المولع بمعرفة أسرار المقامات الموسيقية ومعانيها لا يسعه إلا أن يقف احتراما لفن المالوف الذي بقي شامخا بكثيرا من الصبر، إذ ليس من السهل التمسك بالإختيارات وفرض هذا النوع من الفن الراقي على أذن تعودت على الإيقاعات الصاخبة والسريعة، وعلى ألوان وأنماط أخرى من الموسيقى التي لا تجد صعوبة في استعمار أذن السامع وخاصة الشباب.. مما يدفعنا بحثا في هذا النوع من الفن الذي يبرز تحدي الأصالة الصلبة لمتغيرات عالم الإستهلاك العبثي، وصخب التهريج الموسيقي. وهذاالمقال الذي أستند فيه إلى أهل المجال يوثق نظريا على الأقل جزءا قليلا من التراث الموسيقي الأصيل لتونس الذي كاد أن يضيع بسبب السياسات التغريبية التي طحنتنا لأكثر من خمسين سنة...
لست مختصا في مجال الموسيقى ولكن حبي لتراثنا من الفن العربي الأصيل المختصة به دول المغرب العربي، جعلني أبحث فيه وأهتم به بما فيها الموشحات.
المالوف جاء من التوليفة، من الألفة، ومعناه مقاطع متعددة، وأصل الكلمة مألوف. فمن تأثير رواية الإمام ورش في قراءة القرآن يحذف الهمزة الساكنة أينما وردت.. يقولوا (مومنون) ولا يقولوا (مؤمنون)، يقول (بس الاسم الفسوق بعد الإيمان) ولا يقول (بئس الإسم الفسوق..) فكلمة المألوف عند ورش حذفت الهمزة لتصبح كلمة مالوف، وهذا ما تعارف عليه أهل المغرب العربي.
وكلمة المالوف هي التألف في نوبة واحدة.. يعني تألف بين مقاطع أدبية في الوسط، في الغزل، في البديع.. دوائر نغم الإيقاع تؤلف بينها. يعني تجعل من هذه المقاطع وحدة واحدة، نسميها نوبة المالوف، والنوبة المؤلفة من مقاطع متعددة هي المالوف، فيه الموشحات، وفيه الأزجال، وفيه أبيات من الشعر، وفيه مديح، وفيه وصف، وفيه غزل. كلمة مالوف هي بمعني الألفة التي ألفت بين هاته المجموعة من المقاطع..
المالوف مصطلح يطلق على الموسيقى الكلاسيكية بالمغرب العربي بقسميه الدنيوي والديني المتصل بمدائح الطرق الصوفية. نشأ بالأندلس وارتبط في بعض الأحيان بالمدائح، وهو لا يتقيد في الصياغة بالأوزان والقوافي، ولم يمتد هذا اللون إلى مصر و بلاد الشام، لكنه استقر ببلاد المغرب العربي.
و يعتبر من المورث الغنائي بنصوصه الأدبية، وأوزانه الإيقاعية، ومقاماته الموسيقية التي ورثتها بلدان الشمال الأفريقي عن الأندلس، وطورتها، وهذبتها، وتتكون مادتها النظمية من الشعر والموشحات والآزجال، والدوبيت ، والقوما، مع ما أضيف لها من إضافات لحنية أو نظمية محلية جمعت بينها دائرة النغم والإيقاع، وما استعاروه من نصوص وألحان مشرقية، وأسماء هذا الفن تختلف من منطقة إلى أخرى فهو الآلة في المغرب، والغرناطي في كل من وجدة وسلا وتلمسان ونواحي غرب الجزائر، والصنعة في العاصمة الجزائرية، والمالوف في قسنطينة وتونس وليبيا.
يقول محمد أبريول مدير معهد الموسيقى بفاس: "الموسيقى الأندلسية قامت على المالوف.. لما نقول الموسيقى الأندلسية. نقول أنواع الموسيقى بما فيها الغرناطي والمالوف بالمغرب، لكن هناك بعض التأثيرات التي جاءت أصلا كما نرى في المالوف التونسي، وهناك بعض التأثيرات العثمانية كما هو في مقامات المالوف التونسي، لكن في المغرب بقي المقام أو الطابع الأندلسي كما هو عليه، يعني الموسيقى الأندلسية، هي الموسيقى العربية السهلة في الأذن الأوروبية أكثر، لأنها خاليةً من رعشة الصوت."
