لا يخفى على أحدٍ أن جزءاً كبيراً من النصّ يسقط منه حالما نفرّغه من رؤوسنا فوق أوراقنا، وأن جزءاً آخر منه يسقط حالما يُترجم، وجزءاً آخر يختفي حين يترجَم إلى لغةٍ ثالثةٍ وهكذا..
ومع هذا الفقدان المستمرّ لعناصر النصّ تبرز أمام القارئ الحصيف مهمّةٌ ليست سهلةً، وهي محاولة إعادة ترميم النصّ واستكمال ما فقده، وممارسة ما يمكن أن أسمّيه بعمليّة "استحضار الغائب واستبعاد الحاضر" من أجل الإمساك بالبعد المفقود منه.
ويتحكّم بنا أثناء عمليّة القراءة ذاكرتنا اللغويّة والثقافيّة الجاهزة، بما تراكم فيها من سبائك تعبيريّةٍ تقليديّةٍ اعتدنا قراءتها أو كتابتها، وأضحت جزءاً عضوياً من بناء شخصيّتنا اللغويّة. وسنجد أنّ من الصعب علينا أن نتخلّى عن هذه الوحدات أو السبائك التي توارثناها لأجيالٍ عديدة، أو ربّما لجيلٍ واحدٍ أو جيلين لا أكثر. وبدون التخلّص من هيمنة هذه السبائك على ذاكرتنا لن نكون قادرين على تحكيم أنفسنا فيما نقرأ، والخروجِ بأحكامٍ عادلةٍ على الكاتب والنص.
وأقصد بالوحدات أو السبائك التعبيريّة الجاهزة تلك التي وُلدنا ونحن نسمعها في أحضان أمّهاتنا، فبتنا لانرى فيها أكثر من بُعدٍ واحد، فلا تثير فينا، مثلاً، غرابةً أو استهجاناً، حتى إن كان فيها ما يدعو إلى ذلك حقاً، فالألفة قد قتلت عندنا القدرة على قراءة البعد الخفيّ فيها والذي لا يراه عادةً إلاّ الآخرون ممّن لم يقعوا في أسْر هذه الألفة.
ونلمس ذلك في أمثلةٍ بسيطةٍ من وقائع حياتنا اليوميّة. فلا يوجد شاميٌّ يستغرب أن يسمع من أمّه الكلمة المحبّبة التي تدلّل بها أمّهات الشام أطفالها (انشالله تقبرني). فقط عندما يسمعها مصريُّ أو خليجيٌّ أو مغاربيٌّ ينتفض استهجاناً واحتجاجاً على هذا الدعاء العجيب الذي تدعو به الأمّ على نفسها، حتى إن كانت تتمنّى به لولدها طول العمر بحيث يتاح له أن يدفنها بنفسه؛ وأنا شخصيّاً لم أتنبّه إلى ما في هذا التعبير من قسوةٍ وغرابة، بل لم أحاول ربط اللفظ (تقبرني) مطلقاً بالمعنى الأصليّ والحقيقيّ لهذا الفعل وهو الدفن، حتى نبّهني، وقد تجاوزت الثلاثين، زميلٌ لي من مصر: ما هذا التعبير الغريب الذي تستعمله الأمّهات عندكم في الشام؟!
وللسبب نفسه لا يستغرب الأطفال العرب وهم يسمعون هذه النهاية التقليديّة للشرّير في حكاية جدّتهم الشعبيّة: "فقبضوا عليه واقتادوه إلى الملك وقطع رأسه جزاء عمله، وعاشوا بعد ذلك في سبات ونبات، وتوته توته وانتهت الحتّوته" وهيّا إلى النوم. طبعاً سينام الطفل العربيّ بعد هذه النتيجة المرعبة بسهولة لأنه اعتاد تلك النهاية النموذجيّة للشرّير في حكاياتنا وقد أصبحت لا تكاد تختلف عنده عن النهاية السعيدة في حكاياتٍ أخرى: "وتزوّج الأمير عروسه الحسناء، وأقيمت الأفراح والليالي الملاح، وعاشوا (هم أيضاَ) في سبات ونبات، وتوته توته..".
