تعتبر اللغة ذات مكانة بارزة داخل الفلسفة التحليلية ، باعتبارها الموضوع الجدير بالبحث والاهتمام ، حيث أضحت كل التوجهات التحليلية هي توجهات لغوية همها الأساسي هو البحث في معاني العبارات اللغوية ، وإذا كان القرن 20 هو قرن العلم في نظر الابستمولوجيين وفلاسفة العلم ، فإن هذا القرن هو في نظر الفلاسفة التحليليين قرن التحليل والبحث عن المعنى في القضايا اللغوية ، ولعل هذا ما عبر عنه المفكر الأمريكي Morton White بالقول "عصرنا هو عصر التحليل والمعنى" ، واللغة في منظور الفلاسفة التحليليين ليست فقط وسيلة للتخاطب والتواصل وإنما تشكل أيضا هدفا للبحث الفلسفي، وكانت هذه العناية الخاصة باللغة من قبل فلاسفة التحليل من أمثال مور ورسل وفتجنشتاين بمثابة تجسيد فعلي لتقليد فلسفي معاصر يتخذ من اللغة الموضوع الجدير بالعناية والتنقيب ، إلا أن مسألة المعنى والتحليل لم تكن وليدة الصدفة بقدر ما أنها وليدة مخاض عسير ونقاش خاضه رواد فلسفة التحليل مع الفلاسفة السابقين عليهم ، ونقصد الفلاسفة الكلاسيكيين الذين هم في نظرهم مسؤولون عن الانغلاق الذي طرأ على موضوع الفلسفة ، وذلك من خلال مغالاتهم في منهج التركيب الذي أعطانا أفقا مسدودا في الفلسفة ، ومن أجل الخروج من هذا الانغلاق اقترح رواد التحليل طريقة أو منهج للخروج من هذه التخمة التي لحقت الفلسفة، وكان هيجل مسؤولا عنها ومن حدا حدوه ، وهذا المنهج كان طبعا هو التحليل كرد فعل مباشر ضد التركيب ، والمحاولات الأولى التي كانت ضد هذا المنهج كانت من قبل جورج مور من خلال نشره مقال حول "تفنيذ المثالية" سنة 1903، مقترحا منهجا جديدا للتعامل مع موضوعات الفلسفة ألا وهو منهج التحليل .
غير أن مور بقي وفيا للغة الطبيعية ولم يخض خوضا منطقيا في معالجة مشكل التركيب في الفلسفة ، غير أن كل من فريجه وراسل بالإضافة إلى فتجنشتاين ، سيجعلون من الصورنة مدخلا لحل مشكلات الفلسفة التقليدية ، وذلك بالاعتماد على أدوات منطقية وجبرية كرائز من أجل تدقيق موضوع الفلسفة الذي أصبح في نظرهم هو التحليل المنطقي للغة وذلك من أجل تفسير فلسفي للفكر، والذي استقام اشتغاله مع هذا الطرح هو الفيلسوف النمساوي فتجنشتاين من خلال كتابه الرسالة المنطقية – الفلسفية ، وهذا الكتاب جعله فتجنشتاين بأكمله عبارة عن نقد للغة، بمعنى أن مشروع فتجنشتاين في هذه الرسالة ينصب على نقد اللغة الطبيعية وتنصيب لغة منطقية محلها لأجل قول فقط ما يمكن قوله كخطاب مشروع في اللغة وخطاب آخر مما لا يقال ، إما لافتقاره لأدوات التركيب المنطقي و إما لعدم قابلية هذه اللغة لتمثيل ما يوجد في العالم الخارجي ، لكن ما هو مسؤول عن المعنى في اللغة عند فتجنشتاين هو كذلك مما لا يقال فيها وهي الصورة المنطقية التي شكلت ما يسمى بميتافيزيقا الصورة المنطقية في فلسفة فتجنشتاين بعدما خاض نقاشا مع سيكولوجية الجشطلت، وهذا هو مربط الفرس في هذه الدراسة التحليلية لفلسفة التحليل .
