أدى الانفجار المعرفي الذي صاحب الثورة التكنولوجية عقب الحرب العالمية الثانية الى انكماش السلطة المعرفية للمدرسة .بل ذهب بعض الباحثين ك "ايفان ايليتش" الى اعتبارها فائضا لا لزوم له أمام بدائل تعليمية أقل كلفة وأكثر جاذبية !
فتنامى الوعي بضرورة تنويع مصادر التعلم , وتحديث المناهج الدراسية بما يلائم حاجيات و اهتمامات الطفل , واحتواء الوسائط المعرفية الجديدة بشكل يمكن المدرسة من مواصلة دورها في تحقيق تنشئة اجتماعية سليمة . لذا توالت المبادرات الرامية الى احداث و تفعيل المرافق التربوية و الأوعية التعليمية الموازية للفصل الدراسي و مراعاة استجابتها لميول و اهتمامات المتعلمين !
وقد حظيت المكتبة المدرسية باهتمام لافت في جل مبادرات الاصلاح التربوي , غير أن غياب رؤية استراتيجيةمتكاملة لدور المكتبة في خدمة المسار التعلمي , وحصر الاهتمام في الشق المادي " تجهيز المرفق , وتوفير المطبوعات وحوامل المعلومات " أفرز إكراهات ومعيقات جمة تحد من فعالية المكتبة في إحداث نقلة نوعية في المجال التعليمي , لعل أبرزها :
- عدم تخصص المشرفين على المكتبات المدرسية , فجلهم معلمون متفرغون لم يحظوا بأية دورة تكوينية في مجال الخدمة المكتبية .
- ضعف الأساليب الفنية في عرض مواد التعلم بالمكتبة "كالفهرسة والتصنيف و الاعلان عن المحتويات" بل انعدامها في حالات كثيرة مما يحد من الإقبال على المكتبة.
- غياب إدماج فعال للمكتبة المدرسية في المناهج الدراسية وضعف الاهتمام بالمهارات ذات الصلة " كالمهارة البحثية مثلا" .
- قصور الوعي بأهمية التعلم الذاتي في عصر تكاثرت فيه وسائط المعلومات بشكل غير مسبوق , ومواصلة تبني أساليب تعليمية تعتمد المقرر الدراسي كمصدر وحيد للمعرفة !
- العائق النفسي الذي يحول دون استخدام المتعلم للمكتبة ,والذي اسمته الباحثة "ميلون " (الرهبة من المكتبة) . ومرده بالأساس إلى غياب التشجيع من لدن المدرسين على زيارة المكتبة وغرس محبتها في نفوس
المتعلمين.
والراصد لنشأة وتطور المكتبات المدرسية يقف عاجزا عن فهم المفارقة المحيرة بين الأدوار الطليعية التي لعبتها هذه المكتبات في العصور الإسلامية السابقة ,وبين التردي الواضح الذي تعيشه في زمن تكاثر المعرفة الإنسانية ! . فقد لعبت المكتبات عموما و المدرسية على الخصوص دورا محوريا في وسم العصر العباسي بسمة الإبداع و التميز , وكان لها الفضل و السبق في إحداث حراك ثقافي و اجتماعي مذهل . يقول الأستاذ رؤوف هلال " نجد في هذا العصر معظم انواع المكتبات الموجودة الآن ,وأعني بذلك المكتبات الخاصة التي يملكها الأفراد , والمكتبات الخلافية ,والمكتبات الملحقةبالمساجد و المعابد الدينية ,والمكتبات العامة التي تفتح ابوابها لجميع الناس ,والمكتبات الجامعية ,و المكتبات الملحقة بالمدارس, و المكتبات الملحقة بالمارستانات " المستشفيات" . ولعل اهم سمة من سمات هذه المكتبات هي الأهمية التي كانت تحتلها في حياة السلمين العامة ,فلم تكن المكتبة مكانا مملوءا بالكتب القديمة لا يقصدها الا الشيوخ ,على العكس , كانت مركزا للحياة الاجتماعية ,وهذا ما يفسر تصوير "الحريري" لمكتبة البصرة بأنها مركز البلد ومجمع الأثرياء فيه " (1) .
اما في المغرب فقد كان العصر المريني أزهى عصور العناية بالكتب و المكتبات إلى حد أن السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني كان يشترط في معاهدات الصلح التي يبرمهامع الإسبان استرداد مجموعات الكتب الأندلسية المغصوبة , ثم يأمر بحملها إلى فاس وتحبيسها على المدارس التي أسسها لطلبة العلم (2) فصارت المكتبات المدرسية كيانا عضويا في المجتمع الإسلامي يزدهر بازدهاره ويندحر باندحاره !
