إن الحديث عن الثقافة العلمية والتكنولوجية يعني الحديث عن مصطلحات كثر حولها الجدل. فالثقافة بمعناها المتداول ليست مصطلحاً أصيلاً في اللغة العربية، وقد تاه المترجمون والباحثون بين الثقافة والحضارة والمدنية. وأما العلم والتكنولوجيا فقد تعددت تعريفاتهما كما اختلف العلماء في أيٍ منهما يعتبر الأساس للآخر.
وعليه، فإن الأمر يتطلب منا التركيز على روح المفهوم وتجنب القضايا الجدلية والخلافية، لنصل إلى الهدف الرئيسي الذي نسعى لتحقيقه، ألا وهو: وضع النقاط على حروف الثقافة العلمية والتكنولوجية التي أصبحت تتغنى بها دول العالم وتتنافس فيما بينها في مستوى تلك الثقافة لدى أبنائها، من مختلف الأعمار والأجيال، ومدى قدرتهم على اللحاق بركب التطور ومواكبة روح العصر.
فثقافة الفرد صفات يكتسبها بحيث تلتصق به وتميزه عن غيره من أفراد مجتمعه. وهي مؤشر على نموه وتطوره عضوياً، واجتماعياً، ووجدانياً، وعقلياً... الخ، لأنها هي التي تمكنه من أن يحيا حياته الطبيعية، كما تمكنه من التفاعل مع الحضارة الإنسانية. ولا يتأتى ذلك إلا لإنسانٍ قادرٍ على التطور اجتماعياً بما يكفي لأن يلتقي مع ذاته أولاً ومع محيطه الاجتماعي ثانياً. وإذا أُضيفت كلمة (ثقافة) إلى فن أو علم أصبحت مَلَكَةٌ فيه.
{sidebar id=6}يهتم العلم بالأفكار عن الأشياء وعن الكون والطاقة وعن تفسيرات للظواهر الطبيعية وغموضها. أما التكنولوجيا فهي فرع العلم الذي يهدف إلى التحكم في الأشياء والظواهر؛ أي أنه مسعى عملي لإخضاع الطبيعة لسيطرة الإنسان واستخدامها لصالحه. بهذا يكون العلم قد تكرس لخدمة المجتمع، كما أن تطور أحدهما سوف يسهم في نمو الآخر وتطوره (عبد الله، 2000).
أما بخصوص مكونات الثقافة العلمية والتكنولوجية، أو أبعادها، فيرى الباحثون بأنها تتضمن العلم كجسم للمعرفة ومدى استخدامات المعرفة العلمية في السياسات العامة، وطبيعة العلم وحدوده (كطريقة للبحث والتحقق والتفكير والاستقصاء)، والمفاهيم والمبادئ الأساسية للعلم، التطبيقات التقانية للعلم وعلاقات التفاعل بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع والبيئة، وما يتضمنه من قيم العلم، ومدى إسهامه في عمليات اتخاذ القرارات في مختلف القضايا المجتمعية.
وتحتم المسؤولية الوطنية ضرورة العمل على نقل هذه المكونات من نطاق النصوص المجردة والجامدة إلى تطبيق على أرض الواقع لتتجسد في صيغها المادية العملية. فالتطور التقني، ونجاح الأنشطة العلمية والبحثية مرتبط، جدلياً، بإرادة جماعية تعي كيفية الاندفاع إلى الواجهة الاجتماعية، والثقافية، والفكرية.. بهذا يصبح الإنتاج العلمي، والتفكير العلمي معلماً ثابتاً في الممارسات والتعاملات ونمط حياة ينطبع به المجتمع في حياته اليومية. فالشخص الـ "مثقف علمياً" يتعامل مع القضايا العلمية تماماً مثل الشخص المثقف في الشؤون السياسية، والقانونية، والاقتصادية (Hobson, 2004)، لأن الثقافة العلمية تشبه الموسيقى؛ فالانسان يتمتع بالموسيقى دون أن يكون متخصصاً فيها.
وهذا يعني أن الثقافة العلمية مطلوبة من أجل إعلام المواطنين بدورهم عند ارتباطهم بمجريات الحياة السياسية والعامة للدولة، كما أن المعلومات الخاصة بالأمور التقنية والعلمية مطلوبة بشكل أكبر لصانعي القرار في أعلى المستويات خصوصاً عند إصدار أو وضع ميزانيات لتنفيذ عدد من المشاريع مثل شبكة طرق جديدة أين ستكون وكيف؟ أو مثلاً بين اختيار نوعية معينة من مصادر توليد الطاقة الكهربائية، أو المائية، أو البترولية، أو النووية، وكيفية حماية البيئة، ومصادر المياه (وترشيد استهلاكها)، واستثمار المصادر المعدنية والبحرية، ووقاية الغابات والمراعي والشواطئ واستغلالها (طرابزوني، 2000).
