من السهل رصد ملامح الصورة الظاهرة للإنسان ،بل من الممكن اعتمادا على ماأنتجه الإنسان من تقنيات تتبع هذه الصورة في جزئياتها واختزانها ولو في مختلف تلوناتها الزمانية،ولكن من الصعب إن لم نقل من المستحيل رصد صورة هذا الإنسان الباطنة ، أي رصد وجدانه ،وإدراك حقيقة هذا الوجدان في كافة تضاريسه.أجل قد نتمكن من تتبع بعض المؤشرات والقرائن التي نتخيل من خلالها هذه الصورة المختفية وراءالصورة الظاهرة، ولكن هذا الخيال يبقى هلاميا يتلون بألوان المواقف التي تصدر من الذات التي نسعى لتخيل وجدانها واستكشافه ، وتبقى هاته الصورة قابلة للتلون بمختلف الألوان ، مستعدة لأن تفاجأنا بما لم يكن في الحسبان ، فهذا الوجدان قابل لأن ينتقل من القسوة إلى الرقة ، من الضعف إلى القوة ، من الفرح إلى الحزن ، من القبض إلى البسط ، فنجد أنفسنا أمام تقلبات لايفسرها إلا ماورد في الحديث الشريف :" إن قلوب بنى آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "[1] .
إن الصورة الحقيقية للانسان التي تعكس جوهره هي صورته الباطنة، فالإنسان إنسان بهذا الجوهر ،ولهذا كان محل نظر الله تعالى من العبد ،بينما اعتبرت الصورة الظاهرة متجاوزة على هذا المستوى ، وهو مايؤكده قوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لاينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم"[2].ولكن المشكل هو أن اعتناء الإنسان الغافل مقتصر على صورته الظاهرة يتفقدها أمام المرآة بين الفينة والأخرى -وهو أمر مطلوب شرعا في حدود المعقول – بينما لا يستكشف صورته الباطنة إلا إذا هزته أزمة من الأزمات أو طرح عليه هذا الوجود أسئلته المعقدة والمقلقة، فتجده في هذه الحالة يتفقد تجاعيد صورته الباطنة ،ويطرح التساؤل عن ما أفسده الدهر فيها أو إن صح التعبير ما أفسدته يده فيها .والعاقل هو الذي تكون له هذه اللحظة لحظة رجوع إلى حقيقة إنسانيته،فيسعى إلى صلاح باطنه كما يسعى إلى صلاح ظاهره . وكيف لايفعل ولايعتني بصورته الباطنة وهي محل نظر الله فيه ،وهو يعتني بصورته الظاهرة التي هي محل نظر الخلق فيه ؟.
إن سبب الاشتغال بالمظاهر مع نسيان العمق الإنساني هو انبهار الكثير من الناس ببريق البعد المادي المحسوس للحياة ،وخصوصا في حضارتنا المعاصرة ، فأصبح الإنسان المادي المعاصر يعيش"بافلوفية "_نسبة إلى بافلوف- لعل أصدق مايصورها قوله تعالى :" فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أوتتركه يلهث"، فهو لهات مستمر وراء حاجيات مختلقة لاتنتهي ، فالإنسان المادي المعاصر يستجيب دون وعي لكل ماتفرزه الحضارة الحالية إن خيرا أو شرا،ولو على حساب إنسانيته، وغاب فيه تبعا لذلك البعد الإنساني الوجداني .
نعم لقد غاب بمعنيين ، بمعنى انطماره تحت البعد المادي المحسوس، ثم بمعنى فقدان المعاني الوجدانية السامية التي تجعل الإنسان في قمة إنسانيته ، يعيشها بكل أبعادها، ويندهش لها الآخرون عندما تتجسد في بعض مواقفه .