لا يخفى عن أي متصفح لرسالة فتجنشتاين - المنطقية على كون فيلسوفنا يميز بشكل واضح بين مجال القول ومجال آخر لا نملك إلا القدرة على إظهاره أو الإشارة إليه فقط، وإذا كانت قضايا المنطق والرياضيات بالإضافة إلى قضايا الميتافيزيقا مما لا يمكن قوله، فإن الصورة المنطقية لا تخرج عن باقي هذه القضايا التي لا يجب أن تقال في اللغة ، نظرا لكونه قد حدد أن طبيعة اللغة هي أن تقول ما هو عليه العالم ، والصورة المنطقية لا توجد في العالم ، لذلك ضمنيا لا يمكن أن تقال ، كما أننا لا نجد في الرسالة قضايا تقول الصورة المنطقية لأن ما يظهر نفسه في اللغة لا تستطيع اللغة أن تعبر عنه ، إلا أن ما يثير الانتباه بخصوص هذه الصورة هو كونها لا توجد في العالم كما لا توجد في اللغة ، لكنها ضرورية للربط بين اللغة والعالم من أجل أن يكون للغة معنى، ثم وجودها كهوية تربط بين الاثنين ، لكن إذا سألنا فتجنشتاين أين توجد هذه الصورة المنطقية ؟ فهو يجيب أنها لا توجد لا في اللغة ولا في العالم ولا حتى في الذات ، وهذا له ما يبرره عند فتجنشتاين الذي أراد إنقاذ الصورة المنطقية مما ألصقته بها نظرية الجشطلت لأنها حاولت جعل الشكل أو الصورة مرتبطة أشد ارتباطا بالإدراكات الحسية.
إذن كيف جعل فتجنشتاين الصورة المنطقية مستقلة عن العالم وعن اللغة ثم عن الذات ، في أفق إنقاذها من الإدراكات الحسية التي حاولت نظرية الجشطلت أن تجعلها كبديل لعلم نفس القرن 19 وخاصة النزعة التحليلية منه؟
لقد جعل فتجنشتاين من الصورة المنطقية البراديغم الأساسي الذي به يمكن الحديث عن المعنى في اللغة ، وكما نعلم أن نظرية المعنى عنده ترتبط أساسا بالقضايا الحقيقية أي قضايا العلم الطبيعي ، الذي يسمح لنا قولها ، وما يسمح لنا قوله رهين بتطابق القضية مع الواقعة ، وهذا التطابق أوضحه فتجنشتاين من خلال نظرية التمثيل ، أي تمثيل القضية للواقعة الأولية الذي لن يقوم إلا إذا كان هناك شيئا مشتركا بين الواقعة والقضية ، وهذا ما عبر عنه من خلال القول " لكي تكون إحدى الوقائع رسما ينبغي أن يكون بينها وبين ما ترسمه شيئا مشتركا"[1] .
بمعنى أن يكون هناك شيء ثابت بين كل من الواقعة والقضية حتى يسمح للقضية أن تصور ما يوجد في العالم الخارجي من وقائع وكأن شيئا من الهوية بينها، ولعل هذا ما أكدت عليه الرسالة ذاتها في إحدى شذراتها "لا بد أن يكون هناك شيء من الهوية بين الرسم والمرسوم حتى يتسنى لأحدهما أن يكون رسما للآخر "[2]
إذن؛ فتجنشتاين يؤكد على ضرورة وجود هوية بين الرسم وما جاء ليرسمه ، لكن ما هو هذا الشيء المشترك أو هذا النوع من الهوية الذي يكون بين القضية والواقعة حتى تقوم عملية التمثيل هذه؟ فالجواب عن هذا السؤال يكون من خلال الرسالة التي تجيبنا من بإحدى شذراتها "والذي لابد أن يكون في الرسم مشتركا بينه وبين الوجود الخارجي لكي يتسنى له أن يمثله بطريقته الخاصة صوابا أو خطأ هو صورة هو صورة ذلك التمثيل"[3]. وبذلك الذي يسمح بعملية التمثيل هو صورة ذلك التمثيل، وهذه الصورة جعلها فتجنشتاين بمثابة الجندي الذي يحمي وطنه من الغزو الخارجي لبلد آخر، وذلك من أجل ألا يضيع بلده في التشرذم ، وهذا التشرذم والضياع هو الذي يجعل اللغة تائهة في اللامعنى ، ولكي لا تتيه هذه اللغة في اللامعنى يجب أن تكون بينها وبين ما جاءت لتمثله صورة ذلك التمثيل، لكن ما هي هذه الصورة في عرف فتجنشتاين؟ "فالصورة هي إمكان قيام البنية[4] ، ثم يضيف "الطرقة التي تتشابك بها الأشياء في الواقعة الذرية، هي ما يصبح بنية الواقعة الأولية"[5].
