إن هذا التوجه يحمل إمكانية بناء "الحقيقة الوجودية" في استمراريتها أو كينونتها البعدية، وهو أفق الفتوحات المستمرة والمتمثلة في الولاية؛ فإذا كان الوجود الماورائي في لا زمانيته نورانيا، فإن المعنى البعدي هو كوني، أو امتداد لأصله في كليته وشموليته: فهل نحن أمام تصور معين للحياة أو أمام معنى خاص للوجود الإنساني؟ إن معنى الحياة في هذا المنظور التيوصوفي ذو مضمون برزخي: بين الوجود والعدم، الحياة والموت، الفناء والبقاء، الرغبة والواقع… إنها حياة كاشفة لما هو خفي أو حياة "الصورة المكافحة" والمتجاوزة لعقالها.
هل الاهتمام بالصورة عند ابن عربي راجع إلى الحضور "العيسوي" في فلسفته الصوفية؟ وألا يمكن القول إن موقفه من الوضع العيسوي وتصوره الباطني لنشأته وممارسته أفرزا هذا الإشكال: أي الاهتمام بوضع الصورة ومكانتها في الوجود؟
وما يبرر هذه التساؤلات، هو القول مع ابن عربي بالعلية، وشرطها المحدد في ثلاث: الذات، الإرادة، كن؛ إلا أن هذا التصور لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى تأويلات فاسدة، وكأن المرجعية الحاتمة هي صميميا عيسوية بمعناها المسيحي؛ مما يؤدي إلى محاولات لفتح باب الاتهام أو النبذ والإقصاء، والتي غالبا ما تكون مصادرها مرتبطة بالوعي الحرفي –الظاهري- "للقول الأكبري" الذي يحمل أكثر من وجه: فهل عودة ابن عربي إلى حقائق الأنبياء هي من أجل الانتصار لحقيقة على أخرى، أم من أجل إظهار "امتيازات" الحقيقة الجامعة، والتي هي في نظره حقيقة الحقائق؟ وألا يمكن القول بأن الانتباه إلى صورة هذه الحقيقة أو درجة الانبهار بها هو طريق لإبعاد الآراء حول افتتانه بفرعون أو الشيعة أو التثليث؟
إن خصوصية هذا القول الصوفي هو الانفتاح على كل المعارف والأديان اعتمادا على أساس مركزي، وهو "الخطاب القرآني"، رغبة في تقديم رؤية تأملية وبناء "تجربة تحريرية" كما يسميها عثمان يحيى. لهذا فحضور عيسى في هذا المتن شأنه شأن الأنبياء الآخرين، الذين خص لكل واحد منهم فصا من فصوصه –فصوص الحكم- تأكيدا لروحانيتهم وبحثا عن عمق تجربتهم الروحية، ولهذا فـ فصوص الحكم قراءة لتاريخ الأنبياء، من آدم إلى محمد (ص) بآليات باطنية تتوخى تلمس تجربتهم الذاتية في الحياة مع تبرير القيمة الوجودية لهذا المفهوم –الحياة- على المستويين: الدنيوي والأخروي. ولهذا ركز ابن عربي على البحث عن قيمة هذه التجربة بإعطائها معنى أو الإعلاء من قيمتها الحسية –الظاهرية- إلى الروحية –الباطنية-: فهل استعادته لهذا التاريخ هو بناء لـ"فلسفة بنيوية" تجد عمقها أو مبررها الفعلي في "التجربة المحمدية" كحقيقة كلية أو حقيقة الحقائق؟
فبالرغم من التأخر المعرفي لهذه الحقيقة، فإنها متقدمة في الوجود كحقيقة ما ورائية أو سابقة على كل الحقائق. فهي العمق الذي حرك لديه الحديث عن الأنبياء ووجودهم، إلا أن ما يجمع بين الحقيقة المحمدية والعيسوية في "الخطاب الأكبري" هو كونهما ختمان: الأولى ختم للولاية الخاصة والثانية للولاية العامة، هكذا يكون ابن عربي مؤسسا "لخطاب كوني" أو منفلتا من أي مذهبية معينة –أرتوذكسية- شيعية أو غيرها، كما يريد "كوربان" توجيهه إلى ذلك.
إن علة الانفلات باعثها هو استعادة القول حول الصورة، بحثا عن ديناميكيتها وحيويتها أو قوتها الإبداعية، لأن الإسلام ربط التصوير أو الصورة بما هو حي أو بالحياة عامة، بعيدا عن أي "صنمية ميتافيزيقية"، قد يسقط الوعي النظري في الخلط بين "التشبيه" و"التنزيه". لهذا تأتي الصورة كطريق لرسم الحدود بين أنواع الحقائق من جهة والوعي النظري من جهة أخرى. وهذا لا يعني عدم الانتصار لطريق دون آخر، لأن وضعية المفارقة والتراتبية بين حقائق الأنبياء والمعارف حاضرة في ذهنية "الشيخ الأكبر"، تأكيدا بأن قصدية مبحثه هو بناء الحقيقة الأكثر تعبيرا عن "صورة الله"، والمعرفة الأكثر تمثلا لها. إنه توجه يروم بناء أطروحة "الخلق على الصورة"، والمتجسدة في الإنسان ككائن دال وحامل لحقيقة خفية أو حامل لمعنى مزدوج قابل للتفكيك، بإظهار وضعية الذات وجوديا، وإبراز معناها روحيا تبعا لروابطها الكونية.
فهل الوجود "العيسوي" تأكيد لوضعية الصورة ومعناها المزدوج (الروحي- الحسي) مقارنة بـ"الحقيقة المحمدية" المتبثة لحياة الصورة وديناميكيتها كخلق جديد أو متجدد؟، فما المعنى الكوني لهذه الحقائق ومضامينها الوجودية؟
إن الصورة العيسوية في الفص العيسوي، تأتي وجوديا نتيجة علاقة ثلاثية: جبريل من جهة وعيسى ومريم من جهة ثانية، وهي في عمقها تعكس علاقة الواحد بالكثير: فالأول جبريل حامل لكلمة (حقيقة) احتاجت إلى موضوع –مريم. والإشكال الأساسي هنا هو في وجود الصورة أو في كيفية تمثل هذه الكلمة الإلهية المحمولة من طرف الملاك، وهذا في دلالته تمثل لحاملها في صورة بشرية، مما أدى إلى تأويل للتجربة العيسوية إلى حلول: فلما هذا التمثل الملائكي في صورة إنسية؟ ولماذا تم التركيز على هذا التصور من طرف ابن عربي، هل وراء هذا رغبة في تصحيح العقائد والاعتقادات بإبعاد التوتر الحاصل بين الحقيقة والتاريخ: المعقول والمحسوس؟ إن موقف الشيخ الأكبر من هذه الإشكالات يتجه نحو نقد أطروحة الحلول كما يرفض أطروحة الاتحاد، بتوظيف "حقل الصورة" أو وضعها في الوجود –موطنها- بحثا عن الطريق الممتاز للوعي بقيمتها، وآلية تمثلها: ويتبلور هذا الموقف التصحيحي في موضوعة "التمثل" باعتبارها تحويلا للحقيقة –الكلمة- كما هي في الوضع العيسوي، وذلك بتلطيفها في البرزخ حتى تتحدد قابليتها للتجسيد والتشكيل –التصوير-؛ لأن مصدرها العالم الأعلى ذو الطبيعة النيرة –النور-. فلو لم يتم هذا التمثل البرزخي لكانت الكلمة قاهرة وجبروتية، لهذا تم تلطيف مضمونها، بتمثل جبريل في صورة بشر: فهو روح من الله، وجسد من البشر المتوهم (المعنى/الحس)، هكذا نكون أمام بعدين في المعجزة العيسوية –نشأته- المحددة في الكلمة والنفع: الأولى من الله والثاني من جبريل. فالأساسي أو المناسبة في هذا التمثل هو الوساطة –جبريل-، وهو فعل وجودي تحدد في مشهد برزخي لتحويل الروحي –الملك- الصورة النيرة أو الروحية إلى جسدية أو إنسية، والطريق إلى هذا هو التخييل في ماهيته التحويلية والإبداعية: يقول كوربان –الخيال التيوفاني- "هو مكان ظهور الموجودات الروحية، ملائكة، وعقول في صور الأجساد الظاهرية، لأن المعاني والمحسوسات تلتقي في إبراز الأشكال الشخصية مستعيدة في ذلك أحداث المأساة الروحية. كما أنه أيضا –الخيال- مكان تكامل كل التواريخ المقدسة، تواريخ الأنبياء مثلا، التي لها دلالات لأنها عبارة عن تجليات"[1].
