سأتحدث في هذا المقام عن أبعاد كلمة الصورة في التراث العربي الإسلامي، مستندا إلى افتراض أصوغه بالشكل التالي: إن العرب المسلمين قد مارسوا "التصوير" وأكثروا منه، وإن دلت التجارب الواقعية أنهم أغفلوه، بمعنى أنهم لم ينسوا أبدا الصورة عكس ما يعتمده الناس، وسأحاول تسويغ ذلك بناء على مستويات غير التصوير المجسم، لأخلص أن الصورة ينبغي أن تطلب لدى العرب في التصوير إذا كان ثمة تصوير، في غير ذلك من كلامهم، وممارساتهم الفكرية، كالفلسفة، والتصوف، وصناعة المعاجم، والشعر والبلاغة والنحو وهلم جرّا…
العلامات في التراث العربي:
لكل ثقافة علاماتها، فما قد يكون مؤشرا Index(1) في الثقافة الفارسية Intention، قد يكون مؤشرا بقصد Index intentionnel في الثقافة العربية، الدخان la fumée مثلا، ليس عند العرب القدامى مجرد مؤشر على وجود النار le feu، وليس وجود النار مؤشرا على وجود الحرارة فحسب، بل إنه بسبب من المواضعة Convention، مرتبط في الثقافة العربية بالكرم والقرى، والكريم تدل عليه ناره، والرجل البخيل لا نار له. ويدلنا على ذلك قول الشاعر يهجو قوما بخلاء بكونهم إذا رأوا ناسا أغرابا قالوا لأمهم بولي على النار.
وبناء على ذلك، فإن العلامة "لا تكتسب دلالاتها إلا من خلال وضعها في الثقافة"(2)، وإذا كانت الثقافة عبارة عن علامات بأنواعها الثلاثة: مؤشر Index، رمز Symbole(3)، وأيقونة Icône(4)، فإننا لا يمكن أن نفهم في ثقافة، "أيقونة" كالصورة مثلا ما لم نربطها بالمجالات العلامية الأخرى، ولهذا فلا يمكن الحديث عن علامة مفردة: "الصورة" مثلا، بل المفروض إدخالها في "أنظمة دالة، أي مجموعات من العلامات"(5)، ويجب ربط المجال العلامي الخاص بغيره من أجل اكتشاف التداخل، والالتقاء والاندماج، ونحن نرى أن علامة ما إذا لم تكن ظاهرة للعيان، فقد تحولت ضرورة في الثقافة التي تنتمي إليها، إلى علامة من نوع آخر… ومن ثم استقر رأينا على وجوب البحث عن علامة "الصورة" في العلامات اللغوية، أي في المكتوب الثقافي لا المصور المجسم. وبهذا الشكل نستطيع أن نبحث في مجالات التشكيل عموما عن الأسئلة المعرفية التي تؤسسها في لا وعينا تراثيا، كما نرى وجوب أن تحتضن آفاق الأبحاث مثل هذا التوجه الحفري archéologique .
الوعي بالعلامة:
لقد كان العرب واعين تماما بأن العالم مجموعة من العلامات التي يكون القصد منها التوصيل، والإنباء، والإخبار بلغتهم، فهذا الجاحظ يقول بالحرف، وهو يتحدث عن البيان "وجعل [أي الله ] آلة البيان التي بها يتعارفون معانيهم، والترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء… هي اللفظ والخط والإشارة والعقد"(6)، ويعني بالإشارة، الحركات الجسدية والإيماءات، أي ما نسميه الآن gestes، وأما العقد فالمراد منه "حركة تتم بأصابع اليد، تعني الاتفاق والموافقة على أمر ما"(7)، ويقول المحاسبي وهو يتحدث عن الأدلة، إنها نوعان: "عيان ظاهر، أو خبر قاهر"(8)، وإذا كان الجاحظ يتحدث عن علامات بأعيانها، علامات اصطلاحية، تحكمها المواضعة la convention، فإن العيان الظاهر عند المحاسبي هو العالم كله، أي مجموعة العلامات التي تحدث عنها الجاحظ…
محاولة لتفسير الوعي بالعلامة عند العرب:
لكي نفهم كلام الجاحظ، والمحاسبي ونستفيد منه في التدليل على اختفاء الصورة في العلامات الأخرى ينبغي أن نربطه بتعريفات أخرى، ونقابل الشيء بالشيء، لنرى المجهول فيه بلغة محمد مفتاح.
يقول حازم القرطاجني في كتابه الموسوم بمناهج البلغاء وسراج الأدباء (تحقيق محي الدين عبد الحميد): "كل شيء له وجود خارج الذهن، فإنه إذا أدرك، حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في إفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ لمن يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها، صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ، فتقوم بها في الأذهان صور المعاني، فيكون لها أيضا وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليه".
