إن العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة كانت باستمرار تمثل اكبر تحديات المثقف العربى ، لكن عصر المعلومات جعل تلك العلاقة أكثر توترا واضطرابا فالتكنولوجيات المتقدمة فى المعلومات والاتصالات رغم انها قوة مضيفة لثقافة الديمقراطية ، الا انها تؤدى أيضا إلى السيطرة على المعلومات التي قد تقود للحفاظ على السلطة. ومن ناحية أخرى نجد أن عصر المعلومات أضاف تحديات جديدة وخطيرة أمام المثقف العربى ، اولها ظاهرة فيض المعلومات وفيها تفقد القدرة على الاختيار والترجيح، وتغري بعناصر اللهث والجري خلف المعلومات وحولها، والتي قد تشل التفكير. ونشرت وكالات الأنباء فى الايام الماضية زيادة اعتماد الناس في جميع أنحاء العالم على وسائل الاتصال بأنواعها مثل الانترنت والهواتف بأنواعها وكل شبكات الكمبيوتر المتصلة ببعضها محلياً بحيث صار نصيب الفرد من المعلومات غير مسبوق في تاريخ البشرية. ويقدر الباحثون في الولايات المتحدة أن متوسط نصيب أي إنسان على وجه كوكب الأرض من المعلومات سنوياً هو 800 ميجابايت وهو رقم غاية في الكبر بكل المقاييس. وأظهرت الدراسة التي قام بها هؤلاء الباحثون أن المعلومات المخزنة على أي وسيلة تخزين سواء كانت تقليدية مثل الورق أو حديثة مثل الأقراص الضوئية تضاعفت منذ عام 1999 حتى الآن. ومما يبعث على الدهشة أن الوسائل الورقية زادت في السنوات الثلاث الأخيرة بنسبة 43% على الرغم مما كان متوقعاً بتراجعها أمام الوسائل الرقمية الحديثة.
ووجد فريق البحث الذي ينتمي لجامعة كاليفورنيا ببيركلي أن التزايد في المعلومات المخزنة على أي وسيلة منذ بداية التدوين في فجر التاريخ تزايد بمقدار 30% في كل عام من الأعوام الثلاثة الماضية وحدها. ولملاحقة الأرقام الضخمة التي ظهرت لم يعد يستخدم المليون كوحدة للقياس، بل استحدثت أسماء جديدة لإحصاء المعلومات. وهذه الأرقام الجديدة هي أساساً مليونات مرفوعة لجذور عالية. ولإلقاء الضوء على تلك الأرقام الجديدة، نضرب مثلاً بأكبر مكتبة مخطوطات ومدونات في العالم وهي مكتبة الكونجرس. وتحتوي تلك المكتبة على 19 مليون مجلد و56 مليون مخطوط وهي تعادل 10 "تترابايت" من المعلومات، ولفظة تترا تعني أربعة وهنا تعني انها مرفوعة للجذر الرابع من المليون، أي مليون مضروبة في نفسها أربع مرات.
ووجد البروفيسور بيتر لايمان قائد فريق البحث أن العالم أنتج خلال عام 2002 فقط ما يوازي خمسة إكسابايت من المعلومات الجديدة في الوسائط الورقية والفيلمية والمغناطيسية والضوئية فقط بدون حساب المعلومات المنقولة عبر الهاتف والتلفزيون والراديو والإنترنت ، ورغم الصعوبات التى تواجه المثقفون فى البحث عن المعلومات الدقيقة وسط تخمة المتوفر ، الا ان فيض المعلومات انتج جانبا إيجابيا وهو ظاهرة التخصص الثقافى المتغير ، فمع تطور الوسائل الجديدة لتبادل المعلومات، وتأسيس الشبكات التى تختلف عن الشبكات الاجتماعية التقليدية ،حيث تميل فيها طبيعة المعلومات المتبادلة بأن تكون أكثر تنوّعا، وهي حبلى بإمكانيات وطاقات التغيير، لدرجة إمكانية تغيير ترتيب الناس وتصنيفاتهم فيما يتعلق بمعارفهم . على سبيل المثال، ومن المحتمل رؤية أعدادا متزايدة من الناس، يمتلكون معرفة اختصاصية متقدمة أكثر من الخبراء المحترفين في الحقل نفسه . ويمكن ان نسمى هذة الظاهرة مؤقتا بـ "التخصصات الثقافية المتغيرة ، بمعنى أصبح من السهولة تغيير التخصص والاهتمامات بين المفكرين والمثقفين والأكاديميين . والكاتب واحدا من الذين مروا بهذا التحول التخصصى فى عصر المعلومات .
