وقفت طويلا أمام النتائج التى أظهرتها الدراسات الحديثة حول التأثير السلبي للتكنولوجيا الجديدة على القراءة ، حيث أثبتت الأرقام تناقص عدد القراء نتيجة انتشار التليفزيون والإنترنت وألعاب الفيديو ، واستفزت تلك النتائج فضولى حول تداعيات تكنولوجيات المعلومات على مستقبل القراءة الكتابة فى العصر الرقمى ، وحاولت استكشاف ذلك فى الموضوعين السابقين ، ونستكمل هنا استشراف مستقبل القراءة والقراء فى العصر الإليكترونى مع روجر تشارتير Roger Chartier مدير قاعة إكولى Ecole des Hautes Etudes للموسيقى بباريس ، ومن أعماله المبكرة التاريخ الحديث لأوروبا ، وخاصة تاريخ التعليم ، وتاريخ الكتب والقراءة . وحديثا هذه الأيام تركزت أعماله حول العلاقة بين الثقافة المكتوبة ، وبين الآداب وخاصة المسرح فى فرنسا . ودراساته بصفة عامة تقع فى سياق المناطق البينية بين علم الاجتماع والفلسفة والأنثربولوجيا . وله كتاب مشهور مع كافاللو جوغلإيمو Gugliemo Cavallo عنوانه تاريخ القراءة في الغرب نشر عام 1999 ، وكتاب عن اللغة وتطبيقاتها عام 1997، وعن الثقافات والثورة الفرنسية عام 1993 . و روجر تشارتير Roger Chartier له ايضا مقالة هامة منشورة على الإنترنت عام 2002 باللغة الإيطالية والفرنسية والإنجليزية، يتناول إشكالية القراء والقراءة فى العصر الإليكتروني ، ويذكرنا فى بداية مقالته بالمقولة المشهورة التى كتبها رولند بارذيس Roland Barthes عام 1968 وأعلن فيها موت المؤلف ! وخلع عنة سيادته السابقة على اللغة، حيث انتشرت كتابات متعدّدة فى العديد من الثقافات، كلها في حوار مع بعضها البعض بأسلوب احتجاجي وساخر ، وان المؤلف تنازل عن تفوقه وأوليته إلى القارئ، هذا الشخص الذى تتجمّع عنده كلّ الآثار والنتائج المكتوبة. وأصبحت القراءة فى المكان او القراءة المتنقلة او الجمعية غير مستقرة وقلقة .
موت المؤلف والقارئ:
واذا كان رولند بارذيس أعلن وفاة المؤلف ، فان روجر تشارتير فى مقالته بعد ان أكد ولادة القارئ تبعه فورا تشخيصا بموته ، معتمدا على التحويلات في ممارسات القراءة ، حيث تظهر المعلومات الإحصائية التى جمعت من مسوح مختلفة فى دول أوروبا حول السلوك الثقافي - بينت بشكل حاسم - انه بالرغم من أنها لم تشير إلى انخفاض عام في النسب المئوية العامّة للقرّاء لكنها أكدت على الأقل تخفيضا في نسبة القرّاء الجادين "'heavy readers في كلّ فئة عمريه ، وبشكل خاص بين القرّاء المراهقين. لكن السياسات التحريرية عزّزت ملاحظات الاعتقاد في وجود أزمة قراءة . وبدون استعراض الإحصائيات ، يقرر روجر تشارتير ، بأنهم فى فرنسا وأوربا يشعرون بأزمة قراءة قاسية جدا في مناطق العلوم الاجتماعية والإنسانية خاصة فى الفلسفة والآداب.