يبدو في هذا النص، بشكل واضح تداخل العلامات وارتباطها ببعضها البعض، بل إننا نزعم أن الطاغي فيها هو الإحساس بالصورة، فوجود الشيء المجسد، يتحول عند الإدراك العقلي إلى صورة ذهنية هي صورة الصورة، ثم تتحول صورة الصورة إلى ألفاظ أي أصوات، هي صورة صورة الصورة، وتتحول هذه الصورة في ذهن السامع إلى صورة ذهنية ثانية هي صورة صورة صورة الصورة الذهنية الأولى، ثم تتحول هذه الأخيرة بدورها إلى رسم خطي هو صورة الصورة الذهنية الثانية، صورة صورة صورة الصورة الذهنية الثانية، صورة صورة صورة صورة الذهنية الأولى.
وإذا أردنا أن نفهم أكثر مراد حازم القرطاجني، وجب أن ننظر إلى الثقافة العربية الإسلامية، باعتبارها على الأقل في إحدى الفترات من تاريخها، تنظر إلى الوجود باعتباره صورة دالة على خالق يتصف بالبساطة، ولهذا فإن كل العلامات في الثقافة العربية الإسلامية مرتبطة ببعضها البعض لأنها تنتمي إلى وجود مركب، يدلنا على ذلك، منطق التفكير حول الصور عند المتصوفة، فهذا صاحب الفتوحات المكية (ابن عربي) يقول: "وهذه الحروف [يقصد حروف اللغة العربية] أجساد تلك الملائكة لفظا وخطا بأي قلم كانت، فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها، أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصورة بالخيال فلا يخيل أن الحروف تعمل بصورها"(9). واضح، من خلال هذا النص، ما فيه من تداخل بين المستويات، وما فيه من حساسية مرهفة بالصورة، لأنها سواء كانت ألفاظا أي أصواتا، أو خطوطا، فإنها عبارة عن أجساد، تمثل أرواحا عليا، أو تمثل كما يظهر، أسماء الله، وهذه المستويات تختلط ثقافيا بمستوى أكبر هو المستوى الديني، ويظهر هذا المزج بين العلامات "الصورة الأيقونية، بالرموز اللغوية، والصورة الحقيقية، الناس، الحجارة، العمارة، وهلم جرا…"، في قوله: أعلم أن الممكنات [أي الموجودات ] هي كلمات الله، وهي مركبات لأنها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يعبر عنه باللسان العربي… فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات. ويقول أيضا بشكل أكثر وضوحا: "العالم كله لا يعرف من الموجودات التي هي كلمات الله إلا وجود أعيانها خاصة"(10).
وإذا انتقلنا إلى الشعر فإننا نتوغل في نسيج الصورة التي تتخذ مكانتها في خلق الرؤية الخاصة، وأهميتها في عملية الإبداع الشعري، ومن تم تتسم بطبيعة الغموض، والإفلات عن مناهج التحليل العلمي الدقيق. ذلك أن "التصوير في الأدب نتيجة لتعاون كل الحواس، وكل الملكات: والشاعر المصور، حين يربط بين الأشياء يثير العواطف الأخلاقية والمعاني الفكرية. وفي الإدراك الاستعاري خاصة، تتبلر العاطفة الأخلاقية وتتحدد تحددا تابعا لطبيعته. وبعد، فالصورة منهج -فوق المنطق- لبيان حقائق الأشياء"(11). وفي الشعر والبلاغة نجد الوعي بالصورة واضحا بنفس الكثافة في إطار ما يسميه عبد القاهر الجرجاني"معنى المعنى". وفي مجال آخر يؤكد عبد القاهر الجرجاني حضور الصورة المكثف في حياة العرب، فالخاتم ليس خاتما ما لم يكن قائما على صنعة من صورته. وكذلك السوار والحلي والمعاني، ولا حاجة بنا إلى التعليق هنا فالأمر واضح وبين(12).
وإذا انتقلنا إلى المعجمات، أمثال لسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز أبادي والصحاح للجوهري، وتاج العروس للزبيدي، وجدنا الصورة تمثل معنى الرفعة والعلو. فهي ذات قيمة خاصة، إلى درجة أن بعض المعاجم تذهب إلى أن الصور (برفع الصاد)، أفصح من الصور (بكسر الصاد) (تثقيف اللسان وتلقيح الجنان لابن مكي الصقلي)(13)، وإذا ربطنا ذلك بالقاعدة وجدنا الضم أفضل الحركات، فوجب أن يخصوا ما هو مهم إلى ما هو مهم، والحال أن الصورة مهمة فوجب تخصيصها بالضم وليس بالكسر.
استنتاجات:
إذا قمنا باستقراء للقرآن الكريم، في خصوص مادة ص و ر(14)، ورجعنا إلى فلسفة الوجود عند العرب، اكتشفنا أن كلمة "مصور" هي من أسماء الله الحسنى واكتشفنا أن الإسلام يلح على وجوب الوعي بوجود الله من خلال خلقه، وإذا كان مصورا، فإن خلقه صورة أبدعها، ولهذا فإن العرب كانوا ينظرون إلى العالم، بكل ما فيه حتى الناس، باعتباره مجموعة صور. وعليه نستطيع أن نقول إن العرب تشبعوا بالصورة، ومارسوها فكريا أكثر من غيرهم من الأقوام، ولو مارسوها فعليا، أي تطبيقا، لكان وعيهم بها اقل، لأن العالم حينئذ سينقسم عندهم إلى علامات مختلفة عن بعضها البعض، فتصبح الصورة جزءا فقط، وهي كما رأينا عند العرب كل Un tout تدخل في إطاره باقي العلامات، بل إن العلامات مجرد تابعة للعلامة الأصل: الصورة.
