سنكون بداية متفقين أشد اتفاق حول مقصد مفاده أن سكة تحقيق المراد، ومنافسة اللاعبين الكبار على المستويات الرئيسية من الفكر إلى السياسة مرورا بالاقتصاد، ليست ترتهن إلا بتعليم جيد ينزل في أسس الدولة منزلة الأس من البنيان، كأننا إزاء معادلة طرفها الأول التعليم وطرفها الثاني التقدم والإزدهار، ولسان الحال يتحدث: قل لي كيف هو تعليمك أقول لك من أنت، من ثمة فلا بد من الوعي بهكذا مسألة، ولا بد من النظر نظرة ثاقبة إلى مناهجنا المعمول بها، نقدا وتجديدا ومساءلة، والحال أن أول ما يمكن الحلول به كرهان أول في هذا المقصد، هو إعادة النظر في مادة الفلسفة وما تقدمه، لسبب بسيط هو أن الفلسفة بمثابة مصنع للعقول وطريقة إعمالها إعمالا سديدا يليق وبما نريد، كلنا نعرف أن المدرسة آلية إيديولوجية للدولة حسب ألتوسير أولا ثم بيير بورديو وبول باسرون ثانيا، وكلنا نعرف أن المقررات ما ليست سوى ذلك المراد الذي نريد أن نلوذ إليه لاخراج مبتغانا من القوة إلى الفعل، لكن خذ بنا إلى أمهات النصوص المنظمة، وخطابات السياسيين والقائمين على شؤون تسيير الدولة، والتي لا تختلف فيما بينها على المستوى الظاهري حيث السواد الأعظم يسعى لمغرب حداثي وتكريس روح المواطنة والديمقراطية والتأسيس لمبدأ الاختلاف باسم حقوق الإنسان وهلم جرا...
إن تحقيق هاته الأمور ليست تكتمل إلا بتعليم قويم، حيث مادة الفلسفة هي من يمكن أن تنال الحظ الأوفر من هذا الأمر، لسبب بسيط هو أنها المادة الأولى التي تصنع العقول، فالتفكير وفق عقل عملي محض بعدئذ، كما أنه بفضلها يجد المرء نفسه أمام ضرورة العودة لذاته ومساءلتها كما الرجوع للبديهيات الدوغمائية ودحضها، والحق أن اكتمال هذا الشأن سيضفي إلى رصيدنا الحس النقدي، والإيمان بالواجب، والتربية على الاختلاف ونبذ التعصب... ومنه سنتخلص من حالة الرقابة التي تفرضها علينا أنفسنا قبل الآخر، فاتحين الباب على مصراعيه لنقاش كل شيء والخوض في كل شيء والشجاعة على كل العراقيل المعيقة للسير فوق سكة التقدم.
سنعود في هذا المقام لعصر الأنوار، حيث رأى الأنواريون أن إنزال تجديداتهم الكبرى رهين بتحقيق شروط عينية والتي لن تكون إلا التعليم، علينا أن نلقن هذا الجيل الناشئ الذي نعول عليه قيم العقلانية وحب الوطن والإنسان والقانون... عن طريق التعليم، من ثمة علينا أن نبني مدارس ومؤسسات تعنى بهذا التجديد وفق معطيات الواقع وحاجاته، كما يجب علينا تعميم التعليم وهو ما أكده بعدئذ المفكر بيير ماشري، وهنا أصبحت الدولة هي الضامن لانتشار الفكر الفلسفي مثلما أصبحت الفلسفة هي الفكر المعبر على إيديولوجية الدولة، حيث لم تعد الفلسفة كما كان الشأن عند اليونان تمارس كنشاط خصوصي، بل أصبح لها وجود رسمي أي عمومي مادامت تستعمل أساسا لخدمة الدولة يقول هيجل حول أهمية تدريس الفلسفة للدولة، لهذا لا غرابة أن القائمين بالشأن السياسي آنذاك، عهدوا للفيلسوف الشهير كوندورسي بالسهر على وضع الخطوط واللبنات الأولى لتعليم قوي مؤمنين أشد إيمان أن التعليم القوي مشروع لتعبيد الطريق نحو المنشود.
