عند إصداره لكتابه " نهاية التاريخ والإنسان الأخير " سنة 1992 [1] لم يكن " فرنسيس فوكوياما " ، المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني بمعزل عن تيار كامل أخذ على عاتقه مهمة التبشير لما اصطلح على تسميته اليوم " بالعولمة " ( La globalisation ) La mondialisation ) ) [2] . ورغم أن " فوكوياما " لم يشأ ذكر العولمة بالاسم إلا أنه لخص جوهرها القائم على تمجيد النموذج الليبرالي – وخاصة الأمريكي منه – ونظر لفكرة المواطن النموذجي ( الإنسان الأخير ) الذي سينعم على حد تعبيره في ظل الديمقراطية الغربية الرأسمالية بالرخاء المادي والمعنوي ( الحقوق المدنية والسياسية ). ولعل لتوقيت صدور هذا الكتاب كما لغيره من الكتب المشابهة أكثر من خلفية إذ جاء مباشرة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي بزعامة الإتحاد السوفياتي سابقا ومع بدايات الترويج لما يعرف باسم " النظام العالمي الجديد " وعبر استثمار لا نظير له للمنظومة الرقمية المعلوماتية .
ورغم أن إرهاصات العولمة كانت في المجال الاقتصادي باعتبارها " حركة يراد بها تعميم اقتصاد السوق والتبادل الحر لجميع البضائع والسلع " إلا أنها سرعان ما كشفت عن حقيقتها كظاهرة " شمولية " تبشر بانبعاث نظام اقتصادي ، اجتماعي ، ثقافي وأمني سياسي موحد وتسعى إلى تعميم نمط حضاري معين على بقية بلدان العالم وفي مقدمتها ما اصطلح على تسميته " بالدول النامية " .
ومنذ ذلك الحين تتالت الكتابات الباحثة في ماهية العولمة وأبعادها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الأفراد كما على المجتمعات والأنظمة . وقد تعددت محاولات تعريف العولمة وخاصة خلال العقد الأخير من القرن الماضي دون الوصول في نهاية المطاف إلى مفهوم جامع ومتفق عليه ، ولعل ذلك لا يرجع فقط إلى تعقد هذه الظاهرة وارتباطها بأكثر من مجال بل كذلك إلى الخلفيات الفكرية و الإيديولوجية لمن اهتم بدراستها. [3]
وعموما أصبحنا نسمع اليوم عن أشكال عديدة ومتعددة للعولمة كالعولمة الاقتصادية والعولمة السياسية والعولمة الثقافية والإعلامية وصولا إلى عولمة التربية والتعليم .
وبعيدا عن الحكم على العولمة أو لها باعتبارها مسألة خلافية يتقاطع فيها العلمي بالقيمي والمادي بالأخلاقي سنحاول تعريفها (1) ومن ثم رصد تأثيراتها المتوقعة على العملية التربوية (2) لننتهي إلى الحديث عن آليات الحماية (3) .
(1) – مفهوم العولمة :
أ / - ما العولمة ؟ :
جاء في الموسوعة الرقمية الحرة " ويكيبيديا " ( Wikipedia ) أن العولمة في اللغة تعني " جعل الشيء عالمي الانتشار في مداه أو في تطبيقه " . وفي اعتقادنا يبقى هذا التعريف غير دقيق [4] باعتباره خلط بين مفهوم العالمية " كطموح مشروع للارتقاء بالخصوصية إلى الكونية والتفتح على ما هو عالمي " وبين مفهوم العولمة التي تعني " تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليغزو العالم كله ". [5]
أما اصطلاحا فقد عرفت العولمة " كتيار فكري واقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي انبثق عن تغيرات جغرا سياسية مفصلية [6] توجت بانتهاء عصر الثنائية القطبية وتربع الرأسمالية على مسرح الأحداث العالمية .
وإذا كان " برهان غليون " و" سمير أمين " يعرفان العولمة بكونها " ميل لتوحيد القيم وأنماط السلوك وطرائق الإنتاج والاستهلاك " فإن السياسي الأمريكي " جيمس روزناو" يعرفها انطلاقا من ثلاثة أبعاد ، الأول يتعلق بحرية تبادل المعلومات والأفكار ونشرها حتى تصبح ملكا مشاعا للجميع والثاني يتعلق بضرورة إزالة الحدود الجغرافية – ومن ثم الحواجز الجمركية - والثالث يهدف إلى زيادة التماثل بين الجماعات والمجتمعات .
