يحار المرء في تعيين الجانب الذي يرغب في تناوله عندما يلج عالم جورج طرابيشي. تجدك أمام إنسان غاص في بحور متعددة، من التأليف في ميادين فكرية وسياسية وأدبية، وترجم من الكتب في الفلسفة وعلم النفس والأدب، بحيث تضمنت مكتبته حوالي 220 كتاباً في مختلف المجالات، بما يمكن القول إننا أمام موسوعة في رجل، ندر أن عرفتها المجتمعات العربية في تاريخها. لكن جورج طرابيشي لا يمكن تصنيفه في كونه مجرد كاتب ومترجم، فالأساس الذي ينطلق منه الرجل هو أنه مناضل – مثقف، خاض تجربة في العمل الحزبي والسياسي، وظلت هذه التجربة تدمغ تاريخه حتى اليوم. من التجربة القومية العربية في حزب البعث، إلى الإلتزام بالماركسة، إلى ولوج علم النفس والتحليل النفسي، إلى الوجودية وصولاً إلى تبني النزعة التاريخية النقدية في قراءاته الأخيرة. يعيب البعض على طرابيشي هذا الإنتقال الفكري والسياسي والعقائدي، ويعتبرها من النواقص في مسيرة الرجل الفكرية والسياسية، وهو حكم ينم عن جهل في فهم معنى هذه التحولات، وهو جهل عاجز عن التمييز بين الثابت والمتغير في مسيرة طرابيشي. ولأنّ الغوص في عالم طرابيشي كله من الصعوبة بمكان، وهو يحتاج إلى أكثر من مجلد في الدراسة والتحليل، رأيت ان اقتصر على جوانب ثلاثة : في قسم أول سأتناول مسيرة طرابيشي السياسية – الفكرية، وفي قسم ثان سأتطرق إلى طرابيشي بوصفه رائدًا من رواد الإصلاح الديني، أما القسم الأخير فيعرّج على طرابيشي السياسي.
أولاً ــ طرابيشي في بعض محطات مسيرته السياسية – الفكرية
يعثر المتابع لتجربة جورج طرابيشي منذ المرحلة القومية حتى الزمن الراهن على خيط ناظم وموصل لكل آرائه ومواقفه الفكرية والسياسية. صحيح أنّ طرابيشي تنقل في مواقف فكرية وسياسية وراجع مقولات التزمها بين مرحلة وأخرى، وهو لا ينكر هذه التحولات في مسيرته. لكن المدقق في مسيرة طرابيشي هذه يمكن له أن يعثر بوضوح على ما هو ثابت في مسيرة الرجل وما هو متحول أو متغير. الثابت في مسيرة طرابيشي هو “الموقع” الذي يصدر عنه، هذا الموقع يتلخص في التزام التقدم والتحرر والحداثة وتجاوز التخلف في مجتمعاتنا العربية ، وفي السياسة يصدر عن النضال ضد الإستبداد بأشكاله المختلفة، ودعوة صريحة إلى اعتماد العقل والتزام الديمقراطية والعلمانية سبيلاً إلى تحرير الإنسان العربي من أسر الماضي وبناء مشروع نهضوي متجدد بما يتيح لمجتمعاتنا العربية الدخول في العصر والحداثة. هذا الموقع الذي لم يغادره طرابيشي مطلقاً يمكن تلمّسه، من كتاباته الأولى حتى وهو في قلب التجربة الحزبية التي انتمى إليها، ثم تكرّس هذا الموقع في مجمل كتاباته المتنوعة في جميع المجالات وصولاً منها إلى موسوعته الأخيرة “نقد نقد العقل العربي”.
أما المتغير في مسيرة طرابيشي، وهي التي أشير إليها بتعبير “الموقف”، فهو تبدّل في استخدام أدوات فكرية ومناهج تحليلية، كان يرى أنها باتت قاصرة عن تمكينه من القراءة الصحيحة للواقع، واتخاذ المواقف السياسية الصائبة في مختلف الميادين. كان يرى في هذا التبدل في المواقف وسيلة تخدم “الموقع” الثابت الذي ينطلق منه. إذا كان من حكم قيمي يجب إطلاقه على هذه التحولات، فيجب إدراجها في خانة الإيجابيات الكبيرة في مسيرة الرجل، وليس في باب السلبيات التي يرمي بها بعض المثقفين هذه الإنتقالية من نظرية سياسية وفكرية إلى أخرى. إنّ من يريد فهم كتابات ومسيرة طرابيشي يجب أن يكون قادرًا على التمييز بين “الموقع” الثابت الذي ظل عليه الرجل، وبين “الموقف” أو المواقف المتبدلة التي صدرت عنه في الفكر والسياسة. وهنا لا بد من استطراد يطال نخب فكرية وثقافية كبيرة عرفتها المجتمعات العربية منذ الخمسينات من القرن الماضي حتى اليوم، كانت تنتمي إلى مواقع اجتماعية وسياسية يمكن تصنيفها في خانة “اليسار”، هذه النخب، وأمام الصدمات والخيبات السياسية والفكرية، خصوصا بعد انهيار المعسكر الإشتراكي ومنظومته الفكرية، نراها غادرت موقعها وبدلت موقفها، وانتقل كثير منها من تمجيد اليسار إلى تمجيد الرأسمالية وفكرها.
لا يستقيم الحديث عن مسيرة طرابيشي من دون التوقف عند النقد الذاتي الذي كان يجريه لنفسه ولمقولاته الفكرية والسياسية في كل مرحلة ينوي التخلي فيها عن المنظومة بكاملها أو عن جزء منها. ليس مبالغة القول أنّ جورج طرابيشي هو واحد من القليلين جدًا جدًا في العالم العربي، سواء داخل التجارب الحزبية أو في أوساط النخب المثقفة، من الذين أخضعوا فكرهم وتجربتهم بشكل دائم إلى مراجعة ونقد ذاتي. لعلّ هذه الميزة المفقودة في عالمنا العربي تعطي مصداقية لأفكار الرجل في كل مرحلة انتقل إليها. لم يستبدل طرابيشي في أي مرحلة “طربوشاً” فكرياً بآخر كما نشهد لدى نخب كثيرة. لا يعرف قيمة النقد الذاتي إلا من يكابده، فالنقد الذاتي الفعلي هو مرحلة من المعاناة والآلام النفسية والفكرية، لا يستطيع أن يقوم به حقاً وفعلاً إلا من يقيم في موقع سياسي واجتماعي إصلاحي ونهضوي. فالنقد الذاتي الحقيقي هو كمن يسلخ جلده أو يقطّع من لحمه. فليس سهلا على امريء التزم منظومة سياسية وفكرية، ووضعها في خدمة الممارسة السياسية، سواء أكان الأمر داخل حزب أو خارجه، أن يتراجع عنها ويلتزم منظومة أخرى. هذه المكابدة، عاشها طرابيشي وعبّر عنها في اكثر من مكان، وهي التي جعلته ينتقل من أداة فكرية إلى أخرى من دون أي ندم، خصوصاً أنّ هذا الإنتقال ظل في خدمة الموقع الذي يقيم فيه.