ونتيجة لتطور الاهتمام بالثقافة العلمية أصبحت تحتل مكانة بارزة في تدريس العلوم لكافة المراحل الدراسية في الوقت الحالي، وأصبح تطور الثقافة العلمية، وبالتالي إيجاد المواطن المثقف علمياً، هدفاً رئيساً من أهداف تدريس العلوم. ومن أهم ما تهدف إليه الثقافة العلمية هو أن يطور الطلاب فهماً لطبيعة العلوم يساعدهم على الاحتفاظ بالمفاهيم العلمية في حياتهم العملية كمواطنين صالحين في بلدهم (البرغوثي وزملاؤه، 2003).
وقد شهدت الثمانينيات من القرن الماضي فترة الضغط من أجل إصلاح التعليم، عندما ظهرت أعداد ضخمة من التقارير التي تركز الانتباه إلى فشل التعليم بشكل عام، وفشل تعليم العلوم والرياضيات بشكل خاص، من أجل إعداد الطلبة الأمريكان للقرن الحادي والعشرين. وأدت تلك الجهود إلى التأثير لتحسين الوضع في مجالات مختلفة منها تعليم العلوم بخاصة تاريخ العلم وطبيعته والتكنولوجيا. وقد أدى هذا الوضع، في مجمله، إلى ما يلي:
الاندفاع لتحقيق تحسين عام في الثقافة العلمية.
ولادة جديدة للاهتمام في تاريخ التعليم.
نمو نزعة قوية نحو تكامل مكونات العلم-التكنولوجيا-المجتمع في البرامج المدرسية المعاصرة. (Bybee, 1991)
وعليه، فقد أدركت الدول المتقدمة أهمية الثقافة العلمية لأبنائها، إذ قامت بإعداد العديد من برامج التربية العلمية، بما في ذلك برامج تطوير مناهج العلوم، بهدف نشر الثقافة العلمية ومحو الأمية العلمية بين أبنائها. ومثال ذلك برنامج 2061 الأميركي، ويهدف الى رفع مستوى الثقافة العلمية بين جميع الأمريكيين Project 2061, 2000)). كما قامت كل من الولايات المتحدة واليابان وأوروبا الغربية بتطوير سياسات داعمة للنهوض بالسياسات التكنولوجية (Mowery, 1994). كما طرحت الوكالة اليابانية للعلوم والتقنية برنامجاً لتمويل الأبحاث في الجامعات، بالاضافة إلى برامج لدعم الإبداعات العلمية منذ العام 1981م يهدف الى زيادة الوعي العلمي والتقني لدى عامة اليابانيين، بخاصة الأطفال والناشئة، والذي يتضمن مهرجانات علمية وإنشاء مكتبات فيديو علمية وبناء متاحف علمية (Hemmert, 1998).
أما على مستوى الوطن العربي فعندما طلبت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 2002 إعداد تقارير قطرية من قبل الدول الأعضاء فيها، عن حالة نشر الثقافة العلمية والتقانية في كل منها فلم تتلق المنظمة سوى سبعة تقارير قطرية أغلبها غير مستوفاة، ومع ذلك فقد ظهر من كل التقارير والمعلومات المتاحة الحقائق التالية:
إن الدول العربية لا تزال تفتقر إلى الإعلام العلمي والتقاني الهادف والمؤثر من خلال وسائل الإعلام المختلفة، والذي يعكس مدى التقدم العلمي والتقاني الجاري في العالم، وأثره على التقدم العلمي والتقاني للمجتمع العربي.
إن وعي المجتمع العربي بأهمية الثقافة العلمية والتقانية محدود.
إن هناك اهتماما ضعيفا بالثقافة العلمية والتقانية في الدول العربية.
ندرة الاهتمام بالتعاون والتنسيق بين الجهات ذات العلاقة بتبّني الثقافة العلمية والتقانية
في الدول العربية وبالذات في مجال التنمية البشرية.
قلة الدراسات المعمقة لمعالجة الأمية الإلكترونية المعاصرة.