ولكنّ الطفل الغربيّ لن يغمض له جفنٌ لو ردّدنا على مسمعه هذه النهاية القاسية للشرّير، ليس لأنّه أرقّ في مشاعره أو أرهف في أحاسيسه من طفلنا، وإنما، ببساطة، لأنّه لم يعتد سماع ذلك النوع من النهايات التعيسة في حكايا جدّته ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين.
ولا يقتصر الأمر على الوحدات الفكريّة، بل يتعدّاها إلى البناء اللغويّ نفسه. فإذا اعتدنا أن نقول: لمْ يَدُرْ في خَلَدي، أو أن نقول: خالي الذهن، فلن نستسيغ ممّن أراد أن يتمرّد على تقاليدنا اللغويّة، ولا أقول (قواعدنا) فالفرق خطيرٌ بين القواعد والتقاليد، أن يقوم ببعض المناورة اللغويّة على حساب البناء التقليديّ لهذه السبائك، فيُحدِث بعض التبادل بين العبارتين ليقول: لم يَدُرْ في ذهني، ويقول: خالي الخَلَد، بل ربّما اتّهمناه بالجهل بتقاليد اللغة العربيّة وأعرافها.
إنّ أيّ تغييرٍ في أعرافنا اللغويّة والفكريّة والاجتماعيّة والتربويّة سيُواجَه بمقاومةٍ واستهجانٍ من مجتمعنا، والأهمّ من هذا أنّنا لن نكون قادرين على اكتشاف أخطائنا في هذه الأعراف إلاّ إذا نظرنا إليها في مرآة الأخرين، وبعيونهم لا بعيوننا.
عندما أوفدتني جامعتي في سورية إلى بكّين عام 1979 لتدريس الشعر العربيّ لأساتذة أقسام اللغة العربيّة في الجامعات الصينيّة، أذكر أنّني درّست هناك نصّا لحاتم الطائي يفتخر فيه بكرمه، فماذا كان تعليق الطلبة عليه؟ قالت لي إحداهنّ: لا بدّ أنّ هذا الشاعر مجنون، فكيف يمكن لإنسانٍ أن يتحدّث بهذا الشكل عن نفسه لو لم يكن مجنوناً!! كان تعليقاً مخيّباً لآمالي ولذاكرتي الأدبيّة والقوميّة، ولم أجد ما أدافع به عنه، وعن تراثي، إلاّ أن أقول: فضلاً عن أن الشاعر ينتمي إلى حضارةٍ غير حضارتكم، تذكّروا أنّه عاش أيضاً في زمنٍ غير زمنكم وبيئةٍ صحراويّةٍ غير بيئتكم حيث كان الكرم والنجدة وحسن الضيافة، وكذلك الدعوة إلى نشر هذه المُثُل، عناصر أساسيّةً لاستمرار الحياة.
ولكنني في مناسبةٍ أخرى وجدتني عاجزاً تماماً عن الدفاع عن نفسي وعن شخصيّتي وهويّتي، حين حدث أن قالت لي مترجمتي الصينيّة: أنتم - الغربيّين - تختلفون عنّا نحن الشرقيين. والتفتّ إليها بنظرة احتجاجٍ:
- نحن الغربيّون؟! إنّني شرقيٌّ ومسلِم!
- أنْ تكون مسلماً لا يعني أنّك شرقيّ..
- ولكنّني من سورية، وهي بلدٌ شرقيّ!
- لقد رأيتك تأكل بالشوكة والسكّين، فهل هذه تقاليد شرقيّةٌ أم غربيّة؟
- وهل عليّ أن آكل بالعصاتين الصينيّيتين الصغيرتين حتى أكون شرقيّاً؟!
- إنّك على أيّة حالٍ تشبه الأوروبّيين ولا أكاد أميّزك عن أيّ بريطانيٍّ أو فرنسيّ..
- وهل عليّ أن أمتلك أنفاً وعينين صينيّيتين حتى يُعترف بشرقيّتي؟!
- ولكنّك تلبس مثلهم أيضاً: بزّتك، قميصك، ربطة عنقك...
- إنها مجرّد ثياب، واللباس ليس كلّ شيء..
- حسناً، وهل يختلف بناء منزلك في سورية، وترتيب غرفك، وطبيعة أثاثك، عن أيّ منزلٍ في الغرب؟
- مرّةً أخرى أنت تتحدّثين عن المظاهر، المهمّ هو الداخل، كيف أفكّر – وأشرت إلى دماغي – وليس ماذا ألبس..