فلولا هذا التخيل لما حدث الإلقاء، ولما تم تسوية الصورة وجوديا، فهل هذا ما يجعل من الصورة في تاريخ الأديان موضوع استفهام، في مضمونها التجريبي أو الحسي؛ لأن معنى الحياة هو خارج هذه الإحداثية المعطاة والمباشرة؟ يقول: "فخرج عيسى يحيي الموتى لأنه روح إلهي، وكان الإحياء لله، والنفخ لعيسى: كما كان النفخ لجبريل والكلمة لله. فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخه كما ظهر عن صورة أمه، وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه وإنما كان لله"[2].
إن هذا الموقف ينسجم وأطروحة الشيخ الأكبر القائلة بأن "الظاهر لا يظهر إلا بصورة الباطن": فصورة عيسى حاملة لمضمون روحي أساسه خصوصية النشأة أو الظهور عن أمر إلهي، أساسه النفخ الملائكي، لهذا جاءت معجزته متمثلة في إحياء الموتى، وهي في دلالتها استعادة لتجربة النشأة الأولية كما حدثت في وجود عيسى: فالمحيي حقيقة هو الله والنافخ هو عيسى، إنها تجربة تروم استعادة الصورة الأصلية في مكونها الروحي أو البرزخي؛ وهذا المضمون يحمل دلالة الانتماء المتبادل coapartenance بلغة هيدجر. ففي هذا الموطن الروحي تتوحد العلاقات أو الروابط بين الأعلى والأدنى، وفي الوقت نفسه مبرزة لوضعية الالتباس الحاد بين الله والإنسان؛ وتأتي الصورة لحل هذا المأزق –المفارقة- أو التمييز بين الوجهين: وجه الله ووجه الإنسان، لأن وجود الصورة أو "الخلق على الصورة" تطلب ميلا إلهيا إلى العالم، باعثه هو الرغبة في المعرفة، بـ"النفس الرحماني" كعلة للخلق، إنه تنفيس عن الوحدانية –الواحد-، وعبر هذا النفس يتحدد التجلي والتكوين الدائم مع الأنفاس. كما أن للميل الإلهي أهمية وجودية فهو علة الاعتدال والتوازن، وأساس الرابطة بين الصورتين: الظاهرة والباطنة. "فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة الرحمان، أوجده الله أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية. فنحن صورته الظاهرة وهويته روح هذه الصورة المدبرة"[3].
إن إتباث حقيقة عيسى كصورة ظاهرية بفعل الإحياء هو إتباث للإرادة الناتجة عن ميل إلهي إلى العالم أو تدبيره بالصورة الروحية الباطنية المستمرة في الوجود أو المتجددة: فالصورة المتحولة أصلا ليست الطبيعية بل المدبرة أو الأصلية، أي ليست الصورة الكائنة الفاسدة، والوعي الملتصق بهذا المعنى الأخير للصورة يبقى في حدود الظاهر؛ لأن الأساس أو العمق هو في ما وراء هذا الظاهر ذاته. يقول: "فكان عيسى يحيي الموتى بصورة، ولو لم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى لا يحيي إلا حتى يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها. ولو أتى جبريل أيضا بصورته النورية الخارجية عن العناصر والأركان –إذ لا يخرج عن طبيعته- لكان عيسى لا يحيي الموتى إلا حتى يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمه"[4]. إن قصدية التدبير هو ما يحرك الصورة الأصلية، والمحددة في وجود عيسى الحامل لصورة طبيعية –بشرية-، لأن أصل التمثل كان إنسيا، هذا يعني أن الصورة الأصلية خضعت لتحول، لأن هيئة جبريل أو ظهوره محدد بشكل قبلي هيئة عيسى ونشأته؛ فلو تم تمثل هذه الكلمة –المعنى الأصلي- في صورة غير بشرية لما كانت معجزة عيسى وهي الإحياء، إن هذا يلتقي وموقف ابن عربي بأن الإنسان أسمى كائن في هذا العالم لا بعقله أو نطقه لكن بصورته. فوضعية عيسى أو حقيقته تبرز لنا ماهية هذه الصورة في الوجود، بحيث أن حلم جبريل لصورة بشرية –طبيعية- يؤدي إلى الاستفهام عن الصورة أو الصور الأخرى. هل هذا يعني أن هناك صورة واحدة؟
إن هذا الإشكال يتأطر في المناخ الميتافيزيقي للمنحى الحاتمي، أو داخل إشكالية الوحدة والكثرة، مع إمكانية الربط بينهما معرفيا ووجوديا: فـ"هو الكثير الواحد: الكثير بالصور الواحد بالعين"[5].
فالعلاقة أصلا هي بين الذات وما سواها: الواحد بالذات، الكثير بالصور. فهل نحن أمام ثنائية وليس وحدة كما يسعى إلى ذلك الشيخ الأكبر؟ فمفهوما الوحدة والكثرة هما وجهان لحقيقة واحدة، فالصور الكثيرة دالة على التحول والتبدل، فلا نهائيتها هي في تجددها، والوجود عامة هو صورة متشظية: الله/الكثير صورة ظاهرة، الله/الواحد صورة باطنية: "فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شك"[6].