خلافا لنخب عربية انتقلت من موقع سياسي وفكري واجتماعي إلى موقع آخر، فكالت الشتائم لماضيها من أجل تبرير الموقع المضاد الذي انتقلت اليه، فإنّ طرابيشي لم يتنكر مرة لماضيه أويصبّ جام الغضب على مجرياته. ظل طرابيشي ينظر إلى كل مرحلة من تطوره الفكري والسياسي على أنها تعبير عن الوعي الذي كان يتملكه في تلك المرحلة. لم يسقط مرة وعيه الحاضر على ماضيه فيأسف على ما كان عليه، بل كان صريحاً أنّ انتقاله الفكري أو السياسي يأتي تعبيرًا عن مرحلة جديدة في وعيه لما هو قائم. هذه المصداقية في التعبير عن تطوره مكنته من تجاوز محطات متعددة من دون أن تتكون لديه عقدة ذنب عن المواقف الجديدة التي التزمها، وتجاوز فيها مواقف سابقة له. في احدى المقابلات الصحفية يقول : “هذه المسيرة من التغيرات المتواصلة لا تعني إنكار كل ما تم تجاوزه، بل بالعكس، فمن خلال التاريخ والتغير وتصفية الحساب تتم أيضا عملية تراكم وإعادة بناء. ولئن تجاوزت مراحلي القومية والوجودية والماركسية والتحليلية النفسية، فهذا لا يعني أني لم أحتفظ من هذه المحطات بعناصر ما زالت تلعب دورها في المحصلة النهائية لمسيرتي الفكرية. وهكذا أستطيع اليوم أن أستفيد من جميع خبراتي السابقة كي أطوّر رؤية مركبة ومعمّقة للواقع الذي نعيشه، والذي يمثل انعطافاً جديداً في مسيرة العالم العربي، من خلال انبثاق ظاهرة الأصولية المنداحة موجتها اليوم، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية في تحولي الفكري من نقد الرواية إلى نقد التراث العربي الإسلامي، كما تجلى في مشروع «نقد نقد العقل العربي» الذي أخذ، ولا يزال، بعداً موسوعياً، ما كنت أنا نفسي أتوقعه عندما شرعت به قبل أكثر من 20 عاماً.” (حوار الشرق الأوسط 23 يناير 2008)
هذا الموقع الثابت في مسيرة طرابيشي، والنقد الذاتي الجريء لتجربته في كل محطة من محطات مسيرته، أكسبت طرابيشي مناعة وحصانة ضد الجمود العقائدي والتحجر الفكري الذي أصاب معظم النخب والتيارات السياسية، ومنها نخب واكبت تجربة طرابيشي من دون أن تتمكن من التمثل بها. كشف جورج طرابيشي في تجربته خواء قوى وضعت نفسها في موقع التقدم والتحرر، بل أقول فضح زيف التزامها الذي ادعت إقامتها فيه، فعجزت عن الخروج من دوغمائيتها، كما عجزت عن قراءة وفهم التحولات التي شهدتها وتشهدها المجتمعات العربية. هذا العجز تتجلى ملامحه بوضوح في القصور عن فهم التحولات التي تعصف بالمجتمعات العربية منذ ثلاث سنوات، فلم تتمكن من إدراك أسبابها ولماذا اتخذت هذا المسار، فانحاز بعضها مجددًا إلى أنظمة الإستبداد تحت حجة مكافحة التطرف الأصولي، وهو موقف ينسى أنّ هذا التطرف الأصولي هو الإبن الشرعي لأنظمة الإستبداد العربية التي حجزت تطور هذه المجتمعات على امتداد عقود، ومنعتها من الدخول إلى الحداثة، فها هي المجتمعات نفسها تنتقم من ماضيها ومن هذا الحجز الذي وضعت فيه.
ثانيا ــ في قلب الإصلاح الديني
على امتداد التاريخ العربي شهد الإصلاح الديني تعثرًا وواجهته معوقات موضوعية تتصل بطبيعة الإصلاح والقوى الذي قامت به، أو في المعوقات الثقافية والمجتمعية والسياسية وضعف القوى الاجتماعية الحاملة لهذا الإصلاح. سعت محاولات الإصلاح الديني خصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى ملامسة النص الديني، وتشذيب بعض جوانبه وجعله قريبا من جوهر الدين، إلاّ أنّ محاولة طرابيشي قرنت النص الديني بمجمل التراث والفكر الديني الذي انبثق من هذا النص منذ المراحل الأولى في الإسلام. بهذا المعنى شكلت دراسات طرابيشي في التراث مدخلاً جديدًا في الإصلاح الديني المطلوب، خصوصاً وأنّ هذا التراث خلط بين جوهر الدين وبين الفكر الديني الذي أنتجه الفقهاء على امتداد التاريخ الإسلامي، بل وبات هذا الفكر المتمثل بالأحاديث النبوية واجتهادات الصحابة ولاحقاً فتاوى رجال الدين.. باتت هذه تقوم مقام النص القرآني، ويجري إسقاطها في كل زمان ومكان، في وصفها النصوص المقدسة. سعى طرابيشي إلى ولوج هذا العالم الواسع جدًا، وشكلت جدالاته ونقاشاته لنصوص عدد من المفكرين العرب، خصوصا منهم محمد عابد الجابري، مواد تصب مباشرة في خانة الإصلاح الديني المنشود، صيغة عصرنا الراهن، وليس استنساخاً لرواد النهضة السابقين أو لنموذج الإصلاح الديني اللوثري في القرن السادس عشر في أوروبا. ولأنّ الموضوع واسع ومتشابك، رأينا ان نقاربه من مداخل ثلاثة : في قراءة النص الديني والتراث، سبات العقل واستقالته في الإسلام، وموقع الحديث في الإسلام وهيمنته على النص القرآني.
1 ــ في قراءة النص الديني والتراث
اعتمد طرابيشي التحليل التاريخي في قراءته للتراث الذي يتضمن النص القرآني ومجمل الفكر الديني الناتج عنه من قبل الفقهاء والعلماء، فهذا التراث هو ابن فترة زمنية ومكانية محددة، ومضمونه له صلة وثيقة بحدود الوعي والأدوات الفكرية في كل زمان ومكان من إنتاجه. كما أنّ هذا التراث ذو صلة وثيقة بالصراعات السياسية والاجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية والإسلامية على امتداد مراحل تاريخية شاسعة، وقد كان دوماً، من النص القرآني إلى الأحاديث النبوية إلى فتاوى رجال دين والفقهاء والعلماء، أداة توظيف سياسي، وموضوعا في خدمة السلطات القائمة، مما ينفي عنه حصرية التفسير الديني وشرح النص المقدس. هذا التراث بمعناه الواسع شكل مادة مركزية في كتابات طرابيشي خصوصاً في العقدين الأخيرين من نتاجه، وكان أبرز ما صدر له في هذا المجال في موسوعته النقدية :“نقد نقد العقل العربي” في أجزائها الخمسة. يختصر منهجه بهذه الكلمات “أنا لا أفسر الحداثة على أنها قطع، فالقطيعة المعرفية شيء، والقطيعة من النص شيء آخر، والحداثة هي قطيعة معرفية.. وما هي القطيعة المعرفية؟: أن تتم على مستوى النصوص وفهمها، وإعادة تأويلها، وليس إهمالها، فنحن أمة تراثية، ملبوسون بالتراث من قمة رأسنا إلى أخمص قدمنا، وبالتالي لا نستطيع أن ندخل الحداثة عراة من هذه النصوص فهي مؤسسة لكل ما فينا. إذن حتى ندخل الحداثة لا يجب علينا أن ننقطع من النصوص، ولكن يجب علينا إعادة تأويلها، وأن نربط النصوص بتاريخها وسياقها، ونفهمها على ضوء حاجاتنا نحن لا كما فهمها الأقدمون على ضوء حاجاتهم هم، وكما كان يقال: هم رجال ونحن رجال”. (حوار إسلام أون لاين، يوليو 2008).
وظف طرابيشي إلمامه بالمناهج الفكرية والاجتماعية التي أنتجتها الحداثة في قراءته للتراث ولنصوص محمد عابد الجابري، فمزج بين المنهج التفكيكي للنصوص بما سمح له بإعادة النظر في مجمل الأسس المعرفية التي اعتمدها الجابري، وعمد بعدها إلى استخدام منهج الحفرالأركيولوجي للعودة إلى الجذور والأسس، ليخضع هذه النصوص التراثية جميعها إلى منهج النقد التاريخي، وليصل أخيرًا إلى إعادة التركيب وبناء المفاهيم في صورة صحيحية انطلاقاً مما يكون قد حصله من نتائج النقد الذي أجراه. يقول في إحدى مقابلاته الصحفية :“”تقنية التلصيق المفاهيمي التي تمارسها الإبستيمولوجيا الجابرية تنزع المفاهيم من نسقها الأصلي نزعاً عنيفاً وتزج بها زجاً لا يقل عنفاً في نسيج النسق الجديد. فالإبستيمولوجيا الجابرية تبضع مفاهيمها من جسم وتخيطها في جسم آخر بدون أي احتراز منهجي، وبدون صيانة لحرمة أي من الجسمين ولسؤددهما الذاتي، وبدون قلق حتى على مصير العضو المزروع. لقد وجدنا ناقد العقل العربي يستعير، باعترافه، مفهوم النظام المعرفي (الإبستمية) من فوكو. ووجدناه يستعير، بغير اعترافه، مفهوم البنية اللاشعورية من ليفي- ستراوس (إشكاليات العقل العربي ص 291).
