عند بحثي لهذا الموضوع، فكرت في الرجوع إلى أربعة أقانيم تعتبر أساسية لفقهه، وهكذا رجعت :
أولا : إلى القرآن وأنا أعرف مبدئيا أن الرجوع إليه في مسألة فقهية سوف يفتح أمامي خيالات متعددة لانفتاحه وللفراغات التي تركها للسنة النبوية من جهة، والعقل من جهة أخرى، هذا ناهيك عن إرادة المشرع في عدم دخوله في التفاصيل الدقيقة حفاظا على مقصوده المتجلي في التعبد والذكر وحفاظا كذلك على نسقه وجماليته الأخاذة … ولذلك فليس من مصلحة القرآن أن يدخل في هذه التفاصيل .
ثانيا : رجعنا إلى السنة النبوية، فاكتشفنا وللأسف تعارضا كبيرا بين النصوص فسح لنا المجال الواسع للمعاني والتفاسير والمواقف… حجبت عنا التطورات التاريخية التي تطورت فيها هذه اللفظة أو تلك من الألفاظ، ولعل حصول ذلك يقتضي منا إعادة ترتيب هذه النصوص ترتيبا تاريخيا نتمكن بواسطته من التأريخ للأفكار على الأقل إبان الفترة المكية والمدنية من تاريخ المسلمين.
ثالثا : رجعت إلى المعاجم وكنت آمل من هذه المظان أن تعكس لنا تصورات تاريخية للمعاني التي تطور فيها هذا اللفظ أو ذاك، غير أنه وللأسف لم نظفر بذلك، ولعل هذا راجع إلى تخصص هذه المعاجم في تقريب تصورات المعاني واشتقاقها وصرفها وجمعها وغير ذلك.
رابعا : وقد عدت فيه إلى المؤلفات الفقهية، وهي ولا شك ستفسح لنا من خلال نقاشها الفقهي بعض التصورات التاريخية التي تفيدنا في تطور المعاني في الفقه. لكن ضآلة التاريخ في خضم الفقه غيب عنا هذا الإحساس بالظرف التاريخي المتحدث عنه، هذا إضافة إلى اقتصار الفقهاء على الهدف الفقهي-النفعي- زاد من خفوت المادة التاريخية داخل هذه الكتب، ولذلك فالوارد على المظان الفقهية لا ينتظر إيجاد حديث عن تطور لغوي لمعنى من المعاني.
لهذا فالدعوة إلى كتابة تاريخ معاني الألفاظ لا شك أنها عامل مساعد لفهم كثير من القضايا التي تتعلق بالنص القرآني من جهة، والحديث والأفكار من جهة أخرى، ولا شك أنها كذلك عامل مساعد على فهم بعض الفقهيات في فترة تاريخية معينة، وإن كنا لا نقتصر عليها، ولكن ينبغي التفكير فيها إلى جانب طرق التحليل اللغوي والشرعي والأصولي…
وعليه فقد عدلت عن فكرة كنت عقدت العزم على إثارتها في هذه المداخلة والتي تتعلق بتتبع تطور لفظ "الماء" عبر صنف من تاريخ الإسلام أو على الأقل تتبع تطور اللفظ عند بعض الفقهاء في مذهب فقهي معين، وقصرت بحثي على دراسة الماء من وجهة نظر أصولية، وإن كنت لابد من أن أعرج على الفقه فقد حصرت حديثي فيه في المجال الذي يرتبط فيه الماء بالطهارة غير آبه بالماء في فقه "المزارعة" وفقه "المساقاة" وفقه "السواني والآبار" وغيرها.
والملاحظ أن ربط الماء بمجال الطهارة فسح المجال كبيرا للاختلاف بين الفقهاء – على الأقل – لسببين :
السبب الأول : القرآن لم يفصل في المسألة بل اكتفى بالحديث عن الماء وصفته الماثلة في الطهارة بشكل مطلق، قال تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" (الأنفال 11)
وقال تعالى : "وأنزلنا من السماء ماء طهورا" (الفرقان 48)
السبب الثاني : الحديث أثار كثيرا من القضايا التي تتعلق بالماء ولكنها متعارضة الأمر الذي ترتب عنه فقه مختلف بناء على اختلاف هذه النصوص :
1- حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"1
2- حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه."2
3- حديث النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم3.