عندما نعود للمقررات الفلسفية بالمغرب سنلاحظ أنها لم تقف عند مسار بعينه ووصفة بعينها، لقد عاش الدرس المغربي جملة من التأرجحات بين التدريس بتاريخ الفلسفة التدريس بالمدارس الفلسفية والتدريس بالنصوص والتدريس بالمفاهيم، حيث كان الفرد يحس بالعزلة مما يتعرف عليه، لهذا لا نتعجب عندما نرى أننا كنا بصدد تكوين تلاميذ مشحونين بالمعلومات ليس إلا، وهو ما أثر على ثلاث أجيال بأكملها مكرسا تلك الإشاعة التي تدعي أن هناك صعوبة كبيرة تسكن الفلسفة، وبأنها مجرد ترف وواجهة للآخر لا غير، لقد أخلفنا موعدنا الإجرائي عندما كنا ولازلنا نستهلك ما يناقشه الآخر دون دراية أنه كلما غابت أسئلة الواقع عما ندرسه كلما انعزلنا أكثر، فلا نحن بمجيبين على هاته الأسئلة، ولا نحن بمجددين في مناهجنا، لهذا فإن ضرورة إعادة النظر في برنامجنا التعليمي هو ضرورة إعادة النظر في مادة الفلسفة التي إذا فهمنا الغاية منها سنفهم أنها ستلقن الناشئة أبجديات إعمال العقل و شجاعة البحث وفضول المعرفة، على الدرس الفلسفي أن ينطلق من الواقع لا أن يكون مفارقا له، والحال أنه ما إن تحط الفلسفة رحالها بالواقع حتى تتحول إلى شيء محبوب يساعدنا على تكريس مبدأ الفعالية، لا أن ندرس بعض الإشكالات التي ليست من واقعنا بشيء، يجب أن نؤمن أن الدرس الفلسفي ترياق لمعضلاتنا وليس داء لها.
لقد كان الفلاسفة على مر التاريخ يرون في الحس المشترك مهيجا للتفكير، الفلسفة تتجدد عندما يكون المجتمع في حاجة للتحرك قدما، كما أن الفلسفة تغلي إيجابا عندما تشتد الأزمات في باقي العلوم، لهذا فقد ظهرت الفلسفة أولا عندما عجزت الرياضيات على تقديم جواب للجذر التربيعي، كما أن ابن رشد اعتبر أول قارئ لأرسطو عندما حاول التمهيد للفلسفة عندنا وعندما سعى إلى ضرورة التفكير منطقيا، وفي أوربا ظهر غاليليو و ديكارت وبايكون ولوك... كفواصل أساسية بين عصر الانحطاط وعصر النهضة، هذا وقد عرفت الفلسفة انعطافا منقطع النظير بين الحربين وها هي تعرف دورتها الطبيعية اليوم انطلاقا من هيمنة التقنية وصراع الثقافات... من ثمة وكجماع للقول فيما سبق نرى أن الفكر الفلسفي هو وليد ثقافته وأسئلتها، لهذا نحن ملزمين بقراءة منهاجنا الفلسفي على ضوء سؤال الإنسان وتكريسه للناشئة، ونحن نعرف أن كل الموبقات التي تضربنا بسبب خلو بنيتنا الفكرية من مفهوم الإنسان، ماله وما عليه، على الدرس الفلسفي أيضا أن يقف وقفة قويمة ومفهوم الهوية والاختلاف والواجب، دون المرور مر الكرام على مفهوم النقد والسؤال والفضول المعرفي...
تأسيسا على ما سبق فإن إنزال ما نؤمن به إلى أرض الواقع رهين بالضرورة إلى النظر للفلسفة ببراءة وليس كسلاح نستعمله لأغراض قد تجر علينا وابلا من المعضلات، لهذا من الضروري الإيمان بشدة أن البناء على كل المستويات رهين بتعليم جيد، ولإنجاح هذا المشروع علينا الانطلاق من الفلسفة وإلى الفلسفة لصنع أجيال تعمل عقلها لتجاوز الحس المشترك وليس لتكريسه.