أما في العصر الحديث ,وبالرغم من تبني جل الدول الإسلامية لنظم التعليم الحديثة المستنسخة عن الغرب فقد حدث انكماش غريب في أدوار ووظائف المكتبة المدرسية ,حيث تحولت إلى مخازن ومستودعات للكتب تقصدها فئة محدودة من المتعلمين لتزجية الوقت ! بل حتى الاتجاهات التي ظهرت أواسط الستينات و المرتبطة بالتعليم المبرمج ,والتعلم بالوسائط السمعية و البصرية ,والبدايات المبكرة لتوظيف الحاسوب في التعليم لم تحدث تحسنا يذكر في اداء هذه المكتبات ! وهو ما يدفعنا إلى الجزم بهيمنة الوازع الأمني وهاجس الضبط على جل السياسات التربوية في البلدان الإسلامية ,وما ترتب عنه من إلغاء مقصود للأوعية و الاساليب و المناهج المحفزة على الابداع, و التأهيل, وروح المبادرة !
إلا أن تراجع دور الدولة في توفير فرص العمل بسبب التحولات الاقتصادية العالمية , و تبني القطاع الخاص لمواصفات جديدة في " عامل المستقبل" ألزم العديد من الأنظمة التعليمية مراجعة سياساتها التربوية, وتعديل مناهجها وبرامجها بما يلائم الراهن , فانتقلت وظيفة التعليم من نقل المعرفة الى توجيه وتيسير التعلم , واستعادت مصادر التعلم الموازية مكانتها و مواقعها وفي مقدمتها المكتبة المدرسية !
غير أن تفعيل أدوارها ,وتمكينها من إحداث النقلة النوعية المطلوبة في المجال التعليمي يقتضي إيلاء التوصيات التالية أهمية مؤكدة :
- تنويع مصادر التعلم واشتراط ملاءمتها لميول المتعلمين و للمحتوى الدراسي.
- إعداد دورات تكوينية لأمناء المكتبات, وتوعيتهم بأدوراهم الحيوية في مجال الإرشاد القرائي ,
و دعم الأنشطة التربوية .
- إدخال تعديلات على المناهج الدراسية بحيث تدمج المكتبة المدرسية كمكون اساسي في العملية التعليمية التعلمية .
- إدماج المكتبة المدرسية كمادة تعليمية ضمن برامج تكوين المدرسين .
- تبني مفهوم متطور للخدمة المكتبية يتجاوز الفهرسة و إعارة الكتب نحو خدمة التوجه إلى تفريد التعليم و العناية بالفروق الفردية وتحديث طرق التدريس .
- إعداد برامج تدريبية على استخدام المكتبة بما يناسب كل مرحلة دراسية على حدة لتنمية مهارات القراءة الفردية و مهارات البحث .
ويبقى المطمح الاساسي هو تمكين المدرسة من مواصلة مهمتها في إعداد افراد المجتمع إعدادا سليما و تنشئتهم تنشئة صالحة , وإكسابهم العادات السلوكية و القيم النبيلة , و الصمود أمام تيار العولمة الهادر في سعيه لاقتلاع ما تبقى من خصوصية و انتماء ,وملامح هوية آيلة للذوبان ..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رؤوف عبد الحفيظ هلال : المكتبة المدرسية , ص: 25-26
(2) محمد عادل عبد العزيز : التربية الاسلامية في المغرب , ص: 54
والراصد لنشأة وتطور المكتبات المدرسية يقف عاجزا عن فهم المفارقة المحيرة بين الأدوار الطليعية التي لعبتها هذه المكتبات في العصور الإسلامية السابقة ,وبين التردي الواضح الذي تعيشه في زمن تكاثر المعرفة الإنسانية ! . فقد لعبت المكتبات عموما و المدرسية على الخصوص دورا محوريا في وسم العصر العباسي بسمة الإبداع و التميز , وكان لها الفضل و السبق في إحداث حراك ثقافي و اجتماعي مذهل . يقول الأستاذ رؤوف هلال " نجد في هذا العصر معظم انواع المكتبات الموجودة الآن ,وأعني بذلك المكتبات الخاصة التي يملكها الأفراد , والمكتبات الخلافية ,والمكتبات الملحقةبالمساجد و المعابد الدينية ,والمكتبات العامة التي تفتح ابوابها لجميع الناس ,والمكتبات الجامعية ,و المكتبات الملحقة بالمدارس, و المكتبات الملحقة بالمارستانات " المستشفيات" . ولعل اهم سمة من سمات هذه المكتبات هي الأهمية التي كانت تحتلها في حياة السلمين العامة ,فلم تكن المكتبة مكانا مملوءا بالكتب القديمة لا يقصدها الا الشيوخ ,على العكس , كانت مركزا للحياة الاجتماعية ,وهذا ما يفسر تصوير "الحريري" لمكتبة البصرة بأنها مركز البلد ومجمع الأثرياء فيه " (1) .