4- حديث أنس : "أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح الناس، فقال رسول الله (ص) : دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله (ص) بذنوب ماء فصب على بوله".4
5- حديث الخذري قال : " سمعت رسول الله (ص) يقال له إنه يستقي من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس، فقال النبي (ص) : " إن الماء لا ينجسه شيء".5
فالشافعي وأبو حنيفة حاولا الجمع بين هذه الأحاديث المتعارضة في معناها الظاهري بناء على تجاوز هذا المعنى إلى المعنى الباطني (المفهوم)، وهكذا استنتج الشافعي أن الجمع بين حديث "أبي هريرة" وحديث "الخذري" المتعارضين يكمن في جمعهما في الحديث عن قلة الماء وكثرته اعتمادا على حديث "عبد الله بن عمر" عن النبي (ص) : "إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة"، أو "لم يحمل خبثا"6.
واستنتج أبو حنيفة اعتمادا على القياس في تقدير حمولة الماء للنجاسة وتنجسه بناء على ملاحظة حركة الماء عند سقوط النجاسة والتي ينبغي أن لا يبدو من ذبذباتها أنها حركت الماء من جهة في طرف إلى جهة في طرف آخر وإلا اعتبر الماء نجسا.
لكن هذين الاجتهادين يعترض عليهما :
1- بحديث الأعرابي من حديث أنس.
2- وبتأويل حديث ابن عمر إلى ما يصدق على القياس وتقديمه7.
ولهذا أسف الغزالي على شيخه الشافعي عند خوضه في هذه المسألة وتمنى لو أن الشافعي انتحل طريقة أستاذه مالك في المياه "وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك (ض) في أن الماء وإن قل لا ينجسه إلا بالتغيير، إذ الحاجة ماسة إليه، ومثار الوسواس اشتراط القلتين، ولأجله شق على الناس ذلك، وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله"8.
إن اختلاف الفقيهين واختلاف الفقهاء على الأحاديث المذكورة وغيرها في باب "المياه" دفعت بالفيلسوف- الفقيه "ابن رشد" إلى توقع تأويلات أخرى اعتقد أنها جامعة لهذه الأحاديث، فاعتقد في :
مجموعة أبي هريرة أنها محمولة على الكراهة.
ومجموعة أنس والخدري أنها محمولة على الجواز.
"وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهة، وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز.."9
فاعتقاد ابن رشد في هذه الأحاديث يستدعي أكثر من اعتراض، فكيف يدعي في ما قلت نجاسته في الماء على الكراهة؟ وبالمقابل كيف يمكن حمل ما كثرت نجاسته على الجواز؟ أضف إلى ذلك كيف يمكن تحديد معنى الكراهية بما لا ينضبط بحال من الأحوال؟"وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث.."10
ما كنت أظن بمثل ابن رشد الفيلسوف –الفقيه أن يضعف أمام تحليل وجمع النصوص وقد أحس الفيلسوف بذلك، و ربما هذا راجع إلى أن المسألة لم تأخذ مأخذها من الأهمية على الأقل في فترة كتابة هذا المدون، فاهتمامات ابن رشد أكبر من ذلك، وقد تكتشف عند تعليقه على هذه الاختلافات الفقهية "فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الاجتماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين، فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها، ولوددنا لو سلكنا في كل مسألة هذا المسلك، ولكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض".11
وعلى كل ما عسى ابن رشد يفعل كذلك -باجتهاد أبى حنيفة- في تجويز الوضوء بالنبيذ؟ بل الأخطر من ذلك ما عساه يفعل بحديث ابن عباس "أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فسأله رسول الله (ص) فقال: هل معك من ماء ؟ قال : معي نبيذ في إداوتي فقال رسول الله (ص) : اصبب فتوضأ به، وقال: شراب طهور، وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم ثمرة طيبة وماء طهور".12
أيكتفي ابن رشد بتضعيف الحديث على عادة المحدثين، مع علمه أن الفقهاء يستشهدون بالحديث الضعيف للزومية الظن كل أنواع الحديث سواء منها الصحيحة أو الضعيفة ؟
ألم يسأل ابن رشد على عادته عن سبب اختلافه العميق مع أبي حنيفة في اتخاذه هذا المذهب دونه ؟
ماذا كان بإمكان ابن رشد قوله وقد تجاوز كثيرا من الأحاديث عند إرادته الجمع بين أحاديث المياه؟ وذلك مثل :
1- حديث الوضوء بماء البحر، روي عن أبي هريرة قال "سأل رجل النبي (ص) قال: يا رسول الله إننا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإذا توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله (ص) "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"13.
