حرص الغرب منذ تخليه عن مستعمراته أن تظل هذه الأخيرة حقلا لتجاربه, و فضاء لتطبيقاته في شتى المجالات وخصوصا ..التربية .
و انطلاقا من كون الفكر التربوي لأي مجتمع هو وليد الحراك الحاصل في بنياته الاساسية , فإن السعي الحثيث لتغريب المنظومة التربوية في أي قطر يُبقي على حبال التبعية موصولة في ابشع صورها . و إذا كان العالم الثالث قد شهد بعض صور الممانعة ممثلة في إنضاج مشروع تربوي ينحت إطاره المرجعي من الاعتداد بالذات و رفض الهيمنة " كمشروع تربية التحرر للتربوي البرازيلي باولو فرير " فإن رياح العولمة هبت بغير ما تشتهيه الأنظمة التربوية - خصوصا العربية منها – حين غدت توصيات المؤسسات الدولية المانحة للقروض هي الموجه الحقيقي للمشاريع التربوية فانحسر البعد الاجتماعي للتعليم سواء من حيث دوره في بناء انسان الغد الذي سيدفع بعجلة التقدم و النهوض , أو من حيث الاستجابة للمتطلبات الحقيقية لمجتمعات تروم الفكاك من قمقم التخلف !
بالرغم من ذلك لم يعدم المشهد التربوي صيحات دالة .. تحلل بعمق و دقة مكامن العطب في النظم التعليمية , و تستند إلى رصيد هام من البيانات و المعطيات التي تمكن من صوغ رؤية أكثر وضوحا و شمولا , وتؤسس لوعي تربوي يعبر عن واقع التعليم بصدق و يطمح لمستقبل أفضل .. ولعل جهود المفكر و التربوي " فيليب كومبز " في كتابه الشهير " أزمة التعليم في عالما المعاصر " شاهد إثبات لما نقول !
صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عن جامعة أكسفورد عام 1968 , وبالرغم من مضي أزيد من نصف قرن , لم تفقد مقولات هذا الكتاب جدتها و فرادتها . فخبرة المؤلف كمدير للمعهد الدولي للتخطيط التعليمي , وسبقه لاعتماد "منهج تحليل النظم " كطريقة علمية لبحث مشكلات التعليم , بالاضافة إلى اتكائه على رصيد هائل من البيانات و الإحصائيات الخاصة بنظم التعليم في بلدان العالم النامي , أهلته لتقديم طرح يمتاز بالشمول و العمق , ويُوحد في سلة الأزمة بين الغالب و المغلوب !
و بعد عرض موجز للإطار التحليلي لمحتويات الكتاب , و التعريف بمنهج تحليل النظم , يتناول المؤلف في الفصل الأول مُدخلات النظام التعليمي ممثلة في : التلاميذ , و المعلمين , و القوة الشرائية للتعليم " المال" .
حيث يقترح استراتيجية للتغلب على ارتفاع نسبة القيد بالمدارس تتجلى في تمكين كل طفل من مقعد دراسي بالابتدائي , مع إخضاع القبول في المراحل التالية لعملية انتقائية تُمكن من الكشف عن التلاميذ ذوي القدرات الاكاديمية العالية الذين بإمكانهم مواصلة التعلم في المراحل التالية , شرط أن تتسم المعايير و الامتحانات بالموضوعية و التجرد و اعتماد تكافؤ الفرص على اساس القدرة العقلية لا الخلفية الاجتماعية !
كما ينصح بأن يحتفظ التعليم لنفسه دوما بعدد كاف من أحسن مخرجاته البشرية ,حتى يستطيع أن يعطي مخرجات ونواتج أفضل باستمرار مؤكدا أن من ملامح الازمة التعليمية هو استقطاب القطاعات الاخرى للنواتج البشرية الجيدة بفضل الاغراء المادي مما يضطر التعليم في نهاية الامر الى تحصيل جزء كبير مما يحتاجه من المعلمين من كفاءات و نوعية أقل!
ثم يختم حديثه بعرض مقترحات لتحسين الأداء التعليمي في الدول النامية , لعل من أهمها : التخفيض من الانفاق العسكري و إعادة توزيعه للأغراض السلمية !
