في صدارة مطلب البعد الثالث المتمثل في الحقيقة الانطولوجية، قال بيليدور إنه لن يعرف كيف يكون من الصعب استيعاب مصطلح “