يَتَحَرَّكُ عمل الأستاذ " سعد ابن الجنوي " المَوْسُوم ب " التحليل النفسي للحياة العادية " داخل مجال النظرية الفرويدية في لَبُوسِهَا الأورثوذوكسي المرتكز؛ فيما يرتهن بتقنياته، من ناحية على الملاحظات النَّبيهَة خلال إجراء المقابلات الإكلينيكية مع المرضى، ثم على القراءة الفاحصة والدقيقة لكل المعطيات المتَحَصِّلَة منها من ناحية ثانية، غاية في فهم تَشَكُّل العُصَابَات؛ كَمَا العديد من الاضطرابات النفسية الكابِحَة لحرية الفرد، والمعيقة لانطلاقه في تجربة الحياة بشكل طبيعي وسليم.
تأسيسا على هذا عَمَد " سعد ابن الجنوي " إلى بناء تَسَاؤُلِه المركزي: " مَا خَبَايا إِصْرَار الناس على الإجابة بهاته العبارة : " الأَمْرُ عَادٍ " مَتَى ٱسْتُجْوِبُوا حول مَعِيشِهِم اليَوْمِي؟ "
فَلَئِنْ كانت فَحْوَى أجوبة المفحوصين تبدو لأول وهلة جَلِيَّةً وشَفَّافة، فإنها لا تُصَرِّح، مع ذلك، بخبايا الذَّوَات؛ وهو ما يقتضي سَبْرَ أَغْوَارِ هذا ال " عَادِي " بوضعه أمام مِبْضَعِ المُحَلِّلِ النفسي الرَّامِي إلى تَشْرِيحِ بَوَاطِن النفس، وتَقْلِيب طبقاتها العميقة.
في الحاجة إلى التحليل النفسي:
لا مِراء في أن عالم اليوم هو عالم التقلبات العنيفة والمتسارعة بلا منازع. فالملاحَظ أن هاته التحولات التي تعد استجابة لِطُوفَان العولمة الكاسح، المُتَمَخِّض عن سقوط جدار برلين؛ وانهيار المنظومة الشرقية ، ومستتبعات كل ذلك على جغرافيات بعينها من العالم أضْحَت تطرح اليوم، وأكثر من أي وقت ولَّى ، أسئلة لاَهِبَة حول المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والهويات الثقافية، والتاريخ، والتراث، والشغل، بالإضافة إلی قضايا التربية والتكوين، والأزمات الاقتصادية، ومآل النزاعات المسلحة المندلعة هنا وهناك، وانعكاساتها الوخيمة على كينونة الإنسان ومصيره..
لقد غدا الصراع، والقوة، والتطاحن، والتنافس على كافة المستويات والصعد من أجل الحصول على حصة الأسد من خيرات، وموارد، ومقدرات الأرض في عالم بات يدبر اقتصاد الندرة بكل الوسائل والطرق.. فلِتَطَالَ تدَاعيات كل هذا الصحة العقلية، والسَّلاَمَة النفسية للأفراد والجماعات وهو ما تُجليه الاهتزازات والرجَّات السيكولوجية التي رَصَدتها الأبحاث الميدانية لدی شرائح عُمرية عريضة نحو الاكتئاب، والرُّهاب، والكبت، والقلق، والوساوس، والتطرف، ووصولا إلى الإحساس بالذَّنب والشعور بالاضطهاد... أَفلَمْ يُسْهِمِ الانتقال التاريخي من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع البشري / الحضارة برأي " سيغموند فرويد "، في إعطاب دوافع الإنسان من خلال كبح غرائزه وقمعها؟ ( فرويد:1971. ص: 74-75)
هذا في تقديري ما يجعل الحاجة إلى العلوم الاجتماعية، وطلب التحليل النفسي تحديدا، أمراً لا مُنصَرَف عنه البَتَّة هدفًا لتَفَهُّم مستتبعات تلك التحولات على نفسيات الأفراد والجماعات.
