يبدو أن عنوان المقال يثير الفضول من الوهلة الأولى حول “برامج التقنية” و كيفية تحولها إلى “عرافة إلكترونية”علما أننا اليوم في عصر التقنية التي طغت على مناحي الحياة اليومية للإنسان و الطبيعية حيث أصبحت العقل الجديد للكائن البشري الذي يفكر به، يتأمل به، يحس به، يأكل به، ينام به ... بل حتى الذي يموت به أحيانا ! إنها كل شيء راهنا .
وعلى ضوء هذا الهامش التقني- الأداتي الذي سوف نتفلسف حوله و الذي نجده قد حل محل كل شيء سواء الديني، السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، والفني ... حيث لم تستبدل التقنية محل الدين وفقط كما يرى الفيلسوف الألماني هيدجر، بل أصبح “عالم الثقافة” كما أطلق عليها هيدجر اليوم تتواجد و تتداخل في كل شيء .
إن التقنية اليوم تعتبر سلطة من نوع جديد، أداة للسيطرة و التحكم كما يسميها فلاسفة و مفكرو مدرسة فرانكفورت الألمانية النقدية التي أصبحت "ذاتها سيطرة على الطبيعة و على الإنسان سيطرة منهجية، علمية، محسوبة ... "(هابرماس العلم والتقنية كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا ألمانيا 2003، ص45) .
وبالإضافة كذلك فالتقنية في معناها العام عقل تقني جديد للسيطرة و الاستلاب المادي و الروحي الذي يفقد الإنسان معناه و الطبيعة معناها، بالرغم مما تقدمه للإنسان بشكل ايجابي في مناحي الحياة اليومية إلا أنها تظل تسلب الإنسان صفته الإنسانية كما تحاول طمس فكرة تقدمه و فكره وتشوه كذلك العقل من خلال عقلها التقني- الأداتي الايديولوجي بلغة هابرماس .
و حتى لا نتيه في المعنى العام للتقنية لكونها تحمل معاني متعددة شاسعة فهي في جانب أخر تأخذ أبعادا متنوعة فلسفية كانت أو سوسيولوجية و علمية ... و حتى نحصر الموضوع المدروس المتعلق بالبرامج ´التقنية الفايسبوكية´ كأحد برامج مواقع التواصل الاجتماعي العالمي و الذي تتمظهر من خلاله التقنية على أنها البديل الحقيقي و لا غير سواها يقوم على تحريك العالم و لو كان ذلك افتراضيا، فإنه ينعكس ذلك واقعيا عمليا، مادام يخدم الشأن البشري و الطبيعي سواء حتى و إن أصبح الإنسان عبدا للتقنية كما يقال .
لكن على ما يبدو فإن هذا العبد لهذه التقنية التي تحاول قدر الإمكان التجرد من الميتافيزيقي و الالتزام بالموضوعية يرغمها على الغوص في الميتافيزيقا من خلال استخدامه مجموعة من الآليات البرمجية التقنية و التي على رأسها ما يسمى ببرامج "الاختبارات الفايسبوكية" أو ما أطلقت عليها "بالعرافة الالكترونية" أو الفايسبوكية التي طفت مؤخرا على سطح مواقع التواصل الاجتماعي ´الفايسبوك´على وجه الخصوص و التي تعرف بنوع من الاختبارات أو الامتحانات التي تجرى في البرنامج قصد التعرف على العوالم الميتافيزيقية للشخص المختبر عليها الذي يتسنى له معرفة ماله من الحاضر و المستقبل ! أو بالأحرى للتعرف على من يكون هل هو هو! أم هو غيره ! أو شيء أخر من هذا القبيل ...
إن هذه العرافة الالكترونية الجديدة تجعلنا نتساءل و نستفسر حول ما تحمله وراء طياتها و عن حقيقتها مادامت التقنية كما سبق الذكر آنفا كأداة للسيطرة و التحكم وهذا ما يطرح أكثر من سؤال من قبيل الحقيقة التي تؤخرها و الأبعاد الايديولوجية لها ؟ و هل يمكن القول إن لها غايات اعتباطية ؟ هل تبقى فعلا مجرد برامج عادية للترويح على النفس ؟ ماذا لو يصدق كل ما تتوقعه ؟ و كيف ينعكس ذلك على الفرد و المجتمع سيكوسيولوجيا ؟ لماذا أصبح العقل البشري يؤمن بالميتافيزيقا الالكترونية ؟ هل يمكن القول أنها أصبحت تلعب دور الطبيب النفسي المعالج ؟ هل هي مصحات عقلية جديدة ؟ و في الأخير يمكن طرح السؤال التالي هل من فرق بين العرافة الحقيقية و العرافة الالكترونية ؟؟؟
أسئلة كثيرة تطرحها التقنية بشكل متواصل و لعل أهمها ما يتعلق بالعرافة الالكترونية التي تحاول قدر الإمكان أو بالإمكان لها كما يعتقد البعض أن تطلعه على من يكون و من هو و على المستقبل ... حيث تمتلك العرافة الفايسبوكية القدرة والمعرفة الكافية على التوقع من أجل التحكم في الحاضر والمستقبل متضمنة الميتافيزيقي بشكل ضمني في ذلك، إذ تتم العملية تلك من خلال الإجابة على مجموعة من الأسئلة الشخصية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية ...للفرد . حتى يكاد لا يكون هناك فرق بين العرافة الالكترونية و الحقيقية إلا من خلال جملة من الأسئلة التي تطرح، إذ نجد العرافة الحقيقية تسأل عن اسم الأم و الأب بينما العرافة الإلكترونية لا تسأل عن ذلك ؟ أما الباقي من الأسئلة فيطرح من كلا الطرفين !