يتضح جليا من خلال هذه التعريفات وغيرها كيف أن من قرؤوا العولمة إيجابيا لخصوها في معان نبيلة وعبارات جذابة من قبيل الحرية ، العقلانية ، إزالة الحدود والتقارب بين الشعوب . وأن من قرؤوها سلبا صوروها على أنها غزو وسلب ورغبة جامحة في التحكم والسيطرة على الآخرين .
ب/ - عولمة التربية :
ظاهريا قد تعني عبارة عولمة التربية ضرورة انفتاحها على التجارب التعليمية العالمية والاستفادة منها قدر الإمكان خاصة في ظل وجود قواسم مشتركة وأهداف متقاربة ، ولكن
أغلب من كتب في هذا الموضوع من الكتاب والمفكرين ومن لهم علاقة مباشرة بهذا القطاع يكادون يجمعون على أن المقصود بعولمة التربية هو محاولة اختراق المنظومة التربوية للدول بغاية التأثير عليها وعلى برامجها وتوجيه أنسقتها وغائياتها بما يخدم مصالح دول بعينها .
وقد كثر الحديث عن "عولمة التربية " وعن " تربية العولمة " خاصة في بداية الألفية الجديدة التي شهدت نزوع عدد من الدول نحو تعديل برامجها التعليمية في إطار منظومة وصفت بالإصلاحية [7] . ومهما تكن وجاهة الأسباب والدوافع التي حركت هذه الأنظمة فإن الحديث عن ضغوط خارجية تقف وراءها بات من الأمور المسلم بها عند الكثيرين وخاصة منهم معارضو تيار العولمة .
ولعل ما عمق هذا الاعتقاد ورسخه هو الكم الكبير من المفاهيم والمصطلحات التي أدرجت مؤخرا في مجال التربية والتعليم من قبيل الحرفية والاحتراف والتأهيل والتكوين والمهنية والتمهين والجودة والتجويد وتحسين المردودية ورفع الأداء والكفاءة والكفاية والنجاعة والجدوى وتبادل المعلومات وإنتاج المعرفة وتحرير المبادرة ...
والأكيد أن لهذه المصطلحات خلفية اقتصادية واضحة وهي مشحونة بقيم السوق وتنم بذلك عن توجهات جديدة في هذا القطاع ليست بمعزل عما يدور من حولنا من تحولات.
لكن هل يعني ذلك تحول المدرسة إلى" سوق للتكوين " وفق متطلبات اقتصادية معينة وتخليها عن وظيفتها الأولى ذات الأبعاد التربوية العرفانية ؟
وهل يعني ذلك أيضا نهاية عصر " القدسية " و" الاستقلالية " التي حظيت بها المدرسة على مر السنين وبداية خضوعها لسطوة رأس المال وتحكم المؤسسة الاقتصادية ؟
يقول الدكتور " جميل حمداوي " مجيبا عن بعض هذه التساؤلات : " استلزم التطور العلمي والتكنولوجي المعاصر.. توفير أطر مدربة أحسن تدريب لتشغيل الآلة بكل أنماطها، مما دفع المجتمع الغربي ليعيد النظر في المدرسة وطبيعتها ووظيفتها وذلك بربطها بالواقع والحياة وسوق الشغل .. ويعني هذا ربط المدرسة بالمقاولة والحياة المهنية والعولمة والقدرة التنافسية المحمومة .." [8]
وهذه الخطوة التي أقدم عليها الغرب منذ منتصف القرن الماضي باتت تستهوي عددا من " البلدان النامية " بما فيها بعض الدول العربية وذلك منذ أوائل هذه الألفية الجديدة في إطار مسايرتها للتحولات العالمية .
وإذا كان تفتح المدرسة على محيطها أمرا مطلوبا خاصة إذا كان القصد منه مواجهة ظواهر مثل الفشل المدرسي والانقطاع المبكر عن التعليم واللامساواة الاجتماعية والفقر والبطالة والهجرة...فإن ذلك يجب أن لا يتم على حساب رسالتها المقدسة أو على حساب وظائفها السامية والنبيلة والتي من أهمها تثمين القيم الإنسانية وقواعد العيش المشترك وترسيخ الوعي بالهوية والمحافظة على الإرث الحضاري وعلى الذاكرة الجماعية وتنمية شخصية الناشئة بكل أبعادها المعرفية والوجدانية ...
