مقدمة :
يعتبر كارل يونغ (1875 - 1961) مؤسس علم النفس التحليلي و واحدا من أهم رواد مجاله. أسس ما يسمى اليوم ب "علم النفس اليونغي" و الذي يختلف عن غيره من فروع علم النفس بعدة مميزات، من ضمنها بعض المفاهيم الجديدة التي صاغها و عرفها من خلال كتبه، إضافة إلى نظرياته التي باتت جزءا لا يتجزأ من الأدبيات العلمية المتعلقة بعلم النفس.يركز علم النفسي اليونغي على الطفولة كونها فترة جد مهمة للنمو النفسي لدى الفرد، إذ أنها الفترة التي تتشكل فيها الأنماط الأولية و يكتشف الطفل ذاته ويبني تكامله النفسي و العاطفي خلالها. و في نفس السياق، فإن أدب الأطفال شكل من أشكال الفنون التي تقوي اتصال الفرد بالعالم حوله و تصقل إنسانيته و حسه الفني لتجعل منه كائنا حساسا ينتمي إلى مدرسة الرومانسية و تعلمه كيفية التواصل مع أحاسيسه الأكثر تعقيدا. فكيف يؤثر أدب الأطفال في نموهم السيكولوجي و كيف له أن يساهم في تكوين شخصيتهم؟
أدب الأطفال كوسيلة للتربية و التعليم :
إلى جانب سبل التعليم التقليدية التي تعتمدها معظم المدارس الحكومية في العالم، شهد المجال التربوي ظهور أساليب جديدة تهدف إلى جعل عملية التعلم أكثر متعة بالنسبة للطفل. من بين هذه الأساليب نجد القصة المصورة التي تمكن المعلم من تحقيق أهداف دراسية عديدة من خلال نشاط واحد، إذ أن القصة المصورة تساعد الطفل على تعلم القراءة والتعود عليها، و تلقنه الأخلاق و القيم الحسنة، كما تمده بالمعرفة الثقافية و العلمية.
من الطبيعي جدا أن يجد الطفل ذاته من خلال التعرف عليها في شخصيات خيالية معينة و أن يتعاطف معها و مع قضاياها؛ هذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدرة الطفل على رصد الأنماط الأولية (Archetypes) التي تحتوي عليها معظم الكتب و الروايات، سواء أ كانت للصغار أم للبالغين. تعتبر هاته الأنماط الأولية لدى كارل يونغ إمكانات فطرية يتم التعبير عنها في السلوك والتجارب البشرية و تعززها التجارب الفردية والثقافية[1]. انطلاقا من ملاحظة هذه الأنماط و رصدها من خلال التفاعلات الاجتماعية التي تحدث خلال فترة الطفولة، يتمكن الطفل من بناء نظرة أولية على المجتمع و فهم مكامن النفس البشرية المعقدة بطبيعتها. إضافة إلى الملاحظة التي تعد أداة من أدوات التعلم، فإن القراءة وما تقدمه من رصيد معرفي للأطفال كما للبالغين تغنيهم علما و اطلاعا على اﻷنماط اليونغية التي تؤطر تفاعلاتهم الاجتماعية خلال حياتهم البالغة. يعد أدب الأطفال بمثابة وسيلة لدمقرطة القيم و الروح الأخلاقية، وذلك بفضل العنصر القيمي الذي يزخر به هذا الصنف الأدبي، إذ يقدم الكاتب عادة شخصيات خيالية عديدة منها الخَيِّرُ و منها الشرير، كما ينشر من خلال اللغة و جماليتها حب الجمال و تفضيله، و يقدم دروسا حياتية للقارئ عبر حبكة أدبية مميزة من شأنها أن تنمي الحس الإبداعي لدى الطفل. ثم إن تشجيع الأطفال على القراءة يدفعهم إلى التعود على هذا النشاط التعلمي، مما يجعل مسارهم الدراسي حافلا بالنجاح و التميز الأكاديمي، و يغرس حس الفضول وحب المعرفة فيهم منذ الطفولة ليعودهم على ما فيه نفع لهم.