ويمكن اعتبار المالوف التونسي خلاصة للموروث الحضاري الخاص بالمنطقة التي كانت تسمى"إفريقية" وللإضافات والرّوافد الأندلسية والمشرقية ويحتل مكان الصدارة في التقاليد الموسيقية التونسية، بل تعد أصدق تعبير عن أصالة هذه التقاليد.
ويشمل المالوف سائر أنواع الغناء التقليدي والمتقن كالموشح، وهو نمط شعري في أوزان وقوالب مجددة بالنسبة للقوالب وبحور العروض التي ضبطها الخليل ابن أحمد الفراهيدي في القرن الثامن ميلادي.
وقد تنوعت الفنون النظمية في المالوف، فهو يجمع بين الفنون المعربة والملحونة، فحوى باقات وبدائع من روائع الأشعار، والموشحات، والدوبيت، والأزجال، وفن القوما. ومن أشهر شيوخ المالوف، هم: خميس الترنان وأحمد الوافي من تونس، حسن عريبي ونور الدين الدبسكي من ليبيا، محمد الطاهر الفرقاني ومبارك دخلة عنابة من الجزائر.
هناك مجموعة من الآلات الموسيقة المستعملة في فن المالوف، منها في النوبات التقليدية وهي: الغيطة (آلة نفخية) وآلات رقية من جلود الحيوانات منها: النوبة، وتستعمل في الموكب المولدي، وتحل محلها داخل الزاوية "الدربوكة" والطار أو البندير وآلة النقرة. كما تؤدى النوبات في الفرق بمجموعات موسيقية وهي تضم من الآلات الوترية: العود والكمنجة والقانون والقرنيطة والناي. ومن آلات الإيقاع: الرق الشرقي والطبلة، كما يقف من ثلاثة أو أكثر بالبنادير خلف المجموعة الصوتية..
ويعد المعهد الرشيدي، المنبثق عن الجمعية الرشيدية، أول معهد موسيقي عربي في تونس والمغرب العربي يرسي دعائم التكوين الموسيقي الأكاديمي للمالوف، وقبلها كان التلقين الشفاهي أبرز طرق التعليم المعتمدة لحفظ التراث الموسيقى التونسي والعربي، من مالوف وموشحات وأدوار بإيقاعاتها المختلفة.
وتأسست الرشيدية سنة 1934 على يد ثلة من المثقفين التونسيين وعلى رأسهم مصطفى صفر، وذلك مباشرة بعد انعقاد مؤتمر القاهرة للموسيقى لنفس السنة.
وقد سميت بهذا الإسم نسبة لمحمد رشيد باي 1710 ــ 1759 وهو أحد الأدباء والفنانين الذين ظهروا في القرن الثامن عشر الميلادي في تونس، حيث كان شاعرا وله ولعا بالموسيقى التونسية والعزف، وبرزت الرشيدية في ظروف سياسية واجتماعية صعبة، إذ اقترن تاريخ تأسيسها بتاريخ تصاعد العمل النضالي على مختلف الجبهات والأصعدة الفكرية والعلمية.. فظهور الرشيدية في هذه الفترة السياسية أي فترة الثلاثينيات ليس من باب الصدفة، بل هو عمل ثقافي من أبرز غاياته المحافظة على الشخصية التونسية من الذوبان، إذ أراد المستعمر وأعوانه أن تنخلع تونس عن الحضارة العربية، وينسلخ تراثها الموسيقي والغنائي عن الحضارة والثقافة العربية والاسلامية.
وكانت الفرق الصوفية التونسية قبل المدرسة الرشيدية هي أكثر المجموعات التي تغني المالوف والموشحات والأزجال، حيث كان يؤول إليها هذا الفن بفعل العملية التراكمية الكمية، وإلى حذق الطبوع والمقامات بشتى فروعها وخاصياتها حتى الدقيقة، كاختلاف الدرجة الواحدة من مقام أو طبع لآخر. وقد كان لذلك عدة مدارس، أبرزها زاوية سيدي عزوز وبعض الزاويا العيساوية مثل سيدي الحاري، وسيدي الشاذلي، وسيدي بوقميزة.. وعن طرق تواتر المالوف التونسي نقرأ مثلا أن الطرارجي عزوز السمار تخرج على يدي محمد بلحسن الضرير، وانتهى حفظ المالوف له ولزميله الصادق الفرجاني الذي تخرج عليه الشيخ خميس ترنان، كذلك محمد الدرويش، فهو من تلاميذ الشيخ أحمد الوافي وكان دكانه بالسوق الحفصي بالعاصمة مثابة لأهل هذا الفن.