2- حديث النهي عن الوضوء بالماء المسخن بالشمس ، روي عن عائشة (ض) قالت : " دخل علي رسول الله (ص) وقد سخنت له الماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء فانه يورث البرص …"14
3- حديث الاغتسال بوضوء رسول الله (ص) روي عن جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم عاد جابرا في مرضه فتوضأ وصب عليه من وضوئه"15
لم يكن بإمكان ابن رشد أن يقول شيئا في مثل هذه الأحاديث وغيرها دون أن يغير طريقة بحثه فاقتصاره على التأويل اللغوي ربما لا يجدي –على الأقل- في هذا الباب باب المياه، ومن هنا لابد من الخروج من النصوص إلى ما يمكن الجمع بين هذه النصوص من جهة، وما يمكننا من إعطاء تأويلات مقبولة ونسبية لهذه الأحاديث من جهة أخرى.
ولعل أحسن ما يمكننا من قراءة هذه النصوص قراءة منهجية دقيقة يلتمس في قاعدة "الدوران" وهي قاعدة وإن كانت لا تصدق على كل هذه الأحاديث فهي ولا شك تصدق على أخطرها تعارضا مع الدين والفكر ولعلي أقصد "مسألة الوضوء بالنبيذ" وفتوى ورثة الخمر وغيرها كثير.
والقاعدة في مجملها تحدد في اعتبار الحكم مع اعتبار العلة في الوجود والعدم أو هي تصور الحكم مع طبيعة العلة في الوجود والعدم.
وتنبني أساسا على فكرة "التغيير" لا على فكرة "الاستحالة" فالأولى تحقق فكرة دوران الحكم في الوجود والعدم والثانية طردية لا تتصوره إلا في العدم وهي منقوضة في هذه الحالة خاصة "الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول : فإن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث، والطيب والخبث باعتبار صفات قائمة بالشيء، فما دام على حاله فهو طيب، فلا وجه لتحريـمـه، ولهذا لو وقعت قطـرة خمـر في جب لم يجلد شاربه"16
أما عن مقتضيات تطبيق القاعدة فتنحصر في :
1- قلب وصف الطهارة المذكور في النص غير المنضبط إلى ما يقوم مقامه من الأوصاف المنضبطة ولعلي أحصرها كما في الحديث في الريح واللون والطعم- "الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب عليه، فغير طعمه أو لونه، أو ريحه"-17 وهنا ممكن قلب هذا الوصف غير المنضبط إلى ما يقوم مقامه وقد قام الفقهاء في كثير من المناسبات بذلك كقلب وصف "الرضى" في الزواج والبيع وهو صفة جوانية إلى ما يقوم مقامها من الصيغ الظاهرة والكامنة في "الإيجاب والقبول".
وكما هو ممكن قلب الوصف ممكن –كذلك- التعليل بأكثر من علة قياسا على البر المعلل بالادخار والكيل والطعم.
2- إن الانقلاب على ترتيب الأصول ومحاولة قراءتها بالاجتهاد يكون مدعاة للاعتراض بدعوى التخلي عن النص لصالح القراءة القياسية، فهذا من الممكنات التي قام بها بعض الفقهاء لاعتبارات "مقصدية" أو "حكمية" كما ادعى "القرافي" وهو بصدد تبريره تقديم القياس على الكتاب والسنة، فليس في الترتيب وحي أو توقيف يعوقنا على إمكان إعادة ترتيب هذه الأصول… من يدري وقد يكون الأمر كذلك وأن النص جاء لتحقيق حكمة -وقد خفيت علينا- وليس لتحقيق الحكم...
3- إنه ينبغي الاعتقاد أن "التغيير" يجري على الأشياء عامة والماء على وجه الخصوص، ومن تم ينبغي الاعتقاد في تغيير الحكم وقد يتغير الحكم كما تغير وصف الشيء، بمعنى أن الماء طاهر وحكمه التطهر (الوضوء به).
وقد ينجس (يغير) فحكمه عدم التطهربه، ومن تم كذلك عدم الوضوء به، وقد يصير بفعل ما طهورا فيغير حكمه لتغيره فيصير طهورا ومطهرا. وفي هذا الإطار ينبغي فهم دعوى جواز الوضوء بالنبيذ في فتوى أبي حنيفة وحمل كل الفتاوى التي تدعي نفس الادعاء على نفس الحكم لأنها تتحدث عن نبيذ تغيرت صفته فتغير لذلك حكمه.
