خيبات – د. الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يداه مغموستان في الطين اللزج تقلبانه برشاقة وخفة ودراية. وقامته المديدة تستوي تارة وتنحني أخرى في لعبة لا يتقنها غيره. شمر قندورته وربط طرفها إلى زناره فانكشفت ساقان رقيقتان معروقتان غطاهما الشعر والطين. تعلوهما ركبتان حادتان مدببتان تحملان فخذين مقوّسين قليلا إلى الخارج محدثين فتحة يتدلى في وسطها طرف القندورة. ذراعاه طويلتان مشعرتان وساعداه مفتولان من عرْك الطين وعجنه. أعلى وجهه الذي يميل إلى طول غير معيب ينبت شعر مجعد وَخَطَه الشيب وتناثر على ما بقي من خصلاته الطين.
يحدق دائما إلى الأمام، كأنما يرسم لنفسه دروبا لا يخط حدودها أحد سواه، ترحل به مرة إلى تخوم ملغومة، وتطوِّح به أخرى في فيافي كثبانها عالية ومسالكها متشعبة لا يتقن السير فيها إلا خرِّيت متمرِّس. وقد تقوده أحايين أخرى إلى حافات مهاوٍ سحيقة لا قرار لها. يخيل لمن يراه أول مرة أنه يراقب الطريق منتظرا قادما لا يأتي.
لا يريد أن يلتفت خلفه. لا يرغب في رؤية تلك الكومة من السنوات الجاثمة وراءه، تلك السنوات التي أفناها من عمره متأبطا محفظة جلدية خضراء جلبها له والده إحدى أوباته من ليبيا. هذا البلد الذي كم قد أغدق على والده وأمثاله من أموال وبضائع، يذهبون إليه بجيوب خاوية ويعودون بها ضاجة بالأوراق النقدية ومحملين بشتى أنواع البضائع والأطايب. يذهبون خِماصا ويعودون بطانا. لم تكن محفظة عادية، كانت بطعم جذوة الأمل التي أوقدها والده في قلبه وأوكل إليه أمانة إضرامها ورعايتها. رافقته تلك المحفظة الأثيلة إلى قلبه سنوات ست في مسيرة تعلم شاقة. رُتقت مرات كثيرة حتى استبدل خيطها الأصلي بخيوط أخرى ذات ألوان متداخلة. في عامه الأخير اتسعت ثقوبها وعِوض حملها على ظهره صار يتأبطها خشية أن تتمزق وتتبعثر أحلامه وآماله وأدواته الهندسية وأقلامه وقطع الطبشور.

كانت كلمات والده نبراسا يهتدي به. وكان يهدي نجاحه كل سنة لوالده الغائب الحاضر. كان يرتقي من قسم إلى آخر وحتّم نظام المدرسة أن يتدرج من قاعة إلى التي تليها. كانت القاعة الأخيرة هدفه، وكان الجلوس فوق مقعد من مقاعدها غايته، وصار يتطلع إليها بلهفة، يغافل المعلمين والمدير ويدنو منها، يتطلع إلى مقاعدها عبر النافذة وينسحب مسرعا. عندما عبر في نهاية سنته السادسة بابها لآخر مرة وجد نفسه بين أحضان عالم أرحب كم قد اشتاق إليه عندما حدثه عنه ابن جيرانهم الذي سبقه إليه.
لا يريد أن يلتفت وراءه حتى لا يرى تلك السنوات الجاثمة خلفه كشواهد قبور تذكره دوما بذاك الكم الهائل من الليالي والأيام التي أمضاها مكبًّا على طروسه وكراساته يتنكب الحروف ويقلب الكلمات لاهثا وراء النجاح والتألق. أوهموه أن التفوق والنجاح سيفتح له جميع الأبواب الموصدة فكان ينجح يحدوه شوق خفي لرؤية ما وراء تلك الأبواب التي قالوا له إنها موصدة.
لم يكن يظن أنه سينتهي به الأمر إلى صانع أوانٍ من الطين يجوب الأرياف على ظهر أتان عجفاء على ظهرها زنبيل من الحلفاء يبحث عن الطين ليصنع به حاجات المترفين العابرين ويلبي أذواق الذين يزورونه بين الفينة والأخرى أثناء مرورهم المهرجاني المفعم فرحا وتفاؤلا. يعقدون معه الصفقات لصنع المزيد ويعدوه بالعودة لشراء كل ما يصنع من تحف وأوانيَ. فيظل يصنع وينتظر، يزيِّن وينتظر، ينفض الغبار وينتظر، لا يمل من الانتظار... فالمسلك المؤدي إلى محله صار عقيما، أو قد تكون الريح أخفت معالم الطريق المؤدية إلى قريته.