وإذا كانت أزمة القراءة متشابهة على جانبي الأطلنطي ، حتى لو كانت الأسباب الأساسية ليست تماما نفس الشيء ، فالعامل الأوّل فى أزمة القراءة في الولايات المتّحدة ، هو التخفيض الصارم في استملاك الدراسات بمكتبات الجامعات التي تآكلت ميزانياتها بسبب الاشتراكات فى النشرات الدورية التي تصل أسعارها في بعض الحالات بين 10 و15 ألف دولار في السّنة، لذلك تحفظ ناشري الجامعة عن نشر الأعمال التي تعتبر متخصصة جدا مثل : أطروحات الدكتوراه , والدراسات والبحوث التخصصية ، والأعمال العلمية. وأوربا كلها فيها تحفظ مشابه، يحدّد عدد العناوين التى تنشر وعدد النسخ لكلّ عنوان، هو نتيجة مباشرة لتقلص الجمهور الذى يشترى ، والذي لا تهمة العناوين الأكاديمية فقط ، فهي قطرة في المبيعات. وإذا كان روجر تشارتير ، أعلن وفاة المؤلف والقارئ على جانبي الأطلنطي ، فأن المنطقة العربية أعلنت من زمان موت المؤلف والقارئ والناشر ، فمقولة "العرب لا يقرؤون" ، مقولة شهيرة ، وتصدق اليوم أكثر من أي وقت مضى حيث دخلنا الألفية الثالثة ، ونحن فى ترتيب متداني للغاية من الناحية المعرفية . وموقف القراءة فى المنطقة العربية سيئ جدا ، والحديث عنه يعتبر من تكرار القول ، ويكفى ان نعرف عدد الأميين يقارب 75 مليونا ، وأن ما تستخدمه دار نشر فرنسية واحدة من الورق يفوق ما تستخدمه مطابع العرب مجتمعة، مع انتشار الثقافة السطحية، وعزوف القراء عن الثقافة الجادة حيث تلاقي كتب الطبخ والتنجيم وتفسير الأحلام وتحضير الأرواح ، وكتب الدين والتراث الصفراء رواجا كبيرا في أروقة معارض الكتب العربية ، لتزيد سيطرة الخرافة على العقلية العربية، وبات واضحا انتصار المطبوعات الدينية على الثقافية , الأمر الذي يعني انحسار المتلقي الإنتلجلنسي لصالح الديني والأصولي ، و الأرثي . وعلى مستوي نسبة متوسط سنوات التعليم للسكان البالغين 15 عاما فأكثر مرجحا بنوعية التحصيل خلال العام 2000 ، سنجدها في مصر حوالي 2.3%, وفي إسرائيل7% ، وفي اليابان 5.4 % ، وعلي مستوي عدد الصحف اليومية كواحدة من مصادر المعرفة, فإنها في مصر تبلغ نحو 40 صحيفة يومية لكل ألف من السكان, بينما يرتفع نصيب كل ألف نسمة من عدد الصحف اليومية في إسرائيل إلي 290 صحيفة ، وفي اليابان إلي 578 صحيفة. أما عدد أجهزة المذياع ، فتبلغ في مصر نحو 423 جهازا لكل ألف نسمة, وفي إسرائيل 520 جهازا لكل ألف نسمة, بينما يقفز العدد في دولة كاليابان إلي 559 جهازا.. أي بمعدل جهاز راديو واحد لكل مواطن ياباني. وعلي مستوي انتشار أجهزة التلفزيون، باعتبارها أحد الوسائل الفاعلة في نقل المعرفة, سنجد عددها في مصر يبلغ نحو 122 جهازا لكل ألف مواطن, وفي إسرائيل نحو 318 جهازا لكل ألف نسمة, أما اليابان فيقفز الرقم إلي 707 أجهزة لكل ألف نسمة. نصل إلي عدد الكتب في البلدان الثلاثة التي تنتج سنويا في مصر 20 كتابا لكل مليون مواطن مصري.. في إسرائيل 328 كتابا لكل مليون.. وفي اليابان 442 كتابا.( تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 ) . وأزمة القراءة والقراء فى المنطقة العربية لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ليس هنا مجالها ، ولكننا نجملها تحت عنوان منظومة الاستبداد والتخلف ، وهى تختلف تماما عن السبب الرئيسي الذى شخصه روجر تشارتير لأزمة القراءة ، وموت القارئ ، واختفاء القراءة على جانبي الأطلنطي ، ويقرر أنها نتيجة حتمية لحضارة الشاشات، وانتصار الصور والاتصال الإلكتروني. فالقرن الجديد حمل لنا جيلا جديدا من الشاشات ، تختلف عن شاشات السينما أو التلفزيون، شاشات تحمل النصوص ، ليس النصوص فقط بالتأكيد، لكن أيضا الصور . ويمكن الآن استبدال المواجهة القديمة بين الكتاب، والكتابة والقراءة من ناحية ، وبين الشاشة والصور، بمواجهة جديدة فيها وسطا جديدا للثقافة المكتوبة وشكلا جديدا للكتاب. ويزعم روجر بوجود رابطة متناقضة جدا بين كلية وجود الكتابة في مجتمعات أوروبا ، ووساوس اختفاء الكتاب وموت القارئ ، ويطلب من القراء لفهم هذا التناقض، بالرجوع بالنظر إلى الوراء ، وتقيّم تأثيرات الثورات السابقة على وسائط الثقافة المكتوبة.
