في ظل الحدث الاحتفالي الذي تعرفه الدول الإسلامية في هذا الشهر "الحرام" يعود إلى الواجهة طقس ديني ضارب بجذوره في أعماق التاريخ البشري ، إنه طقس الذبح أو النحر بما هو سلوك يُبرز إلى الواجهة تجدُّر العلاقة الجدلية بين الأسطوري- الديني و الديني- الإنساني من جهة أخرى، هذه العلاقة تتجسد من خلال ممارسة تطبيقية ترمز إلى استمرار الميثاق الديني المبني على الطاعة و الوفاء للآلهة \الإله و هو طقس تقديم القرابين، ومن جهة نظر أنتربولوجية يمكننا النفاذ إلى عُمق الممارسة لمقاربتها كما هي في الإسلام دونما الخوض في نقد القيمة الرمزية لهذا الفعل أو دونما تعكير صفو الممارسة بما هي جزء من إطار ثقافي شامل يخص الإنسان و المجتمع الإسلامي ، لكن و من جهة أخرى لن نكون مُلزمين بالتخندق ضمن أنظمة الفهم اللاهوتي القاصر و التي تفقه الفعل الديني في مستواه السطحي و تُحيل دوما إلى شرعيته الثابتة دونما الخوض في مُساءلته من خلال الكشف عن رمزيته و توافقاته الضرورية مع الراهن أو اللحظة التي ندّعي فيها عيش الحداثة ، ببساطة لأن الأنظمة اللاهوتية (الفقهية فيما يخص الإسلام) " تستمر في إهمال المقولات الأنتربولوجية و الجانب التاريخي الظرفي من السياقات الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي كانت قد رُسّخت فيها الحقائق الإلهية المعصومة و المُقدّسة و العقائدية " {1}، و نحن هنا لا نهدف إلى الكشف عن الجانب التشريعي للقربان في الإسلام من أجل الكشف في حد ذاته كغاية نهائية، بل إن فهم السلوك القُرباني سيكون الهدف من ورائه مساءلة شرعيته أيضا و بالتالي الخوض مُكرهين فيما لا مهرب منه، أي الخوض في الشرعية القُرآنية و فهم الميكانزم الكامن وراء التشريع للذبيحة التي تصير بفعل ظروف سوسيو- نفسية شبه إلزامية إذا ما وضعناها في سياقها الواقعي المُعاش حيث يتضافر العامل النفسي و الاجتماعي (صورة الشخص أمام الجار أو المجتمع بصفة عامة).
إن قيمة الممارسة الدينية لا تقوم بتحيين نفسها إلا من خلال المخيال الجماعي الذي يؤسس للشرعية الدائمة للسلوك و يُرسي الفعالية التاريخية لهذا السلوك إذ إن " المخيال يُساهم في هذه الفعالية بصفته وعاء من الصُّور و قوة اجتماعية ضخمة تكمن مهمتها في إعادة تنشيط هذه الصور بصفتها حقائق رائعة و قيما لا تناقش لكون الجماعة مستعدة لتقديم التضحية العُظمى من أجلها"{2}.
و المخيال البشري هو الذي يضفي على سلوكيات الناس شرعيتها "الأزلية" و خاصة إذا ما ارتبط هذا المخيال بنص مُتعال – زعما- عن التاريخ كالنصوص المُمقدسة ، لأن المخيال يُضفي شرعية على سلوك معين و يقوم بتحيينه و"تنشيطه" إذ يرمي به خارج الصيرورة التاريخية من حيث المبدأ المؤسس له، فالنحر بالنسبة للمسلم ليس فعلا بشريا في رمزيته و إنما هو لله أو لوجه الله ، و نحن نعي جيدا أن ما لله فهو ثابت واجب و إلزامي و بالتالي فهو خارج التاريخ ، و خير دليل على اعتباره خارجا عن التاريخ بالنسبة للمسلم هو سلامته من أي تحوير معين و لو بسيط، فسلوك النَّحر ظل كما رسَّخته الأقصوصة الدينية التي تحكي جزئياتها مكابدات النبي إبراهيم و ابنه إسماعيل في سبيل " خلاص البشرية" و كما رسخته السُّنة المحمدية التي ينهل منها المسلم سلوكياته و أساساتها، لكن وقبل الخوض في تشريح المفهوم الديني للقربان المتبلور في النص القصصي الإبراهيمي كما هو في سورة الصافات لنوضح أولا ما المقصود بالقربان و ما وظيفته الاجتماعية و الرمزية.
1)- القربان- وظيفته.