في بحث معمق حول اﻷثر النفسي ﻷدب الأطفال، تطرقت الباحثة و المحللة النفسية جاكلين ساندرز ﻷبرز المهارات التي يكتسبها الطفل القارئ من خلال القراءة، من بينها اكتشاف الهوية و تطوير الذات، تنمية الذكاء العاطفي، بناء المرونة و المناعة النفسية، تعزيز القيم الأخلاقية و النمو الاجتماعي، تحفيز الخيال و الإبداع، و نقل المعرفة. بناء على هذا البحث وغيره من الأبحاث العلمية المشابهة، يمكننا القول أن أدب الأطفال يتجاوز الوظيفة الترفيهية المتعارف عليها إلى وظيفة تنموية وتعليمية متعددة الأبعاد و الفوائد[2].
الطفولة من منظور علم النفس التحليلي و أهمية اللغة :
حسب علم النفس التحليلي و نظريات كارل يونغ، تعد الطفولة مرحلة حيوية في حياة الفرد وتنشئته، إذ أنها الفترة التي يتكون خلالها اللاوعي الشخصي (انطلاقا من التجارب المكبوتة أو غير المكتملة) واللاوعي الجماعي الذي يمثل الأنماط الأولية المشتركة بين البشر. بإمكان التربية الحسنة و التعليم العالي الجودة أن يحددا مسار الطفل ومستقبله، وذلك لما تمنحه التربية الصحيحة من توجيه نفسي وأخلاقي للطفل، لتجعله قادرا على فهم مكامن النفس البشرية و حتى مشاعره الأكثر تعقيدا.
من ضمن النماذج البدئية (أو الأصلية) لدى كارل يونغ، نجد النموذج الأصلي للطفل الذي يرمز للبراءة و يمثل الإمكانات و فرص النمو التي تميز هذه المرحلة العمرية عن غيرها؛ يعكس هذا النموذج عملية التطور النفسي لدى الأطفال من خلال اتصالهم باللاوعي و اكتشاف للذات، باعتبارها الحقيقة الأكثر جدارة بالاكتشاف في حياة المرء. يحمل هذا النموذج أهمية و قيمة أدبية، إذ يعد جزءا لا يتجزأ من العملية الإبداعية التي تتمخض عنها الكتب و الروايات و الأساطير، إذ أن الطفولة في الأدب ترمز للتطور والتعلم، كما ترتبط أحيانا بالفضول الفطري تجاه المعرفة وحب الاستطلاع. سواء في الأدب أم في العلاج النفسي، تساعد النماذج البدئية للطفل عند كارل يونغ على فهم المشاعر و الأحاسيس، كما يدعم عملية النمو الفكري و النفسي عند الأطفال.
مثلما يُصر يونغ على وجود قانون أخلاقي فطري في نفس كل طفل، فإنه يؤكد على وجود قدرة طبيعية لدى الطفل على اكتساب اللغة منذ مراحل نموه الأولى، و بالتالي فإن القراءة هي أيضا جزء جوهري من عملية التنشئة اللغوية و التي تتيح للفرد فرصة التفاعل مع محيطه و استيعاب العالم الذي يعتمد فهمه بشكل كبير على اللغة. رغم أن اللغة في حد ذاتها ترسم لنا حدودا لمعرفتنا بالعالم، فإنها تشكل واقعنا و ترسمه، كما تحيلنا على فرصة التعبير عن الذات و الأحاسيس و الأفكار التي تطفو فوق سطح اللاوعي؛ من هذه النقطة يستلهم علماء النفس أساليبهم العلاجية و التي تتمحور حول اللغة باعتبارها أداة للتعبير والبوح عن مكامن الأنفس. بإمكان الطفل – رغم محدودية قاموسه اللغوي و المعرفي – أن يبوح بكلمات من شأنها أن تطلعنا على حالته النفسية و العصبية، و كذا على مستوى ذكائه ونباهته متى باشر بالكلام (أو محاولة الكلام). يتفاعل الطفل في سنواته الأولى مع الوسط الذي يعيش فيه من خلال تعابير الوجه و كلمات مبهمة (Gibberish) قبل أن تخلق اللغة رابطا وثيقا بينه و بين العالم الخارجي، بل أكثر من ذلك، فإن صلته بذاته — عالمه الداخلي — تصبح أكثر وضوحا من خلال تعرفه على اللغة التي تسبح في فلكها جُلُّ ألوان التعبير عن الذات (self-expression).
