على الرغم من قطع الحداثة مع كل المرجعيات التعالوية، فإنّها لم تنف وجود كليات إنسانية وجودا دينيا أو ميتافيزيقيا، كلياتٍ ربما تنطوي على فكرة الحب. وهذا القطع مع السرديات الكبرى اختزل الإنسان في بعده المادي على نحوٍ تكون فيه إرادته غير خاضعة إلى أي معيار خارجي، وأما عن طبيعته فهي مادية صرف. انتقل الحب كغيره من الروابط الإنسانية من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة وتغيرت آليات اشتغاله. ففي مرحلة الصلابة ارتبطت العلاقة بين الرجل والمرأة بالاستمرارية والاستقرار والسكينة لتمتد بعد ذلك لأشكال علاقات أمتن وأكثر صلابة من قبيل المصاهرة والإنتاج، التكاثر، بناء أسرة كقاعدة جماعية صلبة. لكن الأمر لا يبدو كذلك مع الحداثة السائلة، إذ أنّه لا معنى لعبارة " تعاهدنا ألاّ يفارقنا غير الموت"، لأن التغيير عصف بكل الثوابت، فلا مكان هنا للسكينة لأنها من السكون والسكون نقيض الحركة التي تقوم عليها الحداثة: المشهد هنا يتسم بالتغيير الدائم والتقلْقُل.
على خلاف ما تدعيه الحداثة كونيةً شاملةً، أصبحت الذات أكثر "جوانية"، ولا نعني بالجوانية جوانية غيبية أو تفكُّريّةً، بل جوانية مادية تقوّض كل فرص السعادة والحب طويل الأمد. فالحداثة تبحث عن الربح والخيارات الرشيدة العقلانية على حساب العلاقات العفوية الوجدانية وعلى حساب الديمومة والعاطفة، حيث تولّد الحداثة حاجياتنا بشكل مستمر وتحول كل قديم لشيء هجين مكانه سلة المهملات بما في ذلك المشاعر والأجساد.
هنا لا يمكننا أن نتحدث عن علاقات، فالعلاقة تستوجب جملة من الخيارات الاجتماعية المتداخلة والمركبة "باهظة الثمن" ولابد أيضا أن تعكس صورة مجتمع "تراحمي"، في حين أن إنسان الحداثة السائلة لا يرغب البتة في تقديم تضحيات من أجل التواصل الاجتماعي أو الاتصال الجنسي. على هذا النحو انتقل إنسان الحداثة السائلة من "وضوح العلاقات" إلى غموض "العلاقات العابرة"، هذه العلاقات تكون أقل تكلفة وبلا روابط أو التزامات، فهي علاقات عابرة تبحث عن لذة أبدية في متعٍ لحظية.
أما عن وعود الارتباط في عصر الحداثة السائلة فلا معنى لها، لأن امتداد العلاقات منتهاه الآن وهنا، ولأننا على حد عبارة زيجمونت باومان، نعيش عصر "قطع الغيار"، عصر الفرصة القادمة حيث أصبح كل ما بين أيدينا قابلا للتخلي عنه. لذا لا يمكن أن نتعلق به بشدة لأن هذا التعلق أو الارتباط قد يجعلك تحرم من فرص أفضل. ولا يتعلق الأمر هنا بخيارات فردية بالإمكان ضبطها وتعديلها بل إنها تعكس السيكولوجية الطاغية في المجتمع الحديث الذي أنتجته الحداثة والرأسمالية وطبعته الدولة الحديثة في سلوكيات أفراد مجتمعاتها وفق قواعد براغماتية صارمة عملت على تفكيك كل روابطه الاجتماعية والأسرية التقليديّة، وهذا ما يعكس حضور الدولة حتى في علاقاتنا الجنسية. فالدولة تجهز لاستكمال مشهد العلاقة الجنسية في حين تفرغه من كل مضمون وجودي أو معنوي، ولم يبق من هذه العلاقات غير الأجساد التي سرعان ما تبحث عن جسد آخر واشباع آخر ربما يوفر امكانات أفضل: " يرى العقل الحديث السائل في الالتزامات الدائمة ظلما وغما... فالالتزام والارتباط يعكران صفو العلاقات البشرية مثلما يعكران صفو أي فعل من أفعال الاستهلاك الذي يقوم على الاشباع الفوري للذة والتقادم الفوري للمادة المستهلكة "[1]