هَلِ الأمور " عادية؟ ":
" الأمور عادية جدا ". " لا جديد تحت الشمس ". " لا أشتكي من أي مشكل ".. وما سواها من صِيِغٍ جَوَابية تُرَدِّدُها ألْسِنَةُ الناس بين ظُهْرَانَيْنا متى ٱستُفْهِمُوا عن حَيَوَاتِهم الخاصة، أو معيشهم اليومي ( ابن الجنوي. ص: 16-17). وحَرِيٌّ بنا أن نتساءل علی هذا النحو طلباً للبيان والإيضاح، والتَّبْيين الاستيضاح: هل الأمور في الحقيقة "عادية " مثلما يَرِدُ في تلك الإجابات المَسْكُوكَة؟
من المُحَقَّق أننا عندما نمنح فُرَصاً لمخاطبينا قصد الحديث عما تَمُور به أذهانهم فإن تداعي الأفكار، وتواترها تجعل مجموعة من المعلومات تطفو خلال مَجْرَی الكلام. ذلك أن ميكانيزمات الدفاع وكل أشكال المقاومة تنفلت من عقال الأنا ورقابته فتقذف بالمحلل صوب القعر للحفر في بواطن الذات تَوْقاً لاستجلاء اللامرئي، والمحتجب النفسي، وكل ما يتقنَّع خلف الهفوات، والحركات، والإشارات، والايماءات، والرموز، والعلامات، والصور البلاغية، من معانٍ ودلالات بالغة الأهمية.
بهذا المعنى، وبسواه أيضا، لا تعدو أن تكون عبارة " الأمور عادية وطبيعية " " الشجرة التي تخفي الغابة " ( سعد ابن الجنوي. ص:18) بحُسبانها تُضْمِر دقائق اللاوعي لِتَحُولَ دون إشهار مكنوناته في واضحة النهار، وتلك هي مهمة فن التحليل النفسي منذ " سيغموند فرويد " إلى حدود وقتنا الراهن. (فرويد،1981 ص:131-132)
ومرادنا أن لغة اللاشعور لغة مُغَلَّفَة. مُعْتِمَة، وغير شفَّافة بمطلق الأحوال. لغة خارج اللغة، تقول ما لا تعني و" تعني غير ما تقوله " (فوكو:1985، ص:67- 68) بالنظر إلى قدرتها الهائلة على المباغثة، ولعدم قابليتها للقهر والكبح استِتْبَاعاً.
يكتب " سعد ابن الجنوي " في هذا المضمار:
" وهكذا فاللاوعي... كالقاطرة التي تجر وراءها، ومن غير أن تدري، عربات عديدة ومحملة بالمعاينة بحيث تَهْتَبِلُ فرصة لأجل بلوغ وِجْهَتِهَا المتمثلة في أن تُسْمَع، وأن تُسْمَعَ بالفعل." ( ابن الجنوي. ص: 18). إذ خَلْفَ الكلام المَقُول تَتَوَارَى ديناميات اللاَّمَقُول، كأصدَق تعبيرٍ عن طبائع الإنسان، ودَوافِعِه الأَصْلِيَّة بما هو " كَائِنٌ نَزَوِي " بامتياز.