يدافع جورج طرابيشي عن الاسلام من منظوره الحضاري. يتعامل مع الإسلام ذاته، كدين، ومع التراث الإسلامي (بكافة جوانبه الفقهية والكلامية والفلسفية والعلمية) باعتبارهما تراث الذات العربية. في حوار مع مجلة العربي الكويتية (يونيو 1998) يشرح موقفه هذا كما يلي :
“هناك ضرورة لمعرفة أننا كأمة نملك أعرق وأضخم تراث بين أمم وشعوب العالم، حتى التراث اليوناني لا يعد لا من قريب ولا من بعيد في حجم التراث العربي والإسلامي، والهند على مالها من تراث هائل لا يقارن حجم تراثها هذا بحجم التراث العربي، وبرغم هذا فنحن الأمة الوحيدة التي لا تملك معهدًا عربياً مشتركاً للدراسات التراثية وأعتقد أن الحاجة ماسة لإقامة مثل هذا المعهد، فهو في تقديري لا يقل أهمية عن الجامعة العربية من حيث فعاليته على المدى البعيد. لابد أن نتصالح مع هذا التاريخ القديم، لأننا نحن أبناء هذه الاستمرارية التاريخية التي بدأت ما قبل الإسلام، كما أننا لا نستطيع أن نفهم الإسلام دون أن نرجع إلى الجاهلية وإلى ما قبل الجاهلية أيضاً لأن ثمة تراثا قد يساعدنا على تفهّم أنفسنا. إنّ العودة إلى الماضي تساعدنا على معرفة هويتنا. فنحن تطور لهذا الماضي الذي يمتد إلى آلاف السنين قبل الإسلام وبعد الإسلام، والشعوب التي ليس لها ماض، تخترع ماضيها ... وهنا أيضا سنلاحظ أننا في عملية بناء الماضي جرى حتى تجريدنا من ماضينا. وجرى تغريبنا نحو الغرب. وفعلا أنا أعتقد أن قضية الماضي قضية أساسية، ولكنها مشروطة بقراءة حديثة، فنحن نريد الماضي، معاصرا لنا لا أن نتحول إلى معاصرين له ـ وهنا ألاحظ أنّ القراءة الحديثة التي تنطلق من معطيات الحداثة ومن مناهجها لتقيم هذه الاستمرارية مع الهوية التراثية تستطيع أن تضيف وأن تغني الذات...”
كما يشدد على هذه الوجهة في حوار مع موقع “سؤال التنوير” بتاريخ 3 -10- 2011 قائلا :“أعتقد أن مكمن الصعوبة الكبيرة في أننا مازلنا نقرأ التراث بعيون قديمة؛ ولو قرأناه بعيون جديدة يمكن له أن يكون مهمازًا، وليس لجامًا كابحًا. ولعل المهمة الأساسية لهذا الجيل، إلى منتصف القرن المقبل، ليس أن يكون جيل الثورة والقطيعة مع التراث، بل جيل إعادة قراءة التراث. نحتاج إلى ثورة لاهوتية، إلى لوثر مسلم. كذلك فإن فولتير مسلمًا سيرى النور – وهذا حتمي ولن يكون خطرًا على الإسلام. لكننا في المرحلة الحالية في حاجة إلى لوثر مسلم. كل ما نستطيعه، نحن المثقفين الذين نشتغل على التراث، هو أن نطبِّق المنهجيات الحديثة عليه ونستقرئه جديدًا ونضيف إلى ثرواته ثروة جديدة. وعندما نقرأ الحديث والفقه والفلسفة والتاريخ بعيون جديدة نغنيه. والتراث نفسه يحتاج إلى ذلك ليتجدد ويغتني، فلا يتجمد ويدخل في الانحطاط. ليست مهمة التراث أن نقفز منه إلى الحداثة، بل أن نفيد من منجزات الحداثة لكي نبثَّ في التراث جديدًا. لست فقط عاملاً في خدمة التراث وموظِّفًا له في المعركة، بل أوظف نفسي في خدمة التراث وأكتشف جوانب غنية وثرية ومشرقة وقابلة بالفعل للتوظيف كمهماز لاجتياز طور الحداثة”.
2 ــ عن سبات العقل واستقالته في الإسلام
على امتداد التاريخ الإسلامي، ظل العقل يعيش محناً متتالية، وصراعاً مع “الجمود العقائدي” لتفسير النص الديني، كما ظل معتنقو العقل بين مطرقة الفقهاء النصوصيين وسندان السلطان الذي يرى في هؤلاء الفقهاء دعامته الأساسية في تسويغ قراراته وأحكامه. منذ محنة المعتزلة التي فقد فيها العقل والتفسير العقلاني للنصوص الدينية والتراثية أهم تجربة كانت تؤشر الى مرحلة متقدمة في تطور الفكر العربي ونهضته، وصولا الى الزمن الراهن من انبعاث أقصى أشكال الموروث المتخلف فكرياً وسياسياً، والمترجم في حركات إرهابية تغزوالمجتمعات العربية والإسلامية، ظل العقل هدفاً للقوى المناهضة للتقدم والنهضة العربية والإسلامية، فلقد جرت “عملية التصفية التاريخية للإعتزال التي انتهت إلى إعلان إقالة العقل في الحضارة العربية الإسلامية وإلى إلغاء الاستقلالية النسبية التي كان أقر له بها المعتزلة، وإلى محاصرة كل انفتاح وكل نزوع عقلي إلى الجديد تحت شعار محاربة البدعة الذي ساد بلا منازع على امتداد القرنين السابع والثامن الهجريين، وكان مدخل الحضارة العربية والاسلامية إلى سرداب ليل الانحطاط الطويل” (هرطقات1، ص46) . احتل موضوع العقل ومعضلته مكانا غير قليل في كتابات طرابيشي، بحيث كان مادة لكتابين من مؤلفاته : “العقل المستقيل في الإسلام” و“المعجزة أو سبات العقل في الإسلام”. يرفض كل التفسيرات المؤامراتية التي تعيد هزيمة العقل في الإسلام الى قوى خارجية، بل يعيد محنة العقل إلى كونها “في الأساس مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه” (هرطقات 1، ص9). يقول في كتابه “العقل المستقيل في الإسلام” جواباً عن بعض أطروحات الجابري :“في كل فصل، بل في كل فقرة يعقدها ناقد العقل العربي عن ثقافة”العقل المستقيل“في الإسلام، نجدنا إزاء مسعى منهجي واحد يعيد إنتاج نفسه بآلية تكرارية شبه هجاسية : البحث عن مشجب خارجي لهذا”اللاعقل“يتمثل في الموروث القديم الذي تسلل من سراديب”العقائد والثقافات السابقة على الإسلام“ليغزو”الفكر الديني العربي“في عقر داره وليقوده إلى مأزقه المزدوج الذي لا يزال يتخبط فيه إلى اليوم : المأزق التاريخي الذي يتمثل بالتراجع من”عصر التدوين“إلى”عصر الانحطاط“، والمأزق الإبستمولوجي الذي يتمثل بالسقوط من رتبة”البيان“إلى رتبة”العرفان“، مع كل ما يعنيه هذا التحول النكوصي من سؤدد وغلبة للامعقول على المعقول في بنية الثقافة العربية الإسلامية” (ص177).
في كتابه “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، يتناول طرابيشي مسألة “تهميش العقل” في الإسلام من خلال مناقشته لمقولات الشافعي الذي يمثل أحد النقاط المفصلية في المعركة ضد العقل في الإسلام. فالنص القرآني في منظور الشافعي هو “كتاب العلم الكلي” الذي يحوي علم كل شيء، وهي نظرة لا يزال الفكر الديني الحديث يتمسك بها، بصرف النظر عما قدمه العلم من اكتشافات، كما لا نزال أسرى رفض اعتبار القرآن نصاً دينياً فقط وليس كتاب علم وتكنولوجيا. يقول طرابيشي في شرحه لبعض مقولات الشافعي والهدف الذي تصدر عنه :“بديهي أنّ هذه الإزاحة بالمعنى من تبيان كل شيء من قواعد الحساب في الآخرة إلى تبيان كل شيء من أحكام نوازل الدنيا ليست جزافية، بل هي متعينة من قبل الشافعي، شعورياً ولا شعورياً معا، باستراتيجيته اللاهوتية والإبستمولوجية القائمة جوهرًا وأساساً على تهميش العقل وحشره في أضيق زاوية ممكنة، وهذا من خلال تحكيم السنّة اللامتناهية من حيث الوساعة بالنص القرآني” (ص248 -249). يرى طرابيشي أنّ سعي الشافعي إلى تضخيم “دائرة السنة” الممتدة في الزمان والمكان وجعلها موازية للنص القرآني، إنما الهدف منها تحجيم العقل، “فحيثما وجدت سنة بقيت يد العقل مكفوفة”. كما يضيف في هذا المجال، وفي إعادة التأكيد على العنصر الداخلي :“إنّ اقالة الشافعي للعقل ما كان ليقبلها العقل لولا إناطتها إياها بمرجعية متعالية هي السنة المعمدة وحياً إلهيا” (ص267).
