" وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا."
ـ القرآن الكريم ـ
"أغزوا تبوك، تنالوا بنات الأصفر."
ـ النبي محمد ـ
لا عجب أن تتوجس الأديان دوما من كل تفكير حر نقدي، لسبب بسيط يكمن في اختلاف الطبيعتين المؤسسة لتربة هذا وذاك، حيث يقوم الدين على التسليم المطلق بالأشياء، بما أنه كلام آت من السماء ـ على حد زعم الأنبياء ـ بينما يتأسس الفكر على التمحيص والفحص قبل إصدار أي حكم، لهذا اعتبر المفكرون في نظر المتزمتين من أهل الدين زنادقة ودهرانيين وملاحدة مشركين، بينما عمل المفكرون غالبا عن النأي بأنفسهم من مثيل هاته الجدالات العقيمة، فكان أن تسلح أهل الدين بالسيف، في حين تسلح أهل العلم بالقلم، وفي ذلك عديد أمثلة يسوقها لنا التاريخ، حيث نذكر من بينها ما حدث للفيلسوفة هيباتيا ومن بعدها ما وقع للحلاج، وابن المقفع، وابن رشد الحفيد، ثم ما عاشه كوبرنيك وغاليلي ومارتن لوثر وديدرو...
لقد انتصر العقل على حساب النص المقدس في عديد البقاع من العالم، فكان لذلك الأمر عظيم وكبير نجاح على حال الناس، خاصة وأن العقل لم يدع يوما إلى التخلص من الدين، وإنما إلى نزع الشبهات منه، والتي تصنف ضمن مصاف الخرافات والخوارق، حيث لن يصدقها إلا العامي الذي لا طاقة له في أمور القراءة النقدية للأمور، لهذا رسم نفس العقل حدودا للدين مثلما اعتبر العقل ديدن كل تفوق إنساني، والبين في ذلك هو تجربة عصر النهضة وما بعدها حيث بدأنا نؤسس للإنسان المسؤول القادر، وليس للإنسان التابع الذي يسلم بالأمور، معتبرا أن كل شيء هو من صنع السماء، مهما كانت طبيعته إن سيئة أو حسنة، لكن وعلى النقيض من ذلك تخبط العالم الإسلامي ومنذ نشأته على نبذ كل اختلاف، مكرسا القراءة الواحدة والوحيدة، معتبرا كل اجتهاد بدعة، ومُجَرِّماً كل محاولة لإعادة التحقيق في عديد الأمور التي لازالت ملتبسة لحد الساعة، لهذا قد لا نتعجب عندما نرى أمتنا تتقاتل فيما بينها لأسباب جد تافهة، وهو ما يجعلنا نفوت فرص التقدم معوضين إياها بجهل مصادق عليه من لدن أصحاب القرار، إذ هل يعقل مثلا أن أثنَكِّلَ بشخص لدرجة تعذيبه حيا وميتا، لسبب أن له قراءة أخرى للعقيدة؟ ولماذا نعتبر خطابنا هو الأصح، بينما كان من الأجدر احترام كل الآراء، امتثالا لنسبية الحقيقة؟ وهل تعتبر مسألة العودة لتاريخ المقدس جريمة، أم أنها محرك إبستيمولوجي يكشف عن ما وراء الراكد فينا؟ للإجابة أو بالأحرى لمعالجة هاته الاسئلة سنعمل في هذا المقام على العودة إلى الأصل، أي إلى الكتاب المقدس للمسلمين، ممحصين إياه بدل تصديقه تصديقا ساذجا، دون المرور مر الكرام على بعض الظروف التاريخية واقفين على الجانب الخفي من أشخاص طالما اعتبروا في نظر العامة مثالا يحتدى به.