يفترض الحب استثمار الوقت والتضحية من أجل منافع مؤجلة (تكوين أسرة، التراحم، التضحية، العطاء، التعاون..)، في حين أننا اليوم إذا ارتدنا مواقع التواصل الاجتماعي، ستعترضنا مئات الإعلانات التي تنظم اللقاءات العاطفية أو اعلانات تعدنا بلقاء نصفنا الثاني الذي سيحقق الاشباع، وتقدم استشارات من أجل علاقات جنسية أفضل وأكثر أمان، علاقات محمية قد توفرها أنواع جديدة من الواقي الذكري أو غيره من المنتوجات التي توفر الأمان الذي يبحث عنه مستهلك العلاقات الذي يعيش حالة صراع بين حاجة الاشباع الفوري والخوف ممّا قد تحمله العلاقة من أعباء ومخاطر صحيّة. وتضخ الرأسمالية أموالا طائلة لتجميل هذه اللقاءات وتأمينها. وفي المقابل تفرغ الحب من كل ما هو جوّاني ليصبح مجرد استثمارات مالية لا ضامن فيها لإمكانات الديمومة والاستقرار. فالتكنولوجيا الحديثة أفرغت الحب من كل مضامينه وأبعاده الروحية كما فصلت الحب عن الجنس. ومثاله أنّ الشركات الرأسمالية صنعت روبوتات آلية تمكن من اشباع الرغبات الجنسية واللذة المتخيلة من دون حاجة إلى شريك إنساني روحي تربطنا به أي علاقة أو أي رابط: "عندما يتحول الجنس إلى حدث فيزيولوجي في الجسد، فإن ذلك لا يعني أن الجنس تحرر من الأعباء الثقيلة الزائدة المقيدة غير الضرورية وغير المجدية بل على العكس تماما، أن الأعباء التي يحملها زادت عن حدها المعقول فصار يفيض بآمال ليس بوسعه تحقيقها"[2]. فحالة عدم الاكتمال والنقص التي تعيشها الحداثة السائلة تنعكس أيضا على علاقاتنا العاطفية وهو ما يفسر سرعة الانتقال من علاقة إلى علاقة أخرى، هي علاقات استهلاك لحظية مصيرها النفايات: "إن أهل زماننا يميلون إلى إطلاق كلمة الحب على أكثر من تجربة مروا بها في حياتهم، إنهم أناس لا يملكون أن يحزموا بأن الحب الذي يعيشونه الآن هو الأخير بل يتوقعون المزيد من تجارب الحب" [3]
إن السمة الرئيسة للجنس في المجتمع الحديث هي ارتباطه بالاستهلاك: "الرغبة اشتهاء للإشباع والالتهام والابتلاع والهضم إنها انتهاء للتدمير"[4]. فالسعادة المحققة عبر الاشباع الفوري تحمل في طياتها شعورا بالخوف والكرب والمقت وعدم الأمان والاستقرار، فهي سعادة وهمية لا يمكن أن تصل بالإنسان إلى الكمال. هذا ما يولد نوعا من التدمير الذاتي والاحباط، فالسوق يوفر للأفراد متعا وملذات متنوعة سريعة الاشباع لا تقتضي أي جهد من طرف المستهلك.
كما أن هذه الوفرة في السلع والعلاقات المتاحة درّبت الأفراد على التخلي والتخلص. فالخيارات المضطربة والاشباع الفوري الذي تقوم عليه هذه المجتمعات تهيمن عليها عقدة التخلص، أي أن كل شيء قابل للاستهلاك والتلف وبالإمكان الاستغناء عنه. ومع تدفق هذه السيولة لم يعد لأحد الثقة في أي شيء ولا أحد في مأمنٍ من أن يطاله شبح الاستغناء. هذا ما جعل هذه المجتمعات تحتكم إلى الاشباع، فهو الغاية والهدف من كل العلاقات التي أصبح الإنسان يتعامل معها كما يتعامل مع المنتوجات المعروضة في معابد الاستهلاك. بمعنى أن متلازمة عدم الأمان التي ولّدتها الثقافة الاستهلاكية هي الدافع وراء الرغبة في الاشباع الفوري: "فبدلا من أن يحقق الناس مستويات عالية من الحب صاروا يخفضون مستوياته، فاتسع نطاق التجارب التي يشار إليها بكلمة 'حب' اتساعا كبيرا، حتى إن العلاقات الجنسية لليلةٍ واحدة صارت تسمى ممارسة الحب"[5]. فلا أحد يضمن استمرارية أي علاقة أو امتيازات ينعم بها الآن، ولا توجد علاقة خارج صهريج الاذابة والتغيير.
سناء عليبات: باحثة في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
[1] زيجونت باومان، الحب السائل صفحة 85
[2] الحب السائل صفحة 84
[3] الحب السائل صفحة 39
[4] الحب السائل صفحة 43
[5] أرحب الساىل صفحة 39