من “الفضائح” المضادة لمنطق العقل هو هذا الحجم الهائل من اختراع المعجزات للنبي وللائمة سواء أكان لدى أصحاب المذهب السني أم المذهب الشيعي، بما جعل هذه المعجزات خرافات لا تضاهيها خرافات أخرى في التاريخ، مع العلم أنّ النص القرآني لا يعترف سوى بمعجزة واحدة هي القرآن نفسه. يخصص طرابيشي كتابا بأكمله يطارد فيه الأشكال المتعددة للمعجزات والقائلين بها والحجم الذي اتخذته بما فاق معجزات أي نبي من أنبياء العصور السابقة. في كتابه “المعجزة أو سبات العقل في الإسلام”، وفي محاولته لتفسير هذا الإقبال على الخرافات – المعجزات، يقول :“لماذا كان ظهور أدبيات المعجزة في الإسلام، السني والشيعي على السواء، ولماذا كان القانون الذي حكم تضخمها هو قانون التضخم والمغالاة والإيغال في الغرائبية الى حد أفقد المعجزات حتى بعدها الميتافيزيقي وجعلها أقرب إلى البهلوانيات والشعبذات التي تثير الإبتسام منها إلى الآيات والخوارق التي قد تسحر العقل وتشله؟” (ص165). في محاولة الإجابة عن الاسئلة المضنية في هذا المجال، يذهب طرابيشي إلى أنّ أحد العوامل الرئيسة يعود إلى “إسلام الفتوحات” الذي أحدث تحولاً مهماً في طبيعة الإسلام كما تجلت في مراحله الأولى. فالمعجزة الفعلية في الإسلام هي القرآن، وهي معجزة من طبيعة عقلية، فيما سائر معجزات الديانتين التوحيديتين، أي اليهودية والمسيحية، ذات طابع مادي. والمعجزة العقلية، أي القرآن، تبقى ذات فاعلية للناطقين باللغة العربية، فيما كانت سائر شعوب البلدان التي دخلها الإسلام تجهل هذه اللغة، وبالتالي تحتاج إلى معجزات حسية يجري تنسيبها إلى الرسول بما يقنع هذه الشعوب بالانتساب إلى الدين الإسلامي. هكذا تتحول المعجزة إلى وسيلة للبرهنة على صحة النبوة، “وعلى حد تعبير ابن رشد، فإنّ المعجزة هي ، بالتعريف الغائي، دلالة على صدق قول النبي. وإذا مددنا هذا التعريف ليشمل أدبيات المعجزات الإمامية قلنا أنّ المعجزة هي أيضا دلالة على صدق قول الإمام. والحال إنّ أدبيات المعجزات، النبوية والإمامية، كما تطورت في المأثور السني والشيعي بعد المائة الثالثة، تشي بخلل خطير على صعيد وظيفة المعجزة بالمعنى الذي تحدث عنه ابن رشد. فإن تكن غائية المعجزة هي الدلالة على مصداقية القول النبوي أو الإمامي، فإنّ الطابع التخييلي المشتط والمغالى فيه إلى حد الفجاجة لأدبيات المعجزات، من شأنه أن يطعن في مصداقية المعجزة نفسها بقدر ما يجردها من بعدها الميتافيزيقي، ويلغي كل مسافة بينها وبين ألعاب الشعبذة والسحر والقصص الغرائبي” (ص176 – 177).
لا يرى طرابيشي سوى وسيلة واحدة للخروج من عالم المعجزات المهيمن على العقل الإسلامي، هذه الوسيلة تتمثل بثورة عقلية تقوم في داخل الثقافة العربية الإسلامية ولدى العاملين في هذا المجال. “في زماننا المعاصر، حيث يبدو العالم العربي – والإسلامي بشكل أعم – مهددًا بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، فإنّ ثورة كوبرنيكية على صعيد العقل، وعلى صعيد عالم العقل الذي هو التراث والتأويل الموروث للتراث، هي شرط شارط لاستئناف عملية الإقلاع نحو الحداثة التي كان لاح بارقها مع عصر النهضة قبل أن يخمد في ما لم نتردد بأن نسميه عصر الردة” (ص 182).
3 ــ موقع الحديث في الإسلام وهيمنته على النص القرآني
تحتل السنة النبوية، المستندة في الأصل إلى الأحاديث النبوية، موقعاً مركزياً في الدين الإسلامي، وصلت إلى حد مساواتها بالنص القرآني. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي تجذر موقع السنة بحيث باتت تشكل المصدر الرئيس للفقه والتشريع الذي اندمج أيضاً فيها. غلبت السنة ومعها الفقه على النص القرآني، نعثر على ذلك في كتب الفقه وفي أحاديث وخطب رجال الدين، حيث لا يأخذ القرآن إلاّ حيزًا ضئيلا، فيما للسنة الحجم الكبير. هناك فارق كبير بين تشكل الإسلام القرآني وتشكل الحديث، بل يمكن القول إنّ شكوكاً كثيرة تطال الحديث في مدى صحة معظمه وطريقة وضعه والأهداف التي رمى اليها واضعو الأحاديث. تصل أعداد الأحاديث إلى الآلاف، بل تذهب بعض الكتب إلى القول إنها مئات الآلاف. لم يجر تدوين الحديث إلاّ بعد مرور ماية وخمسين سنة على وفاة الرسول، وهذه فترة زمنية كافية للشك بنقل الحديث ومدى صحته، بعد أن قضت الأجيال الأولى التي يمكن أن تكون سمعت أقوال الرسول. والمحسوم في أمر الأحاديث أنها ازدهرت في سياق الصراع السياسي والاجتماعي على السلطة بين القبائل بعد وفاة الرسول، وبات كل طرف يخترع أحاديث تدعم وجهة نظره في الصراع. كما أنّ من مظاهر الشك في الحديث أنّ معظم كتابه كانوا من الفرس والموالي، من قبيل البخاري والطبري والترمذي. لكل من المذاهب الإسلامية أحاديثها، فالشيعة لهم كتبهم الخاصة وأحاديثهم، كما للسنة (كمذهب طائفي) أحاديثها، وكل منها تدعي الصحة فيما تشكك في صحة الأخرى وتعتبرها باطلة ومزورة.
أعطى جورج طرابيشي موضوع الحديث حيزًا مركزياً في موسوعته “نقد نقد العقل العربي”من خلال الجزء الخامس منها، فأصدر كتابه “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة”، حيث كشف فيه عن قضايا يجري تغييبها في التراث الإسلامي، أو تحريف مضمونها، من قبيل العلاقة الفعلية بين الله والرسول كما تجلت في النص القرآني، وصولاً إلى تفكيك كل ما رافق منظومة الأحاديث النبوية وكيفية إحلالها إلى حد كبير مكان القرآن في التشريع، والغوص في المذاهب الفقهية عبر استحضار كتابات الفقهاء والعلماء وتشريح منظوماتهم الفقهية. يستحضر طرابيشي النص القرآني بغزارة، ويجري مقارنات مع اجتهادات المفسرين، هادفاً إلى إثبات أنّ إسلام القرآن ليس نفسه الإسلام الذي كرسه الفقهاء، ولا يزالون، بل للقول إنّ تحريفاً فعلياً لمضمون الإسلام قد جرى على امتداد عقود نتيجة التحول “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”.“
ترتبط غلبة الحديث النبوي على القرآن بجملة تطورات تاريخية أبرزها التوسع الجغرافي للإسلام خارج منطقة الحجاز والجزيرة العربية، ودخول أقوام جديدة إليه من خارج العرق العربي. أدت الفتوحات والاستيلاء على بلدان جديدة، وما رافقها من نزاعات بين أهل الكلام والفرق الدينية، إلى انتصار أهل السنة، وبروز طبقة من العلماء والمتفقهين التي أعطت لنفسها صلاحية التشريع الديني، لم يعطها القرآن للرسول نفسه، وأغدقت في الفتاوى على كل المستويات الدينية والدنيوية، بما جعل فتاواها موازية للنص القرآني أو الأحاديث النبوية، بل تتفوق عليها أحيانا في طبيعة الأحكام المطلقة المقدسة التي ينسبها الفقهاء إلى فتاويهم. في هذه المرحلة أمكن للسنة ان تتجاوز القرآن بل وتتغلب عليه بحيث باتت المرجع والمستند لأي حكم فقهي. يضيء طرابيشي في هذا المجال مسألة العناصر غير العربية من الموالي الذين دخلوا الإسلام، والذين كان لهم دور أساسي في تغليب السنّة على القرآن، وفي تطوير الفقه الإسلامي، حيث أنّ اثنين من مؤسسي المذاهب الأربعة في الإسلام، أي أبو حنيفة ومالك بن أنس، كانا من الموالي، فيما ينتسب ابن حزم إلى العنصر الفارسي.