1)- أ – القربان:
نشأ القربان أول ما نشأ في ظل الديانات التعددية التي لا توحد الله، فتوحيد الآلهة في شكل إله واحد سيكون مع إنجاز النص التوراتي، لأن بني إسرائيل هم الذين وحدوا الله بالنص و الفعل الشعائري فاعتبروا الله واحدا في الجوهر، أما قبلهم فكانت الديانات الثنوية الكونية تجعل من الله اثنين: النور \ الظلام – الخير\ الشر ... خاصة ديانات بلاد فارس القديمة : المزدكية \ الزرادشتية \ المانوية ....و في ظل تعدد الآلهة لم يكن الإنسان يواجه قوة مُفارقَة واحدة إذ إن ظواهر الكون المتعددة كانت مختلفة فترتب عنها اختلاف و تعدد الآلهة، إله الزرع و الخصب يرتبط بالمطر، إله البحر يرتبط بالسفر و الملاحة، إلهة الجمال ترتبط بالزينة و بالمعايير البشرية للجمال و بالتالي فالتودد إلى الآلهة سيرتبط بالمواسم و بالظروف الجزئية للعشائر، و غالبا ما تتضافر هذه الظروف جميعها لتحضر الأرضية اللازمة للمُمارسة القربانية، فحين يشتد الجفاف و القحط في مجتمع الزراعة كانت القرابين توجه على إله الخصب كما يلاحظ ذلك الباحثون الأنتربولوجيون حول مجتمعات ما بين النهرين (البابليون – الكنعانيون – الآشريون)، و حين تعم الأوبئة و الأمراض و لا تفيد التضرعات و الأدعية و البكاءات و الصلوات تتجه العشيرة إلى سفك دم مجموعة من أبنائها تكفيرا عن خطإ تعتقد أنه سبب الوباء الذي بعثته الآلهة عقابا لهم، و هذا الفعل القرباني ظهر منذ القديم في مجتمعات أمريكا اللاتينية خاصة حضارتا المايا و الأزتيك حيث كان كهنة الهيكل أو المعبد يجتمعون عند سفح الهرم و ينتظرون قدوم الخسوف القمري ليقدّموا مئات الرؤوس البشرية لإله القمر تكفيرا منهم عن خطإ مُفترض أن ما يعانونه بسببه{3}، و غالبا ما كانت الفتيات الجميلات هن الضحايا التي تُقدّم للإله كي يقنع و يرفع اللعنة عن هذا الشعب، فإن عانوا من الجفاف يأتي المطر و إن كان وباء يُرفع و تعم الصحة و الهناء، و يُشترط في تقديم القرابين أن تكون جميلة إذ " تخضع القرابين البشرية عند الشعوب على اختلافها للعديد من الطقوس مثل إعداد الضحية بالزينة و الزخرف و تجهيزها بالحلي و جميل الملابس و كأنها تسير إلى عُرسها و الناس حولها في احتفال بهيج"{4}، وهذه الأضحية التي تقدم للإله غالبا ما كانت أنثى لأن الأنثى أكثر ارتباطا بالخصب خاصة عندما يتعلق الأمر بالجفاف، فالمرأة أقرب في جنسها إلى الأرض لذلك كان يُضحّى بها ليأتي الربيع{5}، و تستمر هذه الطقوس في امتدادها عبر الزمن جيلا بعد جيل إذ يورثها السابقون للاحقين، وكلما نضب العهد بين الرّب و العباد دعت الضرورة إلى تجديد هذا العهد على أساس أن الناس يرثون النِّظمات الدينية عن أهلهم بما في ذلك تصورهم عن العالم و الله و الإنسان، فالتنشئة الاجتماعية تلعب دورا تأسيسيا في مسائل الاعتقاد، و يمثل النموذج الأبوي مرجعا أساسيا لتوارث العقيدة سواء عن وعي أو عن لاوعي، وقد سبق أن أشار إلى هذا المعنى الدكتور ريتشارد دوكنز بخلقه لمفهوم " الميمات" les Mèmes التي تُقابل مفهوم الجينات البيولوجية لأن "الميم" هو الوحدة الثقافية أو بلغة أقرب إلى المصطلح البيولوجي " الميم" هو المُورّثة الثقافية التي تنشأ في الخريطة الثقافية للإنسان في مُقابل " الجين" le gène الذي يشكل الخريطة الجينية من الناحية البيولوجية.
قُلنا إن الدعوة إلى تجديد الوثاق بين الرّب أو الأرباب (في حالة تعدد الآلهة) تفرض على الإنسان أن يُقدم قرابين أخرى بشكل مُتجدد{6}، مما يفرض تجنيد الشعائر الدينية لكي تستطيع الامتداد، و الامتداد في الزمن غير ممكن في الثقافات الشفهية إذ يفرض وضع القرابين و تقنين الشعائر وجود حافز نصي أو مرجع مكتوب يحفظ الطقوس حين يحكي عنها و يصف جزئياتها و هذا هو ما تخوَّلَ فعلا للديانات الكتابية ( اليهودية و الإسلام خصوصا)، إذ تحكي القصص الدينية في اليهودية و الإسلام عن المُعاناة الإبراهيمية و تمر مُباشرة إلى تأصيل مُمارسة الذبح بما هو الشكل القرباني فيها، لكن دعونا لا نتسرع، فلنكمل حديثنا عن القربان أولا ثم نمر إلى معناه في نص الكتاب، بعد أن أعطينا لُمحة بسيطة عن القربان يبقى لنا أن نتساءل أيضا عن ضرورته أو بلغة عملية أكثر عن وظائفه.
