اختلفت وتضاربت في الحلاج، كل الآراء (؟ - 309 هـ). فأتباع المذهب الحنبلي (مثلا) يرونه كافرا وزنديقا (سنأتي لهذا اللفظ لاحقا)، والمتصوفة يرونه شيخا متصوفا وعاشقا كبيرا.. وقد اتخذ منه الشعراء موضوعا لتجسيد العشق والألم في تجلياتهم الشعرية.
وُلد أبو المغيث الحسين ابن المنصور الحلاج(السنة غير معروفة). في مدينة فارسية مشهورة باسم بيضاء فارس، وجاء إلى بغداد أواخر القرن الثالث هجري. بغداد التي اشتهر سكانها بالغنى وبالبذخ الظاهر، وبالمكانة الدينية الرفيعة. تزامن قدوم الحلاج إليها ومحاولات القرامطة خلع الخلافة العباسية.
الحلاج الذي ذاع خبره بعد عودته من الهند، ومكوثه في موضع أمام الكعبة، لفترة طويلة وهو لا يتناول من الطعام إلا القليل. ملفتا إليه الأنظار. رجع إلى بغداد وهو يُنْظر إليه زاهدا من الزهاد الكبار. هذا الرجوع خلق له مشاكل مع بعض "الظاهريين"، الذين يرون بظاهر القول والشريعة. على عكسه، هو الذي يرى بأن في باطن الشريعة معانٍ خفية يجب الوصول إليه.
لم يتفهم الظاهريون الحالة التي تتملَّك الحلاج وهو في حالة الوجد الصوفي. كقوله (ما في الجُبّة إلا الله..). و إصابتهم بالاندهاش وهم يسمعونه وهو يصرخ وسط الناس، متمنيا الموت. فالتزامهم بظاهر الشريعة، خلافا للحلاج الذي يرى بأن باطنها أدقّ وأحقّ وأشمل للحقيقة، الحقيقة التي لا يصلها ولا تختص إلا بخواص الخواص. وهو القائل: "أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة والحقيقة لا تليق بالخليقة".1. "الحقيقة دقيقة، طرقها مضيقة فيها نيران شهيقة ودونها مفازات عميقة".2. شكل عائقا لفهمه. وكان الدافع الرئيسي لهذا التخوف/العائق، خشية سقوط الدولة العباسية، واتهامه من قِبل البعض، أنه يدعي الولاية الثانية عشر (أي تشيعه).
1- الرمي بالزندقة:
عاش الحلاج في حقبة ازدهار الإسلام الفريدة، حيث تربّع المجتمع الإسلامي في بغداد على مصب ثقافتين، الآرامية واليونانية. وقد أصبحت هذه المدينة حاضرة العالم الثقافية. وكان للفكر العربي أساتذته الكلاسيكيون الحقيقيون من النظام وابن الراوندي إلى الباقلاني في علم الكلام. ومن الجاحظ إلى التوحيدي وابن سينا في الفلسفة، ومن أبي النواس وابن الرومي وإلى المتنبي والمعري في الشعر. ومن الخليل إلى ابن جني في اللغة. وكان الرازي بين الأطباء والبطاني بين الرياضيين. وكان الحلاج بين هؤلاء، علماء الكلام المتصوفة، أكثر عمقا من الأنطاكي والمحاسبي وأكثر صلابة وحزما من الغزالي، فقد أدرك أي الحلاج، القيمة التي لا تقدر بثمن لنهجٍ يعرض أسلوب حياة تتماثل فيه الأفعال الخارجية من النيات الباطنية[...]. لم يعتمد نهجه على فهم قواعد العربية وحسب بل على استخدام المنطق، كما صنّفه ونسّقه اليونانيون.3.