النوبة: تعتبر أهم قالب في هذا النوع المسيقي لتونس، وكانت هذه الكلمة تعني في الأصل "الدورة المعيّنة" بحيث تقول "جاءت نوبتك" لمن جاء دوره في الغناء. وتتركب النوبة من معزوفات ومقطوعات غنائية تتوالى حسب ما يلي:
1. الإستفتاح: وهو لحن غير خاضع لايقاع معين، يبنى على المقام الأساسي للنوبة فيبرز أهم خصائصه. وكان في الماضي يؤدى بطريقة مرتجلة ثم تمّ ضبطه بكيفية تجعل العازفين قادرين على أدائه بطريقة موحّدة.
2. المصدّر: هو مقدمة موسيقية تشبه في هيكلتها البشرف أو السماعي التركي، وتتركب من خانتين أو ثلاثة يتخللها التسليم. وتبنى على إيقاع ثقيل يسمى بدوره مصدّر 4/6 وتختم هذه المقدمة بالطوق والسلسلة وهما حركتان في إيقاع سريع 8/3 أو 8/6، والملاحظ أن كل من الطوق والسلسلة يتركبان من خلية لحنية يعاد أدائها على مختلف درجات سلم المقام، انطلاقا من الجواب ووصولا إلى درجة الإرتكاز.
3. الأبيات: تنشد الأبيات التي تختار من قصيد بالفصحى في إيقاع بطيء يسمى بطايحي وتكون مسبقة بمقدمة موسيقية قصيرة.
4. البطايحي: وهي أبيات ملحنة في إيقاع البطايحي وتكون أيضا مسبقة بمقدمة موسيقية قصيرة في إيقاع سريع يسمى برول 2/4 ثم بطيء بطايحي.
5. التوشية: هي معزوفة تؤدى في مقام النوبة الموالية حسب الترتيب التقليدي المشار إليه آنفا، وتنطق التوشية في إيقاع البرول وتنتهي بإيقاع البطايحي، وتتخللها ارتجالات على مختلف الآلات الموسيقية.
6. البراول (مفردها برول): وهي مقطوعة غنائية استمدت من الإيقاع التي بنيت عليه وتشمل كل نوبة على عدد من البراول يتراوح بين الإثنين والأربعة يكون آخرها سريعا ويختم به الجزء الأول من النوبة.
7. الدرج (جمعها أدراج): وهو زجل ملحّن في إيقاع ثقيل 4/6 يحمل التسمية نفسها، ويكون مسبقا بمقدمة موسيقية قصيرة تسمى "فارغة". والملاحظ أن بعض الأدراج تبدأ بإيقاع سريع يسمّى "الهروب 4/2" يشبه من حيث عدد وحداته إيقاع "الملفوف" في الموسيقى الشرقية، ثم يختم بإيقاع الدرج.
8. الخفيف (جمعها الخفايف): خلافا لتسميته التي قد توحي بالسرعة في النسق، فإن الخفيف مبنيّ على إيقاع يحمل التسمية نفسها ويعتبر من الإيقاعات الثقيلة نسبيّا 4/6 ويشبه من حيث عدد وحداته إيقاع الدرج في الموسيقى الشرقية مع فارق السرعة في النسق.
9. الختم: تنتهي النوبة بالختم وجمعها أختام، وهو غناء في إيقاع سريع 3/4 أو 6/8..
النصوص الشعرية للنوبات: وتستهل النوبة ببيتين من الشعر الفصيح تطلق عليهما اصطلاحا تسمية بالجمع "أبيات" تليها موشحات وأزجال تتّصل مواضيعها بالغزل والطبيعة، وتتضمّن بعض الأختام معاني تصوفية كالدعوة إلى التوحيد، والتضرع إلى الله كي يعفو عن العبد المسيء.
الآلات الموسيقية: تؤدى النوبات عادة بمجموعات موسيقية مصغّرة شبيهة بالتخت الشرقي وهي تضم من الآلات الوترية العود التونسي ويسمى أيضا العود العربي، والرباب، والكمنجة، وآلة نفخ، وحبدة هي الناي. إضافة إلى آلات إيقاع كالنغرات، والطار، والدربوكة. وفي بعض الأحيان نجد آلة القانون في بعض الفرق.