اللفائف والمخطوطة والإليكترونية:
ويرصد روجر شكلا جديدا من الكتاب فرض نفسه في القرن الرابع من العصر المسيحي، على حساب الشكل الذي كان مألوفا إلى القرّاء اليونانيين والرومانيين وهو اللفائف ، و كانت المخطوطة هى الشكل الجديد ، عبارة عن كتاب مكوّن من صفحات طويت وتجمّعت وربطت . وبعناد وصعوبة أخذت المخطوطة تدريجيا مكان اللفائف التي حملت الثقافة المكتوبة حتى ذلك الوقت. وهنا نذكر القارىء بأن اللفائف ليست كالمخطوطات؛ لأن الأخيرة كتبت باليد ، وغالبا على الورق "الكاغد" العادي، أما اللفائف فقد كتبت على نوع معين من الورق يصنع من نبات البردي، كما أن المخطوطات متعددة الصفحات والأوراق، أما البرديات فهي لفافة قد تكون طويلة أو قصيرة حسب الموضوع. والمخطوطة كشكل جديد للكتاب تضمنت ممارسات كانت مستحيلة مع اللفائف ، مثل الكتابة أثناء القراءة، وتصفح أوراق عمل معين أو تحدّيد مكان صفحات معيّنة، و التى أصبحت ممارسات عادية فبما بعد .لقد حوّلت المخطوطة شكل استعمال النصوص بشكل عميق ، فاختراع الصفحة، أعطى فرصة للتصفح والفهرسة بدقّة . والعلاقة الجديدة بين شكل وطبيعة الوسيط و العمل الذي يحمله مهّد الطريق لعلاقة جديدة بين القرّاء والكتاب. و هذه التحولات هى نفس الحالة التي تعيشها البشرية الآن ، فنحن على حافة تحويل مشابه كما يقرر روجر وأنّ الكتاب الإلكتروني سيستبدل أو أستبدل مكان المخطوطة المطبوعة التى نعرفها في مظاهرها المختلفة، كالكتاب، والمجلّة، أو الصحيفة؟ . ويتوقع في العقود القادمة إحتمال تعايش - ليس بالضرورة ان يكون سلميا - بين شكلي الكتاب (المطبوع والإليكترونى) وبين الأنماط الثلاثة للكتابة وإرسال النصوص: وهى الكتابة المخطوطة باليد ، والنصوص المطبوعة ، والنصوص الإلكترونية. وتبدو هذه الفرضية أكثر معقولية من الرثاء والعويل حول الخسارة العضالة للثقافة المكتوبة أو الحماس المنفلت الذي يعلن الوصول الوشيك لعصر جديد من الاتصال الإليكترونى . وهذا التعايش المحتمل يتطلّب منا ان نفكّر فى الطرق الجديدة التي ستبنى بها حقول المعرفة ، ومعرفة قيود القراءة او الشروط التى يجب توفيرها لقراءة الكتاب الإلكتروني. والنصوص الإليكترونية . وتطبيقا لمقولة "أنّ الشكل له تأثير على المعنى" ، يؤكد روجر ان الكتب الإلكترونية ستعيد تنظيم الطريقة التى نعتمد بها على المصادر لعرض الحجج. و تستوجب الكتابة أو القراءة لهذا النوع الجديد من الكتب تغيير المعايير التى تستعمل لتقييم مصداقية أيّ معالجة كتابية او خطابية مطولة، خاصة المعالجات المتعلّمة . وفعلا بدأ المؤرخون الآن النظر إلى مختلف الأساليب التى تستعمل لمنح المصداقية إلى المعرفة وتداعياتها من خلال حالات الاقتباسات، والهوامش والإستشهادات أو الإحصاءات . وهذه الطرق القائمة لإثبات صلاحية تحليل معين عدلت بشكل كبير ، وتحولت من أن تكون ملحقة إلى منطق خطيّ واستنتاجي ، وأصبحت مفتوحة وعلائقيه (كما في النصوص الإلكترونية) . بهذا المعنى، تكون الثورة في قيود وشروط إنتاج وإرسال النصوص تغييرت ، وتحديدا تغييرا معرفيا .
