يعالج الدكتور علي الوردي في الفصل السادس من كتابه "وعّاظ السلاطين" موضوعة ( قريش ) فيعود في البداية إلى التأكيد على أن أصحاب الرسول ( السلف الصالح كما يسمّيهم المؤرخون ) كانوا بشرا مثل غيرهم من الناس تحدو بهم مصالحهم ، وتؤثر في سلوكهم العُقد النفسية والقيم الاجتماعية . فهم لم يكونوا ملائكة معصومين من الذنوب . ولكن المؤرخين هم الذين رسموا لهم الصورة المثالية . وهو يرى أن ( الصدفة ) لا غير هي التي وفّرت الفرصة للكثيرين من قريش كي يُسلموا ويُعتبروا من الصحابة ، ولو أن (أبو جهل) لم يُقتل في معركة بدر لبقي حيّاً إلى يوم الفتح فيُسلم ويصير من كبار الصحابة أو القوّاد الذين رفعوا راية الإسلام ونصروا دين الله . وينقل حديثا مهما للرسول يقول فيه :
( الناس معادن ؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ) . ويعلّق عليه يالقول :
( ولعلّ النبي يقصد بهذا القول أن الشرير الظالم العاتي لا ينقلب تقيّاً بمجرد دخوله في الإسلام ، فهو قد يبقى ظالما عاتيا ، ولكنه يطلي ميوله الظالمة بطلاء من الصوم والصلاة ، أو من التسبيح والتكبير ) .
لكن :
( المؤرخين ينظرون في الأمر نظرة مثالية خالصة لا تستند على أساس من الواقع . فلا يكاد الرجل يلاقي محمدا أو ينطق بين يديه بكلمة الشهادة ، حتى تنقلب طبيعته انقلابا كلّياً ويصبح خيرا بعد أن كان شريرا )
وهم بذلك ينسون البنية اللاشعورية التي جُبل عليها والتي لا تغيرها الأديان أو الأحزاب ولا العقائد إلا قليلا . وهذا ما حصل عندما أسلمت قريش . فالوردي يرى أن قريشا لم تتغير بالإسلام ، وأن دخولها ، وهي القبيلة المُرابية الطاغية ، في الإسلام أدى إلى إفساده وإلى سلوكه طريق الترف والطغيان . فقريش هي القبيلة التجارية الوحيدة بين قبائل العرب كلها . فكانت تشجع الحج وترعى الأسواق الأدبية والتجارية التي كانت تُقام في موسم الحج ، فنالت بذلك ثروة طائلة ومنزلة اجتماعية عليا . وهي لم تحارب محمدا من أجل آلهتها كما يقول المؤرخون بل من أجل مصالحها ومنزلتها الطبقية وكرامتها القبلية لأنها شعرت أن الدين الجديد سوف يقضي على الكعبة وعلى الحج وعلى الأموال والتجارة . وما يؤكد ذلك هو أن النبي حطّم الأوثان في نفس ليلة فتحه مكة ، واستيقظت قريش صباحا ، ولم تفعل شيئا بل دخلت في الدين الجديد فورا رغم أنها حاربت أكثر من عشرين عاما من أجل أوثانها في الظاهر .
وقد تنامت قوة قريش في ظل الإسلام حيث صارت الكعبة قبلة وعاد الحج فيها كبيت لله ، وألّف النبي بين قلوب رؤساء قريش وخصّص لهم الغنائم والمناصب القيادية .
ثم يستعرض الوردي ردود فعل قريش السلبية تجاه أبي بكر وعمر بن الخطاب وخصوصا الأخير الذي منع عنها العطاء :
( ونسخ في سبيل ذلك آية من القرآن ولو فعل أحد مثل هذا الفعل لثار عليه رجال الدين من كل حدب وصوب كما يقول الوردي )
وحصر أشرافها في المدينة ، وجعل عبيدها سادة ، وقرّب الأعراب ومال إلى علي بن أبي طالب الذي تكرهه قريش .
ثم يشرح ملابسات أزمة الشورى بعد اغتيال عمر واختيار عثمان ، وقد قال أبو سفيان وقتها :
( يا بني أمية .. تلقفوها تلقف الكرة . فوا الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة ) .