إن الحاسم في هذا التأسيس هو أطروحة التجلي –التحول- كأساس ميتافيزيقي؛ تم تقديمه كبديل لما اعتاده تاريخ الفلسفة في العلاقة بين الوحدة والكثرة، وما القول بالصورة إلا نتيجة عامة لهذه الأطروحة –التجليات-. ويتجسد هذا في العلاقة بين التشبيه والتنزيه؛ فابن عربي عمل على الربط بينهما بل وظفهما متصلين وليس منفصلين: فلا يخلو هذا من ذاك ولا ذاك من هذا إيمانا منه باختلاف جهة النظر إلى الموضوع أو منهج الرؤية، فالله منزه من حيث ذاته ومشبه من حيث صفاته، وفعل الربط هذا أو الاتصال يحكمه هاجس الهوية أو تحقيق مشروع الألوهية في العالم "كأنا إلهي" قابل للتحقق في الوجود الإنساني. في هذا الأفق تنكشف استراتيجية الشيخ الأكبر حول الصورة بالعمل على إخراجها من بعدها الحسي –الوهم وسلطته-، وربطها بدل ذلك بحقيقتها أو صورتها الأصلية –المدبرة-: فالنظر الذي يختزل الصورة في مكونها الحسي يسقط في خلط بين الصورة والألوهية، لكن فهمها أو تأسيسها هو ببنائها أو بوضعها في موطنها الأصلي أو الفعلي، ويتجلى هذا الانحراف في مضمون الصورة عند ابن عربي في تأويل التجربة العيسوية كحلول. "فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة وجعلوها عين الصورة وما فعلوا، بل جعلوا الهوية –ألوهية- الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ففصلوا بين الصورة والحكم، لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ، ثم نفخ، ففصل بين الصورة والنفخ وكان النفخ من الصورة، فقد كانت ولا نفخ، فما هو النفخ في حدها الذاتي"[7].
إن هذا الموقف إعادة نظر في الواسطة بين الألوهية والإنسان –عيسى في نشأته- من أجل التمييز بين الصورة العنصرية والمدبرة. لأن الخلط بينهما ينتج عنه قول بالحلول، وبالتالي توهم الألوهية في صورة بشرية، بينما ابن عربي يتجه نحو بناء أفق القول "بصورة الله"، الممثلة في الإنسان، لا الإنسان العادي-الحيوان. إلا أن القول بألوهية عيسى راجع إلى عدم الانتباه إلى منزلة النفخ والذي يشكل في نظره "حجابا". لهذا كانت نتيجة الحلول توهم الألوهية في صورة بشرية، مما يعني أن هذا الموقف –الحلول- نسيان لتجربة الحجب-الحجاب، والتي تشكل في نظر الشيخ الأكبر أساس كل معرفة ومكاشفة: فهل الصورة حجاب؟
إن هذا النسيان في حقيقته –نشأته- هو ما عمق الخلط بين الألوهية والصورة، وما هذا سوى تضحية أو قتل للصورة ذاتها بالوهم. لأن علاقة الصورة بالنفخ هي رابطة بين الصورة البشرية وأصلها، ولهذا جاء التمثل "الإنسي" لجبريل صوريا: تأكيد الحجاب الصورة، فالتضحية بها أو قتلها هو في انحرافها –تحريف- عن وضعها الوجودي أو منزلتها في الوجود؛ فهي إما مدبرة كاشفة أو حاجبة. وهذا ما دفع ابن عربي إلى الجمع بين التشبيه والتنزيه أو إعادة ترتيب العلاقة بينهما دون الانتصار لحد على الآخر لأنه كان يعي جيدا موطن الخلاف بين أهل الكتاب، وهو في الفرع وليس في الأصل، وعلة هذا الخطأ هو تغليب سلطان الوهم في فهم الصورة في علاقتها بالحقيقة؛ بينما وجودها الفعلي هو في كونها دالة على موجدها. ولهذا فالحلول بخلاف التجلي: فالأول يرى حضور الصورة كاملة وكلية، بينما ما هي إلا تجل من تجليات لا نهائية؛ وهذا التعدد والتحول اللانهائي علته هو "النفس الرحماني"، الممثل هنا في "النفخ الصوري" أو ما يسميه مجازا بـ"الأب الصوري" –جبريل. كما أن العلة في تأليه عيسى هو كونهم لم يفصلوا بين الصورة والنفخ أو بين الحقيقة والوهم: إنه تطابق أو استبدال الألوهية وتمثلها في صورة بشرية، وبالتالي سقوط في صنمية حسية –ظاهرية-. بينما ابن عربي سيبلور فلسفيا هذا الإشكال، بالاستفهام حول حقيقة الآخر كظل ممتد أو ما يسميه بمد الظل؟
فعدم الفصل بين الحقيقة والوهم هو أصل الإشكال وهو في عمقه عدم التمييز بين الفعل والفاعل أو بين الأثر والمؤثر فيه، مما أعطى خلافا "بين أهل الملل في عيسى من هو؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية، فيقول هو ابن مريم، ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى الله بالروحية، فيقول روح الله، أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه. فتارة يكون الحق فيه متوهما –اسم مفعول- وتارة يكون الملك فيه متوهما: وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة: فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه. فهو كلمة الله وهو روح الله وعبد الله، وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية"[8].
إن أصل الخلاف هو حول وجود عيسى أو مصدره، وهذا دافع إلى التساؤل عن إشكالية التمثل الصوري أو شرط نشأته، وأية صورة يمثل في هذا العالم؟
فإذا كانت الصور عامة عند ابن عربي صورتين: ظاهرة وباطنة، فإن نشأة عيسى –حقيقته- تساعدنا في تصنيف الصورة إلى ثلاثة أنواع:
الأولى حسية بشرية-طبيعية.
الثانية خيالية-تمثل برزخي.
الثالثة عقلية مدبرة-باطنة.
وهذا التمايز بين الصور يلتقي وتصنيف العوامل عند الشيخ الأكبر إلى ملك وملكوت وجبروت: فعن العالم الأول تحقق فيه الوجود البشري أو الطبيعي وعن الثاني تجسدت فيه الروحانية –النفخ- وعن الجبروت تحققت المعجزة-الإحياء.
فالوضع العيسوي بهذا المعنى هو جامع لأنواع الصور التي تمت بها نشأته الأولى، ويرتبط بكل صورة من هذه الصور بالنسبة؛ ولهذا اختلفت جهات النظر إلى حقيقته –نشأته-. والأساسي في هذا التصنيف بين الصور الباطنة والظاهرة هو وضعية "الصورة البرزخية" أو التمثل الصوري –البرزخي- كطريق أو مناسبة لتحقيق "الأبوة الصورية". ولولا هذا التمثل لكانت العلاقة مباشرة وجسدية أو نكاحا مباشرا، ولكانت تسويته الجسدية عادية كما هو الأمر طبيعيا وبيولوجيا، لكن العلاقة هي أصلا معنوية –صورية. واعتمادا على هذا التمثل البيني أو الصورة البرزخية والتي يسميها في مناسبة أخرى بـ"الصورة المكافحة"، من خلالها يعيد الشيخ الحاتمي، ترتيب العلاقة الثلاثية بين عيسى ومريم وجبريل، مؤكدا ذلك بنقده للموقف الطبيعي القائل بضرورة العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى، كطريق للتوالد والتناسل: وهذا الموقف النقدي يعتمد على المطابقة بين عيسى وآدم لكون نشأتهما لم تتم بواسطة الأب –العلاقة الطبيعية- لكن بالوساطة الصورية –البرزخية-، وهذه العلاقة ستتبلور أكثر في شخص عيسى في علاقته بأمه –مريم-. فما الأساس الميتافيزيقي لهذا الموقف الناقد للتصور الطبيعي، والمنتصر للصورة البرزخية كعلاقة بينية وطريق لقلب الحقائق وتبدلها. إن هذا الموقف يتأسس عند ابن عربي على أطروحة "النكاح المعنوي" بين "القلم واللوح": وهو نكاح ذو طبيعة معقولة وينتج عنه أثر حسي مشهود. من هنا تظهر علاقة المعنى بالحس أو الحقيقة بالظل كإطار مرجعي لمقاربة الصورة أو إعطائها أساسا ميتافيزيقيا:
"وكان ما أودع في اللوح من الأثر مثل الماء الدافق، الحاصل في رحم الأنثى. وما ظهر من تلك الكتابة من المعاني المودعة في تلك الحروف الجرمية (هو بمنزلة) الأولاد المودعة في أجسامهم"[9].