- (وهي تفكّر) حسناً، أين درست؟
- (شاعراً بنشوة الظَفَر) حصلت على الإجازة من جامعة دمشق وعلى الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة..
- ومن كان أهمّ الأساتذة الذين درّسوك في هذه الجامعات؟
- (ورحت أعدّ لها أسماء من تذكّرت منهم)..
- والآن، أخبِرني من أين حصل هؤلاء على شهاداتهم العليا؟
- (ولأوّل مرّة أشعر بأن البساط قد بدأ ينسحب من تحت قدميّ وأنا أقول لها): فلانٌ وفلانٌ من باريس، وفلانٌ وفلانٌ وفلانٌ من لندن، وفلانٌ من ألمانيا، وفلان...
- (بخبث) حسْبُك، هذا يكفيني...
للمرّة الأولى في حياتي أكتشف، وأنا أنظر إلى نفسي في مرآة هذه السيّدة الصينيّة، أنني لست أنا، وأنّ غربيّاً ينازعني نفسي ويعيش معي في لباسي، ويكاد يحتلّ غرفة نومي وينام معي في فراشي.
هذه المواجهات تُعدّ تجارب حسّيةً مبسّطةً لعمليّة استحضار الغائب واستبعاد الحاضر. فبدلاً من الكدّ في اعتصار أذهاننا ونزع أنفسنا من حذائنا ووضعِها في حذاء الآخر – كما يقول الإنجليز – لكي نرى أنفسنا بعيون ذلك الآخر، ها نحن مع الآخر وجهاً لوجه، نرى أنفسنا في مرآته، ونكتشف من خلاله ما لم نعرفه عن أنفسنا من قبل، فالمبدأ النبويّ الكريم "المؤمن مرآة أخيه" غدا اليوم أكثر شمولاً وإحاطة، ليكون: الحضارة مرآةٌ لأختها، وشعوب العالم، في هذه القرية الكونيّة الواحدة، مرآةٌ بعضها لبعض.
هذا في البعد المكانيّ، فماذا حول البعد الزمانيّ؟ هل استطعنا أن نقرأ أجدادنا العرب القدماء، فاستحضرنا غائبهم واستبعدنا حاضرنا، بحيث استرجعنا البعد المفقود بيننا وبينهم، وأقَمْناه جسراً يوصلنا إليهم، بحيث نجلس إليهم ونسمعهم كما لو كنّا نعيش معهم في عصرهم وبيئتهم وثقافتهم؟
لقد فقد كثيرٌ من النصوص القديمة جزءاً هامّاً من قيمته وجماله لأنّنا أسقطنا من حساباتنا ونحن نقرأه ذلك البعد المفقود الذي لم نحاول استعادته عن طريق استحضار الغائب.
ولعلّ أبرز عنصرٍ من عناصر هذا البُعد، في النصّ المكتوب خاصّةً، هو الإلقاء، لأنّه الجزء الهامّ من النص الذي لا يمكن أن يُكتب أو يُسمع، حتى ما قبل ظهور آلة التسجيل الصوتيّ على الأقلّ، مع عدم إغفال العناصر الأخرى لهذا البعد، كاستحضار البيئة والثقافة والعقائد والعادات المحليّة، وغيرها.
وقد التبس علينا فهمُ كثيرٍ من النصوص التراثيّة، الشعريّة والنثريّة، بسبب إهمالنا لهذا العنصر. ورغم اعترافنا بأنّ استحضارنا لعنصر الإلقاء لا يمكن أن يكون تامّاً وصحيحاً مئةً بالمئة، إذ لا يمكن للخيال البشريّ أن يستحضر صورةً غيبيّةً كما يمكن أن تصوّرها عدسةٌ سينمائيّة، ولكنّ عناصر اللغة والموضوع والفكرة، فضلاً عن معرفتنا بشخصيّة الشاعر أو الكاتب نفسه، وما كان يحيط بها من عوامل اجتماعيةٍ وثقافيةٍ وبيئيّة، كلّ ذلك سيمكّننا من تصوّر شكلٍ تقريبيّ لهذا العنصر المفقود.