"روي عن علي (ض) - وليس بثابت عنه- أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وبه قال الحسن البصري والأوزعي وقال عكرمة "الخمر نبيذ وضوء من لم يجد ماء". وقال إسحاق : النبيذ حلوا أحب إلي من التيمم، وجميعها أحب إلي.
وعن أبي حنيفة كقول عكرمة. وقيل عنه يجوز الوضوء بنبيذ الثمر، إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر"18.
أما عن حديث "ابن عباس" فممكن حمله على ارتفاع معنى الإسكار في النبيذ المشار إليه.
وعلى هذا يمكن القول: إن النبيذ والخمر يتغير كلما دخلت عليه أشياء أو فعلت فيه أشياء فعلها ليس فقط بالطبخ كما أشار الحديث ولكن كذلك بعمليات أخرى تنقله ليس إلى الماء ولكن إلى عين أخرى كتخلله وهو الأمر الجائز عند الفقهاء وأصحاب الفتوى. "تخليل الخمر جائز، وسواء كان بعلاج بأن ألقي فيها الملح، أو الخل ونحوه، أو بغير علاج، بأن نقلها من الظل إلى الشمس أو على العكس".19
وهنا يمكن إدخال كل عين محرمة تغيرت بفعل ما إلى عين غير محرمة بعد تغير صفتها، وهكذا يمكن تفسير "حديث الأعرابي" الذي رواه أنس وهو يمكننا من تأويل وقراءة كل الأحكام التي تتصف بصفة ما وقد علق الحكم عليها :
فقد كانت أمكنة المسجد طاهرة، فتأثر هذا الحكم بزوال وصف الطهارة بسقوط النجاسة عليه، فصب الماء على المكان فعاد إلى حالته الطاهرة…
ويمكن -كذلك- قراءة الحديث الذي رواه "ابن عمر" على فرض تأويله إلى اعتبار العبرة فيه بالتغير لا بالقلة والكثرة التي لا تنضبط "فالصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، والنجاسة لا تزول به حتى يكون غير متغير، وأما في حال تغيره فهو نجس لكن تخفف به النجاسة، وأما الإزالة فإنما تحصل بالماء الذي ليس بمتغير".20
الملاحظ هنا أنه ممكن تعميم القاعدة على كل الأحاديث التي لم تخرج مخرج سبب أو ظرف من الظروف أو خصوص متعلق بالمشرع وذلك كلما اتصف نص أو حكم بوصف من الأوصاف وكان معقول المعنى، وما أكثر النصوص والأحكام التي تتصف بذلك وتقتضي خروج المستنبط من عقال اللغة إلى مجال التأويل الفسيح..
إلى هنا ما صنيع الباحث بباقي النصوص الحديثية، التي لم يشملها التحليل؟ أو على الخصوص التي لم تشملها القاعدة لسبب من الأسباب؟
ولعلي أقصد بها:
1- حديث جواز الوضوء بماء البحر
2- حديث النهي عن الوضوء بالماء المسخن بالشمس
3- حديث الاغتسال بوضوئه صلى الله عليه وسلم
4- حديث الاقتتال على غسالته.
إن الناظر إلى هذه الأحاديث يرى أنها تنقسم إلى مجموعتين :
المجموعة الأولى حديث جواز الوضوء بماء البحر وكل ما خرج مخرج سبب معين فهذه خاصة لخصوصية السبب الذي تعلق بعموم المذكور فيه، فهذه يمكن قراءتها بقاعدة "العبـرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ"، وقد يقع فيها الاختلاف بين الفقهاء نتيجة اختلافهم على القاعدة، فاتجاه يأخذ بالعبرة السببية ويخصص الحكم في الأشخاص الذين سألوا عن ماء البحر، وفي الظرفية… واتجاه يأخذ بعموم اللفظ فيحذف السبب ويأخذ بقول المشرع ويعمم القاعدة على من نزل النص فيهم وفي غيرهم21.
المجموعة الثانية حديث النهي عن الوضوء بالماء المسخن بالشمس
وحديث عيادة، الرسول (ص) لجابر
وحديث اقتتال الصحابة على غسالته.