والملاحظ أن المجتمعات الغربية – وباعترافها - لم تنجح تماما في المحافظة على الصورة الناصعة للمدرسة كما لم تنجح في تحييدها عن جملة الأخطار التي أضحت تهددها بل بالعكس من ذلك وتحت شعارات " عقلنة المناهج الدراسية " و " تجويد العملية التربوية " زج بها في خضم السياسة الاقتصادية لهذه الدول وظروفها الاجتماعية والتمويلية المتقلبة . لذلك وفي ضوء متطلبات السوق الليبرالية التي لا حدود لها وفي ظل الجشع الصارخ لأصحاب المال الذي كثيرا ما تعكسه حدة الصراعات التنافسية فيما بينهم جاءت مجمل النتائج التي طمح لها الغرب معكوسة ، إذ باسم تحسين المردودية وإعادة الهيكلة وقع إغلاق آلاف المصانع والمؤسسات الإنتاجية وفصل ملايين العمال وحرمانهم من موارد رزقهم القار ، وبدعوى المرونة تم ترحيل وحدات إنتاج بأكملها إلى خارج الحدود بحثا عن التسهيلات الضريبية والعمالة الرخيصة [9] ، وتحت شعار الحرية والليبرالية وقع ضرب الفضيلة والقيم الروحية لتصبح الجريمة والدعارة وتجارة المخدرات والأسلحة أنشطة اقتصادية مثل غيرها من الأنشطة الأخرى وإن كانت القوانين والنصوص تجرمها.[10]
إن مثل هذه النتائج وغيرها تستدعي منا وقفة تأمل قبل الانخراط في منظومة العولمة والتبشير بفوائدها ، فإذا كان الغرب وما يمثله من قوة وسبق في كل المجالات قد عجز عن مسايرة العولمة والحد من آثارها المدمرة فما بالك بدول أقل ما يقال فيها أنها في حاجة دائمة للمساعدة بحكم حجم وطبيعة المشاكل التي تثقل كاهلها باستمرار.
(2) – تأثيرات العولمة على العملية التربوية :
في الحقيقة لا يوجد اتفاق كلي على حجم ونوعية التأثيرات التي قد تنجم عن عولمة التربية والتعليم إذ هناك من يتحدث عن تأثيرات جزئية [11] وإيجابية في أغلبها ستمكن المدرسة من : - تجديد رسالتها و تطوير آلياتها عبر إدخال التعديلات اللازمة والضرورية على أدوات عملها بما يضمن مرونة أكثر في التكوين والتسيير.
- مواكبة النسق المتسارع للتحولات التي يشهدها العالم في شتى الميادين .
- الاستفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم عبر استقراء الاتجاهات الكبرى في مجال التربية والتعليم .
- الرفع من أدائها وتحسين مردوديتها للحد من ظاهرة الهدر المدرسي والانقطاع المبكر عن الدراسة .
- توظيف تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في عمليتي التعليم والتعلم .
- تأصيل قيم الحداثة والتفتح والاعتدال والتسامح وتعميمها .
ولعل ما شجع هؤلاء على الانحياز لتيار العولمة والانصهار في النظام العالمي الجديد هو نجاح النموذج الليبرالي مقارنة مع مختلف النماذج الأخرى التي سادت العالم منذ بداية القرن الماضي .
وفي المقابل هناك من يتحدث عن تأثيرات جوهرية وعميقة ستؤثر سلبا على المدرسة وعلى المنظومة التربوية ككل باعتبار أن أهم ما تطمح إلى تحقيقه العولمة في هذا المجال بالتحديد هو :
- ضرب الأنظمة التربوية في العمق وتكريس أنظمة جديدة تخدم الخيارات الاقتصادية للغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية. [12]
- استهداف الثوابت والقيم الأصيلة كالكرامة والعزة والشرف والترويج لقيم التسامح ونبذ العنف والحوار السلمي وهي قيم يقصد بها فتح المجال للتدخل الأجنبي وشل روح المقاومة لمجابهة هذا التيار الزاحف وتكريس روح الاستسلام عبر تفريغ الهوية الجماعية من كل محتوى أو على حد تعبير الدكتور محمد عابد الجابري " تكريس التطبيع مع الهيمنة لعملية الاستتباع الحضاري الذي يشكل الهدف الأول والأخير للعولمة ".
