يقال أن الشعوب تتعامل بأشكال مختلفة مع تراثها. في الواقع، أنها تتعامل مع تراثها طبقاً لبناها المعرفية وانطلاقاً من أحكامها ومفاهيمها. لذلك يجيء التعامل مختلفاً.
ما نريد أن نقولـه هنا هو أن الاختلاف في مسألة التعامل مع التراث ليس فطرياً، بل أنه ذهني ولـه ما يفسره في طرائق التفكير والانفعال عند كل مجتمع من المجتمعات.
فالتراث مفهوم حديث، بالمعنى الذي أعطي لـه في الأدبيات والكتابات التي تلت عصر النهضة. إنه يمثل كتلة كبيرة من الأعمال العائدة للأزمنة العربية الماضية والتي كان للإسلام فيها إسهاماً معنوياً كبيراً.
من هنا يبدأ، عندنا، ربط المخزون الفكري العائد للأزمنة الماضية بمرجعية هي المرجعية الدينية. فلا يعود التراث، ضمن هذا الفهم، مجرد خزان ضخم لأعمال كتّاب من الماضي، يتم التعامل معه بالعقل، بل يتحول إلى مخزون معنوي هائل يستثمر في تجييش المشاعر، وأحياناً العصبيات.
لذلك يبدو تعاملنا مع التراث، منذ اللحظة الأولى، تعاملاً منحازاً، إذ نضعه بشكل إرادي في موقع سيتحكم به لاحقاً، فيغدو التراث بعدها رديفاً ولو غير معلن للإيمان، ينصاع لقانونه وينضوي تحت لوائه.
فلو نظرنا في اتجاهين، غرباً وشرقاً، سوف نلاحظ أن ما نحن عليه لا ينتمي إلى تجربة عالمية وطبيعية وفطرية، بل يعود إلى خيار فكري غير مدرك مستمد من موقف مسبق وضعنا أنفسنا فيه. فالتراث، كما سنرى بعد قليل، موقف ذهني متكامل من الآخر ومن العالم، يختلف من بنية اجتماعية إلى أخرى، ويتمتع بوظيفة محددة تنبع من رؤية أشمل تخدم هذا الموقف. علماً أن الموقف والوظيفة يتناسقان في ما بينهما على المستوى الداخلي من ناحية، ويتميزان، بحدة أو برفق، أو حتى بعصبية، عن العالم الخارجي من ناحية أخرى.
1 ـ الغرب والتراث
أ) عندما نبحث عن مصطلح التراث في القواميس الثنائية أو الثلاثية اللغة المتوفرة في السوق يشار لنا أن هذا المفهوم ترجم بـ patrimoine في الفرنسية، وبـ patrimony في الإنجليزية.
كما أننا نكتشف عند عودتنا إلى قواميس التأصيل اللغوي الأوروبية أن أصل المفهوم الغربي المشار إليه مشتق من اللغة اللاتينية حيث يعني patrimoinum الإرث الأبوي .
مما يجعل كلمة patrimony تعني، في الغرب، خيرات أو ثروة أو ملكية موروثة عن الأب. أي أنها تصطبغ بطابع مادي ومحسوس، الأمر الذي يمنحها قابلية تسويقية لاحتوائها على معنى الرأسمال وفكرة القيمة المادية.
لذلك يلجأ القانون في الغرب إلى التمييز بين مصطلحين آخرين هما الرأسمال الاقتصادي (economic capital) والإرث الأبوي (patrimonial capital) الذي يعكس المعنى المقصود في المصدر اللاتيني.
وفي حين أن الرأسمال الاقتصادي يخضع لمبدأ الربح ويلتزم فكرة الاستثمار ويحتكم لقانون العرض والطلب فإن الإرث الأبوي يخضع لمنطق مختلف نسبياً يجعله أكثر اقتياداً بالأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد، نظراً لقيمته المادية والمعنوية على حد سواء.
بحيث يتضح لنا، في نهاية المطاف، أن الترجمة الأجنبية لمصطلح التراث غير دقيقة لأنها لا تتطابق مع ما نقصده بالتراث في لغة الضاد. الأمر الذي يضطرنا للاعتماد على المصطلح الأقرب إلى المقصد العربي، cultutal patrimony، أي الإرث الثقافي، للدلالة على ما يعنيه عندنا مصطلح التراث.