القضية في عرف فتجنشتاين هي التي تبنى من أسماء وحدود مفردة ، وهي الأخرى لا تدل لوحدها ، ثم تشابك هذه الحدود فيما بينها لتشكل القضية البسيطة باعتبارها بنية ، وإذا كانت إمكانية لقيام هذه البنية بالنسبة للواقعة كما بالنسبة للقضية تكون لدينا الصورة المنطقية كعنصر مشترك بينهما ، والتي بدونها لا يكون لعملية التمثيل وجود ، ولعل هذا ما قصده فتجنشتاين من الشذرة التالية " وما يجب أن يكون مشتركا بين أي رسم مهما كانت صورته وبين الوجود الخارجي حتى يمكن أن يمثله على الإطلاق سواء صوابا أو خطأ، هي الصورة المنطقية أي صورة الوجود الخارجي"[6] .
وإذا كانت الصورة المنطقية هي ما هو مشترك بين القضية البسيطة والواقعة الأولية والتي من دونها لا تتم عملية التمثيل أو التصوير، فهل يمكن تمثيل الصور المنطقية بواسطة قضايا؟
فإجابة فتجنشتاين على هذا السؤال تكون بالرفض وذلك من خلال قوله "القضايا يمكن أن تمثل ما يجب أن يكون مشتركا بينها وبين الوجود الخارجي حتى يتسنى لها أن تمثله وهو الصورة المنطقية ، ولكي يمكن تمثيل الصورة المنطقية ، يجب أن يكون في مستطاعنا أن نضع أنفسنا نحن والقضايا خارج المنطق، أي خارج العالم"[7] ، وعدم تمثيل الصورة المنطقية فهو غير متناقض مع فلسفة فتجنشتاين الأولى التي تقر بأن حدود المنطق هي حدود العالم ، وبذلك لا يمكن أن تكون القضايا التي هي من صميم المنطق خارج المنطق وخارج العالم من أجل تمثيل الصورة المنطقية ، هذا بالإضافة إلى كون الصورة المنطقية ليست واقعة من وقائع العالم حتى يتسنى للقضايا أن تمثلها وهذا ما ذهب إليه فتجنشتاين ذاته عندما قال بأن "القضايا لا تستطيع أن تمثل الصورة المنطقية ، إنما تعكس هذه الصورة نفسها في القضايا"[8]. ولكي نفهم الأمر جيدا سأسوق مثالا إن سمح لي فتجنشتاين بذلك حول الصورة المنطقية فأقول "عثمان و يسين" فهذه قضية بسيطة لها معنى لأنها سليمة من ناحية التركيب المنطقي نظرا لكونها تتكون من حدين مفردين هما عثمان ثم يسين ، و هذه القضية صادقة لأنها تقول واقعة أولية موجودة في العالم ، وبذلك فهذه القضية تمثل واقعة أولية ، لكن هناك رابط منطقي بين هذين الحدين وهو " و" ، وهذا الرابط المنطقي لا يمكن تمثيله لأنه لا يمثل شيئا وهذا ما أوضحته الرسالة في إحدى شذراتها "إن إمكان القضايا إنما يقوم على مبدأ تمثيل الأشياء بواسطة الألفاظ، وفكرتي الرئيسية في هذا الصدد أن الثوابت المنطقية لا تمثل شيئا، بمعنى منطق الوقائع لا يمكن تمثيله"[9] .
وأهمية فتجنشتاين هو أنه يركز على الثوابت المنطقية أكثر من تركيزه على القضايا فهو لا يأخذ بالقضية وإنما بصورة القضية أي ما يجب أن يكون متسقا ليس هو القضية وإنما صورة القضية ، والدليل على أهمية الصورة المنطقية رغم أنها لا تمثل واقعة من الوقائع كما أنها لا يمكن أن تقال ، إلا أنا هي المسؤولة عن التطابق بين اللغة والعالم وبذلك لا يوجد مكان خارج هذا التطابق يمكن أن نضع فيه أنفسنا كي نستطيع أن نرسم تلك الصورة المنطقية نظرا لكون هذه الأخيرة تظهر في صورة كل القضايا ، وما يظهر نفسه في القضايا لا يمكن للغة أن تمثله أو أن تقوله ، وفتجنشتاين يقول لنا "بأنه من غير الممكن أن نتحدث بطريقة منطقية عن الصورة المنطقية في إطار فهم صحيح للغة وفي هذه الحالة لا يمكن سوى إظهارها"[10]، والإظهار يتعلق بما يعبر عن نفسه في اللغة ، والصورة المنطقية هي من ضمن ما يتجلى بنفسه في القضية لأنها صفة داخلية للقضايا وهذا أكده فتجنشتاين بقوله "ووجود صفة داخلية لأمر ممكن من أمور الواقع ، لا تعبر عنه بواسطة قضية ما بل هي تعبر عن نفسها في القضية التي تمثل الشيء بواسطة الصفة الداخلية الخاصة بهذه القضية"[11] ، وهي تفيد حسب رأي بلاك "أن مظاهر الصورة المنطقية يتم إظهارها بواسطة المظاهر الصورية للقضايا"[12].