1)- ب – بعض وظائف القربان :
وظائف القربان رمزية بالأساس، لكن رمزيتها لا ترفع عنها بُعدها الاجتماعي الفاعل، و يُمكن أن نُشير إلى بعض هذه الوظائف الرمزية كما يلي:
_ مواجهة الموت:
لطالما كان الموت هاجس الإنسان الأول، يؤرّقُه منذ بدء التاريخ، بل إن هناك من يربط كل نشاطات الإنسان برغبة الانعتاق من الموت أو غريزة الموت بلغة فرويد{7}، و يُمكن النظر إلى فعل تقديم القرابين من هذه الزاوية، فإذ تُقدّمُ العشيرة واحدا من أبنائها هبة للسماء فكأنها تستنجد بالرّب من الموت ، أو كأنّها تُريد إطفاء عطش الرب\ الزّمن إلى الأرواح و بالتالي فبسقوط القُربان تسقط الموت{8} و ينجو الإنسان و منه تكون وظيفة القُربان هنا وظيفة إنقاذية بالأساس.
_ استجلاب رضا الرّب:
لطالما شكل غضب آلهة الأولمب مشكلة كُبرى أمام اليونانيين و لطالما شكل غضب " بعل" أو "عشتار" مجلبا لخراب الزرع و نضوب الضرع على شعوب ما بين النهرين، لذلك كان تقديم القرابين لهذه الآلهة واجبا و في الآن ذاته محاولة لاستتاب الأمن و الاستقرار بكسب ود الآلهة، ولعلّنا نرى البُعد الرمزي ذاته في الشعائر و الصلاة التي هي في جوهرها تقرُّبٌ من الله لأجل تجنب غضبه و بالتالي تجنب الزج في جهنّم ، فالآلهة كالأطفال الصّغار إذا لم تُعطهم ما يريدونه يغضبون و يشرعون في إنزال المصائب بالناس ( انظر قصص الأقوام البائدة في المتن القرآني: ثمود \ عاد \ إرم ...).
_ و هناك من اعتبر تقديم القرابين للآلهة " خطة مُحكمة البناء سرّها في غيابات اللاوعي الذي وحده يعرف أمرها، تقتضي صب وابل العُنف المنتشر في المجموعة على كبش فداء يتشكل محلاّ للعنف و يذهب ضحية حتّى تسلم المجموعة ممّا يتهدّدها من عنف يعمل على حتفها، هنا يتم تحويل العنف نحو ضحية بعينها"{9}، واضح في هذا المُستوى أن تقديم القربان للآلهة ليس إلا فعلا مُخادعا أو لنقل بلغة أخرى: الإله في حدّ ذاته هنا ليس إلا مخرجا لتصريف مشكل بشري بالأساس هو النزوع نحو العنف، و بالتالي فتوجيه هذا العنف نحو موضوع محدود كفيل بأن يمنع اندلاع سلوكيات عدائية داخل الجماعة و منه يكون توجيه الحزمة النفسية العدائية نحو ضحية بعينها ينصب عليها غضب الأفراد مُباشرة عوض أن يتفشى الغضب فيما بينهم على مستوى واسع قد يؤدي إلى اختلال التنظيم الاجتماعي أو تشوّهه.
إن وظيفة القربان تتجلّى أساسا في تشريع العنف الذي لا مهرب منه، فالناس بطبيعتهم يختزنون في أنفسهم ميولات عدائية و منه يكون البحث عن تحويل هذا العنف إلى سلوك شرعي مرتبطا بخلق دائرة لشرعية العنف، إذ إن التنفيس abréaction عن العنف الجوهري في سيكولوجية الإنسان فعل ضروري و مشروع إذا ما اتخذ هذا المسار المتسامي transcendant ...
2) القربان قبل الإسلام:
قبل الخوض في منزلة القربان في التشريع الإسلامي سنتساءل أولا عن حالة القربان في المُجتمع العربي القديم ( المُسمّى جاهليا قسرا ) قبل مجيء محمد و كتابه ، فهل كان هناك أي شكل طقوسي لتقديم القرابين؟
يكاد الجواب يكون مُستحيلا، إذ إن توثيق الحياة الدينية لهذه الفترة صعب جدا، فبمجيء الإسلام حُرّم الدخول في نقاشات أو أحاديث حول هذه الطقوس، كما أنه من المرجح جدا أن المسلمين أتلفوا كل وثيقة حية تتعلّق بالجانب العقدي عند العرب القدماء (الجاهلية) بالنظر إلى أنهم يعتبرونه شركا و كفرا، فقد كان أول فعل قام به محمد وجيشه عندما اخترقوا مكة هو تحطيم الإرث الديني للعرب القدماء من تماثيل الآلهة و أماكن التعبد و كل ما له علاقة بالدين القديم، و بذلك ضاعت الشواهد التاريخية عن هذه الحضارة و لم يبق لنا إلا القليل، فحتى الشعر "الجاهلي " تمت غربلته و تصفيته أو انتحاله حتى أن المرء يتعجب كيف لا تكون هناك و لو شواهد قليلة على الحياة الدينية لهؤلاء الناس، لم يعد أمامنا إذا سوى ما كتبه المسلمون ، وهي كتابات متحيزة تحاول تصوير تلك الفترة بأنها الضلال المُبين والظلام الذي سيأتي الإسلام ليزيحه ب"نوره الوهاج" ، ومنه أيضا الجذر اللغوي لتسمية "الجاهلية" ، أي : ج – ه – ل التي تعني أغفل و التي تعني لم يعرف و لم يُدرك و لم يعلم ، و يزيد من ترسخ المصطلح و قيمته المعنوية استعماله السوسيو- ثقافي حيث أصبح يحمل حمولة دينية متعصبة واضحة، عموما لم يبق أمامنا سوى نص القرآن كمرجع للتنقيب عن فُلول الممارسات القُربانية في هذا المجتمع، فما الذي يُقدمه القرآن؟ :