ونختم بقولنا: إنه من المستحيل الحديث عن الصورة لدى العرب المسلمين بعيدا عن تفاعلها في لا وعيهم بالعلامات الأخرى التي تشكل أنظمة متكاملة: الفلسفة، اللغة، الدين، الفقه، التفسير وهلم جرا…
هوامش
1 - يقصد بمصطلح "المؤشر" إقامة علاقة سببية بين واقعة لغوية أو حدث لغوي وبين شيء تدل عليه الواقعة (تخص هذه العلاقة أحداثا تتعلق بمواقف القول): فقد يكون ارتفاع الصوت مؤشرا على حالة هياج لدى المتكلم.
ويرتبط المؤشر عند بيرس بالواقع الخارجي، وتكون العلاقة بين المؤشر وهذا الواقع علاقة تجاوز. فيمكن القول إن الدخان مؤشر على النار.
-سيزا قاسم، أحمد الإدريسي، أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميوطيقا، الجزء الأول، إشراف سيزا قاسم، نصر حامد أبو زيد، البيضاء، ثبت المصطلحات، ص 177.
2 - سيزا قاسم، Ibid، ص 40.
3 - الرمز عند بيرس يتعارض مع الأيوقنة Icône، والمؤشر Index / Indice. ويقصد الرمز إلى إثبات علاقة دائمة في ثقافة ما بين عنصرين. فإذا كانت الأيقونة إعادة الإنتاج عن طريق التحويل (حالة الصورة الشخصية، البورتريه، التي تعيد إنتاج انطباع حسي على اللوحة)، وإذا كان المؤشر يسمح بالاستدلال عن طريق الاستنتاج (الدخان بوصفه مؤشرا على النار)، فإن الرمز يسلك طريق وضع اصطلاح ما (الميزان بوصفه رمزا للعدالة).
ويمكن القول، إن هذه الوظائف المختلفة قد توجد مجتمعة: ذلك أن تصنيف الايوقانات والمؤشرات والرموز تستند إلى التأكيد على خاصية من الخصائص السميائية، فاللوحة الشخصية مثلا تنطوي على جانب من القواعد العرفية، وإذا كان المحتوى الأيقاني متطابقا في كل من اللوحة والكاريكاتور، فإن المظهر الرمزي يختلف في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية، وحالة الميزان باعتباره رمزا للعدالة، فقد لاحظ ف.دي سوسير أن ثمة عنصرا من علاقة طبيعية بين الدال والمدلول "أي أنه يمكن تلمس رواسب للعملية الأيوقنية أو المؤشرية".
- سيزا قاسم - أحمد الإدريسي، ثبت المصطلحات، Ibid، ص 172.
4 - الايقونة والمؤشر والرمز في مصطلح بيرس تصنيف للعلامات يستند إلى طبيعة العلاقة القائمة بين العلامة والواقع الخارجي. فالأيقونات هي التي تدخل في علاقة مشابهة مع الواقع الخارجي. وتظهر في نفس خصائص الشيء المشار إليه (نقطة دم بالنسبة للون أحمر)
- سيزا قاسم - أحمد الإدريسي، ثبت المصطلحات، Ibid، ص 169.
يدخل هذا التعريف في مجال سيميولوجيا بيرس، والأمر ليس عاما بالطبع، إذ هناك سيميولوجيا الثقافة (الاتحاد السوفياتي) وهناك أيضا سيميولوجيا سوسير التي اعتمدت في أوروبا.
5 - سيزا قاسم، Ibid، ص 40.
6 - نصر حامد أبو زيد، الحيوان 1/45، Ibid، ص 76.
7 - Ibid، ص 76.
8 - Ibid، ص 78.
9 - الفتوحات 2/448، Ibid، ص 100.
10 - الفتوحات 3/284، Ibid، ص 101.
11 - الدكتور مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، دار الأندلس، بيروت، بدون تاريخ، ص 8.
12 - راجع دلائل الإعجاز 422، Op.Cit، ص 108.
13 - ومذلك قولهم في جمع صورة: صور، بكسر الصاد، جائز.
يقال: صور (ضم الصاد)، وصور (كسر الصاد)، إلا أن الضم أفصح.
- ابن مكي الصقلي، تثقيف اللسان وتلقيح الجنان.
يترابط رأي الصقلي برأي النحاة في تفضيل حركة الرفع على حركتي الفتح والكسر (راجع الإيضاح للزجاجي).
14 - "وصور كم فأحسن صوركم"، غافر 64.
"هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء"، آل عمران 6.
"في أي صورة ما شاء ركبك"، الانفطار 8.
"هو الله الخالق البارئ المصور" الحشر 84.
"ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا"، الأعراف 11.