يتوغل طرابيشي عميقاً في كتب أصحاب المذاهب الفقهية، الرئيسيين منهم والفرعيين، كاشفاً الغطاء عن الدور الذي لعبوه في تحويل الإسلام من القرآن إلى الحديث، مستعيناً باستشهادات تفصيلية من كتبهم، مقارناً إياها بما يقوله القرآن. فأنس بن مالك يرى اقتراناً بين الإسلام والنص القرآني الذي ينطق بحقيقة واحدة. لكن بن مالك تميز بعدم إغفال إمكان وجود تناقض في بعض الأحاديث النبوية، بل قال بإمكان الاستغناء عن بعضها وعدم اعتبارها مرجعاً. كان يقرن هذا الاجتهاد بالقول إنه رأيه الخاص مع تشديده على الالتزام بالنص والسنة. فمن المعروف”أنّ مالكاً، خلافاً لمن سيأتي بعده ممن سيسعى بأي ثمن ، وبوساطة العقلنة، إلى إغلاق الدوائر، لم يستبعد احتمال وجود تناقض في النصوص، سواء أكانت أحاديث نبوية أم آثارًا صحابية، بحيث تقول الشيء وضده مع احتفاظهما كليهما بنصاب الحقيقة“(ص112). طبق بن مالك”المبدأ المنطقي السليم المشترك بين سائر البشر: فقد استصلح ما اعتبره منفعة، واستفسد ما اعتبره مضرة“. إذا كان بن مالك تجرأ على هذا التشكيك، فإنما يعود ذلك إلى أنّ المرحلة التاريخية لزمنه لم تكن فيها المنظومة الحديثية قد استفحلت وفرضت نفسها مرجعاً لا حقيقة من دونه. من هنا القول أنّ بن مالك لم يكن أسير المنظومة الفقهية، وأنّ رواياته لم تكن لأكثر من خمسماية حديث، فيما ستصل لاحقا عند فقهاء آخرين إلى الآلاف. إضافة إلى أنه لم يكن يرى حرجاً في إطلاق فتاوى مخالفة لما جاءت به الأحاديث. بعد ابن مالك سيتعاظم موقع المنظومة الفقهية على حساب القرآن، وستصبح ميدان الخلافات بين ائمة المذاهب الإسلامية.
يمثل الشافعي موقعاً متميزًا في”تكريس السنة“مرجعاً أعلى في الفقه الإسلامي، بحيث جعلها مرادفة للنص القرآني وموازية له وتحمل الحقائق نفسها، كما أنه تميز في الآن نفسه”بتكريس معيارية اللغة العربية في فهم الكتاب أي النص القرآني“. يقوم مشروع الشافعي على الجزم في كون السنة شريكة للقرآن وموازية له، مما يعني”تعميد السنة وحياً مقارناً لوحي القرآن“، فإذا كان ما يصدر عن الرسول مصدره الوحي، فهذا دليل كاف على عدم وجود مسافة فاصلة بين السنة والقرآن، كما يترتب على ذلك انتفاء”بشرية الرسول“. يخلص طرابيشي إلى القول :” ان الشافعي نفذ انقلاباً حقيقياً على الصعيد اللاهوتي والإبستمولوجي معاً عندما جعل للسنة الرسولية البشرية نصاباً إلهيا وبوأها منزلة الأصل في الكتاب وكرسها شريكة له في التحكم بمصائر كل العقل في الإسلام، سواء منه العقل الديني أو المعرفي.. لعل مثل هذا الانقلاب التأليهي في الإسلام لا يجد ما يناظره في تاريخ الأديان سوى الانقلاب الذي شهدته المسيحية في القرن الرابع الميلادي عندما جرى، مع تنصر الأمبراطورية الرومانية، تنصيب المسيح إلهاً ابناً مشاركاً في الجوهر للإله الأب“(ص 194 -195).
في مرحلة تضخم حجم الأحاديث وتزوير عدد كبير منها بما يتناسب واستخدامها في الصراعات السياسية والاجتماعية، وإغداق المشروعية الدينية على السلطات الحاكمة آنذاك، يعاب على الشافعي تهاونه في قبول الأحاديث على علتها وعدم التمحيص في مدى صحتها خلافاً لما كان يقوم به مالك بن أنس. بلغ عدد الأحاديث في زمنه 62169 حديثاً وضع منها 8740 حديثا على لسان أبو هريرة، فيما تعاطى مالك بن أنس مع 500 حديث وأخضعها للتدقيق. كما يسجل على الشافعي تأسيس”آلية الناسخ والمنسوخ“التي كانت لها نتائج رهيبة على الإسلام لأنه عبرها”أطلق عفريت التلاعب بالنص القرآني. اذ ليس القائل الإلهي لهذا النص هو من يحدد ما هو الناسخ وما هو المنسوخ من الآيات، بل هو المؤول البشري لهذا النص، فحيثما وجد تعارض أو تناف في المعنى، أو حتى مجرد اختلاف، أمكن لهذا المؤول أن يحذفه من خلال تشغيل آلية الناسخ والمنسوخ“(ص 208)، وهو أمر ساهم في إضعاف النص القرآني وإفقاره بل وإغلاقه نهائياً.
يختم طرابيشي نصه عن الشافعي بفقرة تظهر الدور الخطير الذي لعبه هذا الفقيه سابقاً وراهناً، فيقول :”لا يعسر علينا أن ندرك خطورة النتائج المترتبة على هذا الانقلاب – والتعبير لا يبدو لنا مبالغا فيه – الذي نفذه الشافعي : فهو قد حبا أي “ثقة” يعن له أن يختلق حديثا بسلطة تشريعية تضاهي تلك التي للنص المقدس في حضارة النص المقدس التي هي بامتياز الحضارة العربية الإسلامية. وناهيك عن ذلك، جمّد سلطة التشريع في هذه الحضارة وعلّق تطورها إلى الأبد : فما اختلقه “الثقة” – ربما لتلبية حاجات عصره من تطوير التشريع – صار ملزماً لما بعد عصره، ولما بعد بعد عصره إلى أبد الآبدين. ذلك إنّ تكريس الحديث، الذي قد يختلقه “الثقة” نصاً موحى به إلهياً، يقطع الطريق على كل اجتهاد للعقل البشري. فالشافعي قد وضع تاريخ هذا العقل وراءه لا أمامه. وأسقط عنه صفة التاريخية ليحيط بهالة المقدس الذي يحكم التاريخ ولا يحكمه التاريخ“(ص272).
خلافا لما ينسب لأبي حنيفة عن كونه من أهل الرأي أي الفئة التي تتمسك بالعقل وتعتمده مقياساً في أحكامها، فإنّ الوقائع الفعلية لمسار أبي حنيفة تثبت تهافت هذه النظرة، لتصنفه ضمن أهل الحديث.”فالعقل لم يحظ قط، وما كان له أن يحظى أصلاً بنصاب المشرّع عند أبي حنيفة ولا عند أي إمام آخر من أئمة الفقه والحديث في الإسلام“(ص 291). يعود ذلك إلى كون الله هو المشرّع الأوحد،”فأعلى نصاب للعقل هو ممارسة فاعليته على هامش النص وبالتبعية للنص من دون أن تكون له الحرية أكثر من تلك التي تكون لمحيط الدائرة في علاقتها بالمركز“. وتثبت الوقائع التاريخية أنّ الذين دافعوا عن أبي حنيفة لم يكن همهم إثبات كونه من أهل الرأي بمقدار التركيز على كونه”صاحب حديث“حيث”تبالغ كتب المناقب في تعداد من أخذ عنهم الحديث وفي تعداد ما اعتمده من الأحاديث في تصانيفه“.
كما جرى تصنيف أبي حنيفة في”نطاق العقل“، الحقت الصفة نفسها بابن حزم، الذي تظهر كتاباته، في حقيقتها، مدى”تصنيم النص“عنده، و”تسييد العقل وإقالته معا“(ص296). لا تخلو كتابات ابن حزم من حديث عن العقل وعن كونيته، حتى ليبدو للقاريء حجم اعتماد العقل في تكريسه مقياساً للأحكام، لكنّ الواقع يظهر أنّ هذا الحديث عن العقل يأتي في سياق خلع”الصفة الكونية على رؤيته الدينية الشديدة الخصوصية“. فمنظومة ابن حزم تقوم، أولاً وأساساً، على إلحاق العقل بالنص واستتباعه له، حيث أنّ وظيفة العقل تتحدد في خدمة النص وفهمه وشرح محتواه واعتماده مرجعاً لكل شيء. كما يعمد ابن حزم إلى استتباع الأخلاق للنص على غرار ما يقول به بالنسبة إلى العقل، وهو يكون بذلك قد”أسقط من اعتباره كل التطور الأخلاقي “والوضعي” الذي حققته البشرية في مسارها التاريخي، وربط الأخلاق حصرًا بأوامر الله إيجابا وبنواهيه سلباً“. ولعل هذا القول لابن حزم أكبر دليل على هذا التوجه :”لسنا معترضين على ربنا تعالى ولا على نبينا.. ولا ننكر شرعهما الشرائع علينا.. ولو أمرانا بقتل آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين“(ص309)
هذا”التأليه“للنصوص واعتبارها تحمل كل الحقائق المطلقة وتصل أحكامها إلى يوم القيامة جعلت ابن حزم في موقع مضاد للعقل بل وعامل على”حبسه في شبكة محكمة الإغلاق“، وهو لم يكتف بإطلاق هذه الأحكام على النص القرآني، بل إنه جعل الحديث موازياً للقرآن وملزماً مثله، وبذلك يكون ابن حزم عبر”قرأنته الحديث وإنزاله إياه منزلة القول الإلهي، كبّل العقل بقيد أبهظ بما لا يقاس مما هو معتاد في حضارات النص المقدس“، (ص373) وهو بذلك يجيز نسخ القرآن بالحديث.