بلغة مشحونة و عدائية يحدثنا القُرآن عن العرب القُدماء إذ يصفهم بالجلف و الصلابة و الاستهتار و التهتك و المُجون و شيوع الجنس في مُقابل بعض كرم الأخلاق و إحسان الضيافة ، و هو أمر مُبرّر و مفهوم إذا ما استحضرنا السياق السياسي و التاريخي الذي أطّر الصّراع على السلطة بين النبي محمد و أتباعه و بين سكان مكة و أشرافهم من كبار الأعيان و التجار، وفي تصويره لجلف الإنسان و ضلاله في هذه الفترة يحدثنا القُرآن عن سلوك شاذ لم يسبق أن سمعنا به في تاريخ البشرية، إنه سلوك وأد البنات، فما هو هذا السلوك وما رمزيته و مراميه و أهدافه؟
تشمئز نفس المرء عندما ينظر إلى حديث القُرآن عن هذه الظاهرة الشاذة، إذ كان العربي القديم (حسب ما يرويه القرآن) يقوم بدفن ابنته حيّة خوفا من العار في المُستقبل أو غيرة عليها أن تكبر و يظفر بها رجل آخر، هكذا تنحو التفاسير في هذا المضمار ، وقد جاء الإسلام فحرّم هذا السلوك بصريح النص المُستنكر " و إذا الموؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت" {10}.
لكن و نحن بصدد القول عن هذه الظاهرة لنا أن نطرح أسئلة مُقلقة و جوهرية ، بل و منطقية :
أيُمكن أن يقتل إنسان ابنته دفنا و هي حيّة لمُجرد خوفه من المُستقبل ؟
هل يُعقل من الناحية المنطقية أن يدفن رجل فلذة كبده حية خوفا من عار لم يحصل بعد و يمكن أن لا يَحصُل أصلا؟
هل يُمكن أن يغار رجل من أن تتزوج ابنته رجلا آخر عندما تكبر لدرجة أنه يدفنها حية ؟
هي أسئلة مشروعة تفتح بابا ممكنا أمام فهم آخر و نظرة أخرى لفعل الوأد، خصوصا و أن شروح القدماء لا تُقدّم تبريرات منطقية تُشفي الغليل، يتحدّث الزمخشري عن المسألة فيقول: " فإذا قُلتَ: ما حملهم على وأد البنات، قُلت: كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به فهو أحقُّ بهنّ"{11}.
إن شروح القدماء التي قُدّمت للآية تكاد تُخبرنا أن فقهاء الإسلام يخفون شيئا ما، يُخفون معلومة أو تفسيرا منطقيا لفعل الوأد، ولسنا نتكهّن بالدافع وراء ذلك لكننا نقول إن الوأد بالنظر إلى خطورته و إلزاميته الاجتماعية آنذاك ليس شيئا آخر سوى طقس قُرباني " الوأد لم يكن اعتباطا ولا جنونا محضا بل سُنّة الجزيرة في القرابين"{12}، و ما يعزّز هذا الطرح هو كونه يرتبط بظاهرة تقديم القرابين في المجتمعات الإفريقية القديمة و مجتمعات أمريكا اللاتينية و بعض المجتمعات الاسكندنافية شمال القارة الأوربية، لكن و إن كان وأد البنات طقسا قربانيا فهو ليس الطقس الوحيد الذي كانت العرب تقوم به قديما، إذ إنّ تقديم الأضاحي كان فعلا متنوعا ، ففي الأشهر الحُرم أيام العُمرة كان العرب القُدماء يُقدّمون الهَدْيْ ( الأضاحي من بعير و ماعز ...)للكعبة فينحرون الهدي على أعتابها، وقد كان طقسا شعائريا إلزاميا، إذ ما تعذّر على الفقراء القيام به كانوا يضعون قلائد من لِحاء الشجر ( القشرة التي تلف الجذوع) في أعناقهم لاعتقادهم أنها تُجيزهم و تُعوّض القُربان الذي من المفروض أن يُقدّموه لآلهة الكعبة {13}...
لا شك أن العرب القدماء (الجاهليون) مارسوا طقوسهم القُربانية بأشكال مختلفة و متنوعة و كان دفن البنات أحياء شكلا خاصا بهم دون غيرهم، ففي إفريقيا و جنوب أمريكا كان تقديم النساء للآلهة مُختلفا ، يشترط أن تكون الفتاة بالغة و جميلة، أما العرب فكانوا يقدّمون بناتهم للأرض و هنّ في سنّ صغيرة جدا ، عسى هذه الأرض العاقر الرملية الصحراوية تُخصب بجثث الفتيات الغضة ،لكن بعد مجيء الديانات التوحيدية لم يعد من الممكن تقديم القرابين البشرية للآلهة، خاصة و أنه في فترة نشوء هذه الأديان أو حتى قبلها بكثير كان مُجتمع الجزيرة قد تخلى عن وأد البنات ، هذا إذا سلّمنا أصلا بكونهم كانوا يدفنون البنات إذ ليست هناك شواهد أركيولوجية تدل على صحة القصة القُرآنية، وعموما لا يهمنا هنا مُساءلة الأقصوصة من الناحية التاريخية بقدر ما يهمنا استجلاء بُعدها الرّمزي، فخصوبة الأرض كانت شبه حُلم بالنسبة للعربان في مُجتمع صحراوي قاحل، فكانت الشعائر الدينية شكلا من أشكال محاولة المُقاومة ، مُقاومة تصحّر الأرض، و لأيّامنا هذه لازال سُكّان الصّحاري أكثر تعلّقا بالدين، فالصحراويون في مُختلف بقاع العالم هم أكثر الشّعوب تديّنا لأن العامل المُناخي الطبيعي يلعب دوره النّفسي و التّأسيسي في هذه النّقطة.