قد يبدو ظاهريا أن أمر الاختبارات الإلكترونية قد يتعلق للترفيه أو ما شابه ذلك و كيف أن العقل البشري يبتكر لنفسه بديلا يتماشى مع العصر لمعرفة ما تخفيه له الحياة فقد يؤمن بذلك إن كانت خلاصات العرافة الالكترونية تتماشى وهواه و قد يكفر و يكذب ما لا ينطبق عليه و ما كان يتوقع بالنسبة إليه ... ربما تجعله يشك، يصدق، لا يصدق، عموما سيكولوجيا تحدث زوبعة ذهنية في ذهن الفرد ... ومن جانب أخر قد يوظف خلاصات العرافة الفايسبوكية على ممارسته الواقعية !
ربما قد يكون هذا من طبع العقل البشري الإيمان بشيء و الكفر بشيء أخر، لكن فيما يعتقد الأمر تجاوز ذلك وأصبح العقل التقني حسب ´هوركهايمر´ في كتابه (أفول العقل) "هو المهيمن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي فقد فيها العقل دوره كمملكة فكرية و تم تقليصه إلى مجرد أداة لتحقيق أهداف لتوفير الوسائل و أدى ذلك إلى فقدان العقل للقدرة على الإدراك للحقائق في ذاتها حيث أصبح كل شيء مجرد وسيلة " (أبو النور الأخلاق و التواصل عند يورجن هابرماس، المكتبة الفلسفية، التنوير للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى 2012،ص حمدي، 133 ) . أو كما ذهب هابرماس بالقول بأن العقل التقني بذاته ايديولوجيا و هو المتمركز في المجتمعات الرأسمالية الغربية التي تسعى لفرض اديولوجيتها الواحدة ذات البعد النظامي العالمي الواحد ، و هذا ما يطرح عدة أسئلة عميقة في الموضوع بحيث يمكن إمعان النظر في البعد الحقيقي وراء هذه البرامج التقنية التي يمكن القول عنها أنها برامج استخباراتية مادامت التقنية أداة للسيطرة و التحكم، ولعل ما يبرز هذا ما كشفت عنه مؤخرا وكالة “ويكليكس” التي تقول بأن، "سي آي ايه" قد أنتجت أكثر من ألف نظام قرصنة من مختلفة الفيروسات والبرامج التي تستطيع اختراق الأجهزة الالكترونية مثل هواتف آيفون و الهواتف العاملة بتقنية أندرويد و برامج مايكروسوفت و تلفزيونات سامسونغ الذكية (عن صفحة فرانس 24 نشر بتاريخ 03/08/2017 ).
وبالتالي تصبح العرافة الالكترونية على هذا النحو الجديد من الاستخبارات شكلا جديدا تقنيا يظهر المفارقة بين الوجه الحقيقي لهذه الاختبارات و الوجه المزيف لها . و هذا الأمر الواقع يضعنا أمام حقيقة عقل جديد تقني خطير لا يمكن نكرانه الذي همه الوحيد تحقيق الأهداف بأي وسيلة سواء على حساب الإنسان ذاته أو على حساب الطبيعة، فهو عقل لا يراعي الخصوصية و الاختلاف أو ما يصطلح عليه في ما بعد الحداثة بفلسفة الاختلاف، بل الخطير في الأمر أن العقل التقني ينظر إلى الإنسان باعتباره جزء يشبه الأجزاء المادية و الطبيعة .
و هذا ما يوضح في الأخير على أننا في عالم يمكن أن ننعته بأنه عالم ميكيافلي بإمتياز عالم تقني تسوغ فيه الأهداف الوسيلة بأي كان، و تبقى التقنية في الأخير تهدد مجمل مناحي الحياة اليومية المعاصرة على الإنسان والطبيعة، و هذا الأمر هو الذي جعل العديد من الفلاسفة و المفكرين يطرحون هذه القضية و التنبؤ لمخاطر هذه المعضلة الإنسانية على الإنسان و الطبيعة معا .