ولنقرأ معاً مطلع المتنبّي الذي افتتح به داليّته المشهورة في هجاء كافور:
عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ
رغم أنّ البيت هو مطلع واحدةٍ من أشهر قصائد هذا الشاعر العملاق فإنّ الشرّاح أخفقوا في الإمساك ببُعد الإلقاء، فانفلتت من بين أصابعهم عناصر الجمال الحقيقيّة في البيت. وقد حاولتُ الإمساك بهذه العناصر، أو بعضها، في كتابي (الواقعيّة الإسلاميّة في الأدب والنقد) حين قلت:
"شرّاح الديوان جميعاً يصرّون على أنّ المتنبّي يخاطب العيد في الموضعين (عيدٌ) و (يا عيدُ)، أي إنّ التقدير في الأولى (يا عيدُ) أو (أنت عيدٌ) على أنّ الجملة في الحالين ابتدائيّةٌ لا محلّ لها من الإعراب.
إنّ روح الإعراب تنبئنا بالفاصل المعنويّ الكبير بين الجملة ذات المحلّ عامّةً والجملة غير ذات المحلّ. فالأولى حركةٌ وحياةٌ وتوثّبٌ وعطاء، والثانية توقّفٌ وترصّدٌ وانتظارٌ وإعداد، ولا سيّما إذا كانت إخباريّةً غير طلبيّة؛ الجملة الابتدائيّة الإخباريّة مثلاً تهيّئنا للمعنى القادم الذي به تتحقّق الحركة، فإن قدّمت لنا هي بنفسها المعنى كاملاً، بدون انتظار الجملة ذات المحلّ لتقوم بذلك الدور، كانت جملةً جامدةً حجريّةً على الأغلب، تتوقّف عند اللحظة التي عبّرت عنها فلا تتجاوزها إلى المستقبل أو حتى إلى الماضي.
هذا الجمود القاتل يسربل مطلع قصيدة المتنبّي، تُرى أيليق هذا العيب البيانيّ الظاهر في مطلع القصيدة بمكانتها الرفيعة في ديوان الشعر العربيّ؟
إنّنا لا نتبيّن هذا الإخفاق إلاّ حين نعدّ جملة (أنت عيدٌ) إخباريّةً ابتدائيةً لا محلّ لها من الإعراب. فلو تخيّلنا المتنبّي يُنشد مطلعه هذا، أتراه يسمّر رأسه وجسده باتجاهٍ واحدٍ وكأنّما صُبّا في قالبٍ من قطعةٍٍ واحدة، وهو يردّد بصوتٍ رتيبٍ ذي نغمةٍ ممتدّةٍ متّصلةٍ سقيمةٍ تذكّرنا باللهجة الإنشاديّة الجماعيّة لتلاميذ الكتاتيب: عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيدُ؟
لا يمكن لناقدٍ وعَى الأبعاد الأربعة للشعر(اللغة والفكر والخيال والإلقاء) أن يتصوّر المتنبّي في هذه الصورة المُزريَة وهو يُنشد البيت؛ إنّني أتخيّله وقد وقف يسائل نفسه بدايةً، وهو يهزّ برأسه ساخراً متألّماً: أهذا عيدٌ، أيقولون إنّه العيد؟! ثمّ يحوّل حركة رأسه المتألّمة من الاتجاه الرأسيّ إلى الاتجاه الأفقيّ، مع تحوّله من التساؤل المتألّم إلى الإجابة الساخرة المتألّمة أيضاً: يا للسخرية.. أيّ عيدٍ هذا الذي يأتي والمصائبُ تنهال على رأسي لم تتراجع ولم تخفّ؟! تُرى أيُعقَل أن يحمل هذا العيد إليّ جديداً يُنسيني الماضي؟ ما أبعد هذا عن التحقيق..
(عيدٌ) في بداية المطلع ليست مجرّد جملةٍ خبريّةٍ ابتدائيّةٍ صلدة لا محلّ لها من الإعراب تقوم على مجرّد مبتدأ محذوفٍ وخبرٍ مذكور؛ إنّها أوّلاً ـ في علم المعاني ـ جملةٌ إنشائيّةٌ استفهاميّةٌ تبعث الحركة التساؤليّة الفاعلة في بداية القصيدة، وهو أمرٌ لا يمكن أن توفّره لنا الجملة الخبريّة، وهي، بعد ذلك، جملةٌ لها كيانها المعنويّ إعرابيّاً، لأنّها في تقديرنا مَقُولٌ لقولٍ محذوف: أيقولون: هذا عيدٌ؟.. وهذا يمنح المطلع، أو مطلع المطلع، اتجاهاً آخر قادراً على أن يحرّكنا منذ البداية، فلا يدعنا نستسلم لكسل الأسلوب الإخباريّ وجفاف الجمل الجوفاء التي لا تسدّ أيّ مسدّ معنويٍّ أو إعرابيّ.