فإشكالية التوالد أو الكثرة هي نتيجة لعلاقة سرية بين الأعلى والأدنى، المحددة بدئيا في علاقة القلم باللوح، والمجسدة في الكتابة ككثرة مكونة من حروف؛ فإذا كانت الكلمة صورة حسية –بصرية- فإن روحها هو الحرف، كما أن العالم صورة والحق روحه ومدبره: إننا إذن أمام صورتين محددتين وجوديا في العلاقة بين القلم واللوح، وهما الصورة المعنوية والحسية أو العالمة والعاملة، فاللوح المحفوظ حامل لهذين الصفتين. فالأولى من إلقاء القلم والثانية من صلبه –اللوح-. "والصور على قسمين صور ظاهرة حسية، وهي الأجرام وما يتصل بها حسا، كالأشكال والألوان والأكوان، وصور باطنة معنوية غير محسوسة، وهي ما فيها من العلوم والمعارف والإرادات"[10]. هكذا إذن نكون بين مكون علمي وعملي للصورة، وهو المتحقق في الرابطة بين القلم واللوح أو المعنى والحس؛ وهذه الصورة أو –الربط- حاملة لوجهين: باطني وظاهري، أو لمضمون علمي وعملي، ووجودها هو برزخي، لأن العلاقة تستدعي بينا صوريا، به تتجدد المعارف والإلقاء كما هو الأمر في نشأة عيسى وحواء، كما أنه هذه الصورة من خاصيتها الذاتية أنها ناطقة وعالمة وتتكلم لغات عديدة[11]: فهي حاملة للمضمون الظاهري للقلم وللوجه الباطني للوح.
إن ظهور الصور وتمايزها هو نتيجة لقوتها الخفية الإبداعية –الذاتية-، وأهم إبداع ينتج عن هذا هو الوحدة بين القلم واللوح أو تأثير الأول في موضوعه (اللوح)، وهذا هو أساس الظهور والكثرة في الصورة؛ أما التميز البيني فهو خفي والصادر عن القلم الرامز إلى النقطة كمداد دافق، وهو أساس الوحدة بين المختلفين والمتضادين.
إن هذا الموقف الميتافيزيقي يحمل وعيا بيولوجيا ووجوديا برابطة الأبوة والأمومة أو الذكورة والأنوثة "فالصفة العالمة أب هي المؤثرة والصفة العاملة أم فإنها المؤثر فيها، فعنها ظهرت الصور التي ذكرناها"[12].
إن حرارة الماء كنقطة مدادية من القلم تتحدد في رمزية الواو المبطونة في آلة "كن"[13]، ولهذا كانت الصورة البينية أساس الوحدة والتواصل، إنها مكافحة[14] بين طرفين أو ضدين. لهذا فالوحدة بين القلم واللوح إعادة ترتيب للعلاقة بين الأعلى والأدنى –الذكورة والأنوثة-، كما أن نتائجها الميتافيزيقية إعادة نظر في موضوعة العلية بأساسها العقلي. إضافة إلى أن هذه الرابطة هي أصل الوجود الإنساني عامة أو حقيقته. إلا أن خصوصية عيسى ونشأته هما إبراز لمضمون الصورة الخفية، ويتبلور هذا في نظر الشيخ الأكبر في علاقة عيسى –ذكر- بمريم –أنثى. فصورة كل منهما أو وحدتهما هي استعادة للصورة الأولية: "فأوجد (الحق) عيسى عن مريم، فتنزلت مريم منزلة آدم، وتنزل عيسى منزلة حواء. فكما وجدت أنثى من ذكر، وجد ذكر من أنثى: فختم (الله) بمثل ما به بدأ، في إيجاد ابن من غير أب، كما كانت حواء من غير أم. فكان عيسى وحواء أخوين، وكان آدم ومريم أبوين لهما"[15].
إن الوظيفة الوجودية للصورة، هي التوحيد بين المتضادين: فصورة آدم أو معناه التيوصوفي هو ما دفع بابن عربي إلى إيصاله بمكانة مريم، كما أن صورة عيسى كذكر أصبح يحتل نفس وضعية حواء. وهكذا تنقلب الحقائق وتتحول بنوعية الصور المجسدة –المظهرة- لها، وهذا ما يضعنا أمام أطروحة الكمال كمضمون معرفي للصورة، لأنه المرمى من الجمع بين المتضادات وهو وحدتها أو كمالها.
فصورة عيسى وحقيقته هي كمال لأمه، كما أن صورة حواء هي كمال لآدم: وهذه الكمالية هي الرابط الأقصى بين آدم/مريم من جهة وحواء/عيسى من جهة ثانية. إن هذا التصور يبرز على أن موضوعة الكمال التصقت بالنشأة الأولى، فهل معناه –الكمال- هنا فلسفي كما يعلق على ذلك عثمان يحيى أم أنه متخط له؟ إن الكمال بالمعنى الفلسفي هو تحقق لماهية العقل في كونيته باعتباره أقصى معرفة للنفس أو كمالها الأخير، أما ابن عربي فيؤكد بأن "أكمل نشأة ظهرت في الموجودات (هي) الإنسان، عند الجميع لأن "الإنسان الكامل" وجد على "الصورة" لا "الإنسان الحيوان". والصورة لها الكمال. ولكن لا يلزم من هذا أن يكون هو الأفضل عند الله. فهو الأكمل بالمجموع"[16].