اما في المغرب فقد كان العصر المريني أزهى عصور العناية بالكتب و المكتبات إلى حد أن السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني كان يشترط في معاهدات الصلح التي يبرمهامع الإسبان استرداد مجموعات الكتب الأندلسية المغصوبة , ثم يأمر بحملها إلى فاس وتحبيسها على المدارس التي أسسها لطلبة العلم (2) فصارت المكتبات المدرسية كيانا عضويا في المجتمع الإسلامي يزدهر بازدهاره ويندحر باندحاره !
أما في العصر الحديث ,وبالرغم من تبني جل الدول الإسلامية لنظم التعليم الحديثة المستنسخة عن الغرب فقد حدث انكماش غريب في أدوار ووظائف المكتبة المدرسية ,حيث تحولت إلى مخازن ومستودعات للكتب تقصدها فئة محدودة من المتعلمين لتزجية الوقت ! بل حتى الاتجاهات التي ظهرت أواسط الستينات و المرتبطة بالتعليم المبرمج ,والتعلم بالوسائط السمعية و البصرية ,والبدايات المبكرة لتوظيف الحاسوب في التعليم لم تحدث تحسنا يذكر في اداء هذه المكتبات ! وهو ما يدفعنا إلى الجزم بهيمنة الوازع الأمني وهاجس الضبط على جل السياسات التربوية في البلدان الإسلامية ,وما ترتب عنه من إلغاء مقصود للأوعية و الاساليب و المناهج المحفزة على الابداع, و التأهيل, وروح المبادرة !
إلا أن تراجع دور الدولة في توفير فرص العمل بسبب التحولات الاقتصادية العالمية , و تبني القطاع الخاص لمواصفات جديدة في " عامل المستقبل" ألزم العديد من الأنظمة التعليمية مراجعة سياساتها التربوية, وتعديل مناهجها وبرامجها بما يلائم الراهن , فانتقلت وظيفة التعليم من نقل المعرفة الى توجيه وتيسير التعلم , واستعادت مصادر التعلم الموازية مكانتها و مواقعها وفي مقدمتها المكتبة المدرسية !
غير أن تفعيل أدوارها ,وتمكينها من إحداث النقلة النوعية المطلوبة في المجال التعليمي يقتضي إيلاء التوصيات التالية أهمية مؤكدة :
- تنويع مصادر التعلم واشتراط ملاءمتها لميول المتعلمين و للمحتوى الدراسي.
- إعداد دورات تكوينية لأمناء المكتبات, وتوعيتهم بأدوراهم الحيوية في مجال الإرشاد القرائي ,
و دعم الأنشطة التربوية .
- إدخال تعديلات على المناهج الدراسية بحيث تدمج المكتبة المدرسية كمكون اساسي في العملية التعليمية التعلمية .
- إدماج المكتبة المدرسية كمادة تعليمية ضمن برامج تكوين المدرسين .
- تبني مفهوم متطور للخدمة المكتبية يتجاوز الفهرسة و إعارة الكتب نحو خدمة التوجه إلى تفريد التعليم و العناية بالفروق الفردية وتحديث طرق التدريس .
- إعداد برامج تدريبية على استخدام المكتبة بما يناسب كل مرحلة دراسية على حدة لتنمية مهارات القراءة الفردية و مهارات البحث .
ويبقى المطمح الاساسي هو تمكين المدرسة من مواصلة مهمتها في إعداد افراد المجتمع إعدادا سليما و تنشئتهم تنشئة صالحة , وإكسابهم العادات السلوكية و القيم النبيلة , و الصمود أمام تيار العولمة الهادر في سعيه لاقتلاع ما تبقى من خصوصية و انتماء ,وملامح هوية آيلة للذوبان ..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رؤوف عبد الحفيظ هلال : المكتبة المدرسية , ص: 25-26
(2) محمد عادل عبد العزيز : التربية الاسلامية في المغرب , ص: 54