والصورة المنطقية عند فتجنشتاين فهي تشبه إلا حد ما آلة التصوير الفوتوغرافية ، فنحن عندما نلتقط صورة لمنظر معين ، فهذه الصورة تظهر ذلك المنظر التي التقطته وكأنها الإطار الذي يحتويه ، وهذا الإطار أو شكل المنظر وهو المهم في نظر فتجنشتاين لأنه هو القالب الذي توجد فيه القضية ، وهذه الأخيرة رغم أنها مرآة عاكسة لواقعة من الوقائع ولكنها أيضا عاكسة لصورتها المنطقية من خلال الرموز التي تتكون منها القضية ، وهذا الاختيار لفتجشتاين يوافق منطلق فلسفته التي تطفو عليها الصبغة المنطقية وهذا راجع إلى خصوصية التوجه التحليلي من أجل نقد النزعة السيكولوجية التي خيمت في تناول موضوعات الفلسفة ، فنجد فريجه قد انتقد هذه النزعة وذلك بالعودة إلى منطلقات أفلاطونية ، فكذلك فتجنشتاين لا يخرج عن هذا التوجه النقدي ، إلا أنه ينتقد توجه مخصوص في هذه النزعة السيكولوجية ، وهي نظرية الجشطلت التي هي بدورها أسالت مدادا كثيرا حول تنظيرها لمفهوم الصورة ، إلا أن الاختلاف بينهما نابع من كون نظرية الجشطلت هي تخصص في علم النفس وهي ذات مساهمات عيانية و تجريبية في نظرتها إلى الصورة كإدراك حسي ، في حين فتجنشتاين لا يضع الصورة المنطقية في الإدراك الحسي بل هي تبقى معلقة ، لكن قبل أن نحكم على نظرية الجشطلت هذا الحكم السريع علينا أن نلقي نظرة ولو خاطفة على مرتكزات هذه النظرية المعاصرة في علم النفس، فما هي المرتكزات التي تقوم عليها نظرية الجشطلت؟ وكيف جعلت الصورة أو الشكل ذا ارتباط بالإدراكات الحسية؟
أولا علينا اعطاء نبذة عن هذه النظرية الجشطلتية التي جاءت هي بدورها كرد فعل ضد اتجاه سيكولوجي عاصف في الحضارة الألمانية و هو الاتجاه الترابطي أو الاستبطاني في علم النفس الذي يركز على تحليل السلوك الانساني، وهذا الاتجاه التحليلي كان يحاكي الفيزياء والكيمياء في نظرتهما التجزيئية للواقع "...الذي فرض عليه هذا المنهج التحليلي هو أسلوب الفيزياء والكيمياء التي كانتا تحللان الأجسام إلى جزيئات وذرات كما كانت حتى الفسيولوجيا تعزل أعضاء وتفككها إلى أنسجة، وخلايا ومن هنا كان على علم النفس هو الآخر أن يعزل عناصر ، وأن يكتشف قوانين لإتلافه "[13]. وهذا ما رفضته نظرية الجشطلت بتركيزها على نظرة كلية أو جشطلتيةّ(*) للسلوك الإنساني ، وتزامن ظهور هذه المدرسة نتاج تشعب أفكار برنتانو المؤرخ المشهور لفلسفة أرسطو، و من بين أقطاب هذا التشعب نجد ( Carl Stumpf 1848 - 1936) الذي وضع على كاهله انشاء مختبر لعلم النفس، وقد كان هذا المعهد هو مهد مدرسة الجشطلت التي بلورها stumpf هو وتلامذته المقربون مثل Wertheimer و Koehler وKurt Kofka وKurt Loewin"[14].