إنّ عمليّة "التخيّل" ـ وهي ليست سهلةً وليست أمينةً تماماً ـ ضروريّةٌ جداً لاكتشاف البعد الرابع للأدب، وهو البعد الوحيد القادر على إلقاء أضواءٍ كاشفةٍ ملوّنةٍ على الأبعاد الثلاثة الأخرى، بحيث يستطيع تغيير طبيعتها الظاهرة للعيان ليكشف لنا عن كثيرٍ من خفاياها الباطنة، العصيّة على إدراكاتنا الحسّية العاديّة."(2)
وهكذا يتحتّم علينا ونحن نقرأ تراثنا ببعده المكتوب أن نضيف إليه البعدين: المسموع والمنظور، لنتمكّن من قراءته بأبعاده الكاملة، ونفهمه بأكبر قدرٍ من الشفافية، ونصل إلى أقرب نقطةٍ ممكنة من صورته الأصليّة الحقيقيّة.
وبدهيٌّ أن تؤدّي القراءة القاصرة للتراث إلى فهمٍ قاصرٍ له، ومن ثمّ إلى تشويهٍ في علاقتنا معه قد ينعكس على علاقتنا مع حاضرنا ومستقبلنا، وهو أخطر ما نواجهه ونسعى إلى التحذير منه ونحن نتطلّع إلى إقامة حوارٍ معافىً مع الحضارات في القرن الحادي والعشرين.
ولكنّ الطفل الغربيّ لن يغمض له جفنٌ لو ردّدنا على مسمعه هذه النهاية القاسية للشرّير، ليس لأنّه أرقّ في مشاعره أو أرهف في أحاسيسه من طفلنا، وإنما، ببساطة، لأنّه لم يعتد سماع ذلك النوع من النهايات التعيسة في حكايا جدّته ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين.
ولا يقتصر الأمر على الوحدات الفكريّة، بل يتعدّاها إلى البناء اللغويّ نفسه. فإذا اعتدنا أن نقول: لمْ يَدُرْ في خَلَدي، أو أن نقول: خالي الذهن، فلن نستسيغ ممّن أراد أن يتمرّد على تقاليدنا اللغويّة، ولا أقول (قواعدنا) فالفرق خطيرٌ بين القواعد والتقاليد، أن يقوم ببعض المناورة اللغويّة على حساب البناء التقليديّ لهذه السبائك، فيُحدِث بعض التبادل بين العبارتين ليقول: لم يَدُرْ في ذهني، ويقول: خالي الخَلَد، بل ربّما اتّهمناه بالجهل بتقاليد اللغة العربيّة وأعرافها.
إنّ أيّ تغييرٍ في أعرافنا اللغويّة والفكريّة والاجتماعيّة والتربويّة سيُواجَه بمقاومةٍ واستهجانٍ من مجتمعنا، والأهمّ من هذا أنّنا لن نكون قادرين على اكتشاف أخطائنا في هذه الأعراف إلاّ إذا نظرنا إليها في مرآة الأخرين، وبعيونهم لا بعيوننا.
عندما أوفدتني جامعتي في سورية إلى بكّين عام 1979 لتدريس الشعر العربيّ لأساتذة أقسام اللغة العربيّة في الجامعات الصينيّة، أذكر أنّني درّست هناك نصّا لحاتم الطائي يفتخر فيه بكرمه، فماذا كان تعليق الطلبة عليه؟ قالت لي إحداهنّ: لا بدّ أنّ هذا الشاعر مجنون، فكيف يمكن لإنسانٍ أن يتحدّث بهذا الشكل عن نفسه لو لم يكن مجنوناً!! كان تعليقاً مخيّباً لآمالي ولذاكرتي الأدبيّة والقوميّة، ولم أجد ما أدافع به عنه، وعن تراثي، إلاّ أن أقول: فضلاً عن أن الشاعر ينتمي إلى حضارةٍ غير حضارتكم، تذكّروا أنّه عاش أيضاً في زمنٍ غير زمنكم وبيئةٍ صحراويّةٍ غير بيئتكم حيث كان الكرم والنجدة وحسن الضيافة، وكذلك الدعوة إلى نشر هذه المُثُل، عناصر أساسيّةً لاستمرار الحياة.
