تعتمد دراستنا لهذا الموضوع على تفكيك البناء الفني للسيرة، وهذا من خلال الكشف عن الأسس الفنية والأدوات التعبيرية التي وظفها الراوي لإنجاز عمله والمتمثل في سيرة الملك الظاهر بيبرس، ومن أبرز الأسس:
1 ـ دراسة البناء السردي للسيرة:
إن الكشف عن البناء السردي المتبع في السيرة لا يمكن تجليته للقارئ إلا بعد تفكيكه إلى وحدات تعبيرية تقنية ارتكز عليها السارد في تقديم السيرة، ومن هذه الوحدات:
الراوي، حيث يكثر استعمال هذا المصطلح في السيرة الشعبية عامة وفي سيرة الظاهر خاصة، حيث إن المؤلف في كل انتقال من حكاية لأخرى يلجأ إلى تقنية تعبيرية كرّرها كثيراً، فألفها القارئ وحفظها السامع، هذه التقنية هي: "قال الراوي"، وهو بهذا العمل يعيد إنتاجاً مروياً، وأحداثاً وقصصاً.. إلى متلقين هم في أغلب الأحوال لم يطلعوا بعد على الأحداث، أو هذا المروي الجديد.
وإذا علمنا أن الراوي في السير الشعبية عامة ينتظم في نمطين:
1. راوٍ مفارق لمرويّه: يتدخل دائماً فيما يرويه.
2. راوٍ متماهٍ2 بمرويّه: يترك للمروي أن يروى دونما تدخل مباشر فيه.
ومن خلال تحليل البناء الفني للسيرة يظهر لنا أن الراوي المفارق لمرويه يحتل مساحة كبرى داخل العملية السردية المتحكمة في بناء السيرة، أما الراوي المتماهي في مرويه، فإن وجوده بالسيرة جدّ قليل فمن أمثلة النوع الأول: "قال الراوي: وأما ما كان من أمر المقدم إبراهيم وسعد"(3) وكذلك قوله: "ثمّ إن الملك أعطى الكتاب إلى النجاب، وقال لوكيل الخزنة: أعط خلعتين، واحدة إلى جمال الدين شيحة، والثانية لأبي علي البطرلي"(4)، وقوله أيضاً: "أما ما كان من أمر المقدم معروف بينما هو في دير الشقيف، وإذا داخل عليه رجل تاجر، وقدم إليه هدية قماش وغيره، وقال له: إكراماً إلى جدك أبي السبطين الإمام علي عليه السلام، أن تأخذ مني هذه الهدية، فقال له المقدم معروف: قبلتها.
ولكن لأي شيء تقدم لي هذه الهدية"(5)، والسيرة عموماً تعج بهذا النوع من الراوي، فلا يترك مجالاً لأبطال وشخصيات السيرة أنْ تعبر عن أفعالها، وإنما يدفعها بتدخله إلى قول ما يريده الراوي.
أما النوع الثاني ـ الراوي المتماهي في مرويه ـ فإن وجوده داخل نصوص السيرة قليل، ولا يكاد يوجد أصلاً إلا في المواقف المحددة التي يكون فيها شكل الحوار موجوداً ومفروضاً على الراوي كأسلوب وجب تقديمه، بل والاعتماد عليه لمعرفة نوعية الشخصية، ومن الأمثلة الدالة على الراوي المتماهي في مرويه قول الراوي: "أما مريم فإنها فاقت من غشيتها ورأت نفسها في مركب وسط البحر، قالت: من جاء بي إلى هنا، قال: أنا، قالت: ومن تكون أنت، قال: أنا نعنع أميلي، قالت له: ولأي شيء فعلت ذلك، قال لها: لأن أباك أرسل يطلبك من جوان"(6)، إن هذه الحوار الذي دار بين مريم ونعنع لم يترك مجالاً للراوي للتدخل في سرد ما يريدان قوله، وإنما ترك لهما حرية التعبير، مستعملاً أسلوب السؤال والجواب، وهو الأسلوب الأنسب لمثل هذه المواقف، والأليق بمثل هذه المواقف داخل الأعمال الفنية التي ترتكز على السرد كمظهر أساسي في العملية السردية لبناء النصوص.
ويلجأ الرواة في سردهم للأحداث إلى الاستنجاد بهذين النمطين أو التقنيتين في الرواية لتسهيل العملية الوظيفية لكل نمط، ومن أبرز الوظائف التي حددت من قبل المهتمين بالسرد والرواة ووظائفهم نجد ما يلي:
أ ـ وظائف الراوي المفارق لمرويّه:
1 ـ وظيفة اعتبارية:
وفيها يقوم الراوي بإضفاء صفات اعتبارية على أبطال السيرة وأفعالهم، وهذا ما يتجلى في البدايات الأولى للسيرة، وفي التمهيدات للتعريف بالأبطال، ولا يلجأ الراوي إلى هذه الوظيفة إلا: "لتحديد الأهمية الاعتبارية للسيرة"(7) مبرزاً مقاصدها المحددة سلفاً، أي الدوافع الكامنة وراء سرد الراوي لهذه السيرة كقوله: "...وبحثت عن غيره من السير فما وجدت أصدق قولاً، ولا أقوى برهاناً، ولا أفصح لساناً من سيرة الظاهر بيبرس، أبي الفتوحات الموعود من الله بالنصر والتأييد من ابتدائها إلى انتهائها"(8)، فهذا التصريح الصريح من الراوي يضبط منذ البداية الأسباب التي جعلته يختار سيرة الظاهر بيبرس كمجال خصب للسرد والحكي، وهذه الأسباب هي:
ـ صدق القول.
ـ قوة البرهان.
ـ فصاحة البيان.
ـ الوعد بالنصر من قبل الله ـ عز وجل ـ.
إن مثل هذه الأسباب هي في أصلها صفات اعتبارية عالية الشأن تجعل من شخص الظاهر أقرب للأسطورة منه إلى الواقع، وهذه الصفات هي نفسها التي يراهن عليها الراوي للسيرة للتأثير على مستمعيه ودفعهم إلى البحث عن مثل تلك الصفات في نفوسهم أو مجتمعهم أو في أحد أبناء مجتمعهم، خاصة إذا كان المجتمع يرضخ لسيطرة أجنبية، أو سطوة حاكم أفسد الحرث والنسل.
2 ـ وظيفة تمجيدية:
وفيها يلج الراوي إلى تمجيد بطله ووصفه بكل صفات البطولة والعفة لينال أهمية خاصة لدى السامعين والقارئين وليحتل الحظوة داخل قلوبهم، ومن هذا المنطلق نجد أن هذه الوظيفة هي شارحة ومتممة للوظيفة الأولى، فإذا كانت الوظيفة الأولى صفاتها اعتبارية وعامة، فإن الوظيفة التمجيدية تنزع في صفات البطل نحو التعيين والتخصيص لتجعل من صفاته سمته المميزة له عن باقي الأبطال والشخصيات داخل السيرة، كقول الراوي في سيرة الظاهر بيبرس مثلاً: "فقال له بيبرس: خذ هذه عشرة دنانير، والقوس هدية مني إليك، وأعطى الدلاّل ديناراً فشكره عاصف على فعله، وقال له: غمرتني بفضلك، الله يقدرني على مكافأتك، وانصرف"(9)، "إن هذه التصرف النبيل من الظاهر أورده الرّاوي ليدلل على نبل الظاهر وعفته وكرمه، فهو أي الظاهر ـ يعطي دون أن يأخذ، وهذه العفّة والكرم والشجاعة التي يبرزها الراوي في السيرة هي صفات وأخلاق الفرسان، وهي صفات متعارف عليها عالمياً، فالفارس لا يوصف بهذا الوصف ما لم يكن صاحب شجاعة وأخلاق نبيلة وعفة وكرم... الخ، وبمثل هذه الأخلاق والصفات ينال رضا الناس وولاءَهم، كقول الراوي: "وصار الأمير بيبرس يتردد على الدكان ويأتي الرفاق والإخوان، وصار له جملة أصحاب من أولاد الحسينية"(10).