ب) ماذا يعني الإرث الثقافي بالنسبة إلى الغربيين راهناً؟
لنذكر بادئ الأمر ن الغربيين هم كتلة سكانية وجيوـ سياسية كبيرة عاشت، خلال القرون الخمسة الماضية ثلاث ثورات: ثورة ثقافية، تمثلت في ظهور النهضة (Renaissance) حيث غادر الغرب إدارياً القرون الوسطى وثقافتها اللاتينية الضيقة؛ وثورة سياسية، تمثلت في الثورة الفرنسية عام 1789، حيث رسمت معادلة المواطنة والنظام الديمقراطي وسيادة الشعب؛ وثورة صناعية، انطلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، رابطة مصير الرأسمالية بمصير التقدم التكنولوجي.
فالإرث الثقافي في الغرب قد عاش من حيث لا يدري هذه التحولات الابستمولوجية الثلاثة التي أفضت بالمواطن الغربي إلى الأزمنة الحديثة كأزمنة يرتسم مسارها بشكل مختلف مقارنة مع الأزمنة الماضية.
لذلك يدخل الغربي إلى إرثه الثقافي في باب الحاضر، لا من باب الماضي، وهذا الموقف المعرفي شديد الأهمية لفهم كيفية الفهم عند الغربي، ولتمييزه عما هو جار عند سواه من الحضارات القائمة اليوم. إذ عندما يلتفت الغربي إلى الماضي، ينقطع معرفياً عنه مع إبقائه على روابط التواصل الثقافية معه.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن موقف الغربي من تراثه يخضع لعملية فصل بن ما هو ثقافي وما هو تاريخي. فعندما تحافظ مدينة كولونيا في ألمانيا أو مدينة تور في فرنسا أو مدينة أمستردام في هولندا على ما تطلق عليه تسمية "المدينة القديمة"، وتعمد إلى ترميم الأبنية القروسطية ضمن المعايير الجمالية المعتمدة منذ ألف سنة ونيف، تأتي هذه العملية ضمن روحية حديثة.
فالمطلوب من ترميم أبنية المدينة وإعادة تأهيلها هندسياً ببعض الدعائم الحديدية المخفية وبمواد إسمنتية معاصرة تلون بلون الطين الذي كان معتمداً إذاك، ليس إحياء التراث بل المحافظة على الذاكرة.
بحيث أن عين الزائر الغربي، وهو يتمشى في المدينة القديمة، ليست عين الانبهار بالماضي ونتاجاته، بل عين الاحترام للماضي والنقد. فهو يتفحص ما تقع عليه عينه بعقله ويقارن بينه وبين ما آلت إليه الأمور اليوم. وموقفه النقدي هذا نابع من كونه بات منقطعاً معرفياً عن أشكال وأنواع وتعابير تلك الثقافة.
كما تلعب المتاحف الاتنوغرافية في جميع المدن الأوروبية الدور نفسه إذ أنها تدعو الزائر إلى التأمل والمقارنة، عارضة أمامه أزياء الماضي، أو أدوات العمل القديمة، أو أي مواد أخرى، ضمن السياق الفكري نفسه. فالعين الزائرة والعين المتابعة لما بقي من آثار أشكال الحياة الماضية هي عين ناقدة.
وتعكس الزيارات التي تنظمها المدارس لتلاميذها في الغرب هذا الحرص على تربية العين بشكل علمي. فزيارات التلاميذ تأتي في سياق العملية التعليمية المبنية، في الغرب، على النقد والملاحظة.
وعماد هذه العملية الفكرية المقارنة، لا التماهي.
فالانتقال، ضمن الحصة التعليمية، لزيارة كاتدرائية، بمواكبة أستاذ مادة التاريخ، يجعل هذه الزيارة، بالنسبة لتلاميذ المرحلة التكميلية أو الثانوية، مناسبة لتأمل مزايا القوس القوطي ومدى فوائده في بلوغ الارتفاعات الشاهقة في عمليات البناء، كما أن الشبابيك المزينة بالزجاج الملون تغدو مناسبة لأستاذ الفيزياء أو الرياضيات لشرح كيفية استثمار الضوء في التعبير عن جمالية الألوان.
فتتحول بذلك الكاتدرائية إلى متحف، وزيارتها إلى مناسبة علمية وتعليمية، لا إلى مناسبة إيمانية.
هذا القطع الذي يجريه الغربي بينه وبين تراثه الثقافي المادي، يجريه أيضاً بينه وبين تراثه الثقافي المكتوب. فرائعة فيكتور هوغو Notre Dame de Paris، التي تجري أحداثها في مناخات القرون الوسطى، والتي تعتبر من أهم ما أنتجه الأدب الفرنسي حتى اليوم، هي مناسبة لتذكر الماضي الغابر، لا لاستنهاضه. فعندما تشرح أحداث هذه الرواية يذهب التعاطف إلى الغجرية إسمرالدا، المتعلقة بضابط الفرسان فيبوس، الجميل كالشمس بحسب تعبيرها، ولا يذهب إعجاب القراء ناحية الراهب الذي يتحكم بأحدب الكاتدرائية.
فهنا أيضاً يفصل الغربي بين مسألتي الثقافة والتاريخ. فما هو ثقافي، أي إنساني وأممي، يبدي تعلقه به (كالحب مثلاُ)؛ أما ما هو تاريخي بمعنى أنه ينتمي إلى أشكال من التفكير والعمل مطابقة لنماذج الماضي، فالغربي يتعامل معها ببرودة وعقل نقدي.
في هذا السياق لا بد من ذكر دراسة إرفين بانوفسكي(1)حول الكاتدرائية القوطية والخطاب السكولاستيكي حيث ربط بين أنماط التفكير التي كانت تلقن في المدارس السكولاستيكية ـ الدينية في أوروبا القرون الوسطى وقدرتها على توليد أنماط أشكال هندسية مطابقة لها. فخطاب القديس توما الأكويني، الذي كان يتوجه الإيمان بالله العلي القدير، تغلغل في طرائق تفكير وعمل مهندسي وبنّائي الكاتدرائيات (الذين تتلمذوا جميعاً في هذه المدارس السكولاستيكية) فتجلى بالتزام العمارين والمهندسين والمشرفين على بناء أماكن العبادة هذه، الشاهقة والعظيمة، ومن حيث لا يدرون، بمنطق زمنهم المعرفي.
أي أن بانوفسكي تعامل مع مسألة الإرث المعماري الديني من خارج منطقه. بل أنه تقصد اختراق بنيته ومنطقه الداخلي؛ بحيث أظهر التراث في مظهر لم يكن أحد قد فكر به، مقارباً إياه ببرودة العالم وعقلانية الباحث الفاحصة والسائلة، لا عين طائعة ومستسلمة.
من هنا فقد دخل الإرث الثقافي حيز الدراسة المنهجية العلمية في الغرب، إسوة بكل النتاجات الثقافية الأخرى، دون تمييز أو مفاضلة، وضمن مساواة موضوعية حجبت عنه قدسيته.
ج) ويمكننا هنا أن نعتبر أن الإنسان الغربي يتعامل مع تراثه على أساس ابتعاد نظري (distanciation) يضعه هو، في الأصل، خارج التراث لا داخله، من هنا فهو انتقائي وغير ملزم بكل ما يقدمه لـه هذا التراث. يختار فيه ما هو مطابق لحاضره ولا يعود بنفسه وبحاضره إلى هذا الماضي لأخذ بركته.
فالابتعاد النظري المتعمد الذي يميز علاقة الغربي بتراثه موقف فكري شامل لا نفهمه سوى بربطه بالثورات الثلاث التي تفصله عن تراثه القروسطي. هذا التراث الذي يقبل به كجزء من ذاكرته الثقافية ويرفضه ضمناً كجزء من حضارته الحديثة الراهنة. ولا عجب في ذلك، حيث أنه لو لم تكن عملية الابتعاد النظري تلك موجودة لتماهت نماذج الماضي بنماذج الحاضر ولتنكر فكرياً الغربي لزمن الحداثة الذي كلفه بلوغه غالياً جداً.
فالإرث الثقافي الذي يبدي الغربي كل الاحترام تجاهه يعامل لذلك على أساس أنه:
ـ جزء لا يتجزأ من الماضي، ولا تحصل تعابيره بالتالي على القبول سوى بشكل انتقائي ونقدي. ومصفاة العقلانية الحديثة هي التي تقرر حالات القبول وحالات الرفض، في سياق عملية فكرية وتربوية على السواء.
ـ جزء من الذاكرة الجماعية، الأمر الذي يستتبع تعاملاً استعادياً لمحتوياته ومكوناته. فهو يشب الانسيكلوبيديات والقواميس. إذ يشكل الإرث الثقافي إنسيكلوبيديا عامة للماضي الغابر يعود إليها الغربي للاستفسار عن أمور يجهلها وباتت بعيدة عنه على المستويين الفكري والحياتي.
ـ لا يشكل نموذجاً يحتذى به لزمن فاضل وذهبي. فالغربي يعلم تماماً أن الزمن الذهبي هو الزمن الذي يعيش فيه راهناً، ذلك أنه يؤمن لـه العدالة والحرية والمساواة على المستوى السياسي، والبحبوحة على المستوى الاقتصادي، والرفاهية على المستوى التقني والعملي العام.
ـ لا يستدعي سوى الزيارة. فالغربي لا يتنكر لإرثه الثقافي، لكنه يقيم مسافة بينه وبين هذا التراث. لذلك فهو يزوره، ومن خلاله يزور ماضيه، لكنه لا يقيم فيه. فعلى الماضي أن يخدم الحاضر، لا على الحاضر أن يسبك في قوالب الماضي. وتغدو بذلك علاقة الغربي بتراثه علاقة باردة ووظيفية، ثقافية لا معرفية، بمعنى أنها تهدف إلى أكثر من التعرف على ما ليس معروفاً أو هو معروف بشكل غير محسوس.
ـ لا يشكل عودة للينابيع. فينابيع النماذج التي تقوم عليها حياة الإنسان الغربي المعاصر موجودة كلها في المرحلة الحديثة، أي انطلاقاً من القرن السادس عشر. مم يجعل الإرث الثقافي الفعلي، بالمعنى المطروح عندنا، موجود في القرون الوسطى التي هي، معرفياً، نقيض مرحلة الحداثة التي بناها وتبناها وتماهى بها بشكل نهائي الإنسان الغربي منذ خمسة قرون ونيف.
لذلك كله فالتراث، في نظر الغرب، يقع خارج دائرة التماهي أو التمثل و التنبع.
2 ـ بعض بلدان الجنوب والتراث
يتعامل أبناء بلدان الجنوب مع مسألة التراث، في آسيا وأفريقيا، على أساس لا يفصل فيه الفرد بين الماضي والحاضر. فالقطيعة مع التراث غير واردة بالمعنى الغربي للكلمة. يستمد هذا التواصل بين ما عيش في السابق وما يعاش اليوم شدته من عدم حدوث ثورات أو ما يشبه الثورات على مفاهيم الماضي. بحيث تبقى مفاهيم التراث ومفاهيم المعاصرة تنتمي كلها إلى بنية واحدة، يسودها قانون واحد. وهذا ما ينطبق عليه ما نعته الأميركي توماس كوهن بالتفكير الدائري.
فالتفكير الدائري هو التفكير الذي يدور ضمن نموذج إرشادي واحد، "وقدرته على الإقناع كبيرة جداً، لدرجة الإلزام"(2). إذا عندما يتصل الماضي بالحاضر، دون فواصل نظرية أو فكرية، ويسكن منطق الموروث في الممارسات والخيارات الراهنة، يسترشد الفرد بما عاشه أسلافه كما لو أنه ما زال قائماً اليوم.
ففي الهند وباكستان وأفغانستان على سبيل المثال مقولات التراث لا زالت مقولات الحاضر وأمكنة التراث هي نفسها أمكنة اليوم والحساسية تجاه المسائل الثقافية الموروثة لم تتبدل.
أ) نلاحظ أن العمارة الموروثة، في مجال الإرث الثقافي المادي، أكانت قصراً أم مركز عبادة، لا تزل تعتبر مصدراً للممارسات نفسها التي كانت ترتبط بها في الماضي. أي أن وظيفة هذا التراث المادي لا زالت مشحونة معنوياً، وحتى روحانياً، بالشحنات إياها التي كانت تميزها في ما مضى. فيقترب منها الفرد بوقار ويعاملها بمشاعر الرهبة ويلمسها للتبرك وكأنها أشياء حية تملي منطقها عليه.
فأشياء التراث المادي في هذه البقعة الجغرافية من العالم ليست مجرد حجارة وأخشاب وأتربة، بل أنها معاني. ولذلك فروح ما تسكنها وتشكل الماديات جسر العبور إليها. فالمرتكزات المادية للتراث، هنا، مجرد مرتكزات لمعاني وجواهر كامنة فيها. والمباني والأحجار والأخشاب ليست موجودة لذاتها، بل للمضامين الروحية المفترض وجودها فيها.
مما يضع الذاهب إلى أشياء التراث في وضعية المريد والمؤمن، الساعي لاكتشاف إشارات غير مادية في الأشياء المادية. الأمر الذي ينقل هذه الأخيرة إلى فضاء غير فضائها المحسوس وإلى كيان غير كيانها الموضوعي. فالإشارات التي ينتظرها ويسعى لها قاصد المبنى التراث تجعل من التراث أكثر من إرث ثقافي بالمعنى الغربي للكلمة وأبعد من مجرد مكان.
ب) فالمبنى التراثي هنا يعود فضاءاً روحانياً يحج إليه الفرد بروحية الجماعة، وهذه ميزة ثانية لوظيفة الآثار التراثية في وسط آسيا، حيث تترسخ علاقة الفرد بجماعته من خلال مشاركته في التعامل مع المبنى أو المعبد على أساس روحاني. إذ أنه يقدم بذهنية جماعية على ممارسات تبدو لـه فردية، عكس الغربي الذي يقدم فردياً على إرث جماعته.
فالاندماج المعنوي مع التراث يدخل في حوار ضمني مع البنية الاجتماعية القائمة والتي يؤكد الفرد ولاءه لها من خلال موقفه المتعبد العام من مباني الماضي. فكل حركة من حركاته وكل فكرة من أفكاره، أثناء مواجهته للمعلم المادي لتراث جماعته، يأتي منسجماً مع حركات وأفكار وممارسات أسلافه. ويؤكد بذلك الفرد جماعية الوعي وقبوله به من خلال تكرار الموقف إياه الذي يتكرر منذ عشرات القرون.
فالتراث في جوار جبال هيملايا تراث الجماعة؛ والتعامل معه وسيلة من وسائل إعادة بناء البنية الاجتماعية على شكلها الماضي. بل إن سر وجود التراث هو تبرير ضرورة التعبير عن ولاء الأفراد لما يمثله وما يعنيه.
من هنا يغدو التراث المادي حجة الجماعة لإعادة إنتاج نفسها بشكل رمزي. رموز التراث هي التراث، لا قواعده المادية أو العلمية. وأبرزها المحافظة على التقاليد وتوفير إمكانية تكرارها والاستمرار بأدائها. ذلك أن الهدف الأبعد للتراث يتخطى حدوده المادية الصرفة باتجاه الإشارات التي يطلعها ـ والتي يفهمها دون شرح القادم إليه حاملاً معه مخزونه المعرفي العام ـ ومن خلال المعاني التي يسوقها القائمة كلها على نماذج في التفكير والسلوك.
بحيث أن الهندي أو الباكستاني أو الأفغاني الحاج إلى معابد نهر الغانج أو إلى معابد مزار شريف أو إلى مواقع تراثية وعبادية أخرى، يحمل في تلافيف وعيه "بنية استعدادات منظمة تلعب دوراً منظماً"(3) على حد ما يقول الفرنسي بيار بورديو. أي أنه يمارس أمام هذه الأشياء المادية ما قد استعد لـه في وعيه التاريخي الجماعي. وبذلك تأتي ممارساته رمزية ومعبرة عن قبوله لما تمليه عليه هذه الاستعدادات على المستوى الفردي والاجتماعي في آنٍ معاً.
ج) إضافة إلى هذه الشحنة الروحانية الملازمة للتراث المادي نلاحظ أيضاً استغلالاً إيديولوجياً واضحاً وعلنياً لمخزونات التراث. وغالباً ما تتمحور هذه العملية حول التراث المكتوب الذي يسمح باستثمار أكبر لها. ففي مقابل ضمنية معاني التراث المادي نشهد على علانية التراث المكتوب. فيقوم عندها المفسرون والفقهاء بشرح كيف ينبغي أن تكون أوضاع الحاضر على صورة تراث الماضي.
ومن أبرز هذه التعابير الطريقة التي تتعامل من خلالها بعض الأحزاب الهندوسية المتطرفة مع خرائط الهند. فخريطة الهند التراثية، الهندوسية، لا تتطابق مع خريطة الهند السياسية المعترف بها في منظمة الأمم المتحدة. لكن الأمر لا يزعج بتاتاً هذه الجماعات السياسية التراثية التي تدعو أهل البلاد والعباد للعودة إلى الماضي وإلى غابر الأزمنة، حين كانت الهند برمتها مملكة هندوسية واحدة وعظيمة.
فما تحلم به هذه الجماعات التراثية هو إحياء ما يعرف بـ "أخاند بهارات"، أي الهند الموحدة. وخريطة هذه البلاد لا تعود إلى حدود الهند ما قبل التقسيم الذي أفضى إلى إنشاء الهند وباكستان عام 1947، بل تعود إلى العصر الهندوسي الذهبي حيث كانت الهند إمبراطورية مترامية الأطراف، في الأزمنة الغابرة، وتضم التيبت وأفغانستان وباكستان وميانمار الحالية.
وقد سهل حزب الشعب الهندي أخيراً هذه النزعة، بعد تسلمه لزمام الشؤون السياسية في البلاد عام 1998، حيث طبعت ووزعت خرائط الهند التراثية بإشراف متطوعين وطنيين متطرفين، واعتمدت في بعض الكتب المدرسية.
وقد علقت مجلة فرنسية على ما جرى بالقول أن "حزب المؤتمر، الذي فاز بانتخابات 2004، يحاول اليوم لجم هذا الشرود بنجاح نسبي جداً"(4). فالحقيقة هي أن إدراج التراث الفكري والثقافي لأي جماعة في حقل حياتها السياسية المعاصرة دونه مخاطر تفجير العصبيات الكامنة فيه والتي، عند تذكيتها، لا تعود قابلة للجم بالسرعة المطلوبة، حيث أنها تنتشر كالنار في الهشيم وتشل الطاقة العقلانية بلعبها على النعرات الطائفية والدينية.
فخرائط "أخاند بهارات" تشير إلى بحر السند، بدلاً من بحر عمان، وإلى بحر الغانج، بدل خليج البنغال، وتستبدل تسمية مدينة حيدر أباد بالاسم الهندوسي المقدس للمدينة، وهو بهاغياناغار، كما تستبدل اسم مدينة أحمد أباد باسمها الهندوسي التراثي الذي هو كاماواتي.
فننتقل هنا من المادي إلى الروحاني، ثم من الروحاني إلى الاجتماعي، فننتقل بعدها من الاجتماعي إلى السياسي، حيث يكشف التراث عن وجهه الإيديولوجي الحقيقي.
يتبين بعد ما ذكر أن بعض بلدان الجنوب يتعامل مع تراثه الفكري والثقافي اليوم على أساس أنه:
ـ جزء لا يتجزأ من الحاضر، فالتواصل الزمني ما بين ما قيل أو رسم أو كتب و نحت أو بني في الماضي وبين ما هو قائم أمام أعين الفرد اليوم تواصل معرفي يتجسد في اعتماد راهن لأشكال في التعبير والممارسة تتطابق مع تلك التي كانت معتمدة إذاك.
ـ جزء من الوعي الاجتماعي والسياسي، ذلك أن الفرد في علاقته مع التراث لا يقيم قطعاً بينه وبين مواده، معتبراً أن ما صح من مقولات ونماذج الأزمنة الماضية يصح أيضاً للاهتداء اليوم على المستويين الاجتماعي والسياسي.
ـ يشكل نموذجاً مثالياً أعلى: فالتراث، لتطابقه مع مبادئ الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة من حيث انتماء الاثنين إلى فضاء التقليد؛ يجسد مرجعية عليا لا تقبل المناقشة أو المعارضة أو المساءلة. فالتراث هنا يشبه المثل العليا الأفلاطونية التي لا يحق للإنسان سوى الاهتداء غير المشروط بها، لنورانيتها.
ـ يحج إليه الناس، فالتراث الموضوع على هذه المرتبة الرمزية العالية يضحي فوق الناس ومصدر جذب لهم. والتعبير عن هذا الموقف العام يتم لا بزيارته مع البقاء خارجه، بل بالحج إليه بكل الشحن العاطفي والمعنوي الممكن. ذلك أن التراث يتحول في هذا السياق إلى إطار لتأكيد العقائد.
ـ يشكل دعوة مفتوحة للعودة إلى الينابيع؛ فالتراث، في المجتمع التقليدي، هو الخزان الحي لتجليات الفكر والأدب والعلم للعصر الذهبي الزائل. فهو أقوى من الحاضر من حيث أن هذا الأخير لم يتمخض بعد عن تصميمات أو نماذج أرقى من نماذجه. فالعودة إلى التراث تغدو لذلك لازمة النهج التقليدي في المسلك الحياتي الذي لم يتمكن من تخطي ما أنجز في الماضي ولا يرغب راهناً في تخطيه.
فالحضن الدافئ للتراث مطمئن وسهل المنال وأرقى من الحاضر في هذه المعادلة.
3 ـ العرب والتراث:
علاقة العربي بتراثه علاقة عضوية حيث أن هويته القومية برمتها تتغذى من التراث، لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حد سواء. فتعلقه بما يختزنه ماضيه من إنجازات عملية وفلسفية وأدبية أشد من تعلق أي إنسان آخر بتراثه شرقاً وغرباً.
من الممكن أن تبتر الإنسان الأفريقي أو الآسيوي عن تراثه، دون أن يموت حضارياً. أما العربي، إن قطعته عن تراثه، حكمت عليه بالموت، ذلك أن للتراث عند الإنسان العربي مدلولاً دينياً واجتماعياً وعصبياً. حياته المعاصرة مبنية على هذه المعادلة الموروثة والمعيشة في آن.
أما الياباني أو الصيني أو الماليزي الذي يدخل عنوة إلى عصر الثقافة المعولمة لا يشعر بأن كيانه الفكري في موقع الانهيار البنيوي عندما يتطلب الأمر انسلاخاً عن بعض تعابير التراث عنده. بل أنه يعمد مباشرة إلى إعادة تأهيل هذا التراث في قوالب جديدة بعيدة كل البعد عن معناها الأصيل.
فمصارعة السومو في اليابان، كما رياضة الكونغ فو في الصين، قد انقطعتا عن أوصولهما البوذية، لتغدوا ممارسات إما فولكلورية أو رياضية بحتة. بينما الخطاط العربي أو حرفي النحاس الناطق بلغة الضاد فلا يزال يربط مهنته حتى اليوم بالأفق الديني والأخلاقي الذي صبت فيه أصلاً. وكذلك العطار والحلواني.
ينتمي العربي إلى تراثه انتماءاً ويتماهى فيه معنوياً دون تحفظ. يشعر أن تعلقه بتراثه هو امتداد لتعلقه بتصوره للدنيا والكون وحتى لما بعد الحياة. فيتخذ لذلك بعداً روحانياً وعصبياً يضعه خارج دائرة التفكير وداخل دائرة التقليد. فالمساس بالتراث غير وارد، كما أن مساءلته أو زيارته على الطريقة الغربية غير ممكنة لوقوعه ضمن دائرة مثالية عليا.
أ) تبدأ مثالية العلاقة بالتراث في العالم العربي المعاصر بتجميده.
فالتراث مصطلح حديث العهد نسبياً إذ لا نجد أثراً لـه على سبيل المثال في لسان العرب لابن منظور سوى بالارتباط مع فعل ورث. فالتراث والإرث والورث واحد عنده(5). غير أن التراث يحمل أيضاً، في العربية، معنى الإرث، من فعل أرث، أي أوقد النار.
من هنا هذا الطابع المزدوج، التقليدي (الإرث) والمتوهج (إيقاد النار)، لمفهوم التراث في اللغة العربية كما في وعي وممارسة الناس.
لذلك، وكون مهمة التراث تقضي بإحياء نار الماضي في طرائق التفكير والممارسة فإن هذا التراث سيغدو فوق كل اعتبار وفوق كل الشبهات. بالتالي فإن تمجيده، بتكريسه وتكراره وتجميله، سيغدو الموقف الأنسب منه.
فيبتعد بذلك التراث عن دائرة تفكير الإنسان العربي عموماً، بفعل موقف إرادي وفكري غير مدرك يضع تجليات التراث في ماض مجيد تشعر الجماعة حتى اليوم بالحاجة إلى دفئه، جامعة بين معنييه المادي والمعنوي.
يعبر عن هذا التمجيد بتغليب الشكل على المضمون في التعاطي مع هذا التراث.
بحيث ينبغي على كل من يشتري كتاباً من كتب التراث العربي أن ينبهر بجمال غلافه وتميز تجليده الفني. فيمسك الفرد بعدها بالكتاب التراثي بوقار وينظر إليه نظرة مختلفة عن نظرته إلى باقي الكتب.
فالمسافة الشكلية الموضوعة بين كتاب التراث والقارئ، عند شرائه لهذا الصنف من الكتب، يضع القارئ في وضعية الانبهار الفكري المسبق والاستكانة الذهنية التي تسمح بعدها باعتماد موقف التمجيد بشكل شبه طبيعي.
فالقبول بشروط الدخول الشكلية إلى التراث تحدد خطوات السير داخل أروقته لاحقاً. بحيث تبدو المسألة كناية عن تأكيد لولاء مضامين الكتب المنضوية تحت هذا العنوان.
ب ) تكتمل مثالية العلاقة بالتراث في العالم العربي المعاصر بتمجيده.
فالتمجيد يعني حفظ الصور التي ينقلها التراث بقالبه التاريخي الأصيل، دون مراجعتها أو إدخال الدرس عليها. والتمجيد يعني أيضاً نقل الصورة الماضية بأمانة تذهب لدرجة السجود لها وإبقائها في دائرة التأمل.
أي أن التمجيد الذي أتينا على ذكره، المتوقف طوعاً عند بوابة الشكل والحاجب نفسه عن الدخول إلى مضامين التراث، يستتبع موقفاً تمجيدياً على المستوى الفكري يقضي بالتعامل مع صورة الأشياء التي ينقلها التراث.
يتاح للقارئ في هذا السياق التعامل مع صور جامدة لمضامين موروثة ليس إلا. وهكذا تتعطل عملية التفكير والمقارنة والنقد والتحليل.
فصورة المضامين المنقولة والموروثة لا تحتمل ابستمولوجيا التطوير، لكونها فقدت طابعها الحي. جوهرها صوري وغير قابل بالتالي لحياة جديدة، فنظرية ابن سينا في الطب العام مثلاً، والقائلة بأن المعدة هي باب الداء والدواء، تعامل من قبل القارئ كصورة فكرة، لا كمضمون حي. إذ كان ينبغي على علماء الطب العرب الذين خلفوا ابن سينا أن يطوروا مضمون هذه الخلاصة العلمية منذ ذلك الحين في أبحاث وتجارب تدخلها إلى صلب الطب الحديث، بأشكال متجددة بطبيعة الحال.