ولكنني في مناسبةٍ أخرى وجدتني عاجزاً تماماً عن الدفاع عن نفسي وعن شخصيّتي وهويّتي، حين حدث أن قالت لي مترجمتي الصينيّة: أنتم - الغربيّين - تختلفون عنّا نحن الشرقيين. والتفتّ إليها بنظرة احتجاجٍ:
- نحن الغربيّون؟! إنّني شرقيٌّ ومسلِم!
- أنْ تكون مسلماً لا يعني أنّك شرقيّ..
- ولكنّني من سورية، وهي بلدٌ شرقيّ!
- لقد رأيتك تأكل بالشوكة والسكّين، فهل هذه تقاليد شرقيّةٌ أم غربيّة؟
- وهل عليّ أن آكل بالعصاتين الصينيّيتين الصغيرتين حتى أكون شرقيّاً؟!
- إنّك على أيّة حالٍ تشبه الأوروبّيين ولا أكاد أميّزك عن أيّ بريطانيٍّ أو فرنسيّ..
- وهل عليّ أن أمتلك أنفاً وعينين صينيّيتين حتى يُعترف بشرقيّتي؟!
- ولكنّك تلبس مثلهم أيضاً: بزّتك، قميصك، ربطة عنقك...
- إنها مجرّد ثياب، واللباس ليس كلّ شيء..
- حسناً، وهل يختلف بناء منزلك في سورية، وترتيب غرفك، وطبيعة أثاثك، عن أيّ منزلٍ في الغرب؟
- مرّةً أخرى أنت تتحدّثين عن المظاهر، المهمّ هو الداخل، كيف أفكّر – وأشرت إلى دماغي – وليس ماذا ألبس..
- (وهي تفكّر) حسناً، أين درست؟
- (شاعراً بنشوة الظَفَر) حصلت على الإجازة من جامعة دمشق وعلى الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة..
- ومن كان أهمّ الأساتذة الذين درّسوك في هذه الجامعات؟
- (ورحت أعدّ لها أسماء من تذكّرت منهم)..
- والآن، أخبِرني من أين حصل هؤلاء على شهاداتهم العليا؟
- (ولأوّل مرّة أشعر بأن البساط قد بدأ ينسحب من تحت قدميّ وأنا أقول لها): فلانٌ وفلانٌ من باريس، وفلانٌ وفلانٌ وفلانٌ من لندن، وفلانٌ من ألمانيا، وفلان...
- (بخبث) حسْبُك، هذا يكفيني...
للمرّة الأولى في حياتي أكتشف، وأنا أنظر إلى نفسي في مرآة هذه السيّدة الصينيّة، أنني لست أنا، وأنّ غربيّاً ينازعني نفسي ويعيش معي في لباسي، ويكاد يحتلّ غرفة نومي وينام معي في فراشي.
هذه المواجهات تُعدّ تجارب حسّيةً مبسّطةً لعمليّة استحضار الغائب واستبعاد الحاضر. فبدلاً من الكدّ في اعتصار أذهاننا ونزع أنفسنا من حذائنا ووضعِها في حذاء الآخر – كما يقول الإنجليز – لكي نرى أنفسنا بعيون ذلك الآخر، ها نحن مع الآخر وجهاً لوجه، نرى أنفسنا في مرآته، ونكتشف من خلاله ما لم نعرفه عن أنفسنا من قبل، فالمبدأ النبويّ الكريم "المؤمن مرآة أخيه" غدا اليوم أكثر شمولاً وإحاطة، ليكون: الحضارة مرآةٌ لأختها، وشعوب العالم، في هذه القرية الكونيّة الواحدة، مرآةٌ بعضها لبعض.