التحدى الثانى الذى يواجه المثقف العربى فى عصر المعلومات هو تدني المستوي الثقافي والمعلوماتي حتى للصفوة ، وأنتشار الأمية الهجائية للتعامل مع الكمبيوتر الإنترنت ، وسيطرة الخوف التكنولوجي، وضعف اللغة الإنجليزية وهي اللغة المعلوماتية السائدة ألان ، وضعف حركة الترجمة العربية . حيث يعاني غالبية مثقفينا من أعراض رهبة التكنولوجيا أو التكنوفوبيا ، ويذكرنا هذا بموقف عبد العزيز البشري الكاريكاتيري من الراديو في الثلاثينات من هذا القرن. فكم من مثقفينا يستخدم بنفسه الكمبيوتر مستغلا إمكانياته الضخمة في كتابه أعماله؟ وكم منهم يستخدم الإنترنت في الحصول علي المعلومات ونشرها ؟ وكم من فنانينا التشكيليين تعمق ودرس الإمكانات الإبداعية الضخمة والملهمة لرسومات الكمبيوتر والواقع الافتراضى ؟ وكم من موسيقينا خاض تجربة التأليف الموسيقي باستخدام الكمبيوتر؟ بل كم من أساتذة الجامعات يستخدمون الكمبيوتر والإنترنت في أبحاثهم !؟ انهم قليلون جدا . والمثقفون في مصر يتعاملون مع تكنولوجيات الكمبيوتر كنوع من المظهرية والوجاهة الاجتماعية والعلمية، فالتظاهر بالمعلوماتية لن يجعلنا نصل إلى مستوي إسرائيل فهي ثاني دولة بعد أمريكا في صنع وتطوير الكمبيوتر وتكنولوجيات المعلومات، وعلي ذلك فان المثقف الذي يعاني من أمية هجائية المستقبل ويجلس بعيدا عنها منظرا لها باستخدام الريموت كنترول لا يصلح الآن لوضع تصور للمستقبل. فليس أمامنا غير تعلم مهارات اللغة الكونية الجديدة التي حفرها العالم اليوم، ونوظف مهارات ثورة المعلومات في مواجهة مشاكلنا، لذلك فالتحديات التي يطرحها عصر المعلومات يجب أن تؤدي إلى مراجعة شاملة لتعريف المثقف ومن هو ألان ! ولا شك في أن تكنولوجيا المعلومات يمكنها أن تكون خير عون للمثقف للإحاطة بواقعه، واستخدام بدائل عديدة لابتكار تكتيكات جديدة. التحدى الثالث هو المعركة المشتعلة دائما بين المحافظين الذين يسعون لتحويل الحاضر إلى ماضى ، ويعتقدون انه سنة الأباء التى يجب الا نحيد عنها ، والذين يتهمون دائما المثقفين الساعين إلى نشر ثقافة العصر من علوم وتكنولوجيا ، بالعمالة الامبريالية ! ورغم انها معركة تاريخية قديمة ، الا ان عصر المعلومات زادها اشتعالا وجعلها اكثر شفافية ، وهذة المعركة تتطلب من المثقف أدراكا واسعا بمتغييرات العصر ، واصبح المثقف العربى فى موقف حدى بين معركتين ، بين هؤلاء فى الداخل الذين يشدون الوطن إلى الماضى البعيد ، وبين هؤلاء فى الخارج الذين يفرضون السيطرة الثقافية من الدول التى تملك تكنولوجيات المعلومات والاتصالات المتقدمة ، فمشاهد السيطرة مرئية يومياً في مجتمعاتنا ، وهناك ترويج هائل عبر وسائل الإعلام الدولية لتسويق هذة السيطرة ، وتلميع المثقفين المشاركين فيه والمنضمين إلى معسكره وتشويه المثقفين الآخرين الرافضين والممانعين. ونشر فى تقرير لجنة اليونسكو الدولية لدراسة مشاكل الإتصال في أوائل الثمانيات إلى أن «دولاً معينة ومتقدمة تكنولوجياً تستغل مزاياها لممارسة شكل من أشكال السيطرة الثقافية والإيديولوجية وتعرض الذاتية القومية لبلاد أخرى للخطر. ونرى الآن ان شروط الانتاج الثقافي وشخصيته يتقرران في مركز سوق عالمية واحدة تفرض نتاجها على العالم. و يكون هنالك خطر في قبول مبدأ حرية إنسياب المعلومات في عالم لا تتساوى فيه الإمكانيات التقنية والمادية ، وبالتالي في عالم تكون فيه الدول الصغيرة والفقيرة معتمدة بصورة كبيرة على الدول الكبيرة في تقنية إنسياب معلوماتها. إن السيطرة على وسائل الإعلام جعل الثورة الإعلامية تحول الدول النامية إلى مجرد مستهلك للإعلام الذي تقدمه الدول العظمى. ويبدو أن الإغراءات المتعددة التي تقدمها مراكز القوى والأساليب العلمية المبتكرة والمقنعة التي تغلف بها نظرياتها وبضائعها الثقافية قد فعلت فعلها في صفوف النخب المثقفة . مما جعل عدداً من هؤلاء يسقطون في المصيدة ويتحولون إلى أبواق لتلك القوى ، ورغم ان المثقفين عادة يجب أن يشكلوا حصناً ثقافياً لمجتمعاتهم وخط دفاع أول عنها، الا انها كانت الطبقة الأسرع إستجابة وأسهل إختراقاً !
التحدى الرابع والاخطر الذى يواجه المثقفون العرب فى عصر المعلومات هو الواقع العربى المتقزم على كافة الاصعدة ، ويظهر هذا الواقع فى تقارير التنمية الإنسانية العربية ، حيث يتضح ان الحالة العربية الآن تضييق بالحريات..، ويسود مزيد من القمع، وتنتشر حالة اكتئاب سياسي ، ويمارس التعذيب داخل السجون ، وتقام المحاكم الإستثنائية، وتسن قوانين الطوارئ ، وكانت صورة العرب في تلك التقارير مأساوية و تشير الى حالة جمود ليس من السهل تجاوزها ، حيث تنتشر الأمية والفقر والجهل والبطالة ، والفقر المعرفى، وتزداد هجرة الكفاءات حيث يهاجر سنوياً من الدول العربية إلى الدول الغربية ما يزيد على 900 ألف عربي يمثلون جانباً هاماً من الكفاءات المتميزة في الأمة. ولخص التقرير حالة العرب الانسانية فى الفقر والاستبداد، ومحدودية الفرص الاقتصادية والحرمان الاجتماعي، واهمال الخدمات العامة والتعصب وقمع الدولة، وهي مصادر رئيسية للحرمان الانساني وبالتالي لانكماش الحرية" . والسؤال الآن ما هو دور المثقف حيال تلك التحديات ؟ وماذا يفعل ؟!