فوضعية الصورة ككمال هنا أكثر اتساعا من مضمونها الفلسفي المرتكز على موضوعة العقل، أو علاقة المادة بالصورة وجوديا؛ أما ابن عربي فيستبدل هذه الثنائية الأخيرة –المادة/الصورة- بعلاقة الحقيقة بالصورة، وهذا ما يعطي لهذه الأخيرة –الصورة- أفقها الكامل ضمانا لحركيتها وقدرتها على احتواء المضمون المتعالي، أو الإعلاء بالوجود الإنساني إلى ما وراء ذاته أو ما وراء صورته العادية: إنه كمال علمي، وهذا ما يجعله يلتقي والكمال الفلسفي، إلا أن هذا الأخير علم بالذات ذاتها، أما الكمال في هذا الأفق التيوصوفي فهو وعي بالآخر أو وحدة به، وبالتالي تحرر من الذات ذاتها، كما هو الأمر في تجربة آدم/حواء وعيسى/مريم: فالأكمل وجودا هو الأعلى معرفة والأسمى مرتبة، وهذا ما يجعل من الكمال الفلسفي –العقلي- مستوى من المستويات الممكنة، أما التيوصوفي –الروحي- فهو الأكمل والأعظم، لأنه علم بالتجليات. وفي هذا الاتجاه عمل "الشيخ الأكبر" على استعادة تجارب الأنبياء وقراءتها باطنيا، من أجل بيان حقائقها والتماهي بكمالها. وهذا المرمى يحدد خصوصيات القول الحاتمي كمشروع يعمل على توسيع مجال التفلسف والتأمل رغبة في احتواء آليات العقل وتخطيها، أداته الممتازة في ذلك هي الصورة القادرة على إبراز المفارقات والوحدة بينهما. وهذا يبرر ارتباط الصورة عنده بالحقيقة أو تلازمهما، لأن أطروحة الكمال ليست ثابتة بل متجددة بصورها الفاتنة، وما تجربة الأنبياء سوى بيان لهذه القيمة الخفية. لكن القول بـ"التجلي" يثير أكثر من استفهام: هل هذه الحقيقة مرتبطة بزمن معين أم أنها خارج الزمن التاريخي؟ فمن وراء منع الصورة أو قتلها، هل هو الرأي السائد والاعتيادي أم أن الأمر يتعلق بخصوصية عقدية أو "حقل عقائدي" متنازع حوله؟ أم أن الأمر يتعلق في آخر تحليل بـ"نسيان" للمضمون الخفي للصورة؟
وهل هذا المضمون –الخفاء- هو ما يبرر أطروحة الكمال، ويجعلها أساس العلاقة بين الحقيقة والصورة؟ وما مكانة الحقيقة المحمدية في هذه "التجربة الوجدانية"؟
* * *
إن القضايا السابقة تعطي تأكيدا لوجود الصورة ووظيفتها المعرفية والوجودية. فمع ابن عربي نكون أمام قراءة أعمق وفهم أكثر دقة لإشكالات تمس صميم الوجود الإنساني وتجربته في الحياة: فهل معنى الصورة في الحقائق السابقة هو تأكيد لـ"أطروحة المد" أو الامتداد للصورة الأصلية أو "نموذج الصور"؟ مما يجعلنا نقول مع ابن عربي بأن أول ما خلق الله الصورة، بالرغم من التأكيد "التيولوجي" بأن أول ما خلق الله العقل، لكن هذا الأخير تحدد في البدء كصورة، ويتجلى هذا في "امتيازات الحقيقة المحمدية" على مستوى الوجود والمعرفة: فهل العناصر السابقة تتبلور وتبنى ميتافيزيقيا بمكانة "الحقيقة المحمدية" ومضمونها؟ وهل ما هو ممتد على مستوى الوجود هو هذه الحقيقة؟ وألا يمكن القول بأن أطروحة الكمال على الصورة مبنية في صلب هذه الحقيقة ومؤسسة لمعناها القبلي والبعدي؟
إن الحديث عن الأنبياء في الخطاب الأكبري عامة هو من أجل إثبات موقف باطني أو بناء إشكال العلاقة بين الحقيقة والصورة، مع التأكيد على أنهم –الأنبياء- نواب "الحقيقة المحمدية" ذات الوجود الماورائي، كمعنى سابق على وجود آدم. فصور الأنبياء هي معان لحقيقة واحدة، ومقصدهم ارتبط بالحياة وتمجيدها، بينما وجودهم الاجتماعي كان مهددا بالقتل. فلماذا تعرض أغلب الأنبياء للقتل لا الموت؟ إن الأول في نظر ابن عربي هدم أو اغتيال رمزي، وتمثل هذا في الفص "الموسوي" و"العيسوي". وألا يمكن القول بأن بداية موسى هي شبيهة بنهاية عيسى؟ فالأول تعرض للقتل بأن قام فرعون بهدم صورة موسى أو قتل الأطفال، والطفل عند ابن عربي هو"أقرب عهدا من الله"؛ كما أن مصير عيسى كان كذلك، لكن ما يجمع بينهما هو القتل الرمزي –قتل الصورة. إنه اغتيال بقي سجين الصورة الحسية، أفلهذا السبب تم تمثل عيسى في نشأته الأولى خارج الوهم، إظهارا لقيمة الصورة أو حياتها خارج المحسوس. وأن حقيقته روحية –صورته- خارج الحقل التجسيمي أو التشبيهي، فالماء الذي أنقد موسى في تابوته يلتقي بمعنى "الماء" الذي تم فيه نشأة عيسى في رحم أمه، مما أبعده عن النشأة الاعتيادية للبشر. كما أن هذه القيمة الحيوية للماء ساهمت في إنقاذ سفينة نوح قبل ذلك.
إن تجربة الأنبياء بكثافتها الرمزية كحقائق أفرد لها ابن عربي مناسبات عديدة ومؤلفا خاصا –فصوص الحكم-، من أجل إظهار حكمتهم مما جعل من هذا المؤلف في أحد زواياه "تأريخا للأديان" بحقائقها لا بزمنها التاريخي، لأن ترتيبها خارج إحداثيات التتالي الزمني؛ إضافة إلى أن أساسه كشف لسر الحياة، التي يرجعها إلى العناصر والأركان التي أصلها الماء، فهو جذر كل ما في الوجود أو كل ما هو "حيوي". تأكيدا بأن الحياة عنده رامزة للعلم أو الوعي بـ"المكانة". فما على الإنسان إلا الوعي بهذه الوضعية ككائن حي؛ "لأنه صورة الله": والانتباه إلى قيمة هذه الصورة هو كشف لقيمة الحياة وحقيقة الذات وجوديا ومعرفيا، ويرجع هذا إلى ديناميكية الصورة عبر حركتي الفوق والتحت: إنها الصورة الكونية، لأن للحق الميل إلى الخلق رغبة في المعرفة أو إظهار المخفي-أطروحة"الكنز المخفي" أو "التكنيز": "ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده، فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي، ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص"[17] إن رمزية الماء تأتي كضامن لنظام الحياة كونيا، كما أنها تأكيد للميل الإلهي، لأن للماء وجود تحتي، تأكيدا للهوية؛ "هوية الحق الخلق وهوية الخلق الحق"، هذا الانتماء المتبادل أساسه الحياة بأفقها الكوني والعام، وشرطها المعرفة كمناسبة لإثبات هوية الأنا والآخر: الأعلى والأسفل، فرغبة الفوق العلم والمعرفة ورغبة التحت إما العلم أو الجهل. ولهذا فالرابطة الوجودية تترك إمكانية "الكمال بالصورة" أو الإعلاء بالوجود الذاتي كمعنى. إن هذا الميل الإلهي متمثل في أقصى صوره في حكمة الأنبياء وفي نموذجها الأعلى "كحقيقة محمدية" الرامزة لمقام القرب، والغرض من هذا هو بناء الحقيقة في دلالتها "الجبروتية" كنقطة برزخية تعطي لما سواها معنى، كخطوط متكثرة أو ذات الأصل الواحد. وهذا ما وجده الشيخ الأكبر في "الحكمة المحمدية" كحقيقة كلية أو "حقيقة الحقائق"، تأسيسا لهذا المفهوم –الحقيقة- في وجوده الخفي والقابل للظهور، فهو محكوم بجدل الخفاء والتجلي، الاتصال والانفصال؛ آخذا بعين الاعتبار أن الحقيقة تحمل في جوفها وجهان: الوحدة والتعدد، الهوية والمغايرة، الظاهر والباطن. لكن بناءها هو في القدرة على الجمع بين المتضادين أو المتشاجرين (نسبة إلى شجرة الكون). وقد بلور "الشيخ الأكبر" هذا في حقيقة الحقائق "كوجود بيني" جامع للوجهين أو الصورتين، من خلالها يتم تمثل الأعلى والأسفل، التعالي والوجودي: فأساسها "الحب" (الجذب) كعلاقة وجودية بين الحق والخلق، وتجلياتها المعرفة والإظهار، إنها نموذج كل الصور وما سواها كثير، وهي بهذا طريق لتصحيح الصور وتعديلها. فكمالها في معناها، لهذا تحمل تسميات متلونة، فهي عنده "القلم" أو "العقل الأول". فهل المضمون الوجودي لهذه الحقيقة هو من أجل بناء تجربة التعالي؟ وهل وحدتها راجعة إلى كونها "جامعة ومانعة" لكل الحقائق أو لكونها نموذج كل وحدة ممكنة؟
مما لا شك فيه أن مرجعيات الشيخ الأكبر متعددة: فلسفية صوفية، دينية أدبية، علمية..، لكن عمق هذه التجربة متبلور في "الحفر" عن المعنى الأصلي وتنقيته بموقف يعكس معاناة داخلية وذاتية. بهذا المعنى يحضر التوظيف الرمزي للخطاب، لأن الموضوع المبحوث عنه لا ينضبط واللغة الاعتيادية والطبيعية، بل قول قابل لاستعمالات دلالية، رغبة في التحكم في العلامات الكامنة والمتداخلة في الوجود. وما تسمية الحقيقة "الحقيقة المحمدية" إلا دلالة على النظر، فهل هي قابلة للحد أم أنها أساس كل حد وتعريف؟ هل مضمونها محدد في تاريخيتها أم أنها ذات مضمون ما فوق التاريخ ومتجدر في تجربة الوجود ذاته؟
إن خصوصيات وامتيازات هذه الحقيقة هو ما دفع بالشيخ الأكبر إلى توظيفها دلاليا، فإسميا ذات صورة أو شكل مجسد لكينونة الكائن. إنها حقيقة جامعة للصورة والمعنى، ويتحدد هذا عنده في الاسم الشخصي –محمد- كـ"أيقونة" مجسدة لصورة الإنسان الأول –آدم- "وخلق آدم على صورة اسمه لأن اسمه محمد (ص)…
فرأس آدم بتدويره دائرة على صورة "الميم" الأولى من اسمه. وإرساله يده على جنبه على صورة الحاء… وبطنه على صورة "الميم" الثانية…
وقدميه في انتفاخهما على صورة الدال…
فكمل خلق آدم على صورة محمد (ص).."[18].