لذلك رد " سعد ابن الجنوي" ك " سيغموند فرويد " تَشَكُّلَ الاضطرابات النفسية والأعْصِبَة، وأُسُسَ الإحباطات، وعدوانية الإنسان التي عَايَنَهَا لدى مرضاه إلى " القلق الأصلي " اللَّصِيق بجدلية الفطري والمكتسب، الطبيعة والثقافة؛ الدوافع ومبدأ الواقع (= الموانع، والضوابط، والتُّخُوم، فضلا عن القيم، والقواعد، والنظم والمؤسسات، ( ابن الجنوي. ص: 64 و45) وبحاجة الطفل إلى ثدي الرضاعة، أي إلى أمه بفصيح العبارة؛ وهي حاجة لن يُعَكِّرَ صَفْوَها عَدَا الغياب المتكرر للأم عنه. الغياب الذي يشعره بالإهمال فَيُذْكِي فيه الإحساس بالهَجْر وهو ما تُجْلِيه علی أَفْضَلِ نَحْوٍ مُمْكِن فَوَرَات الهَيَجَان العارِم التي تنتاب الرضَّع حين غياب أمهاتهم ( = صراخ، بكاء حاد، عدوانية مفرطة...) ليتعذر معها ترضيتهم رغم حضور أمهاتهم ومحاولتهن تلطيف حدة غضبهم وتليينها. يكتب " ابن الجنوي " قائلا: " ستشكل غيابات الأم بالنسبة له ( = الرضيع ) خطرا حقيقيا. " ( ابن الجنوي. ص: 109) يستشعره الرضيع فيهدِّدُ استقراره النفسي، ويُربِك فيه دافع الحب، وليُقَوِّضُ في نهاية المطاف روح ٱطمئنانه للغير، وٱنسجامه ومحيطه الخارجي. ( ابن الجنوي. ص: 107 و109 و110). هكذا يظل الثدي طَيْفا يطاردنا باستمرار دون أن نَفْطِنَ لأمره إلى حَدِّ أن حاجتنا الدفينة إليه تكشفها لحظات العِشْق، والهَيَام، وحالات الوَجْد، والتَّوَلُّه بالمَحْبُوب التي نُلْفِيهَا بين طَيَّات شِعْر الغَزَلِ، والأغاني العربية الكلاسيكية " التي طَبَعَتْنَا / تَطْبَعُنَا بمَيْسَمِها وإلى الأبد... أم كلثوم، (محمد) عبد الوهاب، عبد الحليم ( = حافظ )، أو تلك التي تُؤَدَّی حاليا ". إنَّهَا أَغَانٍ "جَذْرُها المشترك تَغَنِّيهَا بالغائب، وبالحبيب الذي يطوحُ بِنَا طَيْفُه في لَوْعَة المُعَاناة، ويُغْرقِنَا فُقْدَانه فِي جَزَعٍ نَتَسَامَى بِه بإلإقبال على الإبداع الفني." ( ابن الجنوي. ص: 76).
مُحَصِّلَة:
انطلاقا مما سبق نَسْتَشِفُّ بأن المقولات الفرويدية ماتزال تحتفظ بقيمتها، وراهنيتها في استكشاف الشخصية الإنسانية، والاقتراب من ديناميات أفعالها ورغباتها. فلا تنمية بإطلاق من دون العنصر البشري. ولا نهضة قط من غير خَلْخَلة جذرية لِلبنى الذهنية، وتَفْكِيكٍ لمنطق التفكير المُعَثِّر لانطلاق الإنسان في تجربة الوجود.
لهذه الاعتبارات، وما أكثر سواها ، يظل التحليل النفسي تساؤلا منتظما، وخَلاَّقا لِقُصُودِه في تحرير الذات الفردية (= والجماعية) من تَثَاقُلاَتِ التاريخ، وحِصَارِ المكبوت، وتركيبات اللاَّوعي أملاً في أن تُقْبِلَ الذَّات طليقة حرة على الحياة بكامل المسؤولية، وفي استقلال تام عن كل السلط الداخلية والخارجية التي تعمل على قَوْلَبَتِهَا وتَحْنِيطِهَا. أَفَلَمْ يَقلْ " جاك لاكان " إنَّ للتحليل النفسي بُعْدًا تَحَرُّرِيًا؟
هوامش:
- Belgnaoui ( Saad ): 2021, Psychanalyse de la vie ordinaire, L’Harmattan, Paris, France.154 pages.
- Freud ( Sigmund ): 1971, Malaise dans la civilisation, P.U.F, Paris, France.
3- فرويد ( سيجموند ):1981، تفسير الأحلام، ترجمة: مصطفى صفوان، راجعه مصطفى زيور، دار المعارف، القاهرة، مصر.
4- فوكو ( ميشيل ): 1985، نيتشه، فرويد، ماركس، يوجد ضمن: " نظام الخطاب وإرادة المعرفة "، ترجمة: أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب.