كنت في بداية السنوات التسعين من القرن العشرين أقرأ في المقدمة الضافية العميقة التي خطها قلم الأستاذ أحمد محمد شاكر عليه شآبيب الرحمة لكتاب الظاهرة القرءانية الذي ألفه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله وقد لاحظت أن الأستاذ شاكر كان يدافع عن الشعر العربي ضد الذين جاؤوا بأبيات ناصعة من الشعر ولكنهم قلَّلُوا من قيمتها عند مقابلتها بآيات من القرءان العظيم. قرأت تلك المقدمة عدة مرات وأوحت لي بفكرة الإختلاف بين لسان العرب ولسان القرءان ووجدت أن الأستاذ شاكر أحس بهذا الإختلاف ولكنه أفلت منه لأن دائرة قوله كانت الدفاع عن الشعر وعدم مقارنته بالقرءان. وسبب اهتمامي بهذا الموضوع يعود لسنوات الدراسة حيث أنني لم أكن أحب في كتب النحو أن تأتي بأمثلتها من القرءان وغيره من الكلام جنباً إلى جنب.
ثم صرت أقرأ بعد ذلك لكثيرين تحس أنهم يميزون بين اللسانين بدرجة من الدرجات مثل الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد رحمه الله الذي استخدم مصطلحي (الاستخدام الإلهي للغة) و(الاستخدام البشري
للغة). وحاج حمد رغم سمو قامته في الدراسات القرءانية المعاصرة إلا أنه لم يلزم نفسه باستخدام اللفظ القرءاني (لسان) وجرى قلمه بلفظ (لغة).
والموضوع يحتاج لبحث طويل قد أحتشد له يوماً إن شاء الله ورضي وأذن ولكني كتبت هذه الأسطر حتى يشترك معي القاريء والقارئة الكريمين في توسيع الموضوع وعرضه للنقاش لنستفيد من آرائكم التي التي سوف تؤثر على الصياغة النهائية له.
وهذا الملخص أو الموجز سوف يهتم بتعريف اللسان العربي والفرق بينه وبين لسان العرب والفرق أيضاً بين لسان العرب ولسان القرءان.وفي الموجز القادم سوف نكتب عن بعض خصائص لسان القرءان إن شاء الله.
1. لسان العرب
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.
لسان العرب هو اللسان الذي تكلمه العرب فعلاً في الواقع سواء في ماضيهم أو في حاضرهم. وذلك الماضي يشمل كل لهجاتهم ولغاتهم في الزمان (كاللهجات اليمنية القديمة أو لغات بلاد الرافدين العتيقة أو اللغات القديمة في وادي النيل) والمكان (الجزيرة العربية وبلاد الشام ووادي الرافدين ووادي النيل وشمال أفريقيا). أماالحاضر فيشمل كل اللهجات العربية الحديثة والمعاصرة بالإضافة إلى تطورات اللسان المعياري في العصر الحديث (ما يسمى باللغة الفصحى) وما أهملته المعاجم التي سجلت ألفاظها في فترات محددة ومن بيئات معينة وبعض ما أهملته المعاجم فقد اشتملت عليه الكتب العربية في العصور المختلفة. ورغم هذا الإتساع في الزمان والمكان فقد نجد جذراً لسانياً معيناً قد أهمله العرب في كل مراحلهم قديماً وحديثاً ولم يستخدموه. والجذور اللسانية الثنائية والثلاثية يمكن إحصاؤها الآن عن طريق الحاسوب من تباديل وتوافيق الحروف العربية. والتداول أو الإستعمال في لسان العرب مفتوح لتوسيع الدلالة من حيث التحسين والتقبيح ومن حيث الحياة أو الموت ومفتوح أيضاً في استخدام كل الصيغ التصريفية. وإذا أردنا أن نضرب أمثلة لإنفتاح لسان العرب وإنضباط لسان القرءان فسوف نجد أن لسان العرب يستخدم لفظي (دين) و(أديان) في حين أن لسان القرءان لا يعرف هذا الجمع (أديان) لأن (الدين) عند الله واحد ولكن تتعدد رسالاته. وفي مقابل ذلك فإن لسان القرءان يعرف الجمع (حدود) ولا يعرف المفرد (حد) لأن دين الله يقوم على الحدود التي تتيح للمتدين أن يسعى بينها بعد معرفة أن هناك حدوداً لا يجوز له أن يقترب منها وهناك حدوداً لايجوز له أن يتعدَّاها.