هذا في البعد المكانيّ، فماذا حول البعد الزمانيّ؟ هل استطعنا أن نقرأ أجدادنا العرب القدماء، فاستحضرنا غائبهم واستبعدنا حاضرنا، بحيث استرجعنا البعد المفقود بيننا وبينهم، وأقَمْناه جسراً يوصلنا إليهم، بحيث نجلس إليهم ونسمعهم كما لو كنّا نعيش معهم في عصرهم وبيئتهم وثقافتهم؟
لقد فقد كثيرٌ من النصوص القديمة جزءاً هامّاً من قيمته وجماله لأنّنا أسقطنا من حساباتنا ونحن نقرأه ذلك البعد المفقود الذي لم نحاول استعادته عن طريق استحضار الغائب.
ولعلّ أبرز عنصرٍ من عناصر هذا البُعد، في النصّ المكتوب خاصّةً، هو الإلقاء، لأنّه الجزء الهامّ من النص الذي لا يمكن أن يُكتب أو يُسمع، حتى ما قبل ظهور آلة التسجيل الصوتيّ على الأقلّ، مع عدم إغفال العناصر الأخرى لهذا البعد، كاستحضار البيئة والثقافة والعقائد والعادات المحليّة، وغيرها.
وقد التبس علينا فهمُ كثيرٍ من النصوص التراثيّة، الشعريّة والنثريّة، بسبب إهمالنا لهذا العنصر. ورغم اعترافنا بأنّ استحضارنا لعنصر الإلقاء لا يمكن أن يكون تامّاً وصحيحاً مئةً بالمئة، إذ لا يمكن للخيال البشريّ أن يستحضر صورةً غيبيّةً كما يمكن أن تصوّرها عدسةٌ سينمائيّة، ولكنّ عناصر اللغة والموضوع والفكرة، فضلاً عن معرفتنا بشخصيّة الشاعر أو الكاتب نفسه، وما كان يحيط بها من عوامل اجتماعيةٍ وثقافيةٍ وبيئيّة، كلّ ذلك سيمكّننا من تصوّر شكلٍ تقريبيّ لهذا العنصر المفقود.
ولنقرأ معاً مطلع المتنبّي الذي افتتح به داليّته المشهورة في هجاء كافور:
عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ
رغم أنّ البيت هو مطلع واحدةٍ من أشهر قصائد هذا الشاعر العملاق فإنّ الشرّاح أخفقوا في الإمساك ببُعد الإلقاء، فانفلتت من بين أصابعهم عناصر الجمال الحقيقيّة في البيت. وقد حاولتُ الإمساك بهذه العناصر، أو بعضها، في كتابي (الواقعيّة الإسلاميّة في الأدب والنقد) حين قلت:
"شرّاح الديوان جميعاً يصرّون على أنّ المتنبّي يخاطب العيد في الموضعين (عيدٌ) و (يا عيدُ)، أي إنّ التقدير في الأولى (يا عيدُ) أو (أنت عيدٌ) على أنّ الجملة في الحالين ابتدائيّةٌ لا محلّ لها من الإعراب.
إنّ روح الإعراب تنبئنا بالفاصل المعنويّ الكبير بين الجملة ذات المحلّ عامّةً والجملة غير ذات المحلّ. فالأولى حركةٌ وحياةٌ وتوثّبٌ وعطاء، والثانية توقّفٌ وترصّدٌ وانتظارٌ وإعداد، ولا سيّما إذا كانت إخباريّةً غير طلبيّة؛ الجملة الابتدائيّة الإخباريّة مثلاً تهيّئنا للمعنى القادم الذي به تتحقّق الحركة، فإن قدّمت لنا هي بنفسها المعنى كاملاً، بدون انتظار الجملة ذات المحلّ لتقوم بذلك الدور، كانت جملةً جامدةً حجريّةً على الأغلب، تتوقّف عند اللحظة التي عبّرت عنها فلا تتجاوزها إلى المستقبل أو حتى إلى الماضي.