الزجل: هو شعر لا يلزم فيه الإعراب، وتتخلله كلمات وعبارات من اللهجة العامية، وهو نوع من الزجل في لحن تمتزج فيه ألوان من الغناء الأندلسي والتركي، وعّرفه الأستاذ محمد المرزوقي: ".. ذلك الأدب الذي استعار له الشرقيون من أوروبا كلمة (فلكلور) على خلاف في صحة إطلاق هذه الكلمة على ما نسميه بالأدب الشعبي بالضبط.
أما ابن خلدون في مقدمته فقال: ".. واستحدثوا فنا سموه الزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة، وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان من قرطبة، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه "، ".. ثم استحدثت أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح، ونظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا، وسموه (عروض البلد)، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، نظم قطعة على طريقة الموشح، ولم يخرج عن مذاهب الإعراب... مطلعها:
أبكاني بشاطئ النهر نوح الحمام *** على الغصن في البستان قريب الصباح
وكف السحر تمحو مداد الظلام *** وماء الندى يجري بثغر الأقاح
باكرت الرياض والطل فيه افتراق *** سر الجواهر في نحور الجوار
ودمع النواعر ينهرق انهراق *** يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
لووا بالغصن خلخال على كل ساق *** ودار الجميع بالروض دور السوار
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، وكثر سماعه بينهم، واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل."
فمثلا المزدوج: يظهر على أنه زجل تام له طالع وأدوار ينظم في غرض الإرشاد والحكمة، وأورد ابن خلدون هذا المثل لابن شجاع:
المال زينة الدنيا وعز النفوس *** يبهي وجوها ليست هي باهيا
فيها كل من هو كثير الفلوس *** ولوه الكلام والرتبة العاليا
يكبر من كثر ماله ولو كان صغير *** ويصغر عزيز القوم إذا افتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا يصير *** يكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومه كبير *** لمن لا أصل عنده لا له خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس *** ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الأذناب أمام الرؤوس *** وصار يستفيد الواد من الساقيا
والملعبة: مثله، ولكنها تخص الملاحم غالبا:
وقد أورد لها ابن خلدون هذا المثل للكفيف الزهروني:
كن مرعي قل ولا تكن راعي *** فالراعي عن رعيته مسئول
واستنتج بالصلاة على الداعي *** الإسلام والرضا السني المكمول
على الخلفا الراشدين والأتباع *** وأذكر بعدهم إذا تحب قول
أحجاجا تحللو الصحرا *** ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغـزا *** وين سارت بوعزايم السلطان.
قال المحبي في خلاصة الأثر عن أصل كلمة الزجل أنه لغة: الصوت، وسمي زجلا لأنه يلتذ به وتفهم مقاطع أوزانه ولزوم قوافيه.
وأخذ به جمهور الناظمين لسلاسته وتناسق مفرداته، ونسجوا منه من غير التزام بالإعراب، وأول من أبدع فيه أبو بكر بن قزمان كما ذكر سابقا في أواخر القرن الخامس للهجرة، ومن أمثلة الزجل ما رواه الشاعر الأندلسي مدغليس في وصف الروضة:
ورزاز دق ينزل *** وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يغضض *** وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكن *** والطيور ترقص وتطرب
والغصون تعطف إليـنا *** ثم تستحي وتهرب
أنت يا قبلة الكرام *** زينة المال والبنين
الله يعطيك فوق المقـام *** ويعيدك على السنين
أنت شاما للأنام *** الله يحرس شمائلك
ويزيدك بالدوام *** كي تعيش في فواضلك
ما ينطوي ذكر الكرام *** لما تنشر فضائلك
ونهنيك لكل عام *** والخلائق تقول آمين
قد بقينا بك في أمان *** الله يحييك طول السنين
القوما: ابتدعه أهل بغداد وينظم هذا الفن المستحدث على أربعة أقفال ثلاث منها تأتي على روي واحد وقافية واحدة، وهي الأول والثاني والرابع وأما القفل الثالث فأطولها وهو مهمل القافية، ومجموع الأقفال الأربعة تسمى بيتا ووزنه مستفعلن فعلان أو فاعلان،والقوما يرويه لنا ابن حجة الحموي في كتابه بلوغ الأمل في فن الزجل والمنسوب إلى ولد صغير لابن نقطة يقول فيه:
يا سيد السادات
لك بالكرم عادات
أنا بني ابن نقطة
وأبي تعيش أنت مات
الكان وكان: يذكر الأبشيهي الذي عاش في أوائل القرن التاسع الهجري في كتاب المستظرف: ".. ولهذا الفن وزن واحد وقافية واحدة، ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني، وما تكون القافية إلا مرددة. فأول من اخترعه البغداديون، وسموه بالكان وكان لأنهم نظموا فيه أولا الحكايات ثم جاء بالمواعظ والحكم فضلاء بغداد كالإمام ابن الجوزي وشمس الدين الكوفي.