على الجدار الخلفي علق شهائده العلمية، البكالوريا وفوقها الأستاذية وأعلاهما الماجستير، مؤطرة بعناية فائقة مزدانة بالأختام والتواقيع الأنيقة الباذخة لو ظن أصحابها أنها ستعلق في مثل هذا المكان الموحل المعفر بالطين والغبار ورائحة الزنوخة لما احتفوا بتوقيعها أصلا.
أرادها حياة صاخبة ضاجة بالأفراح والأمل، لكنها أضحت صراطا طويلا ممتدا إلى ما لا نهاية محفوفا بالعذاب والشوك. وجد نفسه وحيدا يخط دربا بلا معالم كلما خطا خطوة هبت الريح فمحت أثار قدميه، فلا طريق أمامه فيتبعه ولا أثر خلفه فيهتدي به. وحيدا كان يعرج مستندا على نجاحاته الكثيرة وشهائده التي أفنى الجزء الكبير من عمره لاهثا وراء الحصول عليها وتحبير كلماتها والتي يراها الآن معلقة كجسد مصلوب على جدار باهت لونُه.
يُمضي يومه يدعك الطين واقفا على قدميه المتيبستين المتشققتين اللتين لم تعرفا، منذ غادر مقاعد الدراسة، إلا المداسة البلاستيكية التي يلقي بها حين يدخل محله ولا يتذكرها إلا عندما يحين أوان عودته إلى بيت والديه. تيبست جلدة قدميه فلم يعد يحس بما يدوس عليه. جُرِح مرة بقطعة زجاج تناثر مرة عندما انكسرت كأس الشاي. لم يشعر بالألم لكن لون الدم الذي خالط الطين أرعبه وسعده، منح الدم المادة اللزجة لونا قرمزيا أوحى لصانعها أفكارا جديدة. غمس قدمه في طست الماء ثم أخرجها وتأمل كف قدمه. كان الجرح فاغرا فاه، يبتسم له في مكر، يناكده، يفتح شدقيه مثل شرخ في جذع شجرة معمرة. مرر عليه أصابعه ثم التقط حفنة من الطين وغطاه بها، ملأه بالطين. شعر أنه قبره إلى الأبد، ولم يعد إلى تفقده، نسيه، لم يهتم أَرُتق أم ظل غير مندمل. بعد شهرين تفحصه. رأى ندبة فضحك وصمت.
المحل ضيق ويزداد ضيقا كلما كثرت الأواني وتكدست بعضها فوق بعض تنتظر من يشتريها. والنفس تزداد ضيقا كلما تقلب البصر بين الشهائد وأكوام الطين. اليد الملطخة والملابس المغموسة في الطين والماء. وهذا الصبر الذي بلا حد.
الطريق الترابية المحاذية للمحل تمتد إلى ما لا نهاية، تشق القرية وتعبرها. تمر السيارات مسرعة تاركة وراءها غيوما من التراب المتصاعدة تحجب الأنظار قبل أن تتلاشى وتهدأ.
أزيز سيارة يترنح. يشق سكون الصباح. تقف السيارة أمام باب المحل. تحجب الرؤية. يبطئ سائقها في النزول. انتظر حتى تنقشع كومة الغبار التي أحدثتها حركة العجلات المجنونة. ترجل من السيارة رجل طويل القامة، يضع نظارته السوداء فوق جبينه. تردد في تخطي عتبة المحل. مشى نحوه صانع الطين مادا إليه يدا ملطخة بالماء والطين لكن الضيف تجاهلها كانت عيناه تبحلقان في الفراغ. ينظر من علٍ. أشار بيده إلى صانع الطين أن توقف. وتكلم بحزم "من اليوم لا حق لك في أخذ الطين من الجبل". لم يضف كلمة أخرى ثم استدار وشغل محرك السيارة وداس بعنف على البنزين فانطلقت محدثة ضجة وغبارا.
بقي صاحب المحل حائرا لا يدري ما يفعل. أدرك التهديد الصارم وما عليه سوى الاستجابة لما طلبه منه. ودون تردد أخذ يهشم الأواني والتحف بعضه ببعض حتى اتى عليها جميعا، ثم نزع أثواب العمل وكوّمها وأشعل فيها عود ثقاب وارتدى ملابس أخرى نظيفة. وتوجه بعدها إلى أتانه فأطلق سراحها وهمس في أذنها أنت حرة لوجه الله. وعاد إلى المحل وغلق بابه وخط عليه بقطعة فحم "مغلق" ثم اتجه ينوء تحت كلكل من الهموم والدم يغلي في رأسه وهو يردد "حوت يوكل الحوت وقليل الجهد يموت".
قرأ بعد يومين خبرا على صفحة جريدة جلبها أخوه من المدينة أن أحد الكبار اشترى مقطع الطين الذي في القرية وأنشأ ورشة لصناعة الأواني والتحف الفخارية بعد أن وقّع عقودا مع موردين من الخارج.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