أما في الفصل الثاني فيعرض لأثر المتغيرات الاجتماعية على مخرجات النظم التعليمية , كما يناقش بعض التحيزات و المفاهيم التقليدية التي كان لها اثر واضح في توسيع دائرة البطالة بالبلدان النامية " المكانةالاجتماعية المرتبطة بتفضيل العمل الادراي المكتبي على الاشتغال بالعمل اليدوي " . يقول كومبز : " و يشعر المرء بطبيعته بالتعاطف مع هؤلاء الذين يعيشون في الدول النامية و ينظرون الى التعليم كطريقة للخلاص من المكانة الاجتماعية المنخفضة للعمل اليدوي . ولكن لسوء الحظ هناك جانب آخر لهذه المسألة , ذلك لأن الطريق الوحيد لنمو الأمم و تقدمها انما هو العمل الشاق الذي يتطلب في معظم الحالات أن يعمل الافراد , وأن تتسخ ايديهم وهم يمارسون أنواع العمل في الحقول و المصانع " . ويمضي متسائلا : " إذا كان هذا النوع من العمالة – أي العمل الادراي المكتبي- هو هدف أغلبية كبيرة ممن أتموا تعليمهم الثانوي و الجامعي , فكيف يمكن إذن للتعليم أن يُعجل من النمو الاقتصادي , وأن يحقق عائدا أو مردودا عاليا و فعالا لما استثمر فيه من إمكانات بشرية ومادية ؟ " (2)
ثم يخلص إلى أن أهم عقبة تواجه النظم التعليمية في البلدان النامية هي التغلب على القيم المعارضة للتنمية القومية , وحفز الإقبال على العمل اليدوي الذي يتطلبه الحراك الاقتصادي .
بينما يدافع في فصل آخر بعنوان " النظام التعليمي من الداخل" على دمقرطة أكبر لهذا النظام , ويعتبر أن الانتقال من نظام انتقائي إلى نظام مفتوح يستلزم التخلي عن الاهداف و المناهج و المعايير القديمة , و يفرض ترشيدا وتدبيرا رصينا للموارد حتى لا يتحول النظام التعليمي إلى فيل أبيض يلتهم كل ما يوجد في البيت من طعام كما تقول الاسطورة !
وأما في الفصول المتبقية فيتناول المؤلف عددا من القضايا التعليمية التي ينبغي إعادة النظر في سبل استثمارها للرفع من جودة و كفاءة أي نظام تعليمي , ومن أهمها : التعاون الدولي في مجال التعليم من خلال إحداث سوق تعليمية مشتركة تُسهم في إثراء و تخصيب الخبرات التربوية , و التوظيف الفعال لتكنولوجيا التعليم بحيث تتجاوز الأجهزة و الوسائل لتشمل طرائق التدريس و التخطيط الجيد للمباني بل تمتد كذلك حتى للجرس المدرسي الذي ينظم الوقت بطريقة جيدة !
و لا ينسى المؤلف في ختام تشخيصه لأسباب و تجليات الأزمة التعليمية أن يحدد معالم استراتيجية جديدة تكون مفتاحا لتحسين نوعية و كفاءة النظم التعليمية , إذ يعلن بكل ثقة أن " استراتيجية التنمية التعليمية ليست شيئا يوجد في فراغ , أو يمكن أن يُشكل في غرفة خلفية في الوزارة بواسطة خبير و أخصائي و آلة حاسبة . و إنما ينبغي أن تشكل وتوضع على اساس أهداف يشارك في وضعها عددكبير من المتخصصين , وأن تتكون على أساس إدراك عقلاني , وإرادة قوية منبعثة مباشرة من البيئة الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية التي سوف تُسهم الاستراتيجية في تنميتها " (3).
لا ننكر أنه خلال خمسين سنة الأخيرة - وهي المسافة الزمنية الفاصلة بين صدور الطبعة الأولى من الكتاب والراهن التعليمي- شهدت أجرأة عدد من المقترحات لكننا للأسف الشديد لا زلنا نعاين مظاهر الأزمة كما خطها المؤلف منذ نصف قرن. وهذا ما يبذر في أذهاننا بذرة الحيرة و افتراض مسببات خفية لم يُحط بها كومبز علما !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.فيليب كومبز . أزمة التعليم في عالمنا المعاصر .ترجمة : أحمد خيري كاظم و جابر ع.الحميد جابر .دار النهضة العربية 1971 .ص11
المرجع السابق .ص 133
المراجع السابق .ص 224