ويسترسل روجر ويبين أن الأعمال المكتوبة بنيت مع قدوم المخطوطة على أساس شكلها المادي ؛ على سبيل المثال، فى زمن اللفائف كان العمل المكتوب تحمله عدة لفائف ، الآن فى المخطوطة يقسّم الكتاب الذى يحمل العمل المكتوب إلى أجزاء أو فصول تضم كل العمل . بنفس الطريقة، إمكانيات و شروط الكتاب الإلكتروني تستدعى إعادة تنظيم التركيب الخطيّ والمتسلسل فى الكتب المعاصرة، التى ما زالت تعتمد على شكل المخطوطة. ويبين روجر تشارتير فى مقاله ان الصيغة او الفورمات الإلكترونية للنص الإليكترونى hypertext، والقراءة الإليكترونية hyper-reading غيرت وعدلت العلاقة بين الصور والأصوات والنصوص المرتبطة إلكترونيا، بطريقة لا خطّية، وجعلت من ممكن عمليا وجود عدد غير محدود من الارتباطات بين النصوص ، وأعتبر الروابط والصلات هى المفتاح في هذا العالم النصّي الغير محدود ، حيث تفتت الوحدات النصّية يسهل القراءة، ويمكن من ضمها سويا. وهكذا طرحت النصوص الإليكترونية مفهوم وفكرة الكتاب ذاته للمناقشة، لأن الفرد يميل في الثقافة المطبوعة إلى ربط بين نمط الكتابة و نمط النصّ واستعماله المستهدف ، وكذلك ترتيب وتسلسل المعالجة المكتوبة تعتمد على الوسط المادي الذى يحملها ، سواء كانت تلك المعالجة رسالة أو صحيفة أو مجلّة أو كتاب أو أرشيف. وهذا ليس الحال في العالم الرقمي حيث كلّ النصوص بغض النظر عن طبيعتها، تقرأ في نفس الوسط (شاشة الحاسوب) وفي نفس الأشكال. وهذه 'الاستمرارية' خلقت عدم وجود اختلافات بين الأنماط والأدوار الفنية للأساليب النصية المختلفة .