بعد أن أشرنا إلى شكل مُغفل من أشكال القُربان في المجتمع العربي القديم يبقى أمامنا أن نُقارب هذه الظاهرة الدينية في الإسلام ، فكيف بلور الإسلام القُربان و ما هي أشكاله المتطورة فيه ؟
3) القربان في الإسلام :
كان الذبح و لا زال مُشرّعا في الدّيانة اليهودية من قبل المُحفّز النّصّي الذي أشرنا إليه لماما، المحفّز النّصي بالنسبة لليهود هو العهد القديم الذي يقول بظاهر اللفظ : " هكذا قال ربُّ الجنود، إله إسرائيل ، ضُمّوا مُحرقاتكم إلى ذبائحكم و كُلوا لحْما" {14}..
تشرّع اليهودية لذبح القرابين وكذلك الإسلام و المسيحية، لكن الجديد الذي حصل بالنسبة للممارسة القُربانية مع هذه الأديان هو أنّها حوّرت الضّحية فاستبدلت البشر الذين كانوا يُذبحون بالأنعام، بالأكباش و الماعز و الأبقار و الدّواجن و ما شاكلها ، إن رمزية القربان في مجتمعات التوحيد ظلت كما هي ، التقرب إلى تلك الفكرة المُفارقة للعالم ، التّقرب إلى الله الواحد الذي عوّض الآلهة المنقرضة، لكن الشكل اختلف ، فعِوضَ أن تُضحّي العشيرة بأفرادها أو بواحد من رعاياها صارت تُضحّي بالدّواب فتُرضي الله بامتثالها لأمره و بإهداء الدّم النازف له و باسمه و في الآن ذاته تُحقّق المنفعة لذاتها على مُستويين :
1_ تستفيد من لحم المواشي المذبوحة الذي يُشرّع النص الديني أكلها و التصدق بجزء منها لأهداف اجتماعية .
2_ تُنقذُ أبناءها و بناتها من الموت المُحتّم فلا تسفك دماءهم في سبيل إرضاء الرّب .
و تُعتبر قصّة النبي إبراهيم محورية في هذه النُّقطة المفصلية من تطوّر نوعية القربان في الأديان، فمن خلال القصّة كما تعرضها الدّيانات الإبراهيمية في كتبها المُقدّسة استطاع الإنسان أن يحتفظ بالطّقس القُرباني و في الآن ذاته استطاع أن ينقذ نفسه من الذبح، فكانت القصّة بمثابة ضرب عُصفورين بحجر واحد ، يستمر الطقس القُرباني الدّموي بشكل دوري و سنويا لكن دون أن يثير إشكالا عند المتديّن، لأنّه لو ظلّت التّضحية بالإنسان سارية لقام الإنسان بالثورة على القُربان فأوقفه و لأسقط الله ذاته أيضا، لأن فكرة الله عبر التاريخ البشري كانت ذات دور وظيفي أساسا ، فوظيفة فكرة الله الاجتماعية و النفسية تفرض أن يخدم مصالح الإنسان فيحقّق له الرّاحة النفسية من خلال الإيمان به خالقا للكون أو علة أولى بلغة أرسطو ، أمّا أن يبقى هذا الإله سببا في هلاك البشر و مجلبا للخراب الآدمي فهذا ما لن يقبله الناس أبدا ، وعاجلا أو آجلا كانوا ليُسقطوه من عرشه لولا اختلاق القصّة الإبراهيمية التي تُشكّل حجر الزاوية في في المُمارسة القُربانية الحديثة.