"ومدرسة الجشطلت تنكر على أن يكون الكل هو مجرد حاصل زائد عن مجموع العناصر، وخاصية الجشطلت ليست صفة جديدة مضافة إلى المجموع الذي نستطيع إدراك أحاده بصورة مستقلة ولا يتمتع مجموع العناصر بوجود فعلي فهو دو صفة جشطلتية منذ الوهلة الأولى"[15] ، وهذه النظرة الكلية للسلوك كانت ضد الاتجاه التحليلي في علم النفس الذي خيم على الاتجاهات السيكولوجية في القرن 18 ، وهذا النقد نتاج خصوصية هذه المدرسة نظرا لتشعب وجهة اشتغالها ، ولكونها عملت في حقل التجربة وفي عالم المادة العضوية ثم في العالم الفيزيائي الخالص ، ولعل البداية الأولى لهذه النظرية وبوادرها الجنينية تزامنت مع أعمال Von Ehrenfels الذي نشر مقالا حول "سيكولوجية الجشطلت" وأقر بأن صفة الشكل هي خاصية يملكها الكل و لا يملكها أي جزء من الأجزاء التي تكون هذا الشكل ، وبذلك يمكن القول بأن الجشطلت هي شيء آخر أو شيء يزيد على حاصل جمع أجزائه ، أي خصائص لا تنتج من مجرد جمع خصائص عناصرها لأن الجشطلتات هي متاحة التبدل الوضعي غير مستقرة أو ثابتة في مكان بعينه ، وبذلك تصبح الوقائع النفسية في منظور هذه المدرسة جشطلتات ، لأن المنطلق الذي انطلقت منه هذه الأخيرة هو البنيات بوصفها معطيات أولية " إنها لا تعترف بمادة خلوة من الصيغة بكثرة عمائية خالصة لتبحث بعد ذلك عن القوى الخارجية الغريبة، عن هذه المواد الجرداء، التي بفعلها تتجمع هذه المواد وتنتظم، فليست هناك مادة بغير صيغة"[16] ، وهذه الصيغة أو الشكل التي نادت به نظرية الجشطلت لم تحصر مجاله فقط في علم النفس بل ربطته بالمجال الفيزيائي الخالص والمجال البيولوجي ، لأن أهم ما تركز عليه هذه المدرسة هو الصيغة و البنية ثم الانتظام وهذه المفاهيم هي قريبة من حقل البيولوجا كما أقر غيوم ذاته "إن مفاهيم الجشطلت والبنية والانتظام تنتمي إلى لغة البيولوجيا بقدر ما تنتمي إلى لغة علم النفس فالكائن الحي هو كائن عضوي، هو فرد متمايز عن البيئة، على الرغم من المبادلات المادية والطاقية فيما بينهما، إنه جهاز تتوقف أجزائه من أنسجة وأعضاء على الكل الذي يحدد فيما يبدو خصائص الأجزاء"[17].
اذن؛ حاولت هذه النظرية أن تجعل من الصيغة ، الشكل ، الانتظام ، البنية ، هي منطلق النظر في كل ما يوجد في العالم الخارجي أي العالم الفيزيائي الذي يظهر ، لأجل تحقيق التوازن الداخلي النفسي بنفس الصيغة ، أي من أجل تحقيق الانتظام والانسجام بين الإدراك والشيء المدرك ، وإدراك شكل ما هو الذي شكل لب وجوهر ما تدور عليه هذه النظرية ، ولعل السؤال الذي كان يؤرقهم ، كما كان هو منطلقهم هو ما هي الشروط التي يجب توفرها لحدوث جشطلت ما ثم ما هي القوانين التي تحكم تغيراتها؟ هذا بالإضافة إلى "مشكلة الإدراك التي تنحصر في تحديد الانتشار الفيزيائي المثيرات الذي يناظر كل صيغة من الصيغ موضوع الإدراك، ثم تحديد التغيرات التي تطرأ على هذه المثيرات فتغير من بنية الصيغة"[18]، فنظرية الجشطلت حاولت أن تضع شروط محددة لإدراك أشكال وصور منتظمة ، وقبل أن نبدأ بتحديد هذه الشروط علينا أن نعرف أن هذه النظرية تركز أولا على واقعية التجربة المباشرة ، أي تبدأ من الظواهر أو التجربة الساذجة ، وهذا الاختيار يتوافق مع الطرح الذي جاءت به هذه النظرية ، لكونها حاولت استبعاد دور الذاكرة المسرف في إدراك الأشكال ، أي استبعاد معرفتنا السابقة