خصائص ملكية النصوص:
وطالب روجر تشارتير فى محاضرته بإعادة تنظيم عالم الكتابة الرقمية كشرط ضروري وتمهيدى للوصول إلى الإنترنت المدفوع ، حماية لحقوق المؤلف الأخلاقية والاقتصادية . هذه الشروط مستندة على ضرورة التحالف بين الناشرين والمؤلفين، وهذا التحالف من المحتمل سيؤدّي إلى تحويل عميق فى العالم الإلكتروني الذى نعرفه الآن ، حيث ستتضاعف كفاءة الأنظمة الأمنية الإليكترونية التى تستهدف حماية الكتب الإليكترونية وقواعد البيانات، وتصبح هناك إمكانية اختيار وتجليد والتصديق على النصوص المطبوعة إلكترونيا . وسوف تزداد المعارضة للمجّانية والتلقائية الذي تسمح لكلّ شخص لتوزيع أفكاره وأعماله على الشبكة. وقد يؤدى ذلك إلى الهيمنة الاقتصادية والثقافية لشركات المليتميديا وشركات الحواسب؛ ونزعم أن هناك جوانب إيجابية لتلك المعارضة يمكن أن تساعد على تأسيس وترتيب معالجات كتابية تأخذ في الحسبان الاختلافات الرئيسية بين النصوص التلقائية التى تصدر على الويب، وبين الكتابات الأخرى المحرّرة والمدقّقة ، لأن سلطة أيّ نصّ معطى يحدد مصدره ومنزلته على أساس شروط 'نشره'. مثل هذا النظام مطلوب لمواجهة الطبيعة العشوائية للمعلومات التى نحصل عليها بمحرّكات البحث . ومن ناحية أخرى يمكن في المدى البعيد، ان ينقلب عالم التقنية الرقمية على رأسه . وتنشأ إمكانية فصل إرسال النصّ الإلكتروني عن الحاسوب سواء كان كمبيوتر شخصى او نقال ، أو 'كتاب إلكتروني' ،من خلال اختراع الحبر و'الورقة' الإلكترونية! لقد طور الباحثون تقنية لتحويل أيّ جسم بما فى ذلك الكتاب كما زلنا نعرفه ليصبح وسيطا لكتاب إلكتروني أو مكتبة إلكترونية، ومجهّزا بمعالج دقيق أو يتم إنزاله من على الإنترنت، وتتقبل صفحاته الحبر الإلكتروني الذي يسمح لنصوص مختلفة بظهور بالتوالي على نفس السطح ، وهكذا يمكن للنصوص الإلكترونية ان تعتق من قيود حبسها المتأصّل على الشاشات كما تعودنا ، ويساعد هذا التقدم التقنى كما يقول روجر على فصل الرابطة بين تجارة الآلات الإلكترونية والنشر على الإنترنت ، والذي يعتبر مصدر ربح للبعض . حتى بدون تخيّل هذه الفرضية للمستقبل ، نسجل هنا اندهشنا ونتساءل هل الكتاب الإلكتروني في شكله الحالي سيكون قادر على جذب أو إنتاج القرّاء؟! والإجابة نجدها فى المقال الذى يبين إنّ التأريخ الطويل للقراءة يكشف بشكل واضح بأنّ الثورات في تبنى وممارسة المستحدثات تتخلّف دائما، وأبطأ في أغلب الأحيان من الثورات في التقنية نفسها ، فالطرق الجديدة للقراءة لم تتبع فورا اختراع الطباعة ، بنفس الطريقة، فئات المثقفون المختلفة التي ارتبطت بعالم النصوص الورقية ، سوف تعانى وتبقى وتستمر مع الأشكال الجديدة للكتاب. وهنا من المفيد تذكير القارئ ، بعد اختراع المخطوطة واختفاء اللفائف ،أستمر للكتاب نفس المعنى الذى كان مقصود وهو المعالجة الكتابية المطولة . علاوة على ذلك، فان الثورة الإلكترونية، التى تبدو عالمية تعمق التباينات، بدلا من تخفيضها، فزادت فرص ظهور 'أميّة' جديدة ، والتى لم تعد تعرّف بعدم القدرة على القراءة والكتابة ، ولكن