هذا الجمود القاتل يسربل مطلع قصيدة المتنبّي، تُرى أيليق هذا العيب البيانيّ الظاهر في مطلع القصيدة بمكانتها الرفيعة في ديوان الشعر العربيّ؟
إنّنا لا نتبيّن هذا الإخفاق إلاّ حين نعدّ جملة (أنت عيدٌ) إخباريّةً ابتدائيةً لا محلّ لها من الإعراب. فلو تخيّلنا المتنبّي يُنشد مطلعه هذا، أتراه يسمّر رأسه وجسده باتجاهٍ واحدٍ وكأنّما صُبّا في قالبٍ من قطعةٍٍ واحدة، وهو يردّد بصوتٍ رتيبٍ ذي نغمةٍ ممتدّةٍ متّصلةٍ سقيمةٍ تذكّرنا باللهجة الإنشاديّة الجماعيّة لتلاميذ الكتاتيب: عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيدُ؟
لا يمكن لناقدٍ وعَى الأبعاد الأربعة للشعر(اللغة والفكر والخيال والإلقاء) أن يتصوّر المتنبّي في هذه الصورة المُزريَة وهو يُنشد البيت؛ إنّني أتخيّله وقد وقف يسائل نفسه بدايةً، وهو يهزّ برأسه ساخراً متألّماً: أهذا عيدٌ، أيقولون إنّه العيد؟! ثمّ يحوّل حركة رأسه المتألّمة من الاتجاه الرأسيّ إلى الاتجاه الأفقيّ، مع تحوّله من التساؤل المتألّم إلى الإجابة الساخرة المتألّمة أيضاً: يا للسخرية.. أيّ عيدٍ هذا الذي يأتي والمصائبُ تنهال على رأسي لم تتراجع ولم تخفّ؟! تُرى أيُعقَل أن يحمل هذا العيد إليّ جديداً يُنسيني الماضي؟ ما أبعد هذا عن التحقيق..
(عيدٌ) في بداية المطلع ليست مجرّد جملةٍ خبريّةٍ ابتدائيّةٍ صلدة لا محلّ لها من الإعراب تقوم على مجرّد مبتدأ محذوفٍ وخبرٍ مذكور؛ إنّها أوّلاً ـ في علم المعاني ـ جملةٌ إنشائيّةٌ استفهاميّةٌ تبعث الحركة التساؤليّة الفاعلة في بداية القصيدة، وهو أمرٌ لا يمكن أن توفّره لنا الجملة الخبريّة، وهي، بعد ذلك، جملةٌ لها كيانها المعنويّ إعرابيّاً، لأنّها في تقديرنا مَقُولٌ لقولٍ محذوف: أيقولون: هذا عيدٌ؟.. وهذا يمنح المطلع، أو مطلع المطلع، اتجاهاً آخر قادراً على أن يحرّكنا منذ البداية، فلا يدعنا نستسلم لكسل الأسلوب الإخباريّ وجفاف الجمل الجوفاء التي لا تسدّ أيّ مسدّ معنويٍّ أو إعرابيّ.
إنّ عمليّة "التخيّل" ـ وهي ليست سهلةً وليست أمينةً تماماً ـ ضروريّةٌ جداً لاكتشاف البعد الرابع للأدب، وهو البعد الوحيد القادر على إلقاء أضواءٍ كاشفةٍ ملوّنةٍ على الأبعاد الثلاثة الأخرى، بحيث يستطيع تغيير طبيعتها الظاهرة للعيان ليكشف لنا عن كثيرٍ من خفاياها الباطنة، العصيّة على إدراكاتنا الحسّية العاديّة."(2)
وهكذا يتحتّم علينا ونحن نقرأ تراثنا ببعده المكتوب أن نضيف إليه البعدين: المسموع والمنظور، لنتمكّن من قراءته بأبعاده الكاملة، ونفهمه بأكبر قدرٍ من الشفافية، ونصل إلى أقرب نقطةٍ ممكنة من صورته الأصليّة الحقيقيّة.
وبدهيٌّ أن تؤدّي القراءة القاصرة للتراث إلى فهمٍ قاصرٍ له، ومن ثمّ إلى تشويهٍ في علاقتنا معه قد ينعكس على علاقتنا مع حاضرنا ومستقبلنا، وهو أخطر ما نواجهه ونسعى إلى التحذير منه ونحن نتطلّع إلى إقامة حوارٍ معافىً مع الحضارات في القرن الحادي والعشرين.
(2) انظر: الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد، دار المنارة، جدة: 1985. ص133 وما بعدها]
(2) انظر: الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد، دار المنارة، جدة: 1985. ص133 وما بعدها]