طالما أن هذا هو حال الوطن العربي، وفلسطين جزء منه، ولكي لا نعمق الإحباط الناجم عن الفجوة المذهلة بيننا وبين الإسهام في الحضارة الإنسانية التي نعتبر نحن الأسرع في شراء نتاجها والصرف عليه، وليس الأسرع في التحسين والتطوير.. لذلك ولغيره من الأسباب فقد ارتأيت الإشارة إلى مجموعة من التوصيات التي تنقل الثقافة العلمية والتكنولوجية في فلسطين من مجرد الترف الفكري، على الورق حتى اللحظة، إلى فعلٍ على الأرض يسهم في تعزيز روح المواطنة لدى أبنائنا ورفع مستوى الإسهام في التنمية، وهي:
أن يتبنى صانعو القرار والمعنيون بتطوير اقتصاد المعرفة حقيقة أن الثقافة العلمية والتكنولوجية، بأبعادها كافة، كمحور رئيسي في تنمية الأفراد، وبالتالي فهي التنمية الشاملة للمجتمع.
اعتبار الثقافة العلمية من أهم أهداف تدريس العلوم، بحيث يتم التركيز على جميع أبعادها، وليس التركيز على بعد المعرفة العلمية فقط. وضرورة تضمين برامج إعداد معلمي العلوم ومعلمي المرحلة الأساسية الدنيا في كليات التربية بمساق أو أكثر يهدف إلى تنمية الثقافة العلمية لديهم. بالإضافة إلى تأهيل معلمي العلوم في المدارس وتطويرهم وتشجيعهم على تنمية الثقافة العلمية لدى طلبتهم، وذلك بالابتعاد عن أساليب المحاضرات النظرية القائمة على التلقين، بل توظيف طرق وأساليب ومداخل تدريسية مختلفة، داخل الصف وخارجه.
أن تتبنى الجامعات الفلسطينية إضافة مقرر (مساق) لطلبتها، باختلاف تخصصاتهم، خالٍ من الرياضيات والمعادلات المعقدة، يهدف إلى تنمية الثقافة العلمية بجميع أبعادها، يكون قادراً على توفير المعرفة العلمية بمستوياتها المختلفة، وينمي اتجاهات الطلبة نحو العلم والعلماء، ويبين لهم طبيعة العلم، ويعزز لديهم قناعات راسخة تشكل جزءاً من ثقافتهم حول علاقات التفاعل بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، ودور العلم في معالجة القضايا المصيرية، كالبيئة وغيرها، التي تتحكم في واقعهم والقادرة على توفير حياة كريمة للأجيال القادمة.
أن يتم تدريس المساق المقترح على قاعدة تكامل العلوم والمعارف وفق المفهوم الشامل للتربية، أي بعيداً عن الأسلوب التقليدي المعتمد على "ضخ!" المفاهيم والنظريات بهدف حفظها وتفريغها على الورق في نهاية المساق لينتهي الأمر بمجرد علامة يحصل عليها الطالب. بل يُعتمد في تدريسه على مناهج البحث العلمي التي تدفع الطالب إلى بحور العلم والمعرفة لينهل منها بمتعة وشغف، وبما يحول المعرفة العلمية إلى سلوك دائم يمارسه في حياته اليومية ويكون قادراً على تربية أبنائه بما يجعله مصدراً ملهماً لرفع مستوى ثقافتهم العلمية.
أن تقوم الدولة والجامعة والمدرسة بإنشاء المؤسسات المختلفة التي تسهم في رفع مستوى الثقافة العلمية بين أفراد المجتمع، مثل: الأندية، الجمعيات العلمية، المكتبات العامة والخاصة، وسائل الإعلام المتخصصة بشأن الثقافة العلمية كالمحطات التلفزيونية، والمجلات والصحف، وتخصيص صفحات خاصة بالثقافة العلمية في الصحف المحلية التي تحظى بانتشار واسع بين الجمهور.
أن تسهم المؤسسات المقترحة أعلاه في التصدي لمظاهر الشعوذة واللاعلم وانتشار أدعياء العلم التي تحاول غزو عقول أبنائنا وفتياتنا، على حساب المفاهيم العلمية الصحيحة التي تشكل، في مجموعها، ثقافة علمية لهم تعزز من دورهم في البناء والتنمية. لكي يمكن التصدي لعناصر الجهل والتخلف التي تحاول اختراق شبابنا لجعلهم تحت سيطرة الجهلاء والمشعوذين.