يتناول طرابيشي ما يسميه”العقل التخريجي“من قبل عدد من الفقهاء دفاعاً عن المنظومة الحديثية التي ازداد تضخمها من القرن الثاني الهجري صعودًا، حيث يجمع بينهم التأكيد على نفي التناقض في المدونة الحديثية لكونها ذات أصل إلهي الذي يمتنع التناقض عنه. أسس ابن قتيبة”مشروعية الكذب طلباً للمخرج“عبر لجوئه إلى”المخرج التأويلي“، لتفادي التناقض الذي يشوب الكثير من الأحاديث، ولازالة شبهة الاختلاف والشك حول المصدر الإلهي لهذه الاحاديث. أما”المخرج التوهيمي“الذي قال به ابن سلامة الطحاوي، فلم يأخذ بالتأويل بل”ركب مركب التوهيم والتمويه ليقنع قارئه بأنه قد اهتدى إلى المخرج من ظاهر التعارضات والتناقضات“. اعتمد ابن شاهين”المخرج النسخي“أي توظيف آلية النسخ والمنسوخ”للتملص من فضيحة التناقض والتملص من أحد الحدين المتناقضين باعتباره منسوخا بالحد النقيض الناسخ له“. أما”المخرج الترجيحي“فقد قال به ابن موسى الحازمي الذي أكد أنه”عندما يتعذر الاحتيال التأويلي للجمع بين الحديثين المتضادين، يتعين أن تتدخل آلية الناسخ والمنسوخ لتفصل بينهما ولتلغي حكم المنسوخ وتثبت حكم الناسخ المضاد له“(ص 453). يذهب عبد الوهاب الشعراني إلى اختراع”المخرج التعادلي“حيث اعتمد”آلية أطلق عليها اسم “الميزان” هدفت إلى رفع التناقض بين النصوص عن طريق ضرب من الموازنة بين النصين المتناقضين، بحيث يحتل كل منهما مكانه في إحدى دفتي الميزان، وبحيث ينتفي التناقض بينهما ليتحول إلى محض اختلاف في الدرجة بالناقص أو بالزائد، تخفيفاً أو تشديدًا“(ص467).
شكل انتصار أهل الحديث بعد هزيمة المعتزلة الذي تكرس بالإنقلاب المتوكلي ووصل ذروته مع”المنشور القادري“الذي أهدر دم المعتزلة ونكل بهم، شكل بداية مرحلة”ظلامية“في التاريخ الإسلامي امتدت الى قرون، ولا تزال آثارها السلبية ترخي بثقلها على زمننا المعاصر، خصوصاً في ميدان هزيمة العقل. كانت محنة خلق القرآن، كما يرى طرابيشي، حجة مفتعلة مقصودة”لغاية مباطنة تتجاوز ظاهرها اللاهوتي ، كانت خطة تكتيكية في خدمة هدف استراتيجي هو الصراع على قيادة العامة واستتباعها من خلال استتباع قادتها الذين كان جلهم من أصحاب الحديث“ص(487). مما يعني أنّ انقلاب المتوكل”كان انقلاباً سياسياً يضع في اعتباره الأول مصلحة “الملك الطبيعي” الذي آل إليه على غير ما توقع“(ص488). نتج عن الانقلاب المتوكلي إغلاق ملف خلق القرآن الذي بات يعتبر من القضايا غير المسموح الحديث فيها، وحسم بشكل كاسح”التحول في إسلام القرآن إلى اسلام الحديث، وتأسيس هذا الأخير في أيديولوجيا سائدة على امتداد تلك القرون العشرة الفاصلة بين عصر المتوكل وعصر النهضة، التي كان فيها الدين هو الشكل الوحيد الممكن للأيديولوجيا“(ص 491).
تسببت هيمنة أهل الحديث والمنظومة الحديثية في تغييب القرآن ومعه تغيييب العقل ومعهما القضاء على التعدديات في الإسلام. هكذا بدا وكأنّ”هزيمة العقلانية العربية الإسلامية لا تقف عند حدود العلاقة مع الآخر، بل تمتد إلى داخل علاقة الأنا مع ذاته: الحديث والفقه عقدا في إسلام القرون الوسطى حلفاً غير قابل للإنفكاك.. ومع طغيان الأيديولوجيا الحديثية انعدم الاجتهاد، وحتى القياس.. هذا التدامج بين الفقه والحديث تمخض عن تسييد أيديولوجيا شمولية غير مسبوق إليها في تاريخ الأيدولوجيات لأنها تتدخل في الجزئيات كما في الكليات، ولا تترك مجالا من مجالات الحياة العامة أو الخاصة إلاّ وتعطي حكمها المسبق فيه، بحيث تحول من يسميه أهل الفقه بالمكلّف إلى انسان آلي لا يختلف عن الإنسان الآلي كما خلقه العلم الحديث إلاّ بكونه يتحرك، لا بالأزرار، بل بالنصوص وأحكام النصوص“( ص 628 – 629).
ثالثا ــ في الإصلاح السياسي
ينتمي طرابيشي إلى جيل انخرط في العمل السياسي منذ خمسينات القرن الماضي، وواكب النهوض القومي العربي، في النظرية والممارسة. لكن هزيمة هذا المشروع، في عجزه عن تحقيق المهمات التي وعد بها على صعيد تحسين مستوى المواطن، أو تأمين الحرية والديمقراطية والحق في ممارسة حرية الرأي والعمل الحزبي، مضافاً إليه الهزيمة القومية الكبرى في العام 1967، والتي لم تقتصر على كونها هزيمة عسكرية بمقدار ما هي هزيمة مجتمعية كاملة، كلها عوامل وضعت طرابيشي أمام مراجعة لتجربته السياسية الحزبية، وأضاءت له مجالات تمثلت في قراءة نقدية للفكر السياسي السائد وللتراث بشكل خاص. يعبر في هذه الفقرة عن تجربته قائلا :”إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة. فجيلنا قد راهن على القومية وعلى الثورة وعلى الإشتراكية – هو يراهن اليوم على الديمقراطية – لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم، بل كمطايا إلى النهوض العربي وإلى تجاوز الفوات الحضاري، الجارح للنرجسية في عصر تقدم الأمم“(من النهضة إلى الردة، ص7). عديدة هي القضايا التي يمكن إدراجها في باب الإصلاح السياسي الذي نشده طرابيشي، إلاّ أننا سنركز على قضيتي الديمقراطية والعلمانية.
