تحكي الكتب القديمة خاصة التلمود وكتاب القبّال اليهودي، أن حواء لم تكن الزوجة الأولى لآدم، وإنما كان على علاقة زواج قبلئذ بسيدة، مخلوقة هي الأخرى على طريقة آدم والتي ليست إلا ليليث Lilith، شيطانة الفجور والفسق كما يلقبها البعض، أو المرأة المتمردة كما يحلو تسميتها بالنسبة للبعض الآخر، لكن حدث أن تم إخراجها من الجنة وذلك بسبب رفض خضوعها المطلق لآدم، ودعوتها إلى الحرية الجنسية بدل الانصياع باسم الزواج، بيد أنها وكرد فعل على هذا الإجحاف الذي لحق بها، أخذت على عاتقها مهمة امتصاص الطاقة الجنسية للرجل خلال فترة النوم وذلك انتقاما منه، وانتصارا للقدرة الأنثوية على فعل الانتقام.
عندما نتعمق في الأمر أكثر، نعثر بين ثنايا ملحمة جلجامش أن ليليث أو نَعْمَة Naama ، كانت دوما ضد الخضوع الجنسي للرجل، وهو الأمر الذي كان سائدا قبل هاته الحقبة بكثير خاصة في القصص اليهودية القديمة، لقد كانت لآدم امرأة قبل حواء اسمها ليليث، بيد أنها رفضت دوما أن تكون خاضعة لسلطة الرجل خلال الممارسة الجنسية، بل إنها أن يكون الرجل دوما أسفل المرأة خلال لحظات الجماع، محاولة بذلك تجاوز الهيمنة الذكورية إن رمزيا أو ماديا والتي شكلت دوما عنوان العلاقة بين الرجل والمرأة، لكن السماء غضبت من هذا التمرد اللامتوقع فحدث أن تم إنزال اللعنة على ليليث، بحيث حوكم أن يموت أبناؤها عند لحظة الولادة، ليتزوج آدم بعد ذلك سيدة أخرى والتي ليست إلا حواء بطبيعة الحال.
عندما نعود إلى الدلالة الإيثيمولوجية نجد أن كلمة ليليث تعني روح الرياح، التي تحضر دوما في كل صراع ثنائي بين الرجل والمرأة، بقد عملت ليليث انطلاقا من ذلك على إبقاء وجودها كقوة تثأر من هاته العلاقة اللامتكافئة بين الرجل والمرأة، بيد أن آدم لم يستسغ هذا الأمر فأرسل في طلبها ثلاث ملائكة وهم على التوالي: سنوي، سنسوي، سمنج، إذ عثروا عليها في البحر الأحمر حيث خيروها بين العودة إلى آدم أو معاقبتها وذلك بقتل مائة ابن لها خلال اليوم الواحد، على العموم رفضت ليليث أن تعود إلى آدم متوعدة الجميع برد فعل أقوى من هذا الذي هددت به، فحدث أن تدخلت بداية في الصراع الذي كان دائرا بين الإخوة الأعداء قابيل وهابيل، وبقية القصة يعرفها الجميع طبعا.
هذا ونظرا لقوة حضور ليليث في التاريخ، فإنها لم تحضر فقط في الديانة اليهودية، وإنما كان لها أيضا حضورا قويا عند جل حضارات الشرق، فليليث اليهودية هي الغولة التي تأكل الصغار في المتخيل العربي، وهو ما يبرز تكريس انتقامها بقتل الأطفال كرد فعل على قتل أطفالها، كما أن ليليث هي اللات عند عرب قبل الإسلام، بل إنها تضرب بجذورها في الحضارة السومرية حيث نجدها تأخذ اسم ليل ـ إيتي أي إلهة رياح الجنوب وزوجة الإله أونليل، في مقابل ذلك وعندما نعود إلى ليليث أو اللات عند عرب ما قبل الإسلام، نجدها تجسيد لمؤنث الله، فنقول اللات في مقابل الله، إنها رمز متمرد على كل سلطة ذكورية، وموقف من كل هيمنة باسم التفوق الجنسي.
عرفت اللات بتلك الإلهة التي تحمل يدا "خميسة" وهو الأمر الذي جعل العديد من العرب يسيرون على نفس المنوال، حيث لازالوا لحد الساعة يتبركون بهذا الرمز معتبرين إياه فأل خير، سواء عند اليهود باسم ليليث، أو المسلمين باسم اللات، حيث تسمى عند العرب بيد فاطمة، وفاطمة هو الاسم الثاني لليث، لهذا قد لا نتعجب عندما نرى النبي قد أطلق هذا الاسم على إحدى بناته، وذلك نظرا لتأثير تقاليد وثقافة العرب القديمة على النبي الجديد، في حين أن اليهود يطلقون عليها يد مريم، والتي يضعونها طردا للعين الشريرة التي تعود على صاحبها بعد ذلك.
المرأة انطلاقا من كل هذا امرأتان، امرأة خاضعة للهيمنة الذكورية دون نقاش للأمر، وأخرى رافضة ومتمردة على كل استبداد باسم الذكورية، والحال أن الحديث عن ليليث وحواء، إنما له من الرمزية ما يجعلنا نثير وضعية المرأة كامتداد لحواء التابعة والخاضعة دوما، في مقابل ليليث المتمردة والساعية إلى حرية من خلالها تتخلص من سلطة الذكر، على العموم كلنا نعرف كيف تنظر مجتمعاتنا إلى المرأة، حاصرة إياها في المطبخ وغرفة النوم، بقدر ما نعرف أن الانصياع أيضا بات من طبائع ومن شيم النساء، وهو الخطر الذي طالما هددنا ولازال يهددنا بمرض مزمن اسمه الانغلاق والهيمنة الفارغة التي لا أساس لها سوى التوهم بأشياء نجهل طبيعتها، ومنه فهل يا ترى ستبقى المرأة العربية حواء في انصياعها، أم ليليثًا في تمردها على كل قوة مهيمنة؟