2. لسان القرءان
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.
لسان القرءان هو الجذور والألفاظ والأدوات الواردة في القرءان العظيم من أول سورة الفاتحة وحتى آخر سورة الناس. ويشترك هذا اللسان مع لسان العرب في أنه يمثل مجموعة متقاطعة مع مجموعة لسان العرب. والتقاطع يعني أنه توجد بعض الجذور في لسان القرءان غير مستخدمة في لسان العرب وأمثلتها تلك الألفاظ القرءانية المهجورة الاستخدام عند العرب مثل لفظة (الأَمْت) إذا نظرنا للجذر ولفظة (كُبَّار) إذا نظرنا للجذع الذي هو الصياغة. وبالطبع هناك ألفاظ في لسان العرب غير مستخدمة في لسان القرءان لأن لسان العرب أكثر جذوراً من لسان القرءان وذلك مثل (سبر) إذا نظرنا للجذر و(العقيدة) إذا نظرنا إلى الجذع. وهناك بعض الألفاظ القرءانية التي يستخدمها العرب في لسانهم في معنى تداولي قد يختلف عن المعنى التداولي لها في القرءان.
ولسان القرءان يتميز بالمحدودية والتناهي فهو محدود في جذوره وصياغاته التي يمكن إحصاؤها عدداً ولكنه متناهٍ في إمتداد معانيه عبر الزمان والمكان. وحسب المعجم الموسوعي لألفاظ القرءان الكريم وقراءاته فإن جذور لسان القرءان تبلغ 1884 جذراً وبالتأكيد فإن جذور لسان العرب أكثر من ذلك بكثير.
والمشكلة تنشأ عند المؤلفين العرب من مفسرين ونحويين وبلاغيين عندما يأخذون أمثلتهم لتقعيد قواعدهم من لساني العرب والقرءان بلا تفريق بينهما وقد إنتبه إبن فارس لهذه المشكلة فكتب في مقاييس اللغة يقول: (ولولا أن العلماء تجوَّزوا في هذا، لما رأينا أن يُجْمَع بين قول الله وبين الشعر في كتاب، فكيف في ورقة أو صفحة؛ ولكنَّا اقتدينا بهم، والله تعالى يغفر لنا، ويعفو عنَّا وعنهم). وهذا التجوُّز (على حد تعبير ابن فارس) في المساواة بين اللسانين هو الذي يجعلنا حتى الآن نذهب مباشرة إلى الشعر الجاهلي أو كلام عرب قبل الرسالة لمعرفة معاني الألفاظ القرءانية في حين أن ألفاظ القرءان يمكن معرفة دلالتها وتداولها من القرءان وحده إذا ثابرنا على ذلك حسب منهج القرءان في التشابه والمثاني.
ولكننا على كل حال نحتاج إلى معجم لدلالات ألفاظ القرءان ينطلق من مستوى الصوت ليفرق في مستوى الجذر بين الدلالات المشتركة تقارباً أو تباعداً بين جذرين أو أكثر في كل مستويات التصريف الثلاثة (أنظرها في مقال قادم بإذن الله) ويسجل أيضا ارتباطات اللفظ واقتراناته في السياقات المختلفة أو المتعددة.
3. اللسان الكامن
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان،اللسان الكامن}.
تبلغ تباديل الجذر الثلاثي (ذي الأصوات المختلفة) ستة تباديل مثل الجذر كتب الذي تكون نتيجة تباديله هي الجذور الآتية:
(كتب، كبت)
(تكب، تبك)
(بكت، بتك)
ويمكن أن تكون بعض هذه الجذور غير مستخدمة في لسان العرب مثل (تبك) و(تكب) التي لا توجد لا لا في معجم مقاييس اللغة ولا في معجم لسان العرب حسب موقع الباحث العربي الذي يضم مجموعة من المعاجم العربية وبذلك تظل هذه الجذور كامنة وقد تظهر في المستقبل عندما يرى المجتمع أن هناك شيئاً أو مفهوماً جديداً تنطبق دلالته على الدلالة العامة لذلك الجذر الكامن بافتراض أننا نعرف الدلالة العامة للجذر من الدلالة القَبْلِيَّة لأصواته المكونة من دلالة الصوت نفسه ورتبته وحركته الطويلة او القصيرة.