وهذين بيتين مما رواه الأبشيهي في كتباه المذكور سابقا:
يا سادة هجروني وهم نزول بخاطري *** لا وحش الله منكم في سائر الأوقات
أوحشتم العين مني وانتم خاطري *** والقلب في النور والعين في الظلمات
القوما: أول من اخترع هذا الفن كذلك البغداديون، في عهد بني العباس، ويحكى أنه نبغ فيه ابن نقطة في زمان الخليفة الناصر الذي كان يطرب له:
في الدهر أنت الفريد *** في صفاتك وحيد
والخلق شعر منقح *** وأنت بيت القصيد
لا زلت في تاييد *** في الصوم والعيد
ولا برحت مهنئ *** بكل عام جديد
المواليا: تكلم بهذا الفن أتباع البرامكة بعد نكبتهم، فكانوا ينحنون عليهم ويكثرون قولهم يا مولى ويا موليا، ثم جيء به في مواضع غير الرثاء، منها في القتال:
لك يا إمام الوغى في كل موضع حرب *** سماع يطرب ويغني الكرب
هذا ولك كلما دارت رحا الحرب *** سيوف تفنى وكفك لا يمل يضرب
وفي الوعظ:
يا قلب خانك المحبوب لا تدبر *** عنه وعن قصة السلوان لا تخبر
واستعمل الصبر الدايم العدو تقهر *** فإن الله ما خاب الذي صبر
وهذه الثلاثة أنماط من الشعر التي سبق ذكرها تعد من الشعر الملحون أو النظم الملحون، وهو نظم شعبي توارثوه التونسيون أبا عن جد، يحكي فيه الناظم عن أمور عديدة تتنوع بين المديح الديني وحب الوطن والغزل... إلخ، ينظم أولا وحسب رأي العديد من المؤرخين في هذا المجال بغرض تلحينه وغنائه.
وقال جماعة من المؤرخين والنقاد أنه أدب متوارث جيلا بعد جيل بالرواية الشفوية، وحددوا له أربع خصال:
1. مجهول المؤلف
2. عامي اللغة
3. متوارث
4. بالرواية الشعبية
وقال آخرون أنه أدب يعبر عن مشاعر الشعب في لغة عامية أو فصحى، وعند جماعة أخرى يعرف بأنه الأدب العامي قديما وحديثا، المسجل كان أو المروي شفاها، مجهول القائل أو معروفه، كما لا يختلف الشعراء سواء القدماء أو المحدثون منهم بأن للشعر الشعبي أربعة فروع أصلية، سنذكرها فيما بعد.