- الترويج للقيم الاستهلاكية باسم الحرية والحق في الاختيار واتخاذ القرار[13].
- تحويل المدرسة من منارة للعلم والتربية إلى سوق للتكوين وفق متطلبات السوق الرأسمالية وليس وفق الضرورة الوطنية أو تلبية لحاجات المجتمع الحقيقية ، وما الحديث عن الجودة والنجاعة إلا لترسيخ فكرة أن المدرسة تعد لإنتاج " بضاعة " قد تكون مطلوبة أو غير مرغوب فيها وفق متطلبات قانون العرض والطلب .
- مزيد التحكم في العقول والتأثير على الإرادات عبر ربط المؤسسات التعليمية بالانترنيت والترويج لتكنولوجيات الاتصال والواقع الافتراضي والتعلم عن بعد وبذلك يقع الحد من دور المربي في إعداد الأجيال وحصر مهامه وتقليصها قدر الإمكان ليصبح مجرد " همزة وصل " بين المعلومة والمتلقي .
ولعل ما جعل هذا الفريق يخرج من صمته وينبه إلى خطورة العولمة على جميع القطاعات بما فيها قطاع التربية والتعليم هو ظهور عدة بوادر سلبية تصب كلها في اتجاه تدعيم المركزية الثقافية الغربية و استهداف خصوصيات الشعوب الأخرى ورموزها التاريخية والحضارية والترويج المتواصل للنزعة الفردية وقيم الربح السريع على حساب قيم التعاون والتضامن والتماسك الأسري .
(3) – آليات الحماية :
يبدو من الصعب جدا التعرض للعولمة في أي مجال من مجالات تدخلها دون اتخاذ موقف شخصي منها ، إما بالقبول أو بالرفض. وعمليا إذا سلمنا بخطورة العولمة وبآثارها السلبية على الفرد والمجموعة فإن ذلك يعني أننا قد رفضناها جملة وتفصيلا ولكن دون أن يعني رفضنا إياها إلغاء لوجودها ودون أن يكون له تأثير قوي وحاسم على مسارها الجارف باعتبارها أضحت وبشهادة الكل بمثابة ذلك الوحش الأسطوري الذي يهدد بابتلاع كل شيء يقف في طريقه ويحول دون تقدمه [14]. وبهذا المعنى فإن السؤال المطروح اليوم ليس هل نحن مع وجود العولمة أم ضده ؟ - لأنها أضحت حقيقة وتحديا مفروضا علينا – بل ما هي أنجع السبل للاستفادة من موجة العولمة هذه بأقل الأضرار ودون ذوبان في أحشائها ؟
وهنا نكون بصدد البحث عن جملة من الآليات الكفيلة بحماية ما نعتقده جديرا بالحماية كمعالم الهوية و ما يرتبط بها من إرث تاريخي وحضاري وقيمي .
وباعتبار أن محور اهتمامنا هو عولمة التربية فسنحاول تقديم بعض الأفكار التي يمكن إدراجها صلب الحلول الوقائية والتي من أهمها :
- ضرورة البحث عن فهم أعمق للعولمة يشمل كل مستوياتها بما في ذلك المستويات الاجتماعية والثقافية والعلمية والتربوية وذلك اعتمادا على الحقائق والأرقام وبعيدا عن التقييمات الشخصية .
- الاقتناع بأن العولمة كظاهرة لا يمكن فهمها بمعزل عن التحولات الكبرى التي يعيشها العالم في مستهل هذا القرن الجديد – وحتى قبله بقليل – ورغبة بعض الدول في الهيمنة على مصادر الطاقة والانفراد بسلطة اتخاذ القرار. وبذلك فإن المسألة أعمق من مجرد اتخاذ موقف إيجابي أو سلبي من العولمة وأن لب الموضوع يتمحور حول قدرتنا على التفاعل مع مختلف المتغيرات التي تطرأ من حولنا إقليميا ودوليا .
- الإيمان بأن العولمة لا يمكن أن تمثل خطرا إلا على الشعوب والأمم التي تفتقر إلى ثوابت ثقافية وحضارية أما تلك الأمم التي تمتلك رصيدا غنيا منها فإنها ستكون قادرة مع الوقت على الاحتفاظ بخصوصياتها وتجاوز سلبيات العولمة وآثارها الجانبية والتاريخ الإنساني حافل بالأمثلة خاصة إذا ما نظرنا إلى العولمة لا كإيديولوجيا جديدة بل كظاهرة قديمة قدم الإنسان وحضارته. [15] ومن هذا المنطلق فإن السبيل الأمثل للتحصن من سلبيات العولمة هو التسلح بمقومات الهوية الوطنية والانتماء الحضاري .