فهل نحن أمام استراتيجية التسمية بالمعنى "الفوكوي" Foucault كرابطة بين الكلمة والشيء، أم أن المطلب هو ما وراء "الكلمات والأشياء"، حيث العماء والهباء، أو المعتم في خفائه الوجودي؟
إننا بخلاف هذا أمام استراتيجية أعمق متضمنة للتسمية في التصاقها بالشيء وتخطيها له[19]، ويتبلور هذا في أطروحة "الأسماء الإلهية" أو ما يسميه كوربان Corbin بـ"ميثولوجيا الأسماء" كحل سحري أو عجائبي لإشكالات الوجود أو علاقة الوحدة بالكثرة. في هذا السياق يتم توظيف الاسم السابق –محمد- فهو كصورة اسمية خفاء لمعنى الوجود الإنساني وحقيقته، وبيان له في الوقت ذاته شكلا؛ وهذا ما يعطي أهمية للحديث النبوي "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين": فالأمر متعلق بمسألة الوجود القابل للكمال بالصورة العقلية، والتي أعطت دلالة للمعنى الخفي وألبسته ثوب الوجود، فجمعية "محمد" كاسم أو علامة إعلان عن مشروع وجودي بعدي أساس الكمال الإنساني –الإنسان الكامل-. لأن الماهية الإلهية أو الوجود المطلق مهدد في وحدته بوجود التمايزات أو الكثرة، لهذا تأتي "حقيقة الحقائق" كوسيط بين "الوحدة المطلقة" أو "الماهية الإلهية" و"العالم" أو الكثرة، لهذا تأتي "حقيقة الحقائق" كوسيط بين "الوحدة المطلقة" أو "الماهية الإلهية" و"العالم" أو بين "الحق والخلق"، فما وظيفة "حقيقة الحقائق" كبرزخ بين اثنين: الحق والخلق؟ هل هي حد فاصل بين الوجود المطلق والعدم المطلق، أم إثبات للوحدة الوجودية وتأكيدها صورة ومعنى؟
إن وجود آدم –الإنسان- على صورة إسمية –محمد-، قد يضع الفكر الأكبري موضع تناقض، لأننا انطلقنا من أطروحة "الخلق على الصورة"، وأن الإنسان "صورة الله". فكيف يتحول هذا الكائن إلى صورة اسم؟
إن هذا الموقف ناتج عن تنوع الصور، وبالتالي افتتان بـ"الحقيقة المحمدية" كمعنى، وأما الصورة الاسمية من حيث أثرها فطبيعية وجسدية –شيئية-؛ لهذا جاءت مقاربة التصوير الطيني على شكل الاسم وصورته. أما المعنى في الفكر "الأكبري" فهو غير قابل للتصوير والتشكيل، وفي هذا الأفق يأتي الاسم الشخصي منفصلا بمكوناته في جسد آلي؛ أما المطلب الأساسي فهو إبراز تشكل العالم الروحاني كأصل للصور ومنبعها ونموذجها وكموضوع لا يحد بالتصوير والتشكيل أو الرؤية البصرية، لأنه –الروحاني- غير قابل للتقيد والتثبت حسا: "فإنها (أي الصورة) للروحاني، كالنور مع السراج المنتشر في الزوايا نوره، فإذا غاب جسم السراج، فقد ذلك النور"[20].
إن الصورة بهذا المعنى هي هيكل للروحاني أو موطنه، بها يمتد ويتسع. والمطلوب عدم تقييده –الروحاني- في صورة مخصوصة بل في صور، ولهذا يقول الشيخ الأكبر بالتحول في الصور. "وليست الصورة غير عين الروحاني، بل هي عينه ولو كانت في ألف مكان، أو في كل مكان ومختلفة الأشكال"[21].
فالصورة في علاقتها بالروحاني هي صور، هكذا نكون دوما أمام إشكال الوحدة والكثرة، لأن من طبيعة النور، الانتشار كضياء؛ لهذا فالقول بتعدد الصور واتساعها وتحولها هو عائق في تصوير المعنى وتشكيله، وفي الوقت ذاته مناهضة للرؤية البصرية أو الاعتيادية الراغبة في تضييق حقل "الصورة والمعنى". وهذا الفعل الأخير هو ما يسميه الشيخ الأكبر بقتل الصورة: "وإذا اتفق قتل صورة من تلك الصور، وماتت (الصورة) في ظاهر الأمر-انتقل ذلك الروحاني من الحياة الدنيا إلى البرزخ، كما ننتقل نحن بالموت، ولا يبقى له في عالم الدنيا حديث، مثلنا سواء (بسواء). وتسمى تلك الصور المحسوسة، التي تظهر فيها الروحانيات، أجسادا"[22].