فهذه الأحاديث خرجت مخرج الاستشفاء والتبرك "قال الشافعي : تكره الطهارة بماء قصد إلى تشميسه في الأواني، ولا أكرهه إلا من جهة الطب"22
إن ما يمكن استنتاجه في هذه العجالة :
أولا : إننا تمكنا من إعادة تصنيف هذه الأحاديث تصنيفا آخر يعتمد على :
1- الجمع بين ما يمكن الجمع بينه
2- وتفريق ما يمكن التفريق بينه.
ولعل خطأ الفقهاء يكمن في هذه الظاهرة، أنهم جمعوا بين المختلفات وفرقوا بين المتفقات "فإن هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين".23
ثانيا :إن إعادة إحياء قاعدة "الدوران" هو إحياء لفكرة كونية تتجلى في كل متغير وقد تتجلى في الكون، وكرويته تدل على المصطلح في فعله وتدل على التغير الدائم لهذا الشكل الكروي الأرضي الحادث… وقد يكبر في تفكيرنا فكر ابن خلدون لما صاغ تاريخه على هذه الفكرة الكونية، وأثبت أن أحوال الدول والأمم في قيامها وموتها تبع لأحوالها؛ فهي فانية كلما انتفت أسباب وعلل قيامها أو قائمة كلما ظهرت أسباب وعلل قيامها "اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومسالكهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعة من الأحوال".24
ثالثا : إن إعادة إحياء هذه القاعدة على الرغم من ظنيتها -فالحديث وإن صح فهو ظني والنصوص جميعها مهما سما الإنسان في تفسيرها تبقى ظنية- فهي ولا شك ستحل كثير من معضلات التفسير في ثقافتنا المعاصرة، ألم تعد الضرورة اليوم أكثر مما مضى- مستدعية تجاوز القراءات القديمة واستحضار أخرى أقبرت لا لشيء إلا لتزمت هذا الباحث أو ذاك من الباحثين؟ ألا تجاوزنا القراءة الضالة والمضللة إلى أخرى تنفض عنا غبار التدني والتخلف..
لقد أوحى لي لفظ الأحوال الخلدوني باستحضار حكاية جحا وزوجته، وقد تمعنت فيها لما كنت بصدد التلهي بالهزل عن الجد فاكتشفت أن ما كان يعتقد في تخلف الكتب الصفراء لا يعني في حقيقة الأمر إلا تخلف القارئ: "(تقدمت زوجة جحا يوما إليه) وقالت له والهياج آخذ منها مأخذه : لا أدري ماذا حدث لهذا الطفل فهو لا يفتر عن البكاء مهما عملت له، وقد عجزت، فإن كنت تعمل له حجابا للنوم أو تقرأ له دعاء (…) أو تصنع ما أنت صانعه، فقد كلت يداي من حمله وهزه.
فأجابها الشيخ : ولماذا ترتبكين؟ هاتي هذا الكتاب ضعيه أمامه وقلبي أوراقه، وأعطاها الكتاب، فغضبت. وقالت: كأنك تريد أن تمزح معي، وأخذت تعنفه (…)
فأجابها الشيخ : أيتها المرأة أنا عملت الوسائل اللازمة، فما معنى هذا الكلام الجاف الذي توجهينه إلي وتقلقين راحتي به؟ فاعتدلت المرأة بحديثها وقالت له بلسان حاد : ما هذا الكتاب وماذا يكون؟
فأجابها الشيخ : اخفضي صوتك وتكلمي.. فهذا كتاب -القدوري- الذي كلما أقرأه في الجامع على التلاميذ يحوم عليهم النوم وبعضهم ينام نوما عميقا ويأخذ بالغطيط فطالما أن الرجال العقلاء (...) ينامون كالمسحورين من تأثيره فكيف لا يؤثر بهذا الطفل الصغير كالأفيون".25
المصــادر والمراجــع
القرآن الكريم
- الإحياء / الغزالي.
دار الكتاب العربي د م ط/د ت ط.
- إيثار الإنصاف في آثار الخلاف/ سبط بن الجوزي
تحقيق ناصر العلي الناصر الخليفي ، دار السلام الطبعة الأولى 1987
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد / م ابن رشد
دار المعرفة الطبعة السادسة 1982
- التمهيد/ ابن عبد البر.
تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري.
نشر وزارة الأوقاف .الرباط الطبعة الثانية .1982
- تأسيس النظر/ م الدبوسي الحنفي
تحقيق مصطفى محمد القباني الدمشقي
دار ابن زيدون ،بيروت ومكتبة الكليات الأزهرية القاهرة .د ت ط.