أوزانه وأنواعه:
القسيم المثنى:
عبارة عن قصيد يتركب من أبيات تختم بقافية موحدة كالقصيد الفصيح وإن وحدت فيه قافية الشطر الأول، مثال أبيات الشاعرمحمد الرويسي التي يقول فيها :
عز الغنا صنات ** يصنتوا من كل واحد أقول
يفرزوا الكلمات ** من الشيركو لسبيكة المثقال
يقولوا للشاعر هات ** يردوه خالف في كلامو عال
سهم البليد سكات ** وإذا تكلم ينطق المحال
لا يـوجع إذا مات ** وكانو حي مالي عليه سـوال
الملزومة:
هي عباره عن قصيد ذي طالع وأدوار مختلفة القوافي ويختم آخر كل دور بقافية الطالع وهو ما نجيده في الزجل التام وفي الموشح الفصيح، ومثال ذلك قول الشاعر أحمد البرغوثي :
الطالع :
ساس الغنا محبس وليا ترابه ** وين نزرعه ينبت تجيني صابه
الدور :
من قبل أصله لنّا ** من جدنا لباباي لا وايلّنا
نوصيك بالك للبلا تتعنى ** راهو الغنا في الدار وأنا بابه
فروع الشعر الشعبي :
1. القسيم
2. الموقف
3. المسدس
4. الملزومة
· القسيم: قصيد ذو أبيات تتحد قوافي أشطارها الأولى كما تتحد قوافي أشطارها الأخيره وليس له طالع ولا مكب ولا رجوع
مثال ذلك برق الشاعر أحمد ملاك الصفاقسي :
شير عقاب اللـيل ** ياما أحسنه في المزن كيف شعل
ربي عليه وكيل ** أذن على باب السماء ينحل
غم الوطا بالسيل ** تملت المناقع كل واد حمل
· الموقف: فهو عبارة عن قسيم مربع أي أبياته تتركب من أربعة شطرات تتحد في ثلاث قوافي والشطر الرابع تختلف قافيته إلى آخر القصيد، ويعتبر الموقف المحدد لوصلة الإنشاد إذ به يعلن الغنّاي عن الغرض الذي سيقدمه في وصلته، و يتم "دفعه" أي أداءه بتأني حتى يستوعب السامع مقاصد الشاعر و صوره الشعرية، ويتركب الموقف من رباعية من أربع أشطار يتفق ثلاثة منها في القافية فيما ينفرد الشطر الرابع بقافية على حدة، مع التأكيد على وجود وحدة الحرف الأخير لقوافي كل الأشطار.
يسمّى ميزان الموقف بالمربع و فيه ثلاثة أنواع:
ـ المربع العريض أو الكامل وهو المربع المتساوي الأشطار، كقول محمد الصغير الساسي في غرض الأخضر:
خلخال في الساڨ مڨفول***و القد بابور معدول
مطمان لا هوش مختول***يجللي الدرك و الوكايل
أو كقول العربي النجّار في غرض الكوت(الخيل):
حد المنى سابڨ عتيد*** أزرڨ حجر واد و مديد
هيهات ما يكسبه سيد*** مشهور في البر شايد
ـ المربع المقطوف، ويكون الشطر الثاني من المربع ناقص ومن ذلك جاء الڨطف، كقول أحمد البرغوثي في غرض الضحضاح:
ضحضاح ماشناه يُزراڨ***يوساع يُغراڨ
غيمه على روس الاشفاڨ***دخـّان غطـّى رواڨه
***
مهاميد شينة و رڨراڨ*** و خنڨ و اطباڨ
و جبال تعلى و تشهاڨ*** هي و سحابه تلاڨى
أو معارضة محمد الطويل للبرغوثي:
ضحضاح ماشناه يُبسال***يعراض يطوال
غيمه حفز بان زنكال***في الشبح عامل ضلالة
***
كان السراب فيه ينهال*** مهيوب مندال
طول المدى فيه ڨـــدّال*** لا ثم منه مشاله
ـ المربع المبطوح، وبيانه على النحو التالي في غرض المكفر:
سميت باسم العزيز المقدر*** للخلق ينظر
لا ثم في الملك غيره مقدر*** الواحد القهار
ومن القواعد المعمول بها في سهرات المحفل أن يبدأ بالغناء أكبر الغناية سنا، أو أمهرهم، أو أول من يحضر لدار المحفل منهم، كما يكون الغناية الذين سيؤدون طريقهم بعده، مجبرين بالإلتزام بنفس الغرض الذي تتطرق له الغناي الأول حسب القولة المتعارفة لديهم: "الغناء بالضد اللي سمعت رد".
كما أنه غالبا ومن عادات بعضهم بدء المحفل بطريق مكفر أو صلاة على النبي، أو إذا توافق المحفل مع موسم الحج يؤتى بطريق في الحج. ومهما يكن من أمر فإن صاحب المحفل بالإتفاق مع الغناية يوجه الأغراض لما يتوافق مع متطلبات الحياء، حسب تقاليد العائلة واختلاط الآباء مع الأبناء، والكبار مع الشباب. مثال الشاعر صالح بورويس :
يا مدرجحه سالفك طول ** على الكتف مسبول
ظليم القفز حــــيره زول **بين الكدى والقطافي
· المسدس: عبارة عن منظومة تتركب من طالع ثلاثي الأشطار يتحد في القافية وله أدوار تتركب من ستة أغصان في الغالب الأربعة الأولى متحدة القافية والأخيران لهما نفس قافية الطالع، مثال قصيد محمد البرغوثي.