والصحبة تجعل البطل يقف إلى جانب أصحابه والمظلومين والضعفاء: "إلى أن كان يوم من الأيام والأمير جالس، وإذ برجال الدرك قد أقبلوا ومقدمهم يقال له رشقون، وهو قابض بيده على غلام، وهو يصيح أنا دخيلكم خلصوني... فعند ذك تقدّم الأمير بيبرس، وقال للدركي: دعه يمضي إلى حال سبيله"(11)، إن إغاثة الملهوف وطالب النجدة من الأخلاق النبيلة التي يدافع عنها أبطال السير، فلا عجب أن نجد الظاهر يتحلى بمثلها ويقفو خُطَا سابقيه من الأبطال أمثال عنترة بن شدّاد، والزير سالم، وذات الهمة...الخ.
3 ـ وظيفة بنائية:
تتكون هذه الوظيفة داخل السيرة من الوظائف الفرعية التالية:
أ ـ وظيفة تنسيق: حيث إن السارد في هذه الوظيفة يأخذ على عاتقه التنسيق بين الوحدات الحكائية المتضمنة والمشكلة للنص الأم الذي هو السيرة، هذا مع العلم أنّ تلك الحكايات هي معضدّة للبطل، والتنسيق عادة يكون على شكل "تذكير بالأحداث، أو سبق لها، أو ربط لها، أو تأليف بينها"(12)، ويستطيع القارئ أو السامع اكتشاف هذه الوظيفة بمجرّد معرفته للتقنيات المشتركة والمتداولة بين الروّاة، كقول راوي سيرة الظاهر: "أما ما كان من محمود وعمومه فإنهم لما أخذوه وساروا به، حتى أمنوا على أرواحها"(13)، أو قوله في موضع آخر: "أما بعد فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل سير الأولين عبرة للآخرين، وموعظة للجاهلين وتنبيهاً للغافلين، وإني قد استخرت الله العظيم في كتابة هذا الكتاب حيث رأيته محتوياً على نصرة الإسلام وخذل الكفرة اللئام"(14).
ب ـ وظيفة استباق: وفي هذه الوظائف يقوم الراوي بسرد الوقائع التي لم يحن الوقت لروايتها، وإنما يلجأ إلى هذه الوظيفة إما لتدخل في قصة للأحداث، خاصة أننا رأينا الاعتماد في السرود العربية على الراوي المفارق لمروية، وكذلك لتوظيف جماليات وفنيات مدعمة للسيرة ومعطية إياها الصبغة الأدبية، ومن الفنيات توظيفه للحلم والرؤيا والحضور المكثف للأولياء الصالحين...الخ، هذه سيرة الظاهر في النماذج التالية: قال الراوي: "وكان السبب في مجيء الوزير أنه رأى الملك الصالح أيوب في المنام، فقال له إن أيبك مات في الحمام، فتعجب من ذلك المنام"(15)، وقوله أيضاً: "ثم إن الملك أمر بالرحيل، فنزلوا في المركب، وعادوا إلى مصر، ونجاه الله مما اعتراه، ولما أتى إلى مصر زار الإمام الشافعي وزار الصالحين"(16)، وقوله في موضع آخر: "فلما وجد نفسه قارب مقام السيدة قفز إلى داخل المزار، ودخل تحت التابوت، وهو يقول يا أم البيت أنا في حماك خلصيني من هذا الجندي"(17) إن الحلم والأولياء الصالحين في سيرة الملك الظاهر بيبرس جيء بها لتعضيد البطل في مهمته النبيلة والمتمثلة في جمع أهل الخير والصلاح والبطولة لمواجهة أهل الشر والفساد، وبمثل هذه الوظيفة ـ استباق ـ تنتهي السيرة، حيث يتحقق الهدف منها والغرض من الاستباق السردي، ليسدل الستار على انتصار أهل الحق والخير، والممثلين في الظاهر وأنصاره، وانهزام أهل الشر والباطل والممثلين في جوان وأنصاره.
ج ـ وظيفة توزيع: يقوم الراوي في سيرة الظاهر بتوزيع محاور الوحدة الحكائية داخل السيرة "حسب وقوعها في الزمان أو علاقتها بالشخصيات، ثم ينظم تتابع الوقائع في كل محور، بما يجعل وقوعها متوازياً، وكأنها تحدث في زمن واحد"(18)، فالقارئ للأحداث والحكايات داخل السيرة يظهر له للوهلة الأولى أنها تحدث في أزمنة متعددة وأن وقائعها غير متوازية، لكن عبقرية الراوي جعلته يستدعي حضور وظيفة التوزيع ليرجع للقارئ حساباته فيدرك جيداً عجزه وسوء تقديره، فعندما يذكر البطل وأصحابه مرة، والأعداء مرة ثانية ليتضح للقارئ أو السامع أنه أمام صورتين متقابلتين وجهاً لوجه، والراوي في كل هذا وذاك يستعين بمثل هذه العبارات: "أما السلطان قطز فإنه نظم خطة حربية ومكيدة للعدو ليقضي عليه... وكان مع الأعداء سلاح ليس له وجود في جيش مصر، وهو السهام الثقيلة"(19) وقوله أيضاً واصفاً الاشتباك والعراك بين أهل الخير والشرّ: "ونزل الأمير قلاوون برجاله وفعل فعل الشجعان وقتل من الأعداء جملة وعاد آخر النهار، فاستقبله الملك الظاهر بيبرس وأثنى عليه وما زالوا على ذلك عشرة أيام، فقالوا كرفوس لجوان: طال الحال على الرجال وهلكت الأبطال، فما يكون الرأي عندك، فقال له: هل تسمع كلامي، قال نعم، قال: إن هذا الأمر ليس له غيرك، فإذا كان الغد أبرز إليهم أنت بنفسك عسى انك تبلغ المرام"(20).
إذا كانت السيرة تجنح دوماً إلى مقابلة الفئات المتصارعة، إنما هذا مرجعه إلى أنّ "الانتقال بين الفئات المتصارعة ضرورة لازمة من ضروريات البنية السردية للسير الشعبية، كون هذا النوع القصصية لا يتكون إلا بوجود خصوم يختلفون فيما بينهم اختلافاً عرقياً ودينياً"(21).
4 ـ وظيفة تأويل:
لقد ساهم التداول الشفاهي المتواتر لمرويات سيرة الظاهر وغياب المؤلف الذي له ملكية السيرة، في إعطاء الراوي أحقية التأويل، وهذا ليطابق ويجد علاقة رابطة بين نصوص السيرة والبنية الثقافية للنصوص، وهذا لتعطي العلاقة للخطاب الدور المطلوب منه في زمن روايته، وما استنجاد الراوي بهذه الوظيفة إلا ليقوم "بإعادة إنتاج لمرويات معينة بما يوافق عصره ورؤيته للعالم الذي يعيش فيه، وهذا التمدد الدلالي لتلك المرويات هو السبيل الوحيد لإغنائها وتخصيبها، وإضفاء مزيد من الأهمية عليها"(22)، لأنّ النص في أصله إثارة للسؤال، وتحريك التراكم المعرفي للكشف عن المكونات للنص، والمواقف الدافعة له على الظهور بتلك الصيغة والأحداث.
والتأويل للنصوص لا يكون إلا بهدف الحصول على ما يحتويه من معانٍ مثل: "المعنى الحرفي أو المعنى التاريخي، أو المعنى الأخلاقي، أو المعنى الصوفي أو المعنى الروحي، أو على معانٍ أربع وهي: المعنى الحرفي، والتمثيلي، والخلقي، والغيبي"(23).
ولقد كان غياب المؤلف دافعاً قوياً لاستعراض الراوي لقدراته البلاغية والبيانية، فاتحاً بهذا العمل مجالاً عريضاً للتأويل، وفي هذا المقام يقول الجرجاني: "إن اللفظ أصلاً مبدوء به في الوضع ومقصود، وأن جريه على الثاني إنما هو على سبيل الحكم يتأدى إلى الشيء من غيره"(24).
وإذا كان التأويل تقنية فنية يعتمدها السارد في سيرته، وهذا بدافع البحث عن الأنساق العامة التي تكشف عن الذات المبدعة ولاستكشاف البعد التأملي بحيث يخلق من النص الأول نصاً ثابتاً، وهكذا تتكاثف النصوص وتتوحد في نص كبير جامع لبقية النصوص، لذا نجد أن سياق التأويل" لا يحكمه مقياس الرؤية الموجهة لمعرفة الحقيقة، وإنما يعتمد بالأساس على سياق منطق الباطن الذي لا تحده مفاهيم مسبقة تحيط بالمتلقي لتؤثر فيه"(25).