في بادئ الأمر يتعلم الطفل كيف يستخدم كلماته للتعبير عن مخاوفه و أفكاره للأشخاص البالغين من حوله، ثم يعمد إلى إغناء معجمه اللغوي عن طريق القراءة، و هو ما يحيله على مظهر جديد من مظاهر التعبير عن الذات يتمحور حول الكتابة. يكتب المراهق خواطرَ يبوح فيها عن أحاسيسه ومشاعره، و قد يشارك هذه الكتابات مع الآخرين في محاولة لإيجاد أشخاص يفهمون تفاعلاته النفسية الداخلية و يشاطرونه نفس المشاعر؛ تشكل اللغة بهذا المعنى جسرا بين الذات و الآخر، و تساهم في كسر العزلة وخلق علاقات اجتماعية مهمة. كما أن اللغة تمنح للأحاسيس مسميات تساعد على تجسيدها معنويا، و هو أمر مهم للغاية، ﻷن إدراك هاته المشاعر و فهمها هو الذي يجعل التعامل معها بطريقة صحية ممكنا. يساعد أدب الأطفال على تقديم هذه المفاهيم بطريقة مبسطة و سهلة الفهم، مما يمكن الطفل من اكتساب مفردات تعبر عن تجاربه اليومية و انفعالات نفسه.
إن كون اللغة العمود الأول و الأساسي لأدب الأطفال يضفي على هذا الأخير مكانة خاصة، و ذلك نظرا لدوره المهم في دعم عملية التنشئة اللغوية والاجتماعية للطفل. يساهم أدب الأطفال في تطوير أدوات نفسية تساعد القراء على فهم محيطهم و الاندماج معه بشكل صحي و سلس، لهذا فعندما يقبل الطفل على القراءة فإنه بذلك يقبل أيضا على نشاط تربوي بامتياز من شأنه أن يسلحه بمكتسبات تَعَلُّمية و مهارات عاطفية من قبل التقمص العاطفي (empathy).
في سياق التحليل النفسي اليونغي، تلعب اللغة دورا في اكتشاف الأجزاء المظلمة و المخفية من النفس البشرية أو ما يعرف ب "الظل" ضمن النماذج البدئية لدى كارل يونغ. عندما يعبر الطفل عن مشاعره السلبية من خلال القصص أو اللغة، فإنه يبدأ في فهم هذه الأجزاء المظلمة و التعامل معها بدلا من قمعها و تجاهلها. يقدم أدب الأطفال نماذج لغوية يمكن أن تساعد الأطفال على مواجهة مشاعرهم السلبية، لذا يمكننا القول أن اللغة وسيلة لاستكشاف اللاوعي. كما تحمل قصص الأطفال رسائل ضمنية يتطلب إدراكها شيئا من التفكير النقدي (Critical thinking)، مما يحفزهم على تعلم كيفية تحليل الحوارات، القراءة ما بين السطور، و البحث عن المعاني الخفية. تمنح اللغة الأطفال أدوات للتكيف مع الظروف القاهرة و التحديات، إذ تساهم القصص التي تركز على المرونة النفسية في خلق مناعة قوية لدى القراء ضد الصعاب التي قد يواجهونها في حياتهم اليومية.
خاتمة:
يتجاوز أدب الأطفال الوظيفة الترفيهية المتعارف عليها إلى وظيفة تعليمية و تربوية تساهم في التنشئة الاجتماعية و النفسية للطفل، وتخلق بالتالي أفرادا بالغين لهم كامل القدرة على مجابهة العالم الخارجي وكل ما فيه من تحديات وعوائق. من خلال اللغة المستخدمة فيه، يلعب أدب الأطفال دورا حاسما في تشكيل وعي الطفل بذاته وبالعالم الخارجي.
[1] Stevens, Anthony in "The archetypes" (Chapter 3.) Ed. Papadopoulos, Renos. The Handbook of Jungian Psychology (2006)
[2] Jacquelyn Sanders. (1967). Psychological Significance of Children’s Literature. The Library Quarterly: Information, Community, Policy, 37(1), 15–22. http://www.jstor.org/stable/4305730