- إن التمسك بالموروث الديني والأخلاقي والقيمي لا يعني بأي شكل من الأشكال الوقوع في التعصب والتحلي بعقلية تقليدية بل بالعكس يجب أن يتم في ظل عقلية جديدة تؤمن بالحوار وتسعى إلى التفاعل والمثاقفة على حد تعبير الدكتور نبيل راغب .
- العمل على تثمين الذات من خلال الإحساس بالتميز وبالقدرة على الفعل والتأثير حتى نجنب أنفسنا وأبناءنا قدر الإمكان مرارة الشعور بالفشل والإحباط لأن الهزيمة النفسية أمام العولمة والاستسلام لقدرتها هي غاية ما يصبو إليه منظرو العولمة ومروجوها.
- التأسيس لمعالم تربية جديدة قائمة على أسس معرفية حديثة ومفردات فكرية متجددة تأخذ بعين الاعتبار مختلف المستجدات والمتغيرات التي طرأت على المجتمع .
إن الحديث عن عولمة التربية يجرنا جرا إلى التساؤل عن مستقبل المدرسة في ضوء ما يجري من حولها ، فهل ما زالت هذه المؤسسة عصية عن الاختراقات ؟ وهل تزال تملك ناصية العلم والقيم أم أنها أضحت مجرد أداة تنفيذية لجملة من الاختيارات الإيديولوجية ، السياسية والاقتصادية ؟
ليس من السهل بالمرة الإجابة عن مثل هذا السؤال ، لا لأنه يرتهن زمنيا بالمستقبل بل لأن أي جواب عليه سيبقى رهينا لواقع المدرسة نفسها وللأوضاع التي تمر بها ودرجة الحصانة والاستقلالية التي تتمتع بها من قبل ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ولئن لم تعد المدرسة بالضرورة تلك القاطرة التي تقود المجتمع وتوجهه بحكم تدخل أطراف عديدة فيها وتأثيرها المباشر و غير المباشر عليها ، فإن ذلك لا يعد اختراقا مهددا لوجودها ، على الأقل كعربة من عربات قطار المجتمع ، خاصة إذا كانت لا تزال على وعي بالدور المنوط بعهدتها من حيث كونها الحاضن الأول لقيمه والمحافظ الأساسي على تراثه و موروثه الحضاري و الثقافي .
ختاما نقول إنه ليس جديدا على المدرسة أن تكون أداة بيد الأنظمة ، تمرر من خلالها سياساتها واختياراتها الاجتماعية والثقافية و الاقتصادية .. ، فالتفكير السياسي يقترن دوما بالتفكير التربوي والصلة بين المنظومتين السياسية والتربوية قائمة منذ عهد بعيد ، ولكن الجديد أن تدافع المدرسة عن قيم ومثل غريبة عن المجتمع الذي توجد فيه ، والأغرب أن تدافع عن إيديولوجيات وخيارات سياسية واقتصادية من شأنها أن تهدد وجود النظام نفسه.
تلك هي العولمة إذا وتلك هي ضريبتها ...
وحيد رحيم ( تونس )
Fukuyame , Francis : ( La fin de l’histoire et le dernier homme ) Paris , Flammarion , 1992 . .[1]
2 . من أشهر المنظرين لهذا التيار والمدافعين عنه نذكر : " توماس فريدمان " صاحب كتاب السيارة ليكساس وشجرة الزيتون : نحو فهم للعولمة
و سمويل هانتينغتون صاحب كتاب صراع الحضارات .
3. إذ هناك من الكتاب والمفكرين من مجدوا العولمة وبشروا بها بأسلوب دعائي فاضح كـ "فوكوياما " و" فريدمان " وهناك من انتقدها واعتبرها فخا واعتداء صارخا على الديمقراطية وحقوق الإنسان كـ "هانس بيتر مارتن" و "هارالد شومان " كما توجد موجة ثالثة حاولت إثارة جدل موضوعي حولها دون انحياز واضح ولا رفض قاطع كـ " بول كندي " ( صعود القوى العظمى وسقوطها ) و" ألفين توفلر " ( الموجة الثالثة ) و" ميشيل تشوسودوفسكي" (عولمة الفقر ) .