وعلى كلٍ فإنّ وظيفة التأويل تقوم أساساً على ما نملكه من رصيد معلوماتي وبلورته في سياق التجربة لإعطاء سلطة النص صفة التحرر من قيود الصور والسطحية، لهذا نجد أنّ التأويل قد يكون عبارة عن قراءة بنفسجية أو اجتماعية أو تاريخية... الخ، وهذا ما يقودنا إلى الاتفاق مع طودوروف فيما ذهب إليه من أنّ التأويل "هو إدخال العمل الأدبي في علاقة مع القراء"(26).
وإذا كانت القراءة التأويلية هي عبارة عن قراءة متعددة إما أن تكون نفسية أو اجتماعية أو تاريخية، فإنّ التأويل أيضاً يراعي في وظيفته ما يوافق عصر الراوي والمتلقّي.
ت ـ وظائف الراوي المتماهي بمرويه:
1 ـ وظيفة وصفية:
في هذه الوظيفة يقوم الراوي بتقديم المنازلات وأعمال الفروسية من شجاعة وكرم وعفة مع التزامه بعدم إظهار موقفه من الأحداث فهو ـ الراوي ـ يحاول إقناع المتلقي أو المرسل إليه بحياده وعدم تدخله في مجريات الأحداث، كقول الراوي في سيرة الظاهر بيبرس: "وثاني يوم طلب المبارزة مقدم من بني إسماعيل كما أمر الملك، وصار يقتل ويأسر من الأعداء قدر ساعة من الزمان، وإذ دقّت العماريات بالحملة على اللئام، فدرات الحرب، فلا ترى إلا خيولاً غائرة، ودماء فائرة، ولا تسمع إلاّ رنين السيوف وصياح الأبطال"(27)، إنّ هذه الوظيفة ـ الوصف ـ تعتمد على الأسلوب غير المباشر ليتمكن الراوي من وصف كل ما يتعلق بالمشاهد بحياد "ذلك أن المشاهد الوصفية تتطلب عرضاً للموقف، دونما تدخل مباشر من الراوي، ومثال ذلك منازلات الخصوم والأعوان التي تحتشد بها السير، وتؤلف جزءاً كبيراً من متون تلك المرويات"(28)، وبفضل هذه المقابلة والوصف المباشر للمنازلات والأعمال الفروسية الدالة على البطولة والحركية داخل السيرة، يتولّد لدى السامع أو القارئ إحساس قوي بأنه هو المقصود بهذا العمل، وأن مصيره هو صنيع يديه، لا يتحقق إلا باقتفاء آثار أسلافه، ومن أمثلة الوصف المباشر "قال بيبرس: رضيت بذلك، فخذ حذرك، ثم انطبق الاثنان أحدهما على الآخر، وخرج من أيديهما ضربتان، كان السابق بالطعنة الخيال، فزاغ عنها بيبرس، واعتدل، وضرب الخيال بالدّبوس فرماه إلى الأرض، ونزل عن جواده وأوثقه"(29).
إنّ مثل هذه المبارزة قدّمها الرّاوي للسيرة كدليل بارز على قوة الملك الظّاهر بيبرس، وكذلك على شجاعته ورفضه للظلم والجور.
2 ـ وظيفة توثيقية:
إنّ راوي سيرة الظاهر بيبرس لم يقتف آثار الرّواة السابقين له في رواياتهم للسير الشّعبية، وذلك بذكره داخل المتون الحكائية أسماء رواة مشهورين في الثقافة العربية عامة وفي مجال الرواية الشفاهية خاصة من أمثال: الأصمعي، ووهب بن منبه، وأبي عبيدة، وخلف الأحمر... الخ، إنما لجأ راوي سيرة الظاهر إلى أسلوب توثيقي مأخوذ من رواة الأحاديث النبوية، وهو ذكر مصدر روايته للأحداث في الافتتاحية قبل أن يشرع في سرد السيرة، فهو قد اعتمد أسلوب السند في عمليته السردية للسيرة، وهذا جاء في قوله في أول السيرة: "...منقولة عن السادات الكرام المشهورين بالعلم ونبراس الأفهام الديناري ووافقه على ذلك الدويداري، ثم ناظر الجيش، وكاتم السر، والصاحب فرحمه الله عليهم أجمعين"(30)، بل إن الراوي ليعطي السيرة أكثر وثوقية ودقة، ولكي لا يترك مجالاً للشكّ يعلن منذ البداية مصرّحاً باسم راوي السيرة: "قال الراوي: "وهو الديناري رحمه الله تعالى"(31).
3 ـ وظيفة تأصيلية:
إذا كان الهدف الرئيس من المرويات الشعبية عامة هو ربط الأمة العربية الإسلامية بحضارتها وتاريخها وأسلافها، فإن سيرة الظاهر جاءت لتؤكد هذا الهدف السامي، فمن خلال المرويات للأحداث التي أوردها الراوي حاول التأصيل لها في التاريخ والثقافة العربية، جاعلاً من مروياته ديواناً لتسجيل الصراع الديني الذي عرفته فترة الظاهر والبلاد العربية جاعلاً في الآن نفسه الانتصارات على الخصوم من الأثر التي وجب الإشادة بها، وتسجيلها لتبقى منقوشة في ذاكرة الأجيال، والراوي باعتماده على هذه الوظيفة ـ التأصيلية ـ يدفع دوماً القارئ أو السامع إلى استحضار المواجهات العربية الإسلامية مع الدول الصليبية، والتي انتصر فيها المسلمون، وخير مثال على هذه الوظيفة قول الراوي: "ثم ذهبوا إلى عشائرهم وخطبوا فيهم، ونفّروهم للجهاد في سبيل الله، وبعد ما اجتمعوا وكانوا على أتمّ استعداد جاءتهم الأخبار أنّ المعارك محتدمة خارج مدينة حلب بين جيوش السلطان وبين الأعداء، فركبوا بالحال، وساروا بأقصى سرعة وفاجؤوا الأعداء، وهزموهم، وعند رجوعهم استقبلهم السلطان أحسن استقبال، وعلّق الأوسمة على صدورهم وأعطاهم من الغنائم حتى أرضاهم"(32).
2 ـ التقنيات السردية في السيرة:
أ ـ السرد بالوصف:
إذا كان الوصف أصلاً في الإبداع ولا سرد مجرّد تقنية، فإنّ هذا يجعل الحضور مكثفاً للسرد، وغيابه غياباً شبه كامل يجعل الكلام سطحياً ومبسّطاً، لأن "غاية السرد إنما ترتبط بتحرير الوجه الزمني والدرامي للسرد من قيود الوصف، على حين أن الوصف يكون تعليقاً لمسار الزمن وعرقلة تعاقبه عبر النص السردي"(33)، ولقد اعتمد راوي سيرة الظاهر على الوصف الدقيق والمفصل لكل مجريات الأحداث داخل السيرة، حتّى إنّ القارئ للسيرة يحس وكأنه يتابع تسلسل أحداث شريط سينمائي مما يدفع به إلى الضجر والملل، كقوله: "وثاني يوم توجّه كلّ منهم إلى مكانه، وصار يستعد لجمع الرجال والأبطال، وقد جهزّ أبو علي البطرلي مراكبه بالمدافع والبارود والمؤن، وجمع المغاربة من كل مكان إلى أن جمع مراكب كثيرة، وكلها ملآنة بالرجال المغاربة الأشاوس أولاد عيشة"(34).
إنّ هذا النص المقتطف من السيرة يكشف عن الوصف المباشر والعادي الذي اعتمده السارد ليوضّح ويبيّن للقارئ الحالات المواكبة للأحداث ليقنعه بجدارة هذه التقنية وأهميتها.
ب ـ تداخل السرد:
في هذه التقنية يلجأ الراوي إلى تضمين الحكايات المتعددة داخل السيرة، ويمكن تعريف التداخل السردي بأنه: "تضمين حكاية داخل حكاية أخرى"(35)، فراوي سيرة الظاهر منذ البداية ضمّن عدّة حكايات تبدو لنا مستقلّة، ولكنها في الحقيقة ممهّدة ومقدّمة لحكاية أصل تنضوي تحتها بقية الحكايات، ومنها نجد مثلاً: (قصة الخليفة شعبان المقتدر بالله، وقصة أصفوط وكرسيمول، وقصة الملك الصالح، وقصة عرنوس...الخ)، والجدير بالملاحظة هو أن غياب قصة يؤدي إلى اختلال بناء السيرة، ويجعل الفجوات الفنية ـ عدم الترابط ودواعي حضور القصة ـ بارزة للعيان.