باستحالة التمكّن من الدخول والوصول والنفاذ إلى الأشكال الجديدة لإرسال وتوصيل النصوص الإليكترونية ، و على أقل تقدير يمكن القول ، ونتفق هنا مع روجر ان تلك الإشكال الجديدة ليست مجانية بعد ، والمراسلة الإلكترونية بين المؤلفين والقرّاء والتى تسمح بأن يصبح المؤلفين منفتحين باستمرارّ على تعليقات وتدخّلات القراء ، تسمح أيضا بإقامة علاقة بين المؤلف والقارئ ، تلك العلاقة التى كان المؤلفون يطمحوا فى إنجازها مع الكتاب المطبوع وقبل العصر الإليكتروني ، و الآن أصبحت العلاقة بينهما أكثر حواريه ، وأكثر مباشرة بين العمل وقراء العمل ، وهى فرصة جذّابة أيضا، لكنّ ذلك ، يجب الا يجعلنا ننسي بأنّ القرّاء والمؤلفين للكتب الإلكترونية ما زالوا قليلو العدد جدا، وتبقى الفجوة عظيمة بين الوجود الاستحواذي للثورة المعلوماتية وحقيقة الواقع لممارسات القراءة ، التي ما زالت مرتبطة بالأهداف المطبوعة والتي تسمح بالاستعمال الجزئي فقط للإمكانيات المتولدة بالتقنية الرقمية. ويحذر روجر ويقول :يجب أن نكون واضحين بما فيه الكفاية و لا نأخذ ما هو تخيليّ كأنه حقيقة وواقع فعلى . ان الثورات المختلفة في الثقافة المكتوبة كانت تحدث فى الماضى بطريقة مجزأة وغير واضحة ، الآن أصبحت تلك الثورات آنية ومتزامنة ، وإنّ ثورة النصّ الإلكتروني هى في الحقيقة ثورة في تقنية وإعادة إنتاج النصوص ، وهى ثورة في وسائط وأدوات الكتابة، وثورة في ممارسات القراءة، وتتميّز بثلاث ميزات رئيسية لها تأثيراتها العميقة علىعلاقتنا بالثقافة المكتوبة. أولا، التمثيل الإليكترونى للكتابة عدل مفهوم سياق الكتابة بشكل جذري، وكنتيجة لذلك تغيرت بنية المعنى . فالتلاصق المادى للنصوص المختلفة المجمعة في كتاب واحد أو في مجلة دورية تفسح المجال لتوزيعها النقّال ، ولبرمجتها في أرشيفات معمارية من قواعد البيانات وتحوّلها إلى تجمعات رقمية . ثانيا التمثيل الإليكتروني للكتابة أعاد تعريف الخصائص المادية للأعمال ، لأنها ذوّبت الرابطة المرئية بين النصّ والجسم الذي يحتوي النصّ، ولأنها أيضا أعطت القارئ، وليس المؤلف أو الناشر سيطرة أكبر على بنية النص فى إعادة ترتيبه وتبويبه وتنسيقه لظهور الوحدات النصّية التي ستقرأ. وهكذا تغيير تماما النظام الكامل لفهم وإدراك ومعالجة النصوص. ثالثا وأخيرا، عند القراءة على الشاشة، يعود القارئ المعاصر بعض الشّيء إلى موقف قارئ العصر القديم، والاختلاف بأنّه يقرأ لفيفه تجرى عموما بشكل عمودي و موهوبة بالخصائص المتأصّلة فى شكل الكتاب منذ القرون الأولى من العصر المسيحي: تقسيم الوثيقة وترقيمها ، والفهرس، والجداول والقوائم ، الخ، وبذلك تكون الكتابة الإليكترونية دمجت بين نظامين سابقين وهما المخطوطة والكتاب المطبوع وأدت إلى علاقة كلية أصيلة مع النصوص . ويستمر روجر ويقول ان هذة التحويلات أعطت النصوص الإلكترونية أصالة القديم ، لكنها أبدا لم تنجز خيال المعرفة الكاملة بتوفر كل النصوص التى كتبت وكل الكتب التى نشرت فى صورتها الإليكترونية ، مثل ما يأملون فى مكتبة الإسكندرية، ويعدون بتوفير كل النصوص