من جهته استمر ّالإسلام في تأصيل الطّقس القُرباني باعتباره وريثا لدين الحنيفية الإبراهيمية و باعتبار محمد بن عبد الله حفيدا للنّبي إبراهيم ، فالنّبوة تربط الأنبياء برباط أقوى من رباط الدّم، و تكليلا لهذا الرّباط دعا الإسلام إلى النّحر ليكون بذلك وصل حبل المُمارسة القُربانية بشكلها المُتجدّد مع القصة الإبراهيمية ، و يأتينا الشاهد القُرآني إلى الدّعوة للنّحر واضحا :" فصلّ لربّك و انحر" {15}، و أنتم ترون كيف ارتبطت الصّلاة هنا بالنّحر في صيغة الأمر :{ صلّ\ انْحرْ}، ارتباط طبيعي بالنسبة للمتديّن لأن النّحر ليس عيدا لأجل الاحتفال فقط، بل هو لأجل هدف ديني بالأساس : التّقرب إلى الله ، ولا شكّ أنكم لاحظتم المُشترك المعنوي في الجذر اللغوي بين "التّقرب" و بين "القُربان" فكلاهما يُفيدان التّودّدَ و التّذلّل لله ، لقد شرّع الإسلام هذا التّقرّب إلى الله و لم يكن يستطيع أن يتجاوز طقس الذّبح الدّموي ، لأن القربان عماد كل دين أو بالأحرى مفهوم التّضحية هو الذي يُشكّل عماد الدّين فلا يُمكن للّه أن يكون سعيدا دون سفك الدّم و دون تضحيات ، وهنا أنبّهكم إلى المُشترك المعنوي بين "التَّضحية " و بين "الأضحية" ، فالأُضحية مُرتبطة بالدّم و التّضحية مُرتبطة دائما ببذل الجسد في سبيل اللّه من خلال الفترة التي كانت تُقدّم فيها القرابين البشرية للآلهة المُتعدّدة ، و الدّم عُنصرٌ كامن في الجسد لذلك لا تستقيم العبادة إلا بتقديم جسد يفور بالدّم يتم من خلاله تجديد الرّوح و تجديد العقد الرّباني – البشري.
لقد شرّع الإسلام ذبح الأنعام و جعل المسألة ترتقي إلى مرتبة الشعيرة : " و البُدْنُ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صَوافَّ فإذا وجيت جنوبها فكلوا منها و أطعموا القانع و المُعْتَرِ كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون ، لن ينال َ اللهَ لُحومُها و لا دماؤُها و لكن يناله التّقوى منكم كذلك سخّرها لكم لِتُكبّروا الله على ما هداكم و بشّر المُحسنين" {16}..
و الرّسول نفسه كان يذبح بيديه :
" ساق رسول الله بُدنا كثيرة [...] مائة بُدنة أو أقل منها بقليل ، وقد ذبح بيده الكريمة ثلاثا و ستين بُدنة و أعطى عليّا فذبح ما غبر"{17}..
لقد ذبح محمد بن عبد الله ثلاثا و ستين نعجة و خروفا بيديه و لهذا دلالة قوية و علاقة امتدادية بالنّحر في أيامنا هذه أيضا، إذ هو القُدوة و النّاس على سُنته سائرة و لتعاليمه خاضعة، و في مرّة أُخرى ذبح كبشين بيديه و هذه المرّة شرّع سُنّة الدّعاء قبل الذبح حين قال و هو يُباشر الذّبح :
" إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا على ملّة إبراهيم و ما أنا من المُشركين، قُل إنّ صلاتي و نُسكي و مماتي لله ربّ العالمين ، و بذلك أُمرت و أنا أوّلُ المُسلمين اللهم منك و إليك"{18}
" منك و إليك" هذه تذكّرنا بالقربان البشري ، فالإنسان حسب الأسطورة الدينية يأتي من عند الله و المناب إليه يعود ، ومن أشكال عودته الاضطرارية :الموت كقربان ، غير أننا نطرح السؤال أيضا: هل يعرفُ المؤمنُ أنّه يُقدّم قربانا لربّه حين يذبح و يسلخ ؟
غالبا لا ، لأن ممارسة الطّقس الديني داخل إطار جماعي تشل تفكير الفرد المُندغم داخل هذه الجماعة و تُعطّل قدرته النّقدية على تحليل الفعل الديني، فتكون المُمارسة الإبراهيمية غير واعية في أساسها ، إذ إن بقايا العقلية المتوحشة التي تحدّت عنها الأنتربولوجيون الفرنسيون لازالت رابضة في المُمارسات الدينية التي حافظت على جوهرها الدّموي منذ فجر التاريخ، ودموية السلوك القُرباني الإبراهيمي في واقعها كانت ظاهرة منذ البداية ، فما معنى أن يذبح أب ابنه لمجرّد أنه حلم أنه يذبحه ؟: " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى" {19}، ما معنى أن يرمي رجل بزوجته و رضيعها في واد مقفر؟ : " ربّنا إنّي أسكنت ذُريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المُحرّم، ربّنا ليقوموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون"{20} ، و ما معنى أن يخضع الشاب إسماعيل لحلم أبيه فيقدّم رقبته للذبح دون مُقاومة ؟:" يا أبت افعل ما تؤمر فستجدني إنشاء الله من الصّابرين" {21} ..