عن الشيء الذي ندركه وهذا ما جعلهم يتخذون أنموذجهم الانتظام التلقائي الضروري الذي يتحقق في انتظام فيزيائي أو كيميائي . والشروط التي حددتها هذه النظرية كانت انطلاقا من عدة تجارب أجرتها بخصوص علاقة الصورة أو الشكل بالقاع أو الأرضية ، لتميز بين الصورة والحقل التي توجد عليه الصورة ، وهذا من أجل أن يكون الإدراك واضحا ومتميزا ، ولن يحدث هذا الوضوح والتميز إلا إذا كان هناك اختلاف ذاتي بين الشيء الذي ندركه والخلفية التي يوجد عليها هذا الشيء ، ولقد ابرز بول غيوم مثالا ل Rubin الذي ميز بين الشكل والقاع، وتوصل إلى كون الشكل له صيغة أما القاع فلا صيغة له ، لأننا في نظره لا نستطيع أن نرى في نفس الوقت كل من الصورة والقاع ، لذلك نجد "الصورة عادة موحدة الأجزاء تبدو ذات شكل وحدود ، في حين تبدو الخلفية مساحة لا حدود لها ، ولذلك فالصورة أقدر على اجتذاب الانتباه من الخلفية"[19] ، التمييز بين الصورة والخلفية لا يقتصر فقط على الأشكال المرئية ولكنها خاصة بالنسبة لكل الحواس وحتى الأصوات الموسيقية وهذا ما أوضحه غيوم من خلال عرضه لتجارب ليمان وأردف قائلا" فكل شيء نحسه لا يمكن أن يوجد إلا بالنسبة إلى قاع ما، وهذا القول ينطبق ليس فحسب على الأشياء المرئية وإنما أيضا على كل ضرب من الأشياء والوقائع المحسوسة، فالصوت الموسيقي ينسلخ متميزا فوق قاع يتكون من أصوات أخرى أو فوق قاع من الضجيج أو السكينة، كما ينسلخ الشيء المرئي متميزا فوق قاع مضيء أو مظلم"[20] ، وهذا التمييز يجعل إدراكنا الحسي أكثر وضوحا ، كما يجعلنا نركز أكثر على الصورة التي تطفو على الخلفية كشكل أو كصيغة أكثر انتظاما ، وليس هذا فحسب ، بل تذهب نظرية الجشطلت أكثر من ذلك إلى الانتظام الداخلي للشكل الذي يتعلق بمعرفة الشروط الضرورية لتكوّن مجموعة ما وقد، أورد غيوم مثال حول مجموعة النقط لفرتهايمر، لكي يوضح هذه الشروط التي قد أوردت في ثلاث شروط أولها وجوب تقارب لهذه النقاط ثم ثانيها تشابه النقاط ، وذلك راجع إلى كون الخلفية أو القاع إذا احتوى على نقاط مختلفة اللون فإن المتشابهة منها ترى وكأنها تكون مجموعة، ثالثا وجوب تكوين النقاط شكلا مغلقا أي متناسقا وخاليا من الثغرات "إن الجشطلتي لا يفسر النزعة الطبيعة نحو إغلاق الثغرات كما يفسرها الآخرين على أنها نتيجة لخبراتنا الماضية وتعاملنا بالكليات ، بل إنه يعتقد أنها تمثل الديناميكية الداخلية للدماغ في استقبالها كتلة مؤثرة عن طريق العين ، إنه يعتقد أن العمليات الدماغية تسد الثغرات"[21] ، وهذه النزعة التي تدعو إلى تجاوز الثغرات تواز الطرح إلى تجاوز عدم الانتظام من أجل تقديم صورة على أحسن حال ممكن من الانتظام.
ان ما ينبغي التأكيد عليه بخصوص نظرية الجشطلت وأصالتها في علم النفس هو تركيزها الأساسي على الصورة التي تظهر من خلال مجال الرؤية بقطع النظر عن معاني تلك الصور كأشياء أي علينا أن ندرك فقط ما تظهر لنا أعيننا ، هذا بالإضافة إلى كون هذه النظرية قد ربطت الصورة بمجال الإدراك الحسي ، أي الذي يعطينا الصور هو الإدراك الحسي من خلال شروط قد حددتها هذه النظرية ، وارتباط الصورة أو الشكل بالإدركات الحسية هو راجع إلى اقتران العين بما تدركه ، وهذه الأخيرة حتى لو لم تجد الشكل أو الصورة فهي تلصق صورة على الشيء المرئي وهذا، ما يظهر من خلال رؤيتنا لأشياء تتحرك بسرعة.