والكتب العالمية . وكما هو الحال مع ممارسة بلاغة الخطابة فى الأماكن العامة في عصر النهضة حيث يتشارك الحضور مع الخطيب ، يطلبون الآن تعاون القارئ ، الذى يستطيع الآن ان يكتب في الكتاب بنفسه، ويدخل على الأقل مكتبة من الكتابة الإلكترونية ، يناقش ويجادل بحرية بدون قيود . وكما هو الحال في عصر الطباعة، نجد ان عصر النصوص الإليكترونية مفعم و مشحون بالتوتّرات الرئيسية المستقبلية القابلة للتخيل بقوة أكثر : مثل انتشار المجتمعات المحلية المنفصلة، والتى تعرّف باستعمالها للتقنيات الجديدة؛ ظهور قوة قبضة الشركات المتعددة الجنسيات على قوانين قواعد البيانات الرقمية وإنتاج أو توزيع المعلومات؛ بروز مؤسسات عالمية عامة ، تعرّف باشتراك كلّ أعضائها في تبادل وجهات النظر النقدية ، فالاتصال المجّاني والفوري من على بعد جعل من الممكن من خلال الويب ان تلد أي من هذه الحالات. لكن هناك أيضا آثار سلبية يمكن أن تؤدّي إلى خسارة الخصوصيات ، وبالتالى تسبب هيمنة نموذج ثقافي واحد ، إلى تدميّر التنويع الثقافى. ومن الناحية الأخرى، ربّما أيضا تؤدّي إلى نمو شكل جديد من بنية المعرفة، وتضيف إلى نقل العلوم القائمة ، وبناء تجميعات للمعرفة من خلال تبادل الخبرة والحكمة، من خلال المراسلات أو المجلات الدورية الإليكترونية.
المكتبات في العصر الرقمي :
ويتراجع روجر فى الجزء الاخير من مقاله ويقول : الوسيط الجديد للكتابة لا يعني نهاية الكتاب أو موت القارئ. العكس ذاته قد يكون صحيح!! بشرط إعادة توزيع الأدوار ضمن "اقتصاديات الكتابة" والمنافسة (أو التكامل) بين أجهزة الإعلام المختلفة، و ضمن العلاقات الجديدة بين المواد الثقافية وأشكالها الجمالية فى عالم النصوص. ويتعجب روجر من ان النصوص الإلكترونية قد تكون قادرة على بناء بنية أساسية للتبادلات المكتوبة عبر فضاء عامّ تسمح فيه لكلّ شخص بالمشاركة. والسؤال الذى تطرحه المقالة فى النهاية عن كيفية تحديد دور المكتبات ضمن هذه التحولات العميقة فى الثقافة المكتوبة ؟! وتناقش الإجابة إمكانيات التقنية الجديدة فى القرن الحالى بالتغلّب على التناقضات التى طاردت دائما علاقتنا بالكتاب ، مثل حلم المكتبة العالمية تعبيرا عن الرغبة فى الإمساك وتجميع واختزان كل تجميعات النصوص المكتوبة القديمة والحديثة ، وعلى مستوى كلّ المعارف المبنية . لكن الإحباط والتوتر رافق هذه التوقّعات العالميّة. وقد يفهم ذلك ضمن سياق المواقف نحو الكتابة طوال التاريخ ، فقد بنى هذا التوتر على أساس الخوف من الخسارة والعجز ، وحكم هذا التوتر والخوف كل الأعمال التى وظفت فى حماية تراث الإنسانية المكتوب مثل البحث عن النصوص القديمة، ونسخ الكتب النفيسة ، وطباعة المخطوطات ، وبناء المكتبات العظيمة ، وتجميع دوائر المعارف والموسوعات ، وفهارس وأدلة النصوص . وفسر روجر ذلك التوتر بأن النصوص معرضة دائما للاختفاء ، و تستلزم دائما حفظها وصيانتها ، وان تلك المهمة لا تنتهي، لمواجهة الزيادات فى تلك النصوص ، من خلال عمليات إعادة إنتاج المخطوطات، والتى عرفت فيما بعد بطباعة الكتب ، وساعد ذلك على