لقد تضافرت مكونات القصّة جميعها لتَخلُص إلى نتيجة ضرورية مُسبقة ، ونحن أيضا لا نُسائل القصّة الإبراهيمية من حيث حقيقتُها التاريخية فذاك أمر بعيد التّحقّق العلمي، لكن وحدات البناء الحكائي هي التي يمكن تحليلها: كيف يقبل رجل بذبح ابنه لمجرد حلم؟ كيف يخضع الولد دون مقاومة؟ لماذا يتدخل الله في اللحظة الحاسمة و يرمي كبشا من السماء؟
إنها أسئلة توضح – على الأقل – جانبا مهما هو الهدف أو الغائية الكامنة وراء هذه القصة، إنّه الجري إلى تعويض القربان البشري بقربان آخر، البديل القُرباني هو الهدف الأصلي هُنا ، لم يكن إسماعيل لينجوا لأن أباه رفق به أو لأن قلبه رقَّ ، بلى لقد نجا لأن الله أراد ، و بالتالي فالله يحفظ مكانته عند البشر كمُنقذ، لقد أنقذ اللهُ الإنسانَ من جديد، و بالتالي فعلى المُؤمن أن يستمرّ في تخليد الطّقس القُرباني كاعتراف بجميل الله و رحمته ، هذا الاعتراف لا يكون إلا بسيلان الدّم ، في الأول كان دما بشريا و فيما بعد أضحى دم الكبش ، فلماذا الكبش دون غيره ؟
3) – 1 – رمزية الكبش :
كان الكبش قديما رمزا دينيا مُقدّسا ، حتى حدود السنين الثلاثة آلاف الأخيرة قبل التقويم الغريغوري المسيحي، فعند المصريين القُدماء كان الكبش رمزا لآمون إله الخصب و الهواء و كان أيضا رمزا ل" خنوم" إله الطين و الخزف، الطين الذي صيغ منه الخلق الأول، أما عند الهنود القدماء في قارة آسيا فيمثل الكبش رمزا لإله الفكر و النّار " آنيي" كما شكل رمزا للإله " إندرا \ Indra" معلم الآلهة والكهنة و الرمز الكبير للتوحيد الرّبوبي، أما عند اليونان فقد اقترنت رمزية هذا الحيوان بإله الرّعي " أبولون Apollon" ، في حين دلّ في الثقافة الإسلامية على السلطة و الإمامة، فقد كان شيفرة تدل في الحُلم على " الرجل المنيع الضخم كالسلطان و الإمام و الأمير و قائد الجيش و المُتقدم في العساكر و على المؤذن وعلى الراعي" {22} .
إن للكبش مكانة رمزية في أديان البشر حتى قبل القصة الإبراهيمية ، لذا فليس غريبا أن يكون هو الحيوان " المُصطفى" ليكون تعويضا عن رقبة إسماعيل ، ليس غريبا أن يكون الكبش هو " سوبرمان" الذي ينزل من السماء لينقذ البشرية كاملة من لعنة القرابين التي تفرضها الآلهة ، و في الإسلام للكبش هذه الرمزية الكبرى ، بل حتى قبل الإسلام كان العرب يعرفون قصّة إبراهيم و يعرفون أن الكبش رمز ديني، يقول ابن كثير في رواية له عن ابن عباس : " و إنّ رأس الكبش لمُعلّق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى وحُش ( بمعنى يبس)، فإن قُريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف و جيلا بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله(ص) "{23}..
لطالما شكّل الكبش فدية للإنسان انطلاقا من الحدث الإبراهيمي لأنه جالب الحياة و منقذ الحضارة البشرية ( صدقوا أو لا تصدقوا الكبش منقذ عظيم ^^ ) فلولا الكبش لمات إسماعيل و لتشوهت مكانة إبراهيم في مخيال الشعوب ، لأنه كان سيكون قتل ابنه ، لكن الله أرسل الكبش الشجاع الذي جلب معه الحياة ، إن الكبش لعظيم كما تؤكد ذلك الآية الكريمة التي قالها سبحانه و تعالي : " و فديته بذبح عظيم {24}عظيم، لكن السبب الوجيه في استخدام الكبش حلا لعقدة القصّة ليست هي عظمة الكبش الشجاع و إنما كونه أكثر الحيوانات الدجينة قابلية للتقديم كقربان ، لأن الكبش لازم الإنسان في طور المجتمعات الرّعَوية عقب انقضاء عصور الصيد ، أو مجتمعات الصّيد ، لقد كان الكبش آنذاك أكثر الحيونات تلبية للحاجات الغذائية في منطقة الجزيرة نظرا لكون السكان رعاة بنسبة كبيرة، كما كان ابن عمه الخنزير بالنسبة للمجتمعات الأوروبية ...
و مع الإسلام سيتخذ الكبش صورتين دالتين جدا من حيثُ الوظيفةُ الرمزية التي تُوكل إليه ، أولا، هو رمز الحياة و الإنقاذ ، لأنه هو " السوبر كبش" الذي أنقذ إسماعيل من سكين أبيه ، ثانيا : هو رمز الموت ، و لإن فهمنا الوظيفة الرمزية الأولى فكيف نفهم الثانية ؟
الكبش رمز الموت في الحياة الآخرة و ليس في الدُّنيا ، فلأنه كان يُذبح في الدُّنيا وكان يرمز إلى الحياة من خلال الموت في سبيل البشرية ، فسيرمز للموت في الآخرة ،الموت الذي سيتم التخلص منه لأجل ضمان الخلود للمؤمنين الصالحين في الجنة التي وعدهم الله بها ، لأن قيم الآخرة معكوسة بالنسبة للدنيا تماما، إن الآخرة بما هي إنتاج رمزي للمخيال البشري تشكل الوجه المُعاكس للدنيا و بالتالي فسيمثل الكبش الشجاع قيمة عكسية لما مثله في الدُّنيا ، و ذلك يتضح من خلال حديث محمد بن عبد الله مع أهل الجنة و أهل النار ، إذ إنه قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ، يُجاء بالموت كأنه كبش أملح( ركزوا على أن الموت هنا كبش) فيوقف بين الجنة و النار فيقال، يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون و ينظرون و يقولون، نعم هذا الموت. فيُقالُ : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون و يقولون: نعم هذا الموت ، فيُؤمر به فيُذبح و يُقالُ : يا أهل الجنة خلود بلا موت و يا أهل النار خلود بلا موت" {25}...