إن التصور الإسلامي للإنسان هو أنه مكون من مادة وروح.ولكن الناس بالنسبة للتسليم بالوجود الروحي ينقسمون إلى أقسام: - قسم لا يسلم إلا بالوجود المادي . - قسم يسلم بالوجود الروحي وينقسم إلى قسمين : 1. قسم يسلم فكريا به ، ولكن لا أثر لذلك على المستوى الإشتغالي. 2. قسم يسلم فكريا بوجوده الروحي و لكن اشتغاله عليه نسبي. - قسم يسلم بالوجود الروحي و يعيش التوازن بين بعديه المادي والروحي ، وهذا القسم كان هم المفكرين والفلاسفة.
إن الصورة الباطنة للإتسان هي صورة وجوده الروحي ،كما أن صورته الظاهرة هي صورة وجوده الظاهري.
ولكن ماهي علاقة الصورة الباطنة للإنسان بمايتبدى على صورته الظاهرة ؟
إن استكشاف الصورة الباطنة الوجدانية للإنسان من خلال الصورة الظاهرة يشبه تماما تتبع خفايا الصورة الفكرية لهذا الإنسان من خلال تمظهراتها المادية ، فالإنسان الصامت الغريب عنا والذي لانعرفه، لايمكننا أن ندرك صورته الفكرية مالم يتكلم ،إلا أن نقوم ببعض التخمينات والتكهنات،وقد يكشف الكلام عما لم نكن نتخيله،وهوما صوره الله سبحانه وتعالى في قوله : " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم،وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة "[3]. كما اشتهر من أقوال الحكمة : " تكلموا تعرفوا "،أو كما قال أحدهم لآخر:"تكلم لكي أراك" .
إذن فمن المسلم به أن الصورة الباطنة الوجدانية للإنسان لانستكشفها إلا عبر الصورة الظاهرة ومايتبدى عليها من آثار ،بيد أن هذه الصور الظاهرة قد تتشابه الآثار المتبدية عليها رغم الاختلافات الجوهرية التي قد تكون بين الصور الباطنة التي خلفها،وهذا أحد وجوه الإشكالات التي تكون وراء عدم فهم حقيقة الوجدان عموما و الحال خصوصا.ومن هنا قد يختلط الأمر على غير الخبير فيخلط بين الأحوال الصادقة النورانية،والأحوال
الظلمانية ، بل بين الأحوال وبين الظواهر النفسية المرضية،وشتان مابينهما ، ونستشهد هنا بما قاله المفكر علي سامي النشار، الذي نبه على بعض الجوانب المهمة التي يجب على الباحثين أن يتنبهوا إليها، خصوصا عندما يقع الانسياق وراء قياس أحوال الصوفية على بعض الحالات المرضية النفسية ،وهو قياس مع وجود فارق كبير نبه إليه سامي النشار قائلا :"ما لبث علم النفس أن أدلى بدلوه وحاول أن يحتضن التصوف ضمن أبحاثه ،وأن يرى في التصوف ظاهرة نفسية،ويحاول أن يفسر أحوال المتصوفة ومقاماتهم و مواجدهم تفسيرا سيكولوجيا ،ونحن نعلم أن مناهج علم النفس أصبحت كمناهج علم الاجتماع،مناهج علمية مادية ولها مقاييس وأحكام لا تنطبق تماما على التصوف ولا على المتصوفة،ونعطي مثالا هاما على هذا :إن حالة (الحال)... تدخل في البحث السيكولوجي في نطاق الحالات الشاذة ، أو إن تكلمنا بلغة طبية ستعتبر من حالة الصرع أو فقدان الشعور المطلق ،أو حالات لاشعورية يتخبط فيها الصوفي تخبطا مرضيا باثولوجيا،ولكننا نرى الصوفية في هذه الحالة ينطقون أو يتلفظون بنظريات ميتافيزيقية أخلاقية . . .بينما يفترض في أصحاب حالة الصرع عدم القدرة على الإنتاج الفني أو الخلقي أو الإبداع الروحي أو الجمالي "[4].