العقل الباطن للإنسان لا تغيّره الأديان :
وهو يرى أن العقل الباطن لدى الإنسان لا يتغير بالدين الجديد إلا قليلا ، وقد لا يدرك الفرد ماذا يختبيء في أعماق لاشعوره من عقد نفسية وقيم اجتماعية ، وهو ما حصل لأبي سفيان ومعاوية ومروان وبقية وجهاء قريش . ومع عثمان – وقد استعرض الوردي إجراءاته التي زادت ثراء قريش ووسعت الفجوة بين الحاكم والمحكوم في الفصول السابقة – تفجّر الصراع بين قريش وبقية المسلمين الذي كان سببه - إضافة إلى العُقد القديمة والصراعات الاجتماعية – طبقيا إقتصاديا ، وذلك لأن أموال وغنائم الفتوحات عادت إلى قريش فتركزت الثروة بيدها من جديد ، في حين كان الأعراب هم المقاتلون المضحّون . لقد كان الموالي والأعراب هم مادة الثورة على عثمان ، وقاد الموالي عمار بن ياسر ، في حين قاد الاعراب أبو ذر الغفاري . ويستعرض الوردي تفصيليا وقائع الثورة خصوصا في اشتداد أزمتها الأخيرة التي يقسمها إلى ثلاث مراحل :
- مجيء الثوار إلى المدينة ثم عودتهم راجعين إلى أمصارهم بعد أن رضي عثمان بإجابة طلبهم في إقامة العدل واتباع السنة .
- رجوع الثوار إلى المدينة بعد قليل من خروجهم منها ، وذلك حين اكتشفوا كتابا مختوما بخاتم عثمان يأمر به والي مصر بقتلهم عند رجوعهم إليه .
- حصار عثمان في بيته والمثابرة على ذلك الحصار حتى مقتل عثمان .
والوردي - بخلاف الكثير من المؤرخين والباحثين الاجتماعيين - يؤكد على أن مروان بن الحكم ، هو الذي عكّر الأجواء بين عثمان والثوار وزوّر كتاب قتل الثوار إلى والي مصر الذي أنكره عثمان وكان حامله الغلام يتعمد السير قريبا من الثوار العائدين . إن مروان – كما يقول الوردي - هو السبب الأكبر في مقتل عثمان ، وأن معاوية هو الذي أوعز إليه بذلك . وأن معاوية كان يشجع الثورة من وراء ستار ، وهو الذي تراخى في نصرة عثمان رغم أنه كان المدير الفعلي لشؤون الخلافة الإسلامية في وقت عثمان . والغريب أن كل ولاة الأمصار لم ينجدوا الخليفة عثمان حتى والي مكة ، ولم يزوروا الخليفة في موسم الحج لتلك السنة . ويضيف الوردي :
( إن من المدهش أن نرى قميص عثمان الذي قُتل فيه وأصابع زوجته التي قُطعت أثناء مقتله تُرسل حالا إلى معاوية ، كأنه أمرٌ دُبّر بليل ) .
والغريب أن معاوية كان يطالب عليّاً بدم عثمان ، فإذا انتصر ترك دم عثمان ولم يطالب به أحدا من قاتليه ، حتى بعد أن طالبته إبنة عثمان بذلك . ورغم كل الملابسات التي أحاطت بمقتل عثمان وموقف علي من الثوار والذرائع التي قُدمت في هذا الصراع ، فإن الوردي يعود في نهاية الفصل إلى التأكيد على الجذر الطبقي للثورة بقولٍ يمزج في خاتمته كعادته عِبَر الماضي بتجارب الحاضر :
( الناس في هذا فريقان : فريق مترف يريد أن يحافظ على امتيازاته الطبقية ، وفريق آخر محروم تكاد أحشاؤه تلتهب نارا . ولا يستطيع أحد الفريقين أن يهدأ أو يقعد على التل . لا يستطيع القعود على التل إلا المطمئنون المُرهفون الذين خلصت نفوسهم من الألم ، وسلمت مصالحهم من الخطر . والحكومة الصالحة هي التي تجعل رعاياها مرهفين مطمئنين ، لا يتذمرون ولا يطمعون . وبذلك تجعلهم من أصحاب التل جميعا ) .