إن أول أمر وجب الانطلاق منه، لإعادة مسألة نزع القداسة من القرآن، ليست تكمن إلا في النبش في مسألة شرحه وتأويله والمفارقات الغريبة التي حملها النص نفسه، علما أن شيخ المؤرخين " الطبري" يخبرنا بوجود عدة نسخ من القرآن، وأنه تم اللعب ببعض الآيات لأغراض سياسية واقتصادية، حيث احتفظ بنسخة عثمان بن عفان بينما جُهل أمر النسخ الأخرى، بما أن الأخير هو من أمر بجمع وتدوين القرآن، إضافة إلى استغلاله لوضعيته السياسية كخليفة للمسلمين، من ثمة كان الأجدر بنا أن نعود إلى هذا الشأن بدل إغاضة الطرف عنه، لهذا قد لا يسعنا التذكير إلا بأمر عربية القرآن، وهو الوارد في الآية التالية :" إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون."(1) أو في الآية التالية :" وهذا لسان عربي مبين."(2) بينما نجد بعض العبارات التي لا تمت للعربية بصلة من قبيل: سجين/ آلاء/ قرآن/ أباريق/ أسفارا/ إستبرق/ قراطيس/ هيت لك/ سقر... والحال أن لهذا التناقض السلبي أثر على لغة القرآن، وهو ما يفتح باب التأويل المتعدد بين المسلمين فيما بينهم، لكن وعلى العموم قد لا تهمنا هنا لغة القرآن بقدر ما توجب الوقوف على أكثر على غياب الوضوح في هذا الأمر، يخبرنا القرآن ودوما في الآية الأخيرة المذكورة أعلاه واصفا نفسه بأنه مبين، حيث تدل هاته الكلمة على الواضح الجلي الذي لا يقبل أي لبس، أي أن القرآن أُنزل واضحا لا غموض فيه، وهو الامر المجمع عليه من طرف الأغلبية الساحقة من أهل الحل والعقل، لكن وبصورة غريبة نجد نقيض هاته الآية في مقام آخر، مؤكدة ما يلي :" وما يعلمه إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به."(3) أي أن الله هو الذي يعلم تأويله، فيما توجب إيمان الراسخين في العلم، وإن اختلف في طبيعة هؤلاء الراسخين، والحال أن أمرا آخر يؤكد غموض القرآن بعدما اعتبر كتابا مبينا، ألا وهو مسألة الآيات المتشابهات من جهة، ثم الأحرف المتقطعة من جهة أخرى والتي لا يعلمها هي الأخرى إلا الله، من قبيل : ألم/ ألر/ حم/ كهيعص/ طس/ ق... حيث سنضع القارئ أمام السؤال التالي: لماذا وضع الله هاته الآيات إذا لم تكن لها أية إفادة للإنسان؟ وكيف يمكن التسليم به بما أن كلام الله تبليغ ورسالة إلى عباده؟
لا يختلف اثنان أن الله غافر لكل الذنوب ما عدا الشرك به، أي جعل إله آخر محل الله الواحد، جاء في سورة التوبة :" فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد."(4) وورد أيضا في سورة النساء أن :" الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما."(5) من ثمة نستنتج أن الله قد يتجاوز لعبده كل الخطايا التي قام به غافرا إياها، بيد أن أمر الشرك مسألة قطعية لا رجعة فيها، وهو الامر المتفق عليه طبها، بيد أننا نتساءل عندما نجد في معرض آخر من القرآن الآية التي تقول :" فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي."(6) وهو الذي يفيد أن إبراهيم أشرك حين جعل بدل الله آلهة أخرى من الكواكب والنجوم... ثم جعله الله فيما بعد خليلا.
إن أهم شرط لفهم القرآن ليس يتأسس إلا على دراسة التاريخ القبلي والمرافق لمرحلة الدعوة المحمدية، خاصة ما دُوِّنَ في بلاد فارس والحبشة والروم، والبَيِّنُ في هذا الأمر هو وقوفنا عند حادثة الإسراء والمعراج التي علق عليها عمر قائلا: "اللهم ارزقنا إيمانا كإيمان العجائز" حيث نجد جذورها الأصلية في الديانة الزرادشتية، وذلك قبل حوالي 400 سنة من الديانة الإسلامية، إذ وردت في كتاب أرتاويراف نامك مكتوبة باللغة البهلوية أي اللغة الفارسية القديمة، وذلك بسبب تدهور التعاليم المؤسسة لهاته الديانة ـ الزرادشتية ـ، وهو الأمر الذي أدى بخلق هاته الحادثة إبان الملك أردشير بابكان، لإعادة الثقة في عامة الناس بالقوى الخارقة للديانة الزرادشتية، حيث تم اختيار شاب يدعى أرتاويراف للصعود إلى السماء، ثم إخبارهم بما يحدث هناك، وهو الأمر الذي تحقق بعدئذ، إذ وقع عليه سبات ثم أرسلت روحه إلى السماء بمعية ملاك اسمه سروش، حيث انتقل من طبقة إلى أخرى، وفي كل واحدة منها يلتقي بشخص يتعلم منه بعض ما يجب، إلا أن وصل إلى آخر طبقة، التقى فيها الإله أورمزد، الذي دعاه إلى إخبار الناس ببعض التعاليم الجديدة في الديانة الزرادشتية فور عودته إلى الأرض.
إن الغرض من هذا القول ليس يعني رفضنا أو ضربنا لعرض نص مقدس ما، بقدر ما هي دعوة صريحة إلى عموم الناس للعودة إلى كل الأشياء، وقراءتها بروح نقدية، تتغيى روح وضع السؤال بدل التسليم بجواب قطعي بديهي، ربما هو أبعد من الصواب بكثير، كما أنها رسالة إلى كل شخص يحكم باسم الدين، واضعا نفسه المصدر الوحيد للإسلام، أن وجب قبول رأي الآخر لأنه يتأسس على تربة قوية، والحال أن الحروب التي بتنا هدفا لها، وأضحت عنوان أمتنا الغارقة في الجهل والتخلف، إنما مردها إلى عقليتنا المنغلقة التي تكرس التعصب، والذي بدوره يؤدي إلى الجهل المطلق والأعمى، إن كل قراءة نقدية ليست تبغي الهدم والتدمير، وإنما تسعى إلى تفكيك النص مكرسة بذلك روح العقل المنفتح على حساب العقلية المتحجرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يوسف الآية 2.
2 ـ سورة النحل الآية 103 .
3 ـ سورة آل عمران الآية 7 وما يليها.
4 ـ سورة التوبة الآية 5، أنظر أيضا ما قبلها وما بعدها.
5 ـ سورة النساء الآية 48.
6 ـ سورة الأنعام الآية 76 وما بعدها إلى الآية 78.