وجود فيض من النصوص اقرب إلى الفوضى، وانبثقت وفرة تستطيع إعاقة المعرفة ، لكن الآلات والمكينات قادرة الآن على فرز وتبويب وتصنيف وترتيب النصوص وهو ما نحتاجه للسيطرة على الزيادات الدائمة فيها ، حيث يشارك فى تلك العمليات: المؤلفون بأنفسهم الذين يحكمون على نظرائهم وأسلافهم، السلطات التى تقوم بدور الرقابة والدعم ، والناشرون الذين ينشرون (أو يرفضون النشر)، والمؤسسات التي تخصص وتستثنى ، والمكتبات التي تحفظ أو تهمل وتتجاهل . ان المكتبات اليوم او غدا تستطيع لعب دور حاسم. وفي الحقيقة، بدت الثورة الإلكترونية كأنها إشارة لموت المكتبات ، فثورة الاتصالات ، والنصوص الإلكترونية وفرت التراث العالمي المكتوب ؛ ولم نعد نحتاج المكتبات لتكون المراكز الوحيدة لحماية وتوصيل هذا التراث. فكلّ قارئ، حيثما هو يقرأ، يمكن أن يستلم النصوص ويخلق بها مكتبة بدون حيطان، حيث الكتب والوثائق فى شكلها الرقمى . ويؤكد روجر ان هذا الحلم الجميل ، يجب الا يضللنا ويبهرنا . فهناك جهود ضخمة مطلوبة للتحويل الإلكتروني لكلّ النصوص الموجودة التى لم تنشأ بالحاسبات ، حتى لا تتعرض للدمار . وربّما، أحد المهام الضرورية للمكتبات اليوم أن تجمّع وتحمي وتفهرس كل النصوص التى كتبت فى الماضى ، وتجعلها أيضا سهل الوصول إليها . وعلى مكتبات المستقبل أيضا حفظ النصوص الثقافية السابقة ، والتى تمثل الماضى فى نفس الفورمات التى وجدت عليها ، والا بعد مرور الوقت ستفقد قيمتها الثقافية والتراثية ! والمكتبات يجب أيضا أن تكون الآلات والأدوات التي تساعد القرّاء الجدّد في اكتشاف طريقهم في العالم الرقمي ، ويمكن أن تكون متعاطفة ويقظة مع حاجات و حيرة القرّاء وتستطيع لعب دور ضروري في تعليم الآلات والتقنية التي يحتاج لها القرّاء الأقل خبرة لكي يتقنوا الأشكال الجديدة للكتابة. وكما هو الحال مع وجود الإنترنت في المدارس ، حيث وجودها نفسه لا يبدد الصعوبات الإدراكية المتأصّلة في تعلّم الكتابة، كذلك الاتصال الإلكتروني للنصوص ، فى حد ذاته لا ينقل المعرفة المتطلبة للفهم والاستعمال . كذلك القارىء الذى يبحر فى التقنية الرقمية بحثا عن النصوص يواجه خطر تزاحم وتراكم وتراطم أمواج المعلومات ويحتاج دائما إلى ميناء ترشده ، والمكتبة الحديثة هى الفنار الذى يرشد الملاحين المبحرين فى بحور المعلومات الرقمية . والدور الآخر لمكتبات يوم والغدّ كما يرصده روجر هو إعادة تكوين المؤانسة او النزعة الاجتماعية حول الكتاب، والتى فقدناها ! حيث يعلمنا التأريخ الطويل للقراءة عبر القرون، ان القراءة أصبحت ممارسة صامتة وانفرادية، وعزلت نفسها أكثر وأبعد عن الروح الاجتماعية المشتركة للكتابة التي ساعدت على توحيد العوائل ، والصداقات، والجمعيات العلمية أو المجموعات المناضلة، في عالم تعرف فيه القراءة بأنها علاقة خاصّة وعميقة وشخصية بالكتاب، والمفارقة هنا ، ربّما، منذ عصور القرون الوسطى، ان المكتبات تطلب دائما من القرّاء ان يلتزموا الصمت . والخلاصة أن دور المكتبات فى العصر الإليكتروني هو حماية الميراث المكتوب والإبداع الثقافي والجمالي.