ج ـ التقطع السردي:
ونقصد به الانتقال المفاجئ من قبل الراوي من حكاية إلى أخرى دون أن يتمّ الأولى، أو إدخاله لبعض الأخبار عادة ما تكون السابقة للأحداث، وهذا بدافع تعزيز العملية السردية، وإضفاء طابع الحركية على الحكايات، وتعويض صفة الملل والرتابة التي تركها الوصف المباشر وجعل القارئ دوماً في بحث وتساؤل مما يجعله يعيش أحداث السيرة لحظة لحظة، وحدثاً حدثاً، ومن الأمثلة على هذه التقنية قول الراوي بعد عرضه للخاتمة التي آل إليها الصراع بين الفرتامكوس ملك أنطاكية والملك الظاهر بيبرس ودون مقدّمات لما سيأتي من الأحداث نقلنا الراوي مباشرة إلى بلاط الظاهر: "وبعد ذلك تقدّم رجل وقبّل يد السلطان، وقال معي كتاب من سلطان الحصون شيحة من مدينة سيس"(36)، فالانتقال في هذا المشهد نقلنا من مدينة أنطاكية إلى بلاط السلطان الظاهر مخبرنا بمكان جمال الدين شيحة وهو يتابع بحثه عن جوان الفار من أنطاكية بعد انهزام جيش الفرتماكوس، ومثل هذا الانتقال والرحيل يحتاج في الوصف المباشر إلى وقت وصفحات طوال، لكن الراوي أدخل تقنية السرد المتقطع أو الانتقال المفاجئ ليسهل على القارئ.
د ـ المزاوجة بين اللغة العربية الفصحى والعامية:
تميّزت لغة السيرة بالمزاوجة بين الفصحى والعامية ممثلة في اللهجة المصرية، لأن أحداث السيرة العظمى وقعت في مصر، كما امتازت اللغة بالبساطة والرقة مما يدل على أنها ـ السيرة ـ تحتذي بالشكل السردي الأصيل في الموروث الشعبي العربي، كما اعتمد الراوي على الجمل الطويلة والسرد المرسل وخاصة عندما يصف المظاهر الجمالية للطبيعة أو القصور أو المواقف العاطفية المثيرة، فقد جاء في السيرة أسلوب السرد المرسل المدعم بالجمل الطويلة بصفة مكثفة كقول الراوي واصفاً بيت الأمير أحمد بن باديسة السبكي: "سار الدّلال قدامهم وأقبلوا إلى باب من أبوابه الأربعة، فتقدم الدلال وفتح باب الخوخة، فقال له الأمير: افتح لنا الباب الكبير، فقال: يا سيدي إن هذا الباب له مدّة ما انفتح، ولا يقدر أحد على فتحه، وإنّ الستات قد أوصينني وقالوا لي، إذا رأيت شخصاً قد فتح الباب الكبير فأحضره إلى عندنا"(37).
أما القاموس الفني الذي حملته السيرة فيمكن حصره في المظاهر الآتية:
1 ـ القوة والبطش والقسوة، ومثل هذه الصفات جوان وشيحة.
2 ـ الفروسية بما تشمله من كرم ونبل أصل ورحمة بالضعفاء، والعصاة التائبين أمثال عثمان، ومثّل هذه الصفات: الظاهر بيبرس والملك الصالح.
3 ـ المنادمة والطرب واللهو والشراب والسرقة، ومثّل هذه الصفات شيخ العرب حرحش ومقلد وخضر الحريري.
4 ـ السحر والجم والعفاريت والمسخ، وتجسدت هذه الصفات والأعمال في كل من: الجن، شمقرين، مرين ومرينة، غرطال الوحشي، ميمونة.
5 ـ البحر والماء كالسفن وخاصة الحربية، ومن الموانئ البحرية ميناء الإسكندرية وجنوا، ومن القلاع قلعة العريش وقلعة صهيون، ومن البحر خليج مسيسبي والحمامات المعدنية بجبل النار.
يمثل هذا القاموس اللغوي الفني الذي ضمته السيرة تبين لنا المقدرة الفائقة للراوي على توظيف هذا القاموس لإعطاء السيرة صبغة فنية وسمة أدبية، وكلما تحكم في القاموس الفنية أدت السيرة وظيفتها.
إن ارتكازنا في التحليل الوظيفي على قصة أصل الظاهر بيبرس، والوزير أيبك التركماني والمقدم معروف، وجوان، وتعاملنا معها على أساس أنها تمثل داخل النص الأصلي ـ سيرة الملك الظاهر بيبرس ـ وحدات وظيفية بالمعنى الذي حدده بروب على أنها "أصغر عنصر روائي في القصة"(38).
وهي أيضاً حسب بريموند: "أبسط وحدات النص"(39)، والملاحظ على السيرة الشعبية الحاملة لعنوان الظاهر بيبرس أنها تكونت من مركب ثلاثي يصلح كل منها أساساً للتحليل، هذه المركبات هي: "القصة البطولية الواحدة التي تتكون من عدد من الوحدات الوظيفية المعروفة عند بروب، ثم هناك المجموعة القصصية التي تتكون من عدد من هذه القصص البطولية السابقة، وترتبط دلالياً بمرحلة أو فترة متميزة وفاصلة وحاسمة في قصة حياة البطل، وأخيراً هناك القصة الكبرى التي تنتظم هذا العدد الكبير من المجموعات القصصية، وتشكل في مجملها وبين صفتيها قصة حياة البطل الملحمي كلها من البداية حتى النهاية وتحمل اسمه صراحة، هذه القصة الكبرى هي ذاتها السيرة من بدايتها حتى نهايتها"(40).
مصادر الموضوع ومراجعه :
1 ـ سيرة الملك الظاهر بيبرس، سلسلة الأنيس، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية للنشر (موفم) ط 1، سنة 1998م الجزائر.
2 ـ المراجع:
1 ـ أدبية التأويل، عبد القادر فيدروح، مجلة تجليات الحداثة، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران، الجزائر، العدد 1. سنة 1992م.
2 ـ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، العيد يمنى، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1. سنة 1990م.
3 ـ السردية العربية ـ بحث في الموروث الحكائي العربي ـ عبد الله إبراهيم ـ المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان ـ الدار البيضاء ـ المملكة المغربية، ط1. سنة 1992م.
4 ـ عرض كتاب ألف ليلة وليلة ـ دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمال بغداد، لعبد المالك مرتاض ـ عادل بدر ـ مجلة فصول، المجلد 13 العدد 1.، الجزء 2.، ربيع 1994م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر.
5 ـ المتخيل السردي ـ مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة ـ عبد الله إبراهيم ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت لبنان، الدار البيضاء، المملكة المغربية، ط1. سنة 1990م.
6 ـ مجهول البيان، مفتاح محمد، دار توبقال، الدار البيضاء، المملكة المغربية، ط1. سنة 1990م.
7 ـ مدخل إلى التحليل البنيوية للسير الشعبية ـ الملتقى الدولي الأنثرويولوجيا والتاريخ، محمد رجب النجار، المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ أيام 20 ـ 21 ـ 22 ـ 23 ماي سنة 1990م. الجزائر.
8 ـ مدخل إلى نظرية القصة، شاكر جميل والمرزوقي سمير، الدار التونسية للنشر، وديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د. ت. د. ط.
الاحالات :
* كاتب جزائري: المركز الجامعي، الطارق ـ الجزائر.
(2) يقال تموّه الحديث: زخرف وامتزج حقّه بباطله.
(3) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص 214.
(4) م. ن، ص: 211.
(5) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 138.
(6) م.ن، ص: 140.
(7) د. عبد الله إبراهيم: السردية العربية، بحث في الموروث الحكائي العربي، ص: 144.
(8) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص 1.
(9) م. ن، ص: 42.
(10) المصدر السابق، ص: 67.