إن منع الصورة أو نبذها هو في فكر ابن عربي تنبيه إلى "قتلها" أو إفراغها من مضمونها، بينما حضورها، هو ضرورة وجودية ومعرفية؛ ولهذا فنفوذها ومكانتها يأتيان من أجل تصحيح التجارب السابقة، دون التثبت حول صورة محددة، لأن هذا الفعل هو نتيجة الوعي الظاهري أو التجزيئي، والذي لا يراعي ديناميكيتها وحركيتها أو حياتها الوجودية: فموتها –الصورة- الحسي هو رمزي وليس فعليا، فهي قابلة للتمثل والاستمرار في "جسد برزخي" مخالف. فالأمر في الأخير لا يتعلق بصور وأجساد، بل بصورة واحدة وجسد واحد، والاختلاف هو في الرؤية أو جهة النظر إلى الصورة الحاملة للحقيقة –المعنى-، فكلما اتسعت الرؤية وتمثلت موضوعها في حركيته –تبدله- كلما كانت إمكانية للإعلاء من الوضع الحسي، أو إعطائه معنى ومضمونا، تحقيقا لمكانته الوجودية ووضعه المعرفي، وما هذا سوى وضع الصورة في الوجود أو إعطائها أفقها الممتاز –حياة-. مما يعني أن الأمر مرتبط بطريق أو أسلوب في تمثل الروحاني والمعنوي، ولهذا ينبه "الشيخ الأكبر" إلى "القتل الرمزي" للصورة والذي ليس سوى بقاء داخل لعبة المحسوس أو الوعي التجريبي في مباشريته، وعيا منه بمفارقات الفكر في إدراك المعنى.
إن هذه الاستراتيجية بلورة وتأسيس للتمثل الروحي للحقيقة الكلية والمحددة في نموذجها النوراني "كحقيقة محمدية" أصلية أو كجوهر هبائي، قابل للحد بالصور المتجلية أو المنتشئة من أصلها، فهي موجودة بوجود الأشياء الموصوفة بها "فإنها لا تقبل التجزيء، فما فيها كل ولا بعض، ولا يتوصل إلى معرفتها، مجردة عن الصورة بدليل ولا برهان"[23].
إن ثراء الحقيقة وتوالدها هو في لانهائيتها أو في قبولها لإمكانية التخارج Extériorité، أو التقلب في الصور، وأعلى صورة قابلة لاحتوائها هو "الجسد البرزخي"، ولهذا فحدها لا يتم بالدليل والبرهان –الحس والعقل- بل بقوة نظرية وراء هذا وذاك لأن حقيقتها في ذاتها الجامعة بين المحمل والمفصل، الوحدة والكثرة. وعجز هذه المدارك –الدليل والبرهان- راجع إلى غياب وعي بحجاب الصورة، تأكيدا بأن هذا الأخير –الحجاب- شرط من حياتها ومستوى من مستويات إدراكها، ما دام المطلوب هو "كشف الحجاب" أو "المحجوب": فهل قتل الصورة هو نسيان لحجابها أو عجز في إدراكه؟ وألا يعني هذا قتل للعلامة كصورة ناطقة ودالة على معناها الخفي؟ وأليس المرمى من هذا إعادة هدم ما يسميه الشيخ الأكبر بـ"عباءة العلامة"؟
إن قتل الصورة هو بقاء في سجن الخيال وطلسمه كقوة جسدية –بصرية- متجذرة في تجربة الحس والمحسوس، أما تمثلها في إبداعيتها كعين للروحاني، أو في وحدتها هو بتحويل الخيال ذاته من نسبيته إلى إطلاقيته أو ما يسميه بـ"الخيال المطلق"، وتحويل للعقل أيضا من طوره إلى ما "وراء مداركه".
إن الإقرار بتحول الصور في لا نهائيتها ووحدتها هو بناء للصورة الكونية داخل رابطة الوحدة والكثرة أو الواحد والمتعدد. فالقول بكلية هذه الحقيقة ذات الوجود البيني، هو من أجل خلق تواصل بين الإلهي والإنساني، من موطن روحاني بامتياز: إنه "عالم المثال" le monde imaginal، الذي تتخذ فيه الصور فعلها وحركيتها من الروحاني إلى المادي ومن المادي إلى الروحاني، فالتبدل العرفاني هو في "الموطن الأصلي للحقيقة" بتعبير هيدجر أو "عالم المثال" كما يحدده الشيخ الأكبر "كأرض الحقيقة" والمعنى، أما العالم المعطى تجريبيا فوجوده رهين بتجليات العالم الأول.
فحقيقة الأنبياء كروحانية تتحرك في هذا البرزخ الذي تتخذ فيه الحكمة المحمدية مركز أو أساس كل الأسس، وما تجربة "المعراج" النبوي إلا تأكيدا لهذه الروحانية، أو استعادة للمعنى الكوني لهذه الحقيقة من أجل بيان الصورة في وجودها المثالي أو الروحي كعلة للصور الأخرى أو الصور الظاهرة. فما يميز هذه الحكمة النبوية هو حقيقتها الغير القابلة للتحريف، فهي تمتاز بثباتها "الماورائي"، مما جعلها صورة جامعة لكل الحقائق بل أساسها، فلماذا كانت تجربة المعراج "ليلية"، هل وراء هذا تصور محدد للزمن أو استعادة للصورة الأصلية؟ إن الشيخ الأكبر يرى بأن أصل الزمن العربي هو ليلي وليس نهاريا ولهذا جاء التعالي إثباتا لزمن الأصل، مما حول التجربة النبوية إلى أنوار أو أداة لانتشاء الصورة وتوزعها وتحولها إلى حقائق جامعة لروحانية الأنبياء، وبالتالي ختمها: إنها البداية والنهاية، الأصل والفرع، الحقيقة والظل: ورمزية الليل كزمن أصلي هو ما دفع ابن عربي إلى إيصال هذه الحقيقة بضيائها. وما علاقة النور بالضوء إلا بيانا للرابطة المعرفية والوجودية بين الحقيقة والظل، والمأمول من هذا هو احتواء هذا الظل أو إرجاعه إلى أصل لأنه ليس سوى كثرة ظاهرية: فالضياء هي القابلة للرؤية أما النور فهو الحجاب الفعلي والصميمي. في هذا الأفق فالحقيقة ذات وجود خفي أو رامز للخفاء، أما تجليها فهو تجسيد لصورها الكونية. أفلهذا السبب يحمل القول الديني نمطين من الرؤية: الظاهرية والباطنية؟
إن الانبهار بالحقيقة المحمدية هو في دلالته افتتان بحجاب النور ووعي بوضعيته المعرفية والوجودية "كأخفى" حجاب: فإذا كان الانحراف –التحريف- "العيسوي-المسيحي" قتل للصورة بخلطها بالألوهية فإن القول بحجاب النور هو رسم لحدود الصورة وإعطاؤها مكانتها بخصوصية عالمها المتميز؛ لهذا فقتل الصورة مزدوج، إما حسيا مباشرا أو غير مباشر. الأول بالتثبت حول معنى معين-صورة محددة؛ والثاني بالتضحية بالمعنى الأصلي –الواحد- بما سواه الكثير أو الظل simulacre؛ فهل مكانة الظل في النص الأكبري عبارة عن نسخة أو صورة مشوهة أم أنه ذو قيمة معرفية ووجودية؟ فهل أطروحة "مد الظل" هي أسلوب في امتداد الأصل –المعنى- وتوزعه؟ وألا يمكن القول بأن الظل أداة لتصويب كانعكاس مرآوي، أو هو ما يحول العالم إلى مرآة لتجسيد المعنى والحقيقة؟
* * *
إن ما يدافع عنه الشيخ الأكبر هو المعنى الخفي والمستور أو الوجود في خفائه، وما الحقيقة المحمدية إلا مناسبة لمقاربة هذا الوجود المعتم كمعنى يحمل في أفقه فتحا وانفتاحا، ضمانا للاستمرارية البعدية أو الامتداد المستقبلي في "الإرث المحمدي" كتجربة ذاتية، حيث هناك إمكانية للحديث عن روحانية الوارثين أو "الأولياء" كاستمرار لروحانية الأنبياء: إنه المعنى الكاشف لحقيقتهم خارج مؤسسة الجماعة. فالولاية بناء لوعيروحي كامل أو ما يسميه بـ"الإنسان الكامل" كموضوع لتحقق كمال الصورة، والكمال بهذا المعنى كمال كلي وليس جزئيا، إنه كوني يتدخل فيه الوعي كما يرتبط بالجسد. إنه كمال الذات وصورتها.