1 ــ معضلة الديمقراطية في العالم العربي
بعد الهزائم السياسية والفكرية والأيديولوجية التي أصابت المجتمعات العربية وطالت تياراتها السياسية ونخبها الفكرية، سادت موجة من التحول إلى مفاهيم تتصل أولاً بالحداثة والتقدم، وعلى رأسها اكتشاف هذه الأحزاب والنخب أنها كانت مناهضة للقيم الليبرالية في النظرية وفي الممارسة الداخلية وفي العلاقة مع المجتمع. هكذا شهدت نخب وبعض احزاب المجتمعات العربية”نطة“من فكر شمولي إلى الديمقراطية، واستبدلت الخلاصية الماركسية أو القومية بالخلاصية الديمقراطية، وباتت الديمقراطية”تعويذة“من جهة و”موضة“من جهة أخرى. والغريب أنّ معظم المنتقلين، أحزاباً ونخباً، لم يكلفوا أنفسهم تفسير هذا الإنتقال أو ممارسة نقد ذاتي من جهة، كما لم يكلفوا أنفسهم شرح وتفسير هذه الديمقراطية الوافدة وشروط التزامها وممارستها. رفض طرابيشي أن يكون في ركاب المنتقلين بشكل أعمى، أخضع تجربته الفكرية لنقد ذاتي صارم، وأمعن في تفكيك معنى الديمقراطية وتبيان شروطها ومتطلباتها. في حوار مع موقع”الحوار اليوم“أجري بتاريخ 8 -5- 2012، يقول :”مجرّد القول إنّ الديمقراطيّة بذرة برسم الزّرع فهذا معناه أنّها تحتاج حتّى تنمو وتثمر إلى جهد٬ وإلى عمل٬ وإلى شغل في النّفس وفي تربة المجتمع. الإيديولوجيّة “الخلاصيّة” تجعل منها لا ثمرة يانعة برسم القطف فحسب، بل كما لو أنّها فاكهة الجنّة. فالخطيئة هنا هي خطيئة التصوّر بأنّ الديمقراطيّة لا تتطلّب جهدا وإنّما تعفي من الجهد٬ وأنّ المجتمعات العربيّة ستستيقظ ذات يوم مع الديمقراطيّة٬ لتجد نفسها وقد انتقلت إلى مصاف المجتمعات المتقدّمة. ولنملك الجرأة على أن نعترف لئن كانت الأنظمة العربيّة تقيم العثرات أمام الآليّة الدّيمقراطيّة، فانّ المجتمعات العربيّة الرّاهنة تقيم العثرات أمام الثّقافة الدّيمقراطيّة. فالأنظمة العربيّة لا تتحمّل انتخاباً حرّاً، ولكن المجتمعات العربيّة لا تتحمّل رأياً حرّاً. ومجتمع يريد الديمقراطيّة في السّياسة، ولا يريدها في الفكر، ولا على الأخصّ في الدّين، ولا بطبيعة الحال في العلاقات الجنسيّة، هو مجتمع يستسهل الديمقراطيّة ويختزلها في آن معاً، ومن الاستسهال - كما في الإختزال- ما قتل! ».
تخترق النقاشات والسجالات في شان الديمقراطية مجمل كتابات طرابيشي بشكل أو بآخر. خصص لها كتابا جمع فيه مقالات ومراجعات لكتب تتصل بالديمقراطية، وهو “في ثقافة الديمقراطية”، حيث يبلور فيه تفسيره للديمقراطية وشرحها وتجاربها المختلفة في العالم الذي انطلقت منه. يشدد على إشكاليات الديمقراطية في العالم العربي فيشير إلى أنه “من منظور شروط الممارسة العربية للديمقراطية، فإن أول ما يمكن ملاحظته أنّ الديمقراطية في العالم العربي هي موضع طلب أيدييولوجي شديد، ولكن بدون عرض على صعيد الواقع الفعلي، وبدون تأسيس نظري على صعيد المفهوم” (ص7).
يعدد جملة إشكاليات للديمقراطية العربية، منها “إشكالية المفتاح والتاج”، فالموقف الأيديولوجي يرى فيها الترياق والحل لجميع مشكلات المجتمعات العربية. لكن الديمقراطية هي في الحقيقة تشكل “نقطة وصول”، وهي تتوج تطورًا ومسارًا في التحولات البنيوية. يحذر طرابيشي من الغلو في تحويل الديمقراطية إلى معجزة، “فبقدر ما تتحول الديمقراطية إلى مذهب من مذاهب العصر الذهبي، فإن الديمقراطية تكون قاتلة للديمقراطية. فالديمقراطية منطق لا لاهوت، معادلة جبرية لا صيغة سحرية” (ص9). إشكالية اخرى تكمن في اعتبار الديمقراطية “تحصيل حاصل” عبر إسقاط الواقع الاوروبي على الواقع العربي. الإشكالية تركز على قضية ثقافة الديمقراطية المفقودة في مجتمعاتنا العربية، “فبدون ثقافة الديمقراطية – التي ينبغي أن تكون في رأس جدول وظائف الأنتلجنسيا العربية المتدقرطة – فإن الاجرائية ، أو الشكلانية الديمقراطية، قد تنقلب وبالاً على الديمقراطية نفسها” (ص10).
ومن الإشكاليات أيضاً “إشكالية الغالبية”، صحيح أنّ الديمقراطية في تعريفها هي تأكيد حكومة العدد الأكبر، لكنّ هذا العدد متغير ومتصل بواقع المجتمعات العربية حيث تتحدد أحيانا كثيرة الأغلبيات وفق المنطق الطائفي أو المذهبي. في عالم عربي تحولت فيه الأنظمة السياسية إلى دكتاتوريات عمادها العصبيات الدينية والطائفية والقبلية، وعلى معارضات تقف على الأرضية نفسها، تصبح “وظيفة الأنتلجنسيا العربية لا تكمن في ممارسة المعارضة بقدر ما تكمن أساساً في ممارسة التربية الديمقراطية” (ص13). يؤكد طرابيشي في هذا المجال على أنّ العقد الديمقراطي يحتاج إلى تهيئة البيئة الخاصة به خصوصاً ما يتصل بالشروط المادية والفكرية، و“الديمقراطية لا يمكن ان تكون نظاماً للحكم بدون أن تكون نظاماً للمجتمع.. فالديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجتمعية ، والمجتمع هو في المقام الأول نسيج من العقليات. ولئن تكن الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة غلى صندوق الإقتراع ، فإنّ الصندوق الأول الذي تنطلق منه هو جمجمة الرأس” (ص 17).
صحيح انّ الأنظمة العربية تشكل العائق الرئيس في نشر ثقافة الديمقراطية، لكنّ المجتمعات العربية تضع بدورها عقبات أمام هذه الثقافة. لا تزال مجتمعاتنا بعيدة عن الإعتراف بالآخر وعن تقبل الرأي الحر، والكثير من النخب العربية تقبل الحديث في الديمقراطية عندما يتصل بالسياسة وترفضه حين يتطرق إلى الدين أو إلى قضية المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات. ومن العقبات المجتمعية العربية التزايد المتواصل لأعداد الأميين وارتفاع مستوى الفقر والانفجار السكاني.. كلها عوامل تساهم وترفع منسوب مأزق الديمقراطية في العالم العربي.
2 ــ العلمانية وإشكاليتها في العالم العربي
على غرار التعاطي مع قضية الديمقراطية، جرى التعاطي مع قضية العلمانية من قبل النخب والأحزاب على أنها وصفة جاهزة للخلاص من الصراعات الطائفية والمذهبية التي تعصف بمجتمعاتنا، من دون بناء ثقافتها وتعيين شروطها الموضوعية والذاتية. يتصدى طرابيشي للذين ينكرون على العلمانية ضرورتها في المجتمعات الإسلامية أو الذين يحصرون مطلبها بالأقليات غير الإسلامية، فيحسم بأن “العلمانية إشكالية إسلامية – إسلامية” أولاً وقبل كل شيء. يؤكد في كتابه “هرطقات 2” على هذه المسألة بكلام نقدي قائلا :“يتفق خصوم العلمانية في الساحة الثقافية المعاصرة، سواء أكانوا من دعاة الحداثة أم من دعاة القدامة، على اعتبارها نموذجاً لإشكالية مستوردة. فالعلمانية في رأيهم رأت النور في الغرب، وتحديدًا الغرب المسيحي. وما رأته إلاّ لتقدم جواباً عن إشكال هو من إفراز الغرب المسيحي حصرًا : الصراع اللاهوتي والسياسي، الذي أخذ شكل حرب متوالية الحلقات دامت أكثر من مائة سنة، بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية البروتستانتية. وعن طريق الترجمة والمحاكاة الرثة، الموسومة بالتفرنج كما يقولون، جرى ازدراع تلك الإشكالية الغربية في جسم الثقافة العربية الحديثة بدون أن تكون بها إليها حاجة حقيقة، وبدون أن تلبي طلباً فعلياً – أو متوهماً أنه كذلك – إلاّ للجماعة الأقلوية التي تطوعت لاستيرادها : نصارى الشرق” (ص 9).
إذا كانت العلمانية في وجه من وجوهها “فلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد” (ص10)، فهذا ما يجعلها أكثر من ضرورة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية القائمة على تعدديات طائفية ومذهبية، مما يجعل منها قضية إسلامية – إسلامية قبل أن تكون قضية مسيحية – إسلامية. لعل الصراعات المذهبية والطائفية المندلعة اليوم حروباً أهلية بين الطوائف الإسلامية خير حافز لاعتبار العلمانية أحد الطرق المؤدية إلى الحد من هذه الحروب.