. رغم محاولة الموسوعة التمييز بين مصطلحي" العولمة " و " التدويل " .[4]
. الدكتور محمد بن أحمد ( في مفهوم العولمة الجديدة ) – المجلة العربية للعلوم - العدد 38 . ص 49 . [5]
. انهيار جدار برلين سنة 1989 وانحلال الاتحاد السوفياتي سنة 1991[6]
7. على سبيل المثال ورد بالخطة التنفيذية لمدرسة الغد الصادرة عن وزارة التربية التونسية في شهر جوان 2002 ما يلي : " ومع نهاية القرن العشرين وما تقتضيه تحديات العولمة من تأهيل شامل للعقليات وللمؤسسات ولوسائل الإنتاج ، تجدد الاهتمام بالمدرسة وبرسالتها وفق شروط المرحلة الجديدة .. " ( نحو مجتمع المعرفة : الإصلاح التربوي الجديد .ص 13/14 ) .
. د جميل حمداوي ( الكفايات والوضعيات في مجال التربية والتعليم ) أوت 2006 .[8]
9. كمثال على ذلك نقلت آلاف الشركات كـ" توشيبا " و" موتورولا" و "إي بي أم ".. جزءا كبيرا من أنشطتها إلى الهند حيث وفرت لها حكومة نيودلهي البنية التحتية الضرورية ابتداء من المختبرات المكيفة وانتهاء بشبكة الاتصال عبر الأقمار الصناعية .
10.فالجريمة المنظمة بخلاف الجريمة العادية ، ترمي إلى اللجوء إلى الإجرام كأداة لكسب الربح وهي تحتاج إلى توزيع للأدوار وإلى تنظيم ، وتصبح مؤسسة لها أهداف وقواعد وقيادات . وقد نما بذلك اقتصاد مواز وخفي تديره شبكات الجريمة المنظمة التي تضاعف رقم معاملاتها وأصبحت أداة للتشغيل . فحسب صندوق النقد الدولي ، وصلت الأرباح المتأتية من الأنشطة الممنوعة إلى 500 مليار دولار في السنة.
. بمعنى أنها لن تمس ثوابت النظام التربوي وأسسه .[11]
12. من هذه الخيارات التي يعددها مناهضو العولمة خوصصة المؤسسات الاقتصادية الكبرى تمهيدا للتفريط فيها للأجنبي ، فتح الحدود للبضائع والسلع الأجنبية ، رفع اليد عن حماية الصناعات الوطنية ...
13. يقول الأستاذ حاتم بن عثمان في مقال بعنوان " العولمة فرصة أم رهان " ( المجلة التونسية لرقابة التصرف – العدد 14 – ص. 109 ) : " ويصبح كل شيء قابلا للاستهلاك بسرعة في كل لحظة وفي كل مكان فتختلط هكذا القيم والمفاهيم وتعوضها شيئا فشيئا قيم جديدة ويتغير الوعي بعاملي الزمان والمكان وتهتز على مر الأيام أركان كل القناعات التي كانت سائدة لدى الشعوب وتسهل عملية المسخ والاستبدال وإعادة التركيب على أسس جديدة وفق ما ترسخ في عقول الأجيال الناشئة من مفاهيم وقيم جديدة تتكرس بالممارسة فتطغى السطحية وأحلام البطولات الوهمية وأوهام الحرية ... "
14. علينا التمييز في هذا المستوى بين مجرد الإقرار بوجود العولمة كمشروع وكثقافة تروج لها جهات وأنظمة بعينها وبين الإذعان لهذا المشروع والذوبان فيه لأن الإقرار بوجود العولمة كواقع لا يمنعنا من نقدها أو التصدي لها أما الإذعان فما هو إلا استسلام ورضوخ لمشيئتها .
15. قبل الميلاد بثلاثة قرون نادى الإسكندر الأكبر بنوع من الكونية أو " العولمة " الهيلينية من خلال الإمبراطورية التي سعى إلى إقامتها بفتوحاته التي غيرت خريطة العالم القديم وذلك على أنقاض الإمبراطورية الفارسية ونفس الشيء يمكن أن ينطبق على الإمبراطورية الرومانية التي سعت إلى " عولمة " العام القديم عبر القضاء على الوجود القرطاجني وتوسيع حركة " الرومنة " التي توجتها بإصدار مرسوم " كاركالا" سنة 212 م ...