إن تجربة "الحقيقة المحمدية"، كحكمة تحمل في عمقها أفق "الزمن والوجود" بمعناها القبلي والبعدي أو كخفاء وظهور، سابقة على كل مظهر أو ظهور، وفي الوقت ذاته أول المظاهر، وقابلة للتمثل وجوديا في المابعد، إنها بخلاف التجارب السابقة التي زامنت راهنيتها أو لحظتها التاريخية، وإن أفقها انتهى بالوجود الحي لأصحابها. ألهذا السبب يعتبر ابن عربي نفسه من اتباع الخضر؟ ولماذا كان أول شيوخه "عيسوي" أو على "قدم عيسى"؟، هل وراء هذا التزامه بفكرة الولاية والتي ستبلور نتائجه الفكرية في أطروحته حول الأديان ووحدتها، آخذا بعين الاعتبار أن الأنبياء في نظره ليسوا سوى نواب للحقيقة المحمدية.
إن امتيازات "حقيقة الحقائق" تركت أفق الوحدة أو إمكانية بناء الذات في تجربة الفتح والتفتح، اعتمادا على الصورة كأساس ميتافيزيقي أو كرابطة بين الماهية الإلهية والعالم أو الوحدة والكثرة؛ واستمراريتها هي بالعلم بهذه الصورة وقيمتها الكونية الرامزة للمعرفة. فإذا كانت النبوة منقطعة عند ابن عربي، فإن إرثها ممتد وحاضر باستمرار كصورة كاملة، وهذا في دلالته إثبات وتأكيد لحياة الصورة بـ "مد" حركيتها وديناميكيتها في "ذات" أخرى أو في معرفة أكمل: "فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن الشريعة، فمن حيث هو ولي وعارف، ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع"[24].
فالشيخ الأكبر يؤسس في هذا الإطار المفارقة بين الشريعة والحقيقة أو بين صورتين للخطاب الديني: الأولى ذات معنى ظاهري-تشريعي ملتصق بتجربة الجماعة أو مؤسستها، والثانية خفية أساسها العلم بمكونات الحقيقة ومضمونها الماورائي. وما يميز "حقيقة الحقائق"، هو أنها جامعة بين المستويين: النبوة والولاية. فكلامه كولي أتم وأكمل من كلامه كنبي. وسمو الولاية وكمالها راجع عنده إلى مسألة اسمية، فالولي اسم من أسماء الله، لهذا جاء رامزا للعلم والحقيقة. فإذا كان الاسم –محمد- كما سبق الذكر مجسد لحقيقة الإنسان كجسد، فإن اسم الولاية –الولي- تجسيد لحقيقة ذات بعد خفي أو غيبي، ولهذا فضرورة العلم أو مفاتيحه هي خارج الموقف التشريعي-الظاهري. إنها علوم سرية طريقها طلسمات المعرفة والوجود (الوحدة)، إضافة إلى أن تجربة الفتح هي فك وتفكيك لهذه الطلسمات رغبة في ما تخفيه من معنى وروحانية.
فسلطان هذه العوائق هو علة التوتر بين المعنى والتصوير، لأن الانتصار لقوة الوهم هو القتل الفعلي للصورة: "فتتخيل بالوهم أنك قتلت، وبالعقل والوهم لم تزل الصورة موجودة في الحد"[25]. إن قتل الصورة هو من باب التخيل أو الوهم، ولكن للصورة حضورا وبقاء مستمرين، لأنها أصلا متجلية، وتمتد تجلياتها إلى ما بعد الموت: فالرغبة في التصوير الحسي هو ما أفرغ المعنى من مضمونه كما هو الأمر في نشأة عيسى ومعجزة موسى… ولهذا يدعو ابن عربي إلى تمثل مغاير للصورة، لأن حصرها في بنية التصوير هو قتل لحركيتها أو حياتها، وما يتبقى هو الصورة المثالية أو العالمة ذات الأفق المتفتح. في هذا الإطار يثار السؤال التالي: لماذا الافتتان بالوجود المثالي للصورة؟
إن هذا التوجه يحمل إمكانية بناء "الحقيقة الوجودية" في استمراريتها أو كينونتها البعدية، وهو أفق الفتوحات المستمرة والمتمثلة في الولاية؛ فإذا كان الوجود الماورائي في لا زمانيته نوراني، فإن المعنى البعدي هو كوني، أو امتداد لأصله في كليته وشموليته: فهل نحن أمام تصور معين للحياة أو أمام معنى خاص للوجود الإنساني؟ إن معنى الحياة في هذا المنظور التيوصوفي ذو مضمون برزخي: بين الوجود والعدم، الحياة والموت، الفناء والبقاء، الرغبة والواقع… إنها حياة كاشفة لما هو خفي أو حياة "الصورة المكافحة" والمتجاوزة لعقالها. والحياة هي أساس الوحدة بين الكائنات المتعددة والمختلفة، ومناسبة لتحقيق كينونتها بالصورة الجامعة والكلية، وهذا ما يسميه "بتوحيد الخبء". وكل "خبء أنثوي" كما يقول باشلار .
[1] Corbin (H) : L’imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn Arabi, 2ème ed. Flammarion, 1976, p147.
[2] فصوص الحكم، ابن عربي، تحقيق أبو العلا عفيفي، فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية، ص139.
[3] فصوص الحكم، ابن عربي، فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية، ص183.
[4] فصوص الحكم، ابن عربي، فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية، ص140-141.
[5] فصوص الحكم، ابن عربي، فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية، ص183-184.
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع السابق، فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية، ص141.
[8] المرجع السابق، ص141-142.
[9] الفتوحات المكية، تحقيق عثمان يحيى، السفر II، ص314.
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق، ص211-212.
[12] الفتوحات المكية، السفر II، ص315.
[13] الفتوحات المكية، الجزء 3، دار صادر بيروت.
[14] الفتوحات المكية، الجزء4، دار صادر بيروت، ص19.
[15] الفتوحات المكية، السفر II، ص298.
[16] المرجع السابق، ص64.
[17] فصوص الحكم، فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية، ص171.
[18] شجرة الكون، ابن عربي، تحقيق رياض العبد الله، طI، ص64-65.
[19] للتمييز بين الشيئية العامة والخاصة، الرجوع إلى الفتوحات المكية، الجزء 3، دار صادر بيروت، ص90.
[20] الفتوحات المكية، السفر II، ص284.
[21] المرجع السابق
[22] المرجع السابق
[23] المرجع السابق، ص224.
[24] فصوص الحكم، فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية، ص135.
[25] فصوص الحكم، فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية، ص185.