أما جذور هذا اللسان الكامن التي لم تستخدم من قبل فيمكن إحصاؤها عن طريق الحاسوب. وهناك عنصر آخر يمكن أن نعتبره جزءاً من اللسان الكامن وهو الدلالات الجديدة التي تظهر لجذور مستعملة في لسان العرب وبذلك يكتمل العنصران المكونان للسان العربي الكامن
وأظن أن معرفة اللسان الكامن سوف تساعدنا في ترجمة المفاهيم والمصطلحات الجديدة الواردة إلينا في هذا العصر الإتصالي العولمي.
4. اللسان العربي
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.
ما هو الفرق في الدلالة بين المركب الإضافي(فستق حلب) والمركب النعتي (الفستق الحلبي) إذا كان المضاف إليه اسماً عَلَماً؟ لم أجد حسب قراءاتي المحدودة من فرق في الدلالة بين هذين الإستخدامين ولكني أظن أن هناك من فرَّق بينهما وإن لم يصلنا مؤلفه أو لم تقع عليه يدي. الفرق في ما يبدو لي أن الدلالة في المركب الإضافي تحصر إضافة ملكية المضاف إلى المضاف إليه مثل الفستق الذي زرع حصراً في حلب واشتهرت به بينما الدلالة في المركب النعتي تنفتح لتصف كل مضاف يتصف بصفات المضاف إليه وإن لم يملكه مثل الفستق الذي يتصف بصفات فستق حلب وإن زرع في دمشق. وعليك أخي القاريء الكريم أن تحاول التمييز بين الدلالتين الناتجتين من الفرق بين (تاريخ القرءان) و(التاريخ القرءاني)، مع ملاحظة الحقل المشترك بينهما.
والآن لنسأل ما هو الفرق بين لسان العرب واللسان العربي؟
لسان العرب هو اللسان الذي تكلمه أو يتكلمه العرب تداولاً في الواقع سواء كان ذلك في الدهر القديم أو في الزمن الحديث أو في الوقت المعاصر.
واللسان العربي أوسع من لسان العرب إذ أنه يشمل بالإضافة إلى لسان العرب كل لسان يتوافق مع أو يجري حسب اللسانيات العربية وإن لم يتداوله العرب في الواقع مثل اللسان الكامن، أو يستعمل العرب معظمه في دلالات تقترب أو تبتعد عن دلالاته الأصلية مثل لسان القرءان.
إذن اللسان العربي يتكون من ثلاثة مجموعات فرعية هي لسان العرب ولسان القرءان واللسان الكامن في تقاطع بين لسان العرب ولسان القرءان وإنفصال بين لسان القرءان واللسان الكامن.
الخلاصة
اللسان العربي هو المصطلح الأعلى الجامع لكل الألسنة تحته ويتكون من ثلاثة ألسنة هي لسان العرب العرب ولسان القرءان واللسان الكامن. اللسان الكامن هو الجذور غير المستخدمة والناتجة من تباديل الجذر الثلاثي ولو كنا نمتلك معاجم للتأثيل (تاريخ الألفاظ) لكنَّا عرفنا عن بعض الألفاظ متى خرجت من كمونها ودخلت الحياة. ولسان القرءان هو الألفاظ المذكورة حصراً في القرءان العظيم ويشكل مجموعة متقاطعة مع مجموعة لسان العرب والتقاطع يعني أن هناك ألفاظاً مشتركة بينهما في الدلالة والتداول إلا أن كل لسان يتميز بألفاظ تختلف عن الآخر في دلالتها وتداولها. ولسان العرب هو كل الألفاظ التي استخدمها العرب في كل عصورهم ومن ضمنها كثير من ألفاظ القرءان سواء إختلفت دلالتها وتداولها مع القرءان أو إتفقت معه. والله أعلم.
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.