في استعادة للمسار الذي سلكته العلمانية في المسيحية يشير طرابيشي في مقابلة مع موقع “الحوار اليوم، 8 -5-2012) إلى أنه”لن يكون أصعب بكثير على الإسلام من المسيحية دخولُ العلمنة. ففي المسيحية ليست بذور العَلمانية هي التي تطورت إلى شجرة وغابة، بل العكس: عندما اكتملت القطيعة المعرفية التي حقَّقها الغرب مع نفسه وتَعَلْمَن، عادت المسيحية إلى تاريخها، لتكتشف هذا التعلمُن وتبرِّره. وأعتقد أن الإسلام سيدخل هذه المرحلة، وسيعود إلى ماضيه فيما بعد، ليكتشف تلك البذور ويمنحها تسميةً جديدة. وهذا الأمر ضروري للإسلام نفسه، وسيساعده على أن يتحول من إسلام سياسي إلى إسلام روحي، تمامًا كما حصل في المسيحية. وهكذا تحررت المسيحية، بفضل العَلمانية، من ربقة السياسة وذلِّ السياسة. وأعتقد أنه قد آن الأوان ليظهر الإسلام الروحي، فينحِّي جانبًا الحاكمين والمعارضين ورجال الدين. الروحنة هي مدخل الإسلام إلى الحداثة. وعندما يحدث ذلك لن نرى ردود فعله الحالية، من عنف وكره ورفض للحداثة....فلئن قامت العلمانيّة في الغرب على أساس التّحييد الدّيني للدّولة، فإنّ العلمانيّة في المجال العربي الإسلامي لا بدّ أن تقوم أيضاً على التّحييد الطّائفي للدّين نفسه. وذلك ما دام الدّين، وهنا الإسلام، يتوزّع لا إلى طوائف متباينة فحسب، بل أيضاً وأساساً متعادية متكارهة يقوم كيانها على الضدّية المتبادلة وتعتمد في التّعامل فيما بينهما معجم التّكفير والتّنجيس… والإسلام هو أحوج الأديان اليوم إلى الفصل فيه بين الزّمني والرّوحي. فأصل الانقسام الطّائفي في الإسلام سياسي وليس دينياً. وقد كان مداره -ولا يزال- على مسألتي الخلافة والإمامة. ولئن كان الإسلام “المسيَّس” “والمؤدلج” يشنّ حرباً شعواء على العلمانيّة، فما ذلك إلاّ لأنّه يرفض مبدأ فصل الدّين عن الدّولة، بل كذلك لأنّ العلمانيّة، بما يترتّب عليها من فصل بين الرّوحي والزّمني حتّى على الصّعيد الدّيني المحض، من شأنها أن تساعد الإسلام على فكّ نفسه من أسر “التّسييس” و“الأدلجة” وعلى استرداد وضعيّته الطبيعيّة كوجدان جمعيّ شبه فطريّ“.
ينظر طرابيشي الى العلمنة في وصفها مسألة جهادية دنيوية، ويصفها بأنها”جهاد في سبيل الدنيا بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة“(هرطقات 2 ص99)، هذه الجهادية أحدثت تحولات هائلة في المجتمعات الغربية، وقام نجاحها بعد أن اخذت مستويات متعددة. فأولها”العلمنة الدينية“التي كسرت احتكار الكنيسة للإيمان وردت الإيمان إلى الشخص البشري، وكسرت احتكار تأويل النصوص المقدسة. وثانيها”العلمنة الثقافية“التي أعتقت الأدب من ربقة التصور الديني للعالم وجعلت الأدب متمحورًا حول الإنسان ومصيره الدنيوي. وثالثها”العلمنة اللغوية“والتي تمثلت بالتمرد على لغة الكتاب المقدس عبر تكريس اللغات العامية الدنيوية. ورابعها”العلمنة الإنسانية“التي أعادت عملية إحياء الثقافة الوثنية للعصور القديمة. وخامسها”العلمنة العقلية“التي اقترنت بإعادة اكتشاف الفلسفة اليونانية التي كانت ترى إلى العقل كمعطى أول، مما جعل الفلسفة تعمل في أمرة العقل وتحت سيادته بعد أن كانت سابقا خادمة للاهوت. وسادسها”العلمنة العلمية“والتي أفادت من”الثورة الكوبرنيكية“لتوجه طعنة إلى النظرية التوراتية حول الكون ومركزية الأرض والقول بمركزية الشمس، والأهم من كل ذلك تكريس”حق العلم، وبالتالي العقل البشري، في التحرر من الأساطير الغيبية وفي التثوير الدائم واللامتناهي للمعرفة الدنيوية“(ص101). وسابعها”العلمنة الطبقية“والمتمثلة بظهور وصعود الطبقة البورجوازية التي حصرت جهادها بالأرض وليس بالسماء، وتمحورت فلسفتها حول المادة اكثر منها حول الروح. وثامنها”العلمنة القانونية“التي أكدت على نقل مبدأ التشريع من الله وخلفائه على الأرض إلى الشعب عبر ممثليه في البرلمانات. وتاسعها”العلمنة السياسية“التي حصرت مبدأ السيادة بالأمة، والتي ساهمت في نشوء وتبلور الدولة / الأمة أو الدولة القومية. وعاشرها”العلمنة الجنسية“، حيث”تفتقت هذه العلمنة عن تحرير مزدوج للحياة الجنسية البشرية من ربقة الجريمة وربقة الخطيئة معا“(ص104).
خاتمة
يضرب المجتمعات العربية منذ ثلاث سنوات إعصار بنيوي أصاب عددًا من البلدان العربية حتى الآن، وهو مؤهل للتوسع في المستقبل القريب. ما ظهر من هذا الإنهيار في بنى المجتمعات العربية قد لا يكون سوى”رأس جبل الجليد"، ويستحيل التنبوء بما ستستقر عليه الأمور باستثناء أنّ الثابت المتوقع هو الفوضى الكيانية والمزيد منها. لا يطعن في الانتفاضات العربية التي قامت، عجزها عن التحول إلى المسار الديمقراطي، كما ليس مستهجناً أن تتسبب في انفلات بنى التخلف والأصوليات واحتلالها الساحات العربية. إن انفجار هذه البنى تتحمل مسؤوليته أنظمة الإستبداد العربي بشكل رئيسي، فهي فشلت في بناء دولها ومنعت تطورهها وحبست الشعوب قي قمقم ومنعتها من المشاركة في بناء أوطانها. لم يكن غريبا أن تؤدي ممارسات أنظمة الإستبداد إلى الإطاحة بقشرة الحداثة التي كانت تحققت، وأن تؤدي سياساتها إلى تفكك بنى الدولة لصالح العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية والإثنية، بما حول الانتفاضات العربية إلى ميدان تقاتل هذه الموروثات في حروب أهلية لا قعر مرئياً لانتهائها.
تمر المنطقة العربية في مرحلة تاريخية مفصلية من سماتها الأساسية انهيار بل وإبادة القوى السياسية التي شكلت رافعة التقدم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بعد أن أمعنت الأنظمة في إبادتها عبر زجها في السجون أو تشريدها في المنافي أو ترحيلها إلى القبور. كشفت الانتفاضات حجم هذه الإبادة من خلال هامشية ما تبقى منها وعجزها عن لعب دور مؤثر في الأحداث. كما كشفت هذه الانتفاضات عقم الأدوات الفكرية – المعرفية الموروثة وقصورها عن فهم أسباب هذه التحولات وقراءتها وتحليل مسارها. هذا في وقت لم تتكون بعد أدوات معرفية جديدة تستقر النخب عليها وتساعدها في فهم مجريات الحاصل وتساعد على إرشاد الممارسة. هذه الإبادة للقوى وللعدة المعرفية تطرح على المجتمعات العربية وعلى النخب مسألة مواجهة الواقع في بناء القوى البديلة للقوى السائدة والمهيمنة راهناً، وتحدي إنتاج أدوات معرفية جديدة.
ما هو مطروح على المجتمعات العربية ليس أقل من بناء مشروع نهضوي متجدد، فالمسار الراهن بقواه الأصولية وثقافته المنتمية على عصور أهل الكهف، ليست قدرًا مقدرًا إلى الأبد. لعل النقطة المركزية في بناء هذا المشروع ترتكز على استنهاض القوى السياسية والاجتماعية الحاملة له، وعلى بناء ثقافة سياسية متجددة استنادًا إلى ما قدمته الحداثة وقيمها، ثقافة تشكل المرشد العملي لهذا البناء. في هذا المجال تشكل طروحات جورج طرابيشي خصوصاً في قراءة التراث ونقده وتجديده، ونشر ثقافة الديمقراطية والعلمانية، واحدة من اللبنات المساهمة في هذا المشروع. ولعل تجربته في النقد الذاتي لرحلته السياسية الفكرية الطويلة تمثل ضرورة ماسة في سياق المسار النهضوي. فهل تشكل تجربة طرابيشي نموذجاً لنخب عربية تسير في هذا النهج؟ سؤال يقع جوابه في علم الغيب.