تطرق العديد من علماء النفس في نظرياتهم التي تبنوها الى جوانب النمو العقلي عند الطفل مهم سبيرمان وجيلفورد، واكثرهم شهرتا في ذلك العالم السويسري جان بياجيه، وهو عالم بايولوجيا في الاصل، اختبر جل الفرضيات والتجارب التي اجراها لدعم نظريته على طفلتيه، اذ انه كان يراقب سلوكهما ويسألهم ويحاورهما لمعرفة كيف ينمو ويتطور العقل لدى الاطفال. ومن خلال الكم الكبير من التجارب والبحوث التي اجراها هو وزملائه المؤيدين لنظريته ومن بعده تلامذته، يرى بياجيه ان النمو العقلي عند الطفل يمر باربع مراحل هي:
ا- المرحلة الحسية الحركية:
وهي المرحلة التي يستخدم فيه الطفل الاشياء المحسوسة التي يتلقاها من العلم الخارجي ويتعامل معها حركيا عن طريق يديه وعضلاته، فمثلا عندما يرى الطفل لعبة ما يقوم بامساكها بيديه ويحاول معرفة مكوناتها واجزائها عن طريق محاولات تفكيكها او تركيبها، وهذا كثيرا ما يراه الآباء ويعانون منه، سيما اذا كانت اللعبة او الحاجة التي تصل اليها يدي الطفل غالية او ثمينة او عزيزة اذ معظم الاحيان نتيجة للعبث ومحاولة التعرف يودي الى كسرها او خرابها. يقسم بياجيه هذه المرحلة الى عدة جوانب تتضمن:
ا- جانب المرونة العضوية:
يتمثل هذه الجانب قيام الطفل بحركات عشوائية في البداية ثم تميل هذه الحركات الى الاستقرار هدفها الاتقان والدقة في ادآء العمل، تشمل الاجزاء التي تقوم بهذه الحركات العشوائية الرأس والعينين واليدين والقدمين، فمثلا امساك الطفل في البداية بالرضاعة يكون عن طريق الحركات العشوائية وغير المنظمة،ثم بعد ذلك تستقر عملية الامساك بها بشكل منظم ومتقن كلما تقدم الطفل بالعمر. هذه المرونة العضوية ترتبط بعلاقات ايجابية مع الجهاز العصبي من خلال تطور عمل هذا الجهاز مع نمو الطفل بشكل مستمر.
ب- جانب التكيف الداخلي:
يتمن هذا الجانب قيام الطفل بتكييف اعضائه الجسمية لتستجيب للمنبهات الخارجية التي يتعامل في بداية عمره معها عن طريق الفم، فمثلا تحريك الشفتين وعضلات الفم التي يمكن ملاحظتها على الطفل بشكل واضح متوافقة مع افرازات الغدد اللعابية هي موشرات لتكيف اعضاء الجسم التي تتعامل مع الطعام الذي يقدم للطفل، وهذه العلاقة بين المنبه الخارجي والاعضاء التي تتعامل معه ايضا ترتبط بنمو وتطور الجهاز العصبي عند الطفل.
ج- جانب المواءمة:
يتضمن ها الجانب مواءمة الطفل بين الحركات العشوائية التي يقوم بها والمؤثرات البيئية التي يواجهها، ينتج عن هذه الموائمة ادخال انماط جديدة من التفكير تجعل من الطفل اكثر استقرارا مع البيئة المحيطة.
د- جانب الترابط بين الحس والحركة:
يتضمن التوافق بين حركات الطفل مع احساساته بحيث يتمكن من الحصول على الاشياء من البيئة التي تتلاءم مع احساساته الداخلية، فمثلا رفض الطفل الاطعمة المرة او المالحة واتجاهه لتناول الاطعمة الحلوة هو دليل على ترابط ما بين حركاته وحاسة الذوق عنده.
ان جميع هذه الجوانب تعمل على تكوين الجانب الحسي الحركي، والذي يعده بياجيه مظهرا من مظاهر النمو العقلي عند الطفل.
2- مرحلة ما قبل العمليات:
وفيها لايستجيب الطفل للمعلومات البيئية المختلفة بطريقة حسية حركية مباشرة، بل يعمل على ترميزها وتشفيرها ومن ثم توظيفها بوصفها خبرات سابقة يستفيد منها في التعامل مع المعلومات المستقبلية التي يواجهها، فمثلا عندما يتمكن الطفل من نسج قصة من خياله او يتمكن الطفل من معرفة ان الطيور تشترك فيما بينها بخاصية الطيران ويعمم هذه الحقيقة يكون قد دخل في هذه المرحلة، والتي عادة ما تظهر عند الطفل بعمر من 2-7 سنوات.
3- المرحلة المادية:
وفيها يتمكن الطفل من تطبيق الاشياء المحسوسة ومقارنتها، فمثلا يستطيع ان يربط ما بين العناصر المتشابهة في مجموعتين مستقلتين من حيث الشكل واللون. تظهر هذه المرحلة عند الطفل من عمر 7-12 سنة.
4- المرحلة المجردة:
وفيها يتمكن الطفل من ادراك المفاهيم المجردة، فمثلا عندما يتمكن الطفل من معرفة مفهوم العدالة والصدق والامانة، ويربط هذه المفاهيم بمواقف محسوسة يكون قد دخل في هذه المرحلة، والتي عادة ما تظهر من عمر 12 سنة فما فوق.
ان تلك المراحل التي تطرق لها بياجيه في نظريته ومن خلال التجارب والدراسات التي اجراها هو وتلامذته كان يستهدف من وراءها استخدام افضل الوسائل التربوية التي يمكن التعامل بها مع الاطفال، وتمثل ذلك عن طريق فهم المرحلة العمرية التي يكون الطفل فيها والمعلومات التربوية التي تناسبها، فمثلا لايمكن لنا ان نعلم الاطفال في عمر من 3-10 سنوات المفاهيم المجردة مثل الصدق او الامانة او الحرية وغيرها من المفاهيم المجردة الا من خلال استخدام اساليب تربوية تتضمن فيها هذه المفاهيم وتحاكي عمر الطفل مثل استخدام القصص او الحكايات المصورة او التوجيهات التربوية المباشرة لامثلة محسوسة في حياة الطفل، وبالتالي فان الامر يتطلب من التربويين والقائمين على العملية التربوية فيما اذا ارادوا النجاح في تحقيق الاهداف التربوية المبتغاة بتطبيق مبادىء هذه النظرية،ان يولوا امرين جل اهتمامهم هما: عمر الطفل وطبيعة المادة التربوية التي يريدون نقلها له، فاذا كان هناك تناسب طردي بينهما يكون الهدف التربوي واضحا وقابلا للتطبيق، بما يعطي نتيجة تربوية ملموسة، وهو بالتاكيد يصب في خدمة الهدف العام من العملية التربوية التي يسعى جميع التربويون ويحرصون اشد الحرص على نقلها باساليب علمية حديثة ومناسبة للاجيال اللاحقة، مواكبة لطبيعة العصر والمرحلة الحضارية والعلمية التي تتقدم بشكل متواصل ومطرد في عالم دائم التغيير والتجديد، هذا التوافق التربوي هو انبل غاية للتربويين على مدى العصور.