إن الحال يعتبر عند البعض " الصلة أو الرابطة الوجودية التي تصل المخلوق بخالقه "[5].ولذلك فلا انفكاك لكل إنسان عن الحال ، "فما
من مخلوق إلا وله حال مع الله "[6].بيد أن الأحوال عند الصوفي هي بعد سلوكي يثمر المعرفة ويقود إلى حضرة الله،ولقد مثل نجم الدين كبرى لهذا المعنى بالمثال التالي :" الحال بمنزلة الجناحين للطير ،والمقام بمنزلة الوكر له ،ولابد للسيار من قوتين مختلفتين في حالة واحدة نبعتا من معنى واحد ،سواء كان السيار مبتدأ أو متوسطا أو منتهيا ...وهاتان القوتان يجب أن تكونا متساويتين ككفتي الميزان ...فجناحا الطفل –المبتدأ –الخوف والرجاء ،وجناحا الكهل –المتوسط –القبض والبسط،وجناحا الشيخ –المنتهي –الأنس والهيبة ...وهذان الجناحان قد يصح الطيران بهما إذا كانا متساويين في الذات والتحريك ..." [7].
إن مايعتري الذاكرين من الأحوال يعرف مواقف متعددة ومتشاكسة من طرف من يرصد هذه التغيرات الحاصلة في الصورة الباطنة للإنسان والتي تنعكس على صورته الظاهرة ،بيد أن ابن تيمية لخص لنا هذه المواقف في قوله :
"... وقد يذم حال هؤلاء من فيه قسوة القلوب والرين عليها ،والجفاء عن الدين،وهو مذموم ،ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها ،وكلا طرفي هذه الأمور ذميم :
بل المراتب ثلاثة :
-أحدها- حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب ،لا يلين للسماع والذكر ،وهؤلاء فيهم شبه من اليهود ،قال الله تعالى :" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ،وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ،وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ،وإن منها لما يهبط من خشية الله ،وما الله بغافل عما تعملون " [8].وقال تعالى : " ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ،ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ،وكثير منهم فاسقون "[9].
و-الثانية – حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه ،فهذا الذي يصعق صعق موت ،أو صعق غشي ،فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد.وضعف القلب عن حمله ،وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية ،يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله…
فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان ،لم يكن فيه ذنب فيما أصابه ،فلا وجه للريبة ،كمن سمع القرآن السماع الشرعي ،ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك ،وكذلك ما يرد على القلوب …فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا،فإن السكران بلا تمييز…
وقد يحصل … بسب لا فعل للعبد فيه ،كسماع لم يقصده يهيج قاطنه،ويحرك ساكنه،ونحو ذلك ،وهذا لا ملام عليه فيه ،لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم ،كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما .
فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي ...حتى لايشعر بنفسه ونحو ذلك ،إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان ،معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم....
ولكن من لم يزل عقله مع أنه حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم .وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم ،وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم،فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله ،فحاله أفضل من حال موسى عليه السلام الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل،وحال موسى حال جليلة علية فاضلة ،لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل "[10].
[1] صحيح مسلم ج: 4 ص: 2045.
[2] صحيح الإمام مسلم باب تحريم ظلم المسلم وخذله.
[3] سورة المنافقون الآية 4.
[4] د. علي سامي النشار : نشأة الفكر الفلسفي .ص22 عبر النشار عن الحال ب السكر والشطح والجذب وهي مصطلحات من قبيل المتشابه الصوفي الذي يعلم تاويله من ذاقه،ويثير قضايا معقدة بالنسبة لمن لم يذقه . .
[5] د. سعاد حكيم : المعجم الصوفي ص334.
[6] د.سعاد حكيم : المعجم الصوفي ص334.
وانظر كتابنا تجليات الوجدان من خلال السنن والقرآن.
[7] نجم الدين كبرى : فواتح الجلال والجمال ص41.
[8] سورة البقرة .الآية 73
[9] سورة الحديد. الآية 15
[10] ابن تيمة .فتاوى ابن تيمية ج11ص7 و ما بعدها.