(11) م. ن، ص. ن.
(12) سمير المرزوقي وجميل شاكر: مدخل إلى نظرية القصة، ص: 108.
(13) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 90.
(14) م. ن، ص: 1.
(15) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 160.
(16) م. ن، ص: 150.
(17) م. ن، ص: 76.
(18) د. عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص: 147.
(19) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 162/ 163.
(20) م. ن، ص: 176/ 177.
(21) د. عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص: 147.
(22) د. عبد الله إبراهيم: البنية السردية، ص 149.
(23) د. محمد مفتاح: مجهول البيان، دار توبقال، ط1، سنة 1990، ص: 90/ 91.
(24) عبد القادر فيدوح: أدبية التأويل، مجلة تجليات الحداثة، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران، ع1، سنة 1992م،ص 47.
(25) المرجع السابق، ص: 50.
(26) يمنى العيد: تقنيات السرد الروائية في ضوء المنهج البنيوي، ص 22.
(27) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 204/ 205.
(28) إبراهيم عبد الله: السردية العربية، ص: 150.
(29) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 44.
(30) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 1/ 2.
(31) م. ن، ص: 2.
(32) المصدر السابق، ص: 289.
(33)عرض كتاب ألف ليلة وليلة ـ دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمّال بغداد لعبد المالك مرتاض، مجلة فصول، المجلد الثالث عشر، العدد الأول، ربيع 1994م، الجزء ا لثاني، ص 306 عادل بدر.
(34) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص 210.
(35) عرض كتاب ألف ليلة، ص 306 عادل بدر.
(36) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 180.
(37) م. ن، ص: 90.
(38) مدخل إلى التحليل البيئوي للسير الشعبية، أعمال الملتقى الدولي، الجزائر من 20 إلى 23 ماي سنة 1990، المركزي الوطني للبحوث في عصور ما قبل اتاريخ، الأنثرويولوجيا والتاريخ، منشورات الشهاب 1996، ص: 25 محمد رجب النجار.
(39) المرجع نفسه، ص 25.
(40) م. ن، ص: 26.
ويلجأ الرواة في سردهم للأحداث إلى الاستنجاد بهذين النمطين أو التقنيتين في الرواية لتسهيل العملية الوظيفية لكل نمط، ومن أبرز الوظائف التي حددت من قبل المهتمين بالسرد والرواة ووظائفهم نجد ما يلي:
أ ـ وظائف الراوي المفارق لمرويّه:
1 ـ وظيفة اعتبارية:
وفيها يقوم الراوي بإضفاء صفات اعتبارية على أبطال السيرة وأفعالهم، وهذا ما يتجلى في البدايات الأولى للسيرة، وفي التمهيدات للتعريف بالأبطال، ولا يلجأ الراوي إلى هذه الوظيفة إلا: "لتحديد الأهمية الاعتبارية للسيرة"(7) مبرزاً مقاصدها المحددة سلفاً، أي الدوافع الكامنة وراء سرد الراوي لهذه السيرة كقوله: "...وبحثت عن غيره من السير فما وجدت أصدق قولاً، ولا أقوى برهاناً، ولا أفصح لساناً من سيرة الظاهر بيبرس، أبي الفتوحات الموعود من الله بالنصر والتأييد من ابتدائها إلى انتهائها"(8)، فهذا التصريح الصريح من الراوي يضبط منذ البداية الأسباب التي جعلته يختار سيرة الظاهر بيبرس كمجال خصب للسرد والحكي، وهذه الأسباب هي:
ـ صدق القول.
ـ قوة البرهان.
ـ فصاحة البيان.
ـ الوعد بالنصر من قبل الله ـ عز وجل ـ.
إن مثل هذه الأسباب هي في أصلها صفات اعتبارية عالية الشأن تجعل من شخص الظاهر أقرب للأسطورة منه إلى الواقع، وهذه الصفات هي نفسها التي يراهن عليها الراوي للسيرة للتأثير على مستمعيه ودفعهم إلى البحث عن مثل تلك الصفات في نفوسهم أو مجتمعهم أو في أحد أبناء مجتمعهم، خاصة إذا كان المجتمع يرضخ لسيطرة أجنبية، أو سطوة حاكم أفسد الحرث والنسل.
2 ـ وظيفة تمجيدية:
وفيها يلج الراوي إلى تمجيد بطله ووصفه بكل صفات البطولة والعفة لينال أهمية خاصة لدى السامعين والقارئين وليحتل الحظوة داخل قلوبهم، ومن هذا المنطلق نجد أن هذه الوظيفة هي شارحة ومتممة للوظيفة الأولى، فإذا كانت الوظيفة الأولى صفاتها اعتبارية وعامة، فإن الوظيفة التمجيدية تنزع في صفات البطل نحو التعيين والتخصيص لتجعل من صفاته سمته المميزة له عن باقي الأبطال والشخصيات داخل السيرة، كقول الراوي في سيرة الظاهر بيبرس مثلاً: "فقال له بيبرس: خذ هذه عشرة دنانير، والقوس هدية مني إليك، وأعطى الدلاّل ديناراً فشكره عاصف على فعله، وقال له: غمرتني بفضلك، الله يقدرني على مكافأتك، وانصرف"(9)، "إن هذه التصرف النبيل من الظاهر أورده الرّاوي ليدلل على نبل الظاهر وعفته وكرمه، فهو أي الظاهر ـ يعطي دون أن يأخذ، وهذه العفّة والكرم والشجاعة التي يبرزها الراوي في السيرة هي صفات وأخلاق الفرسان، وهي صفات متعارف عليها عالمياً، فالفارس لا يوصف بهذا الوصف ما لم يكن صاحب شجاعة وأخلاق نبيلة وعفة وكرم... الخ، وبمثل هذه الأخلاق والصفات ينال رضا الناس وولاءَهم، كقول الراوي: "وصار الأمير بيبرس يتردد على الدكان ويأتي الرفاق والإخوان، وصار له جملة أصحاب من أولاد الحسينية"(10).
والصحبة تجعل البطل يقف إلى جانب أصحابه والمظلومين والضعفاء: "إلى أن كان يوم من الأيام والأمير جالس، وإذ برجال الدرك قد أقبلوا ومقدمهم يقال له رشقون، وهو قابض بيده على غلام، وهو يصيح أنا دخيلكم خلصوني... فعند ذك تقدّم الأمير بيبرس، وقال للدركي: دعه يمضي إلى حال سبيله"(11)، إن إغاثة الملهوف وطالب النجدة من الأخلاق النبيلة التي يدافع عنها أبطال السير، فلا عجب أن نجد الظاهر يتحلى بمثلها ويقفو خُطَا سابقيه من الأبطال أمثال عنترة بن شدّاد، والزير سالم، وذات الهمة...الخ.
3 ـ وظيفة بنائية:
تتكون هذه الوظيفة داخل السيرة من الوظائف الفرعية التالية:
أ ـ وظيفة تنسيق: حيث إن السارد في هذه الوظيفة يأخذ على عاتقه التنسيق بين الوحدات الحكائية المتضمنة والمشكلة للنص الأم الذي هو السيرة، هذا مع العلم أنّ تلك الحكايات هي معضدّة للبطل، والتنسيق عادة يكون على شكل "تذكير بالأحداث، أو سبق لها، أو ربط لها، أو تأليف بينها"(12)، ويستطيع القارئ أو السامع اكتشاف هذه الوظيفة بمجرّد معرفته للتقنيات المشتركة والمتداولة بين الروّاة، كقول راوي سيرة الظاهر: "أما ما كان من محمود وعمومه فإنهم لما أخذوه وساروا به، حتى أمنوا على أرواحها"(13)، أو قوله في موضع آخر: "أما بعد فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل سير الأولين عبرة للآخرين، وموعظة للجاهلين وتنبيهاً للغافلين، وإني قد استخرت الله العظيم في كتابة هذا الكتاب حيث رأيته محتوياً على نصرة الإسلام وخذل الكفرة اللئام"(14).
ب ـ وظيفة استباق: وفي هذه الوظائف يقوم الراوي بسرد الوقائع التي لم يحن الوقت لروايتها، وإنما يلجأ إلى هذه الوظيفة إما لتدخل في قصة للأحداث، خاصة أننا رأينا الاعتماد في السرود العربية على الراوي المفارق لمروية، وكذلك لتوظيف جماليات وفنيات مدعمة للسيرة ومعطية إياها الصبغة الأدبية، ومن الفنيات توظيفه للحلم والرؤيا والحضور المكثف للأولياء الصالحين...الخ، هذه سيرة الظاهر في النماذج التالية: قال الراوي: "وكان السبب في مجيء الوزير أنه رأى الملك الصالح أيوب في المنام، فقال له إن أيبك مات في الحمام، فتعجب من ذلك المنام"(15)، وقوله أيضاً: "ثم إن الملك أمر بالرحيل، فنزلوا في المركب، وعادوا إلى مصر، ونجاه الله مما اعتراه، ولما أتى إلى مصر زار الإمام الشافعي وزار الصالحين"(16)، وقوله في موضع آخر: "فلما وجد نفسه قارب مقام السيدة قفز إلى داخل المزار، ودخل تحت التابوت، وهو يقول يا أم البيت أنا في حماك خلصيني من هذا الجندي"(17) إن الحلم والأولياء الصالحين في سيرة الملك الظاهر بيبرس جيء بها لتعضيد البطل في مهمته النبيلة والمتمثلة في جمع أهل الخير والصلاح والبطولة لمواجهة أهل الشر والفساد، وبمثل هذه الوظيفة ـ استباق ـ تنتهي السيرة، حيث يتحقق الهدف منها والغرض من الاستباق السردي، ليسدل الستار على انتصار أهل الحق والخير، والممثلين في الظاهر وأنصاره، وانهزام أهل الشر والباطل والممثلين في جوان وأنصاره.
ج ـ وظيفة توزيع: يقوم الراوي في سيرة الظاهر بتوزيع محاور الوحدة الحكائية داخل السيرة "حسب وقوعها في الزمان أو علاقتها بالشخصيات، ثم ينظم تتابع الوقائع في كل محور، بما يجعل وقوعها متوازياً، وكأنها تحدث في زمن واحد"(18)، فالقارئ للأحداث والحكايات داخل السيرة يظهر له للوهلة الأولى أنها تحدث في أزمنة متعددة وأن وقائعها غير متوازية، لكن عبقرية الراوي جعلته يستدعي حضور وظيفة التوزيع ليرجع للقارئ حساباته فيدرك جيداً عجزه وسوء تقديره، فعندما يذكر البطل وأصحابه مرة، والأعداء مرة ثانية ليتضح للقارئ أو السامع أنه أمام صورتين متقابلتين وجهاً لوجه، والراوي في كل هذا وذاك يستعين بمثل هذه العبارات: "أما السلطان قطز فإنه نظم خطة حربية ومكيدة للعدو ليقضي عليه... وكان مع الأعداء سلاح ليس له وجود في جيش مصر، وهو السهام الثقيلة"(19) وقوله أيضاً واصفاً الاشتباك والعراك بين أهل الخير والشرّ: "ونزل الأمير قلاوون برجاله وفعل فعل الشجعان وقتل من الأعداء جملة وعاد آخر النهار، فاستقبله الملك الظاهر بيبرس وأثنى عليه وما زالوا على ذلك عشرة أيام، فقالوا كرفوس لجوان: طال الحال على الرجال وهلكت الأبطال، فما يكون الرأي عندك، فقال له: هل تسمع كلامي، قال نعم، قال: إن هذا الأمر ليس له غيرك، فإذا كان الغد أبرز إليهم أنت بنفسك عسى انك تبلغ المرام"(20).
إذا كانت السيرة تجنح دوماً إلى مقابلة الفئات المتصارعة، إنما هذا مرجعه إلى أنّ "الانتقال بين الفئات المتصارعة ضرورة لازمة من ضروريات البنية السردية للسير الشعبية، كون هذا النوع القصصية لا يتكون إلا بوجود خصوم يختلفون فيما بينهم اختلافاً عرقياً ودينياً"(21).
4 ـ وظيفة تأويل:
لقد ساهم التداول الشفاهي المتواتر لمرويات سيرة الظاهر وغياب المؤلف الذي له ملكية السيرة، في إعطاء الراوي أحقية التأويل، وهذا ليطابق ويجد علاقة رابطة بين نصوص السيرة والبنية الثقافية للنصوص، وهذا لتعطي العلاقة للخطاب الدور المطلوب منه في زمن روايته، وما استنجاد الراوي بهذه الوظيفة إلا ليقوم "بإعادة إنتاج لمرويات معينة بما يوافق عصره ورؤيته للعالم الذي يعيش فيه، وهذا التمدد الدلالي لتلك المرويات هو السبيل الوحيد لإغنائها وتخصيبها، وإضفاء مزيد من الأهمية عليها"(22)، لأنّ النص في أصله إثارة للسؤال، وتحريك التراكم المعرفي للكشف عن المكونات للنص، والمواقف الدافعة له على الظهور بتلك الصيغة والأحداث.
والتأويل للنصوص لا يكون إلا بهدف الحصول على ما يحتويه من معانٍ مثل: "المعنى الحرفي أو المعنى التاريخي، أو المعنى الأخلاقي، أو المعنى الصوفي أو المعنى الروحي، أو على معانٍ أربع وهي: المعنى الحرفي، والتمثيلي، والخلقي، والغيبي"(23).
ولقد كان غياب المؤلف دافعاً قوياً لاستعراض الراوي لقدراته البلاغية والبيانية، فاتحاً بهذا العمل مجالاً عريضاً للتأويل، وفي هذا المقام يقول الجرجاني: "إن اللفظ أصلاً مبدوء به في الوضع ومقصود، وأن جريه على الثاني إنما هو على سبيل الحكم يتأدى إلى الشيء من غيره"(24).
وإذا كان التأويل تقنية فنية يعتمدها السارد في سيرته، وهذا بدافع البحث عن الأنساق العامة التي تكشف عن الذات المبدعة ولاستكشاف البعد التأملي بحيث يخلق من النص الأول نصاً ثابتاً، وهكذا تتكاثف النصوص وتتوحد في نص كبير جامع لبقية النصوص، لذا نجد أن سياق التأويل" لا يحكمه مقياس الرؤية الموجهة لمعرفة الحقيقة، وإنما يعتمد بالأساس على سياق منطق الباطن الذي لا تحده مفاهيم مسبقة تحيط بالمتلقي لتؤثر فيه"(25).
وعلى كلٍ فإنّ وظيفة التأويل تقوم أساساً على ما نملكه من رصيد معلوماتي وبلورته في سياق التجربة لإعطاء سلطة النص صفة التحرر من قيود الصور والسطحية، لهذا نجد أنّ التأويل قد يكون عبارة عن قراءة بنفسجية أو اجتماعية أو تاريخية... الخ، وهذا ما يقودنا إلى الاتفاق مع طودوروف فيما ذهب إليه من أنّ التأويل "هو إدخال العمل الأدبي في علاقة مع القراء"(26).
وإذا كانت القراءة التأويلية هي عبارة عن قراءة متعددة إما أن تكون نفسية أو اجتماعية أو تاريخية، فإنّ التأويل أيضاً يراعي في وظيفته ما يوافق عصر الراوي والمتلقّي.
ت ـ وظائف الراوي المتماهي بمرويه:
1 ـ وظيفة وصفية:
في هذه الوظيفة يقوم الراوي بتقديم المنازلات وأعمال الفروسية من شجاعة وكرم وعفة مع التزامه بعدم إظهار موقفه من الأحداث فهو ـ الراوي ـ يحاول إقناع المتلقي أو المرسل إليه بحياده وعدم تدخله في مجريات الأحداث، كقول الراوي في سيرة الظاهر بيبرس: "وثاني يوم طلب المبارزة مقدم من بني إسماعيل كما أمر الملك، وصار يقتل ويأسر من الأعداء قدر ساعة من الزمان، وإذ دقّت العماريات بالحملة على اللئام، فدرات الحرب، فلا ترى إلا خيولاً غائرة، ودماء فائرة، ولا تسمع إلاّ رنين السيوف وصياح الأبطال"(27)، إنّ هذه الوظيفة ـ الوصف ـ تعتمد على الأسلوب غير المباشر ليتمكن الراوي من وصف كل ما يتعلق بالمشاهد بحياد "ذلك أن المشاهد الوصفية تتطلب عرضاً للموقف، دونما تدخل مباشر من الراوي، ومثال ذلك منازلات الخصوم والأعوان التي تحتشد بها السير، وتؤلف جزءاً كبيراً من متون تلك المرويات"(28)، وبفضل هذه المقابلة والوصف المباشر للمنازلات والأعمال الفروسية الدالة على البطولة والحركية داخل السيرة، يتولّد لدى السامع أو القارئ إحساس قوي بأنه هو المقصود بهذا العمل، وأن مصيره هو صنيع يديه، لا يتحقق إلا باقتفاء آثار أسلافه، ومن أمثلة الوصف المباشر "قال بيبرس: رضيت بذلك، فخذ حذرك، ثم انطبق الاثنان أحدهما على الآخر، وخرج من أيديهما ضربتان، كان السابق بالطعنة الخيال، فزاغ عنها بيبرس، واعتدل، وضرب الخيال بالدّبوس فرماه إلى الأرض، ونزل عن جواده وأوثقه"(29).
إنّ مثل هذه المبارزة قدّمها الرّاوي للسيرة كدليل بارز على قوة الملك الظّاهر بيبرس، وكذلك على شجاعته ورفضه للظلم والجور.
2 ـ وظيفة توثيقية:
إنّ راوي سيرة الظاهر بيبرس لم يقتف آثار الرّواة السابقين له في رواياتهم للسير الشّعبية، وذلك بذكره داخل المتون الحكائية أسماء رواة مشهورين في الثقافة العربية عامة وفي مجال الرواية الشفاهية خاصة من أمثال: الأصمعي، ووهب بن منبه، وأبي عبيدة، وخلف الأحمر... الخ، إنما لجأ راوي سيرة الظاهر إلى أسلوب توثيقي مأخوذ من رواة الأحاديث النبوية، وهو ذكر مصدر روايته للأحداث في الافتتاحية قبل أن يشرع في سرد السيرة، فهو قد اعتمد أسلوب السند في عمليته السردية للسيرة، وهذا جاء في قوله في أول السيرة: "...منقولة عن السادات الكرام المشهورين بالعلم ونبراس الأفهام الديناري ووافقه على ذلك الدويداري، ثم ناظر الجيش، وكاتم السر، والصاحب فرحمه الله عليهم أجمعين"(30)، بل إن الراوي ليعطي السيرة أكثر وثوقية ودقة، ولكي لا يترك مجالاً للشكّ يعلن منذ البداية مصرّحاً باسم راوي السيرة: "قال الراوي: "وهو الديناري رحمه الله تعالى"(31).
3 ـ وظيفة تأصيلية:
إذا كان الهدف الرئيس من المرويات الشعبية عامة هو ربط الأمة العربية الإسلامية بحضارتها وتاريخها وأسلافها، فإن سيرة الظاهر جاءت لتؤكد هذا الهدف السامي، فمن خلال المرويات للأحداث التي أوردها الراوي حاول التأصيل لها في التاريخ والثقافة العربية، جاعلاً من مروياته ديواناً لتسجيل الصراع الديني الذي عرفته فترة الظاهر والبلاد العربية جاعلاً في الآن نفسه الانتصارات على الخصوم من الأثر التي وجب الإشادة بها، وتسجيلها لتبقى منقوشة في ذاكرة الأجيال، والراوي باعتماده على هذه الوظيفة ـ التأصيلية ـ يدفع دوماً القارئ أو السامع إلى استحضار المواجهات العربية الإسلامية مع الدول الصليبية، والتي انتصر فيها المسلمون، وخير مثال على هذه الوظيفة قول الراوي: "ثم ذهبوا إلى عشائرهم وخطبوا فيهم، ونفّروهم للجهاد في سبيل الله، وبعد ما اجتمعوا وكانوا على أتمّ استعداد جاءتهم الأخبار أنّ المعارك محتدمة خارج مدينة حلب بين جيوش السلطان وبين الأعداء، فركبوا بالحال، وساروا بأقصى سرعة وفاجؤوا الأعداء، وهزموهم، وعند رجوعهم استقبلهم السلطان أحسن استقبال، وعلّق الأوسمة على صدورهم وأعطاهم من الغنائم حتى أرضاهم"(32).
2 ـ التقنيات السردية في السيرة:
أ ـ السرد بالوصف:
إذا كان الوصف أصلاً في الإبداع ولا سرد مجرّد تقنية، فإنّ هذا يجعل الحضور مكثفاً للسرد، وغيابه غياباً شبه كامل يجعل الكلام سطحياً ومبسّطاً، لأن "غاية السرد إنما ترتبط بتحرير الوجه الزمني والدرامي للسرد من قيود الوصف، على حين أن الوصف يكون تعليقاً لمسار الزمن وعرقلة تعاقبه عبر النص السردي"(33)، ولقد اعتمد راوي سيرة الظاهر على الوصف الدقيق والمفصل لكل مجريات الأحداث داخل السيرة، حتّى إنّ القارئ للسيرة يحس وكأنه يتابع تسلسل أحداث شريط سينمائي مما يدفع به إلى الضجر والملل، كقوله: "وثاني يوم توجّه كلّ منهم إلى مكانه، وصار يستعد لجمع الرجال والأبطال، وقد جهزّ أبو علي البطرلي مراكبه بالمدافع والبارود والمؤن، وجمع المغاربة من كل مكان إلى أن جمع مراكب كثيرة، وكلها ملآنة بالرجال المغاربة الأشاوس أولاد عيشة"(34).
إنّ هذا النص المقتطف من السيرة يكشف عن الوصف المباشر والعادي الذي اعتمده السارد ليوضّح ويبيّن للقارئ الحالات المواكبة للأحداث ليقنعه بجدارة هذه التقنية وأهميتها.
ب ـ تداخل السرد:
في هذه التقنية يلجأ الراوي إلى تضمين الحكايات المتعددة داخل السيرة، ويمكن تعريف التداخل السردي بأنه: "تضمين حكاية داخل حكاية أخرى"(35)، فراوي سيرة الظاهر منذ البداية ضمّن عدّة حكايات تبدو لنا مستقلّة، ولكنها في الحقيقة ممهّدة ومقدّمة لحكاية أصل تنضوي تحتها بقية الحكايات، ومنها نجد مثلاً: (قصة الخليفة شعبان المقتدر بالله، وقصة أصفوط وكرسيمول، وقصة الملك الصالح، وقصة عرنوس...الخ)، والجدير بالملاحظة هو أن غياب قصة يؤدي إلى اختلال بناء السيرة، ويجعل الفجوات الفنية ـ عدم الترابط ودواعي حضور القصة ـ بارزة للعيان.
ج ـ التقطع السردي:
ونقصد به الانتقال المفاجئ من قبل الراوي من حكاية إلى أخرى دون أن يتمّ الأولى، أو إدخاله لبعض الأخبار عادة ما تكون السابقة للأحداث، وهذا بدافع تعزيز العملية السردية، وإضفاء طابع الحركية على الحكايات، وتعويض صفة الملل والرتابة التي تركها الوصف المباشر وجعل القارئ دوماً في بحث وتساؤل مما يجعله يعيش أحداث السيرة لحظة لحظة، وحدثاً حدثاً، ومن الأمثلة على هذه التقنية قول الراوي بعد عرضه للخاتمة التي آل إليها الصراع بين الفرتامكوس ملك أنطاكية والملك الظاهر بيبرس ودون مقدّمات لما سيأتي من الأحداث نقلنا الراوي مباشرة إلى بلاط الظاهر: "وبعد ذلك تقدّم رجل وقبّل يد السلطان، وقال معي كتاب من سلطان الحصون شيحة من مدينة سيس"(36)، فالانتقال في هذا المشهد نقلنا من مدينة أنطاكية إلى بلاط السلطان الظاهر مخبرنا بمكان جمال الدين شيحة وهو يتابع بحثه عن جوان الفار من أنطاكية بعد انهزام جيش الفرتماكوس، ومثل هذا الانتقال والرحيل يحتاج في الوصف المباشر إلى وقت وصفحات طوال، لكن الراوي أدخل تقنية السرد المتقطع أو الانتقال المفاجئ ليسهل على القارئ.
د ـ المزاوجة بين اللغة العربية الفصحى والعامية:
تميّزت لغة السيرة بالمزاوجة بين الفصحى والعامية ممثلة في اللهجة المصرية، لأن أحداث السيرة العظمى وقعت في مصر، كما امتازت اللغة بالبساطة والرقة مما يدل على أنها ـ السيرة ـ تحتذي بالشكل السردي الأصيل في الموروث الشعبي العربي، كما اعتمد الراوي على الجمل الطويلة والسرد المرسل وخاصة عندما يصف المظاهر الجمالية للطبيعة أو القصور أو المواقف العاطفية المثيرة، فقد جاء في السيرة أسلوب السرد المرسل المدعم بالجمل الطويلة بصفة مكثفة كقول الراوي واصفاً بيت الأمير أحمد بن باديسة السبكي: "سار الدّلال قدامهم وأقبلوا إلى باب من أبوابه الأربعة، فتقدم الدلال وفتح باب الخوخة، فقال له الأمير: افتح لنا الباب الكبير، فقال: يا سيدي إن هذا الباب له مدّة ما انفتح، ولا يقدر أحد على فتحه، وإنّ الستات قد أوصينني وقالوا لي، إذا رأيت شخصاً قد فتح الباب الكبير فأحضره إلى عندنا"(37).
أما القاموس الفني الذي حملته السيرة فيمكن حصره في المظاهر الآتية:
1 ـ القوة والبطش والقسوة، ومثل هذه الصفات جوان وشيحة.
2 ـ الفروسية بما تشمله من كرم ونبل أصل ورحمة بالضعفاء، والعصاة التائبين أمثال عثمان، ومثّل هذه الصفات: الظاهر بيبرس والملك الصالح.
3 ـ المنادمة والطرب واللهو والشراب والسرقة، ومثّل هذه الصفات شيخ العرب حرحش ومقلد وخضر الحريري.
4 ـ السحر والجم والعفاريت والمسخ، وتجسدت هذه الصفات والأعمال في كل من: الجن، شمقرين، مرين ومرينة، غرطال الوحشي، ميمونة.
5 ـ البحر والماء كالسفن وخاصة الحربية، ومن الموانئ البحرية ميناء الإسكندرية وجنوا، ومن القلاع قلعة العريش وقلعة صهيون، ومن البحر خليج مسيسبي والحمامات المعدنية بجبل النار.
يمثل هذا القاموس اللغوي الفني الذي ضمته السيرة تبين لنا المقدرة الفائقة للراوي على توظيف هذا القاموس لإعطاء السيرة صبغة فنية وسمة أدبية، وكلما تحكم في القاموس الفنية أدت السيرة وظيفتها.
إن ارتكازنا في التحليل الوظيفي على قصة أصل الظاهر بيبرس، والوزير أيبك التركماني والمقدم معروف، وجوان، وتعاملنا معها على أساس أنها تمثل داخل النص الأصلي ـ سيرة الملك الظاهر بيبرس ـ وحدات وظيفية بالمعنى الذي حدده بروب على أنها "أصغر عنصر روائي في القصة"(38).
وهي أيضاً حسب بريموند: "أبسط وحدات النص"(39)، والملاحظ على السيرة الشعبية الحاملة لعنوان الظاهر بيبرس أنها تكونت من مركب ثلاثي يصلح كل منها أساساً للتحليل، هذه المركبات هي: "القصة البطولية الواحدة التي تتكون من عدد من الوحدات الوظيفية المعروفة عند بروب، ثم هناك المجموعة القصصية التي تتكون من عدد من هذه القصص البطولية السابقة، وترتبط دلالياً بمرحلة أو فترة متميزة وفاصلة وحاسمة في قصة حياة البطل، وأخيراً هناك القصة الكبرى التي تنتظم هذا العدد الكبير من المجموعات القصصية، وتشكل في مجملها وبين صفتيها قصة حياة البطل الملحمي كلها من البداية حتى النهاية وتحمل اسمه صراحة، هذه القصة الكبرى هي ذاتها السيرة من بدايتها حتى نهايتها"(40).
مصادر الموضوع ومراجعه :
1 ـ سيرة الملك الظاهر بيبرس، سلسلة الأنيس، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية للنشر (موفم) ط 1، سنة 1998م الجزائر.
2 ـ المراجع:
1 ـ أدبية التأويل، عبد القادر فيدروح، مجلة تجليات الحداثة، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران، الجزائر، العدد 1. سنة 1992م.
2 ـ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، العيد يمنى، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1. سنة 1990م.
3 ـ السردية العربية ـ بحث في الموروث الحكائي العربي ـ عبد الله إبراهيم ـ المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان ـ الدار البيضاء ـ المملكة المغربية، ط1. سنة 1992م.
4 ـ عرض كتاب ألف ليلة وليلة ـ دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمال بغداد، لعبد المالك مرتاض ـ عادل بدر ـ مجلة فصول، المجلد 13 العدد 1.، الجزء 2.، ربيع 1994م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر.
5 ـ المتخيل السردي ـ مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة ـ عبد الله إبراهيم ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت لبنان، الدار البيضاء، المملكة المغربية، ط1. سنة 1990م.
6 ـ مجهول البيان، مفتاح محمد، دار توبقال، الدار البيضاء، المملكة المغربية، ط1. سنة 1990م.
7 ـ مدخل إلى التحليل البنيوية للسير الشعبية ـ الملتقى الدولي الأنثرويولوجيا والتاريخ، محمد رجب النجار، المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ أيام 20 ـ 21 ـ 22 ـ 23 ماي سنة 1990م. الجزائر.
8 ـ مدخل إلى نظرية القصة، شاكر جميل والمرزوقي سمير، الدار التونسية للنشر، وديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د. ت. د. ط.
الاحالات :
* كاتب جزائري: المركز الجامعي، الطارق ـ الجزائر.
(2) يقال تموّه الحديث: زخرف وامتزج حقّه بباطله.
(3) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص 214.
(4) م. ن، ص: 211.
(5) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 138.
(6) م.ن، ص: 140.
(7) د. عبد الله إبراهيم: السردية العربية، بحث في الموروث الحكائي العربي، ص: 144.
(8) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص 1.
(9) م. ن، ص: 42.
(10) المصدر السابق، ص: 67.
(11) م. ن، ص. ن.
(12) سمير المرزوقي وجميل شاكر: مدخل إلى نظرية القصة، ص: 108.
(13) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 90.
(14) م. ن، ص: 1.
(15) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 160.
(16) م. ن، ص: 150.
(17) م. ن، ص: 76.
(18) د. عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص: 147.
(19) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 162/ 163.
(20) م. ن، ص: 176/ 177.
(21) د. عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص: 147.
(22) د. عبد الله إبراهيم: البنية السردية، ص 149.
(23) د. محمد مفتاح: مجهول البيان، دار توبقال، ط1، سنة 1990، ص: 90/ 91.
(24) عبد القادر فيدوح: أدبية التأويل، مجلة تجليات الحداثة، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران، ع1، سنة 1992م،ص 47.
(25) المرجع السابق، ص: 50.
(26) يمنى العيد: تقنيات السرد الروائية في ضوء المنهج البنيوي، ص 22.
(27) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 204/ 205.
(28) إبراهيم عبد الله: السردية العربية، ص: 150.
(29) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 44.
(30) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 1/ 2.
(31) م. ن، ص: 2.
(32) المصدر السابق، ص: 289.
(33)عرض كتاب ألف ليلة وليلة ـ دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمّال بغداد لعبد المالك مرتاض، مجلة فصول، المجلد الثالث عشر، العدد الأول، ربيع 1994م، الجزء ا لثاني، ص 306 عادل بدر.
(34) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص 210.
(35) عرض كتاب ألف ليلة، ص 306 عادل بدر.
(36) سيرة الملك الظاهر بيبرس، ص: 180.
(37) م. ن، ص: 90.
(38) مدخل إلى التحليل البيئوي للسير الشعبية، أعمال الملتقى الدولي، الجزائر من 20 إلى 23 ماي سنة 1990، المركزي الوطني للبحوث في عصور ما قبل اتاريخ، الأنثرويولوجيا والتاريخ، منشورات الشهاب 1996، ص: 25 محمد رجب النجار.
(39) المرجع نفسه، ص 25.
(40) م. ن، ص: 26.