لكن إحجام أجيال علماء الطب العرب الذين خلفوا ابن سينا عن إبقاء خلاصته العلمية في الاشتراك في التجارب والأبحاث هو الذي أفقدها حيويتها وأدخلها في الجمود العلمي. فالعلوم الغربية، في المجالات كافة، علوم حية لأنها تخضع للتجربة والاختبار بشكل دائم ومتواصل. أما العلوم التراثية فعلوم جامدة لعدم اندراجها في سياق الأبحاث والاختبارات. ما يجعلها صوراً لمضامين، لا مضامين حية لعلوم فوارة.
وجمود التراث البنيوي يستدعي تالياً حرارة التمجيد التي تعمل على إعطاء دفء مصطنع لصورة جامدة لا حرارة فيها. فتتكامل عندها وظيفتا التمجيد والتجميد اللتان بدتا وكأنهما تشكلان مفارقة في الأساس والمفارقة طبيعية ومطلوبة.
ج) من هنا ضرورة إخضاع التراث لنظرة جديدة علها تسمح بتفعيله وإدخاله في حياة جديدة غير حياة الصورة التي هو مسجون فيها.
نزعم أن علم الاجتماع قادر على المساهمة في هذه العملية من خلال ربط أعمال التراث بحياتنا المعاصرة. وسنعطي في الفصول اللاحقة أمثلة متواضعة على ما يمكن أن يقوم به أي باحث في العالم العربي عند تناوله أعمال التراث بالتحليل.
وتقضي هذه المقاربة باعتماد خطوات نذكر من أبرزها:
ـ التعامل مع كنوز التراث على أساس أنها جزء من الحاضر، يعمد إلى ربطها بالحياة اليومية والعملية للمجتمعات العربية المعاصرة. فتغدو بذلك جزءاً من مشهد معيش وحي، لا صورة جامدة قابعة في الماضي الغابر. فما دوَّنه كتاب الطبقات والسير يفيد في الاطلاع على الماضي، كما يفيد في مقارنة مع الحاضر، مع ما يعني ذلك من متابعة للمنحى العام (trend) للظاهرة المطروحة.
ـ نزع القدسية عن أعمال التراث، فبالوقوف نظرياً خارج دائرة التراث نستطيع أن نتعامل معه بشكل حر وحي، دون ممنوعات أو طابوات، فما قدمه ابن سينا في زمنه أقصى ما يمكن تقديمه إذاك، لكنه ليس أقصى ما يمكن أن نقدمه اليوم.
مما يقضي بمتابعة ما طرح في الماضي طبقاً لحاجات الحاضر.
ـ إخضاع هذه الأعمال للفحص والتحليل والمقارنة، وليس فقط للتعقيب والفهرسة والتبويب والمراجعة، فأساليب المقاربة المنهجية الحديثة هي التي تضفي على العمل التراثي قيمة علمية إضافية، كامنة فيه لمن يعمل على عصر معطيات الأزمنة الغابرة عصرة تستخرج ما تختزنه من دلالات. فاللجوء إلى الإحصاء متاح والاعتماد على المقارنة مفتوح والشروع في التحليل واجب علمي لا مساومة عليه.
ـ اعتماد ما يمكن من التقنيات العلمية الحديثة في هذه العملية. فالمعالجة المعلوماتية لما تتضمنه كتب التراث بإمكانها أن تكشف فيها أموراً لا تخطر في بالنا للوهلة الأولى، على مستوى تركيب البنية الاجتماعية وموقع المهن فيها، وعلاقة الأحياء ببعضها، وحركة التجارة داخل المدينة وخارجها، إلى ما هنالك من مسائل لا حصر لها يساعدنا في فهمها التكميم والمعالجة الإحصائية الحديثة.
لذلك كله فإن سوسيولوجيا التراث باب مفتوح أمامنا وبإمكانه أن يصبح ذات يوم إحدى العلامات الفارقة للسوسيولوجيا العربية العتيدة. فحقل التراث العربي حقل واسع وغني وهو حقلنا. ومسؤولية استثماره تقع على أكتافنا لكوننا نحن أصحاب القضية فيه.
-----------
هوامش
1- Erwin PANOFSKI, Architecture gothique et pensèe scholastique, èd. De Minuit, Paris, 1967.
2- Thomas KUHN, La structure des revolutions scientifiques, Flammarion, Paris, 1983,p. 136.
3- Pierre BOURDIEU, Le Sens Pratique, èd. De Minuit, Paris, 1980, p88.
4- Le Courrier International, L’atlas des atlas, mars-avril-mai 2005,p. 63.
5 ـ ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، م2، ص 111 ـ 112.