حث الطلبة وتوجيههم للمكتبة المدرسية أو الجامعية أو المكتبات العامة أو في الأسواق، وتوفير الكتب والمراجع التي تعالج أبعاد الثقافة العلمية، وتشجيعهم على المشاركة في المسابقات العلمية والندوات والمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية حول العلم والمعرفة العلمية ودَوْر العلم في معالجة القضايا المجتمعية الملحة. وما يتطلبه ذلك من توفير المختبرات، والمواد والأدوات المعدات اللازمة للاسهام في رفع مستوى الثقافة العلمية لكل من الفرد والمجتمع.
ضرورة طرح مساقات خاصة بالإناث تتعلق بجسم الأنثى وما يحتاجه من رعاية لكي تتمكن من أن تأخذ دورها اتجاه نفسها، من خلال معرفتها الذاتية، عند الزواج وعند الحمل والولادة وتربية النشء الذي سيحمل الوطن ويدافع عنه بوعيه وإدراكه.
أن يقوم واضعي المنهاج بالمراجعة بإعادة التفكير في كيفية عرضه للوحدات المختلفة وتدريسها، بما يضمن ربط العلم بحياة الفرد والمجتمع، مع ضرورة إبراز مساهمة العلم في حل مشكلات المجتمع، لكي لا تبقى الأجيال القادمة محرومة من فهمها واستيعابها.
ضرورة تفعيل دور الأسرة في رفع مستوى الثقافة العلمية لدى الأبناء، خلال وجودهم في البيت، من خلال حث الآباء على متابعة اهتمامات أبنائهم بمصادر الثقافة العلمية وتوجيههم نحوها، وحثهم على احترام العلماء، والتأكيد على أهمية العلم في حياة الفرد والمجتمع والإنسانية جمعاء.
وأخيراً، لا بد من إجراء الدراسات الكافية لتشخيص واقع ومستوى الثقافة العلمية والتكنولوجية لكل من الطلبة والمعلمين وأساتذة الجامعات والمجتمع الفلسطيني، بشكل عام، من أجل وضع الصيغ العلاجية التي تجعل من الثقافة العلمية والتكنولوجية ركيزة هامة من ركائز المواطنة والتنمية المستدامة، بدلاً من أن تبقى مجرد مفاهيم نظرية على رفوف المكتبات وفي أذهان الباحثين والدارسين.
المصادر والمراجع:
استراتيجية نشر الثقافة العلمية والتقانية في الوطن العربي، وهي من إعداد: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع فريق متخصص وجمعية الدعوة الاسلامية العالمية واللجنة الوطنية المصرية، ص14.
البرغوثي، عماد أحمد، وجبر، أحمد فهيم، وأبوسمرة، محمود، أحمد، وأبوعيسى، مازن سعيد، والياس، الياس (2003). مستوى الثقافة الفلكية لدى طلبة الصف الثاني الثانوي في محافظة القدس، مجلة اتحاد الجامعات العربية، عدد 42.
طرابزوني، د. محمد بن أحمد (2000م). الأميــــة العلمــــيــــة ، مجلة العلوم والتقنية العدد 55، تصدر عن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. أنظر:
www.scienceclub.8m.com/omiah.htm
عبد الحميد، طلعت (2003). مشكلات الأمية في الوطن العربي وبخاصة الأمية العلمية والتقانية. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. إدارة العلوم والبحث العلمي. مشروع إعداد استراتيجية عربية لنشر الثقافة العلمية والتقانية في الوطن العربي.
عبد الله، حسام، (2003). طرق تدريس العلوم لجميع المراحل الدراسية. دار أسامة للنشر والتوزيع. عمان، الأردن. ط1.
American Association for the Advancement of Science. Project 2061. Science Literacy for a Changing Future. [Online.] Available: www.project2061.org/ [January 2000].
Bybee, R. W., Powell, J. C., Ellis, J. D., Giese, J. R., Parisi, L. S. and Singleton, L. (1991). Integrating the history and nature of science and technology in science and social studies curriculum. Science Education, 75 (1): 143 - 155.
Hemmert, M. and Oberl̀eander, C. (1998) Technology and Innovation in Japan: Policy and Management for the 21st Century. Routledge. P 81 and P 232.
Hobson, A. (2004). Review: Science Literacy in 21 Century. Physics in Perspective (Phys. Perspect. 6 (2004)). Birkhauser Verlag, Basel.
Mowery, D. C. (1994) Science and Technology Policy in Interdependent Economies, Summary. Springer ISBN 0792394224