انتشرت مقولة فقهية لا يُعرف مصدرها، في أواخر العهد العباسي، تقول: "من تمنطق تزندق". هذه العبارة التي حمّلها الفقهاء غايةً وألصقوها بالمتصوفة ودارسي علم المنطق، ذريعة لمحاربتهم وقتلهم. أثرت في العقل العامي آن ذاك، رغم أن المنطق بمعانيه الاستقرائية والصورية/الرياضية والاستدلالية، لا يلتقي والزندقة.. "التي أطلقت [أي الزندقة]، كشكل من أشكال الخروج على التعاليم الدينية المركزية، في العصر الإسلامية المبكر، على أولئك المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام اسميا لكنهم ظلوا يمجدون في الخفاء المانونية وغيرها من الديانات الإيرانية القديمة".4. ونتيجة للمحن التي عمت في عهد الخلفاء العباسيين، المنصور (753- 775م) والمهدي (775- 786 م) والهادي (785-786م) توسع مفهوم الزندقة ليشمل جميع الناس الذين يدعون إلى أفكار غير تقليدية أو غير شعبية أو مشبوهة سياسيا. وفي وقت لاحق ألصقت تهمة الزندقة بكل شكل يتبنى أفكارا إلحادية أو رافضة لما وراء الطبيعة [...]. وتوسع استعمال التعبير ليشكل جميع المنحرفين عن الخط التقليدي، ثم صار يطلق بصورة متزايدة على أنصار المذاهب الشيعية والمدارس الصوفية.
وكان الحلاج في تاريخ الخلافة العباسية في بغداد ضحية قضية سياسية كبيرة أثارتها دعوته العامة. ورميه بتهم الزندقة التي كانت تؤدي، إلى الحكم بالإعدام على المتهم، في ذاك الحين. بعد صياحه في حالة وجد صوفي: (أنا الحق..).
2- الأسطورة الشعرية:
حُكم على الحلاج بالإعدام عام (922م)، وذكر الطبري، المؤرخ الشهير الذي عاصر الحلاج. والذي توفي بعد عام من مقتله، فقط في كتابه (تاريخ الأمم والملوك)، عن هذه الواقعة، أنه "أخرج من الحبس فقطعت يداه ورجلاه، ثم ضرب عنقه، ثم أحرق بالنار". وهذا التكتم كان نتاج محاربة لكل مؤلفات أو محدثين، آتوا بالذكر عن التصوف.
وعن إبراهيم بن فاتك قال:" لما أُتيَ بالحسين بن منصور ليصلب رأى الخشبة والمسامير فضحك كثيراً حتى دمعت عيناه. ثم التفت إلى القوم فرأى الشبلي بينهم فقال له: يا أبا بكر هل معك سجادتك. فقال: بلى يا شيخ. قال: افرشها لي. ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين وكنت قريباً منه. فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى "لنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع" الآية، وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب وقوله تعالى "كل نفس ذائقة الموت" الآية، فلما سلم عنها ذكر أشياء لم أحفظها وكان مما حفظته: اللهم إنك المتجلي عن كل جهة، المتخلي من كل جهة. بحق قيامك بحقي، وبحق قيامي بحقك. وقيامي بحقك يخالف قيامك بحقي. فإنّ قيامي بحقك ناسوتيّة، وقيامك بحقي لاهوتية. وكما أنّ ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير ممازجة إياها فلاهوتيتك مستولية على ناسوتيتي غير مماسة لها. وبحق قِدمك على حدثي، وحق حدثي تحت ملابس قدمك، أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت بها علي حيث غيبت أغياري عما كشفت لي من مطالع وجهك، وحرمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك، وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك. فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لَما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لَما ابتليت. فلك الحمد في ما تفعل ولك الحمد في ما تريد، ثم سكت وناجى سراً. فتقدم أبو الحارث السياف فلطمه لطمةً هشم أنفه وسال الدم على شيبه. فصاح الشبلي ومزق ثوبه وغشى على أبي الحسين الواسطي وعلى جماعة من الفقراء المشهورين. وكادت الفتنة تهيج ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا".5.
هذا العشق للذات الإلهية من طرف العاشق/الحلاج في لحظة مأساة. جعل من الحلاج في الأسطورة الشعبية والإنسانية، عند الشعراء العرب والفرس والترك والهندوس والماليزيين، أنموذج "العاشق الكامل للإله. وهو القائل لحظة ضرب عنقه- عشقا- في محبوبه/ الإله: حسب الواحد إفراد الواحد له.*
المراجع:
1- الحلاج الطاسين
2- المصدر نفسه.
3-آلام الحلاج-ماسنيون
4-عبدالله القصيمي من أصولي إلى ملحد- يورغن فازلا
5- أخبار الحلاج- ابن الساعي
* في بعض الروايات: حسب الواجد...إلخ