليلنا على ذلك أنها أقرب إلى واقع الحال في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم.
(32) معظم الفلاسفة الجادين في تاريخنا كانوا يقدمون المرجعية الفلسفية على غيرها عند النظر في قضايا الإنسان والطبيعة والعالم، لكن ابن رشد هو الأكثر جرأة وتماسكاً في الطرح كما نلاحظ ولاحظه كثيرون قبلنا.
(33) المرأة هي مضطهدة المضطهدين كما قال عنها ماركس، لأنها الأكثر ضعفاً في العلاقات الرمزية والمادية السائدة في أي مجتمع كوري.
(34) لا عبرة هنا بوجود بعض الأديبات والمعلمات والمثقفات في بعض المدن لأن المرأة ظلت غائبة عن المجال الثقافي إلى عهد قريب، وفي مختلف المجتمعات التقليدية، ولعل الوضعية هذه لم تبدأ في التغير الجدي إلا منذ النصف الثاني من القرن العشرين كما نعلم.
(35)التصدي للرجل حاكماً وفقيهاً ورباً للأسرة يعني التصدي لكل السلطات القمعية المهيمنة في المجتمع، ومن هنا خطورته كممارسة معرفية وكموقف أخلاقي. للمزيد من التفاصيل عن الموضوع أنظر الكتاب المتميز حقاً لعبد الله حموده: الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد المجيد جحفه. دار توبقال. الدار البيضاء، 2000م.
(36) هذه الحوافز والمقاصد هي في حكم البدهيات، وخاصة في خطاب الفكر السياسي، أنظر الجابري: مقدم الضروري في السياسة (م. س).
(37) أنظر للباحث كتابه: التفكيلا والهجرة. دار الطليعة. بيروت 1970 م، ص 34 وما بعدها. وكذلك البحث الهام بعنوان: وضع المرأة في الدساتير العربية. ص 205 وما بعدها من الكتاب ذاته.
(38) نستعمل هنا مفاهيم نقدية من نظريات القراءة تميز بين صور القراء في ذهن منشئ النص، أي نص. ولعله من البدهي القول بأن سلطات بعض النماذج من القراء تتزايد في المجتمعات القمعية، وقد تتحول إلى عائق كبير أمام حريات التفكير والتخيل والتعبير، والأخبار الكثيرة عن محاكمات الكتاب ومنع كتبهم واغتيال بعضهم دليل على ذلك.
(39) ألقي البحث في إطار ندوة عن ابن رشد عقدت في القاهرة من 11 إلى 14 مايو، 2002م، وستنشر موادها في كتاب.
(40) الحوارية عند باختين ذات مرجعية فلسفية في العمق وإن تجلت كظاهرة أدبية بارزة في روايات دستويفسكي، وقد بينا ذلك في دراسات سابقة.
(41)الصورية فرع حديث نسبياً من الدراسات المقارنة أنجزنا في إطارها بحث الدكتوراة عن "صورة الغرب في الرواية العربية المعاصرة". السوربون الثالثة، 1989م. (سعيد علوش يستعمل مصطلح "الصورولوجية"وهي كلمة نفضل عدم استعمالها لثقلها وعجمتها).
(42) المجتمع في السعودية مثلاً هو من أكثر المجتمعات محافظة وتشدداً تجاه المرأة ومع ذلك ينتشر فيه تعليم المرأة بكثافة، ومجالات عملها تتسع بانتظام. للمزيد من المعلومات حول القضية انظر لفطمة المرنيسي: ما وراء الحجاب (م. س) ص 32 وما بعدها.
(43) تحويل الدين إلى إيديولوجيا مذهبية ظاهرة متصلة على مدى تاريخنا بعد الخلافة الراشدة، وهو دليل على ضعف الفكر السياسي في الثقافة العربية والإسلامية عموماً. أنظر للمفكر الإيراني داريوش شايجان كتابه المهم: ما الثورة الدينية. (ترجمة وتقديم محمد الرحموني) دار الساقي. لندن 2004م.
انظر بالفرنسية: L,imagerie culturelle. Bucarest. 1981. وقد ترجمنا البحث بإذن من الباحث ونشرناه مع مقابلة مطولة معه في مجلة "دراسات شرقية" التي كرسنا عدديها 1 ـ 2 لقضايا الآخر المختلف. دار الفابيتا. باريس 1985م. وقد استكملها الباحث بدراسة عنوانها: "من الصورة إلى التصور" نشرت في كتاب جماعي بعنوان: تدقيقات في الأدب .