اذن؛ نظرية الجشطلت جعلت الصورة في الادراك الحسي من أجل تجاوز النزعة التحليلية في علم النفس ، واعتبار الصورة أو الشكل في الادراك الحسي هو ما انزعج له فتجنشتاين الذي رفض أن يلطخ الصورة المنطقية بكل ما هو عياني أو تجريبي ، هذا راجع إلى المنطلق المنطقي الذي تبناه من أجل نقد النزعة السيكولوجيا التي ترجح جانب الذات في ادراكها للأشكال ، والذات عند فتجنشتاين تختلف عن نظرة السيكولوجيين لها فهو ينكر الذات بالمعنى السيكولوجي من خلال قوله" أنه لا وجود لشيء مثل الروح ، أو الذات كما هي معروفة في علم النفس السطحي المعاصر"[22] ، نظرة فتجنشتاين للذات مختلفة عن رواد هذه المدرسة لذلك تعد حد للعالم ، "إن الذات لا تتصل بالعالم بقدر ما هي حد للعالم"[23] ، وهو يشبه الذات بالعين ومجال الرؤية، فالعين لا يمكن أن نراها ولا يمكن أن نستدل على أن الذي رأيناه هو العين ، هذا دليل على كون الذات حد للعالم وليس جزء فيه، وكان هذا الاختيار لفتجنشتاين من أجل أن يعطي أنا غير سيكولوجي أكدته إحدى شذرات الرسالة التي تقول " فهناك في الحقيقة معنى في الفلسفة ، على أساسه نستطيع أن نتحدث عن أنا غير سيكولوجي، فالأنا ترد في الفلسفة من خلال الحقيقة التي تجعل العالم عالمي ، والأنا الفلسفية ليست هي الإنسان ، ولا الجسم الإنساني ، أو الروح الإنسانية التي يتناولها علم النفس ، إنما هي ذات ميتافيزيقية ، إنها حد للعالم لا جزء عنه"[24] ، ففتجنشتاين يتبنى تصورا مخالفا للذات عن ما هو عليه تصور علماء النفس لها ، هذا بالإضافة إلى نظرته المختلفة عن سيكولوجية الجشطلت في جانب الإدراك ويتجلى هذا الاختلاف من خلال الرسالة التي تقول في إحدى شذراتها "ولئن تدرك مركب ما- فإن هذا يعني أن تدرك أن مكوناته قد ارتبطت على نحو معين هو كذا وكذا"[25] ، وارتباط مكونات هذا المركب على نحو معين هو ما يسمى بالبنية ، أي إدراك طريقة ترابط مكونات هذا المركب وهذا الإدراك ليس حسي بل هو منطقي أي إدراك مكونات هذا المركب المنطقية، وبذلك فالصورة المنطقية لدى فتجنشتاين لا ترتبط بالإدراكات الحسية ولا حتى بالذات لأن الذات هي في نظره حدا للعالم ، ونعلم أن هذه الأخيرة (أي الصورة المنطقية) هي التي تجعل التطابق بين اللغة والعالم ممكنا إلا أنها لا توجد في العالم ولا في اللغة ولا في الذات، وهذا ما يجعل الصورة المنطقية عند فتجنشتاين معلقة على العكس من مما فعلته نظرية الجشطلت التي ربطت الصورة بالإدراكات الحسية ، و فتجنشتاين قد تعمد على أن يعلق الصورة المنطقية لكي لا تخضع إلى مفاهيم سيكولوجيا، وهذا التعليق هو ما أنتج له ميتافيزيقا الصورة المنطقية ، رغم أنها هي التي تعطينا معنى في اللغة إلا أنها لا تحمل معنى وما لا يحمل معنى هو يظهر بذاته ، وكان الأهم في نظره هو الصورة المنطقية لأنها هي التي تعطينا شكل القضية ومن خلالها نحكم على القضية هل هي تحمل معنى أو لا، لكن على الرغم من أن الصورة المنطقية هي التي تعطينا معنى إلا أنها لاتحمل معنى، ولعل هذا ما جعل فتجنشتاين يختم الرسالة بالقول "إن قضاياي لتوضيح الموقف على النحو التالي ، إن من يفهمني سيعلم آخر الأمر أن قضايا كانت بغير معنى، وذلك بعد أن يكون قد استخدمها سلما في الصعود ، أي صعد عليها ليتجاوزها"[26].