إن الحديث يشير إلى أن الموت ستأتي في شكل كبش أملح ، و سيقتلها أحدهم هناك في الدار الآخرة بمعنى سيقتل ذلك الكبش الأملح ، و منه فإن "السوبركبش " الذي أنقذ إسماعيل سيموت مرتين ، مرة في الدنيا على يد إبراهيم و كل أتباع محمد و ثانية سيموت على يد أحدهم لم يحدده الحديث ليضمن الخلود للمؤمنين ، إن الكبش هنا يتجلى في صورتين أساسيتين رابضتين في اللاوعي الإسلامي ، صورة الضحية و صورة المُنقذ و كلاهما صورتان تتشابكان في تشكيل الحافز النفسي الذي يتضافر مع الحافز النصي ( القرآن) ليُشكلا المرجع الأساسي للممارسة القربانية للمسلم ، و لن تنحصر المُمارسة القربانية في هذا المُستوى فقط إذ تتناسل أيضا لتعم أشكالا احتفالية أُخرى داخل نسيج المُجتمع الإسلامي ، فصديقنا الكبش لا يُذبح في مُناسبة واحدة كتعبير عن الوفاء للرّب ، بل هناك ممارسات جانبية يحضر فيها الهاجس الدّموي بشكل كبير ، كمثال على ذلك احتفال العقيقة و احتفالات الأعراس و الختان ...إلخ ، إذ لو يتفكر المُلاحظ قليلا سيرى أن الفعل الاحتفالي في الإسلام يرتبط غالبا بطقس الدّم ، و الشيء عينه في حضارات أخرى فالمسألة ليست خاصة بالإسلام إذ يكاد طقس الدّم يكون تواتريا في مُجتمعات عدة، خاصة المُجتمعات التي تحتل فيها الأديان مكانة هامة بالنسبة للممارسات الفردية و الجماعية كالمُجتمعات الإفريقية و الأمريكية اللاتينية و بعض المُجتمعات الآسيوية الجنوبية، في حين تكاد احتفالات المُجتمعات الصناعية تخلو من أي شكل من أشكال القرابين ، و لهذا ارتباط وثيق بأشكال الخطاب المنتشرة داخل هذه المجتمعات التي تجاوزت الطور الديني نحو الطور العلمي ، إذ إن مجتمعات الحداثة تتخلص تدريجيا من الخطابات الإشراقية التي ترتكز في جوهرها على استيهامات أسطورية تؤطر السلوكيات الفردية، فالسلوك القرباني لا يجد حافزه الاستمراري إلا في ظل الشكل المتطور للأسطورة (الدين) .
محمد البوعيادي –
الهوامش:
{1} محمد أركون ، القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني،ترجمة: هاشم صالح ، دار الطليعة، بيروت 2005 ، ص 26.
{2}محمد أركون، نفسه ، ص 29.
{3}هناك شريط سينمائي جيد يمثل لهذه الطقوس كجزء من حبكته الدرامية و هو تحت عنوان : Appocalypto.
{4} وحيد السعفي، القربان في الجاهلية و الإسلام، دار الانتشار العربي ، ط 2007، ص ص 26\27.
{5}G.Durant , Les structures anthropologiques de l’imaginaire, pp 353 – 354.
{6}Claude Lévi-strauss , La pensée sauvage, p 298.
{7}يقول فرويد أن الإنسان تتقاسم بنيته اللاوعية غريزتان متصارعتان إلى الأبد : غريزة الموت Tanatos و غريزة الحياة Eros.
{8}G .Durant, Cité pp 355 – 357
{9}وحيد السعفي ، مرجع مذكور ، ص 10.
{10} القرآن، سورة التكوير، 8-9
{11}الزمخشري، كشاف المصطلحات، الجزء الرابع ص 188، نقلا عن السعفي.
{12} وحيد السعفي ، مذكور، ص 24.
{13} المرزوقي ، الأزمنة و الأمكنة، الجزء الثاني ،مجلس دائرة المعارف، حيدر أباد، ص 166.
{14} العهد القديم ، سفر إرميا ، 7 \ 22 – 24.
{15} القرآن، سورة الكوثر ، الآية 2.
{16}القرآن، سورة الحج ، الأية 137.
{17} ابن كثير ، البداية و النهاية ، المجلد الثالث ، الجزء الخامس، ص148.
{18} صحيح سنن إبي داود ، الحديث رقم 2491.
{19} القرآن، سورة الصافات، الآية 102.
{20} القرآن ، سورة إبراهيم ، الآية 37.
{21}القرآن ، الصافات ، الآية ذاتها .
{22} أحمد بن سيرين، منتخب الكلام في تفسير الأحلام، ص155.
{23} ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ، ج 4، دار إحياء التراث العربي، 1988، ص 164.
{24}القرآن، سورة الصافات ، الآية 107.
{25}ابن كثير، التفسير، الجزء الثالث ، ص 119.