- روضة الناظر وجنة المناظر/ ابن قدامة المقدسي.
دار الكتاب العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى 1981.
- فتح الباري لشرح صحيح البخاري/ ابن حجر العسقلاني
تحقيق عبد العزيز ابن عبد الله الباز.
دار المعرفة. بيروت لبنان. د ت ط .
- فقه العبادات الميسر على المذهب الشافعي / محمد خلف القزعل.
دار الخير . دمشق الطبعة الأولى 1996.
- كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج / أبو الوليد الباجي.
تحقيق عبد المجيد التركي.
دار الغرب الإسلامي. بيروت لبنان. الطبعة الثانية.1987 .
- كتاب المعونة في الجدل / أبو إسحاق الشيرازي.
تحقيق عبد المجيد التركي.
دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان الطبعة الأولى .1988
- كتاب الموطأ / م مالك.
مراجعة فاروق سعد.
منشورات دار الآفاق بيروت، الطبعة الثانية 1981.
- كتاب الأشربة / م أحمد بن حنبل.
تحقيق عبد الله بن حجاج.
دار الجيل بيروت ومكتبة التراث الإسلامي القاهرة. الطبعة الثانية 1985
- مقدمة ابن خلدون.
دار القلم بيروت، لبنان. الطبعة الأولى 1978.
- مجموع فتاوى / ابن تيمية.
مكتبة المعارف، الرباط د ت ط.
- المغني / ابن قدامة المقدسي.
تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو.
دار عالم الكتب، الطبعة الرابعة .1999
- مفتاح كنوز السنة / د ا ي فينسنك ترجمة فؤاد عبد الباقي.
دار القلم ، بيروت، لبنان. الطبعة الثانية .1985
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / محمد فؤاد عبد الباقي.
دار الفكر ،بيروت ،لبنان. د ت ط.
- المعيار المعرب / الونشريسي.
نشر وزارة الأوقاف الرباط مطبعة فضالة المحمدية المغرب طبعة .1981
- نوادر جحا الكبرى.
المكتبة الثقافية، بيروت لبنان، د ت ط .
Dutton (y) .the introduction to Ibn Rushd’s Bidayat Al-Mojtahid.
Review Islamic law and Society.Vol 1 n 2 August 1994.
1 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد/ ابن رشد 9/1 (يفهم من الحديث أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء)
2 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري 346/1 (يفهم منه نفس المعنى السابق)
3 - المغني / ابن قدامة 35/1 (يفهم منه أن قليل النجاسة ينجس كثير الماء)
4 - بداية المجتهد / ابن رشد 24/1 برواية أبي هريرة التمهيد / ابن عبد البر 331/1 وفتح الباري 323-322/1 (يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس وقليل الماء يطهره)
5 - بداية، المجتهد 25-24/1 انظر برواية أخرى التمهيد 327/1 (ظاهره أن كثير النجاسة في كثير من الماء لا تنجسه)
6 - التمهيد / ابن عبد البر 328/1
7 - إضافة إلى اعتراض ابن عبد البر على صحته انظر التمهيد 329/1
8 - الإحياء / م الغزالي 229-228/1 تتبع رأي مالك في التمهيد 328/1
9 - بداية المجتهد 26/1
10 - نفسه
11 - نفسه 27-26/1
12 - نفسه 33/1 انظر كذلك المغني / ابن قدامة المقدسي 19-18/1
13 - المغني 16/1انظر موطأ مالك 40 انظر كذلك ماحكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو أنهما قالا في البحر : التيمم أعجب إلينا منه … المغني 16/1 .
14 - المغني 28/1
15- فقه العبادات الميسر / محمد خلف القزعل 24. ومن مثله أن الصحابة كانوا يقتتلون على غسالته.
16 - الفتاوى / ابن تيمية 517/20 انظر كذلك المعونة في الجدل 237-236
17 - التمهيد / ابن عبد البر 332/1.
18 - المغني / ابن قدامة 19-18/1.
19- إيثار الإنصاف في آثار الخلاف / ابن الجوزي 375 : انظر كذلك تأسيس النظر / الدبوسي 62-21.
20 - مجموع الفتاوى / ابن تيمية 518/20.
21 - روضة الناظر وجنة المناظر/ ابن قدامة المقدسي 205.
22 - المغني / ابن قدامة 28/1.
23 -بداية المجتهد 26/1
24 - مقدمة / ابن خلدون 35
25 - نوادر جحا الكبرى 75-74