الطالع أو العنوان أو رأس البيت :
أنا القلب حاير ودايخ وهايم ** فيض مرايم ** سهران لانرقد النوم دايم
الدور أو المقطع :
أنا القلب حاير ودايخ وفاني ** كثرت محاني ** ساهر منام الليالي جفاني
ياقلب اصبر على الظيم عاني ** طيق الهزايم ** هاني مثيلك على القوت صايم
· الملزومة: لها طالع ذو غصنين أو ثلاثة أو أربعة أدوار تتركب من أغصان ثلاثة فما فوق، تتحد قافيتها وتختم بغصن ترجع قافيته إلى قافية الطالع، مثال طالع بغصنين للشاعر محمد بن عون :
سكن كن دايا في الضمير مخفّه ** لوكان نشكي للحجر نشفّه
أما طالع الملزومة بثلاثة أغصان :
سمعنا معنى في طريق الجد ** خلطة اليوم نكد ** عليك بنفسك ما عليك بحد
وأما طالع الملزومة ذات أربعة أغصان، مثال الشاعر محمد الصغير الساسي :
مرحوم اللي سمى عيشه ** ثابت ما يخطاش
ومن جرحته كيفي عيشه ** جرحه ما يبراش
وقال الشاعر عبد السلام عاشور :
لا نابوا باسمك يا عيشه ** نتقعد مفجوع
تتمرار وتمصات العيشه ** بين غصه ودموع
ومثال قول الشاعر البرغوثي على وزن بورجيلة، ويسمى في الجنوب التونسي بوساق:
يا فاطمه راهو الهوى ذبلني ** إذا مت ترقاك الدعاوي منّي
روفي روفي ** يا فاطمه ما تغرقيشي شقوفي
نا حابك رامي عليك كلوفي ** بالظاهره يزيك روفي حنّي
وهذا مثال للشاعر العربي النصراوي على وزن بورجيلة مزيود:
بيروت جاها الغاشم ودمرها ** نبكي عليها دموع ونصـبّرها
نبكي عليها دمايع ** بعد اللي خلّي دمها يتضايع
ولي دعا ما ينح عنها وجايع ** ولا يرد قوة غاشم يوخّرها
ولا يرد حتى من العروبه ضايع ** ما يزيد كان مواجعي يحيّرها
وهذا مثال من الشاعر أحمد بن عمار على وزن المسدس العريض:
الطالع :
ضحضاح ما يقطعاش الفرس ** غمامه دهس ** لونه ولون السماء فرد نص
المقطع أو الدور :
ضحضاح ما يقطعه من يورّد ** غمامه يغرّد ** بعمره بغيث السماء ما تبرّد
منه جفل النعام المشرد ** طبل وجرّد ** والريم لم الجلايب وعرد
ما يروي غبيب ** وما فيه لا من يرد الذهيب
وزن الهرقالي :
الطالع:
فزت يا ريم الغــزلان ** زينك شايد في الأوطان
المقطع:
فزت يا ريم الداويه ** ما كيفك حتى عربيه
شايد زينك يا شنتيه ** من تونس حتى الفزان
ربي يصونك يا عينيه ** يفكك من عين العنيان
وهناك بعض الأوزان الأخرى، كوزن قسيم المغراوي :
باسم المعبود في البقا واحد أحد ** لا دونه دون بتسخيره جرات الأقدار
وزن قسيم العوارم :
يا عذاب دليلي من قلة الصواب ** الزمان تبدل ماعاد يتعرف
وزن القسيم العرضاوي :
مشسطت غثيث غمار ** زنجي على الأكتاف متخبل
وجبين برق الشار ** نستغفر ربي قـبل ما نجهل
وزن الحمروني :
عينك عين بوملوج وسيره ** وخدك برق يطلفح غديره
وزن المحدور:
عيف الدنيا إلا تبيّن صدّها ** لا ياتيك غيار بعد صدودها
وزن الروشن :
انقدم ليك سؤال يتجول في بالي ** ومعنى فرق هالي ** على الأيام الماضيه والوقت الحالي