إذن؛ فتجنشتاين بقي وفيا لتصوره للغة وخاصة الصورة المنطقية التي لا تمثل شيئا، وهي بذلك من مما لا يقال في اللغة وما لا يقال لا معنى له في نظر صاحب الرسالة بل فقط نكتفي بإظهاره ومن الإظهار انتقل فتجنشتاين إلى الصمت كما عبرت عنه آخر قضية في الرسالة.
خلاصة القول أن النقاش الذي خاضه فتجنشتاين مع نظرية الجشطلت بخوص الصورة أو الشكل الذي جعلته نظرية الجشطلت ذا ارتباط بالإدراك الحسي وهذا الآخير هو ما وضعت فيه نظرية الجشطلت الشكل أوالصورة ، في حين ذهب فتجنشتاين على العكس من ذلك لكونه لم يخصص مكان ما لكي يضع فيه الصورة المنطقية وهذا نابع من توجهه المنطقي الذي يركز على صورة القضية بغض النظر عن مضمونها وهذه ما انتج لديه ميتافيزيقا الصورة المنطقية لدى فتجنشتاين باعتبارها تفهم ولا تقال.
فتجنشتاين( لودفيج)، رسالة منطقية - فلسفية ،تر،ع زمي إسلام، مراجعة زكي نجيب محمود، مكتبة الانجلو مصرية القاهرة، 1968، العبارة 2 ,16 [1] .
المرجع نفسه ، العبارة ، 2,161. [2]
. 2.17 المرجع نفسه، العبار ة، [3]
المرجع نفسه، العبارة 2,033. [4]
المرجع نفسه، العبارة 2,032. [5]
المرجع نفسه، العبارة 2,18 . [6]
المرجع نفسه ، العبارة 4,12. [7]
المرجع نفسه، العبارة 4,121. [8]
المرجع نفسه، العبارة 4,0312. [9]
حمود (جمال)، فلسفة اللغة عند لدفيج فتجنشتاين، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة،ط1، 2009 ، ص224. [10]
الرسالة، مرجع سبق ذكره، العبارة 4,124. [11]
حمود جمال، فلسفة اللغة عند لدفيج فتجنشتاين ، مرجع سبق ذكره، ص224. نقلا عن: :
Black.M :A Companion to Wittgenstein’s Tractatus, Cambridge University Press,1971,p.197 [12]
غيوم( بول)،علم نفس الجشطلت،ترجمة، صلاح مخيمروعبده ميخائيل، مراجعة يوسف مراد، مؤسسة سجل العرب القاهرة،1963 ،ص17. [13]
الجشطلت بالألمانية على الرغم من أنها لا تناظر تماما الكلمة الألمانية Gestltheorie وفي الفرنسية تستخدم كلمة Forme بمعنى الصيغة (*(
"جشطلت"، وقد يكون من الأفضل ترجمتها بالفرنسة. Structture بمعنى بنية أو Organisation بمعنى انتظام.
بناني (عز العرب لحكيم )، الظاهراتية وفلسفة اللغة، (تطور مباحث الدلالة في الفلسفة النمساوية)، إفريقيا الشرق-المغرب 2003ص9. [14]
المرجع نفسه، ص9-10. [15]
غيوم بول، علم نفس الجشطلت، مرجع سبق ذكره، ص33. [16]
المرجع نفسه، ص35. [17]
المرجع نفسه، ص34. [18]
عاقل (فاخر)، مدارس علم النفس، دار العلم للملايين، بيروت-لبنان، ط7، 1987،ص155.[19]
غيوم بول، علم نفس الجشطلت، مرجع سبق ذكره، ص86. [20]
عاقل فاخر، مدارس علم النفس، مرجع سبق ذكره، ص156. [21]
الرسالة، مرجع سبق ذكره، العبارة 5,5421.[22]
المرجع نفسه ، العبارة 5,632.[23]
المرجع نفسه، العبارة 5,641.[24]
المرجع نفسه، العبارة5,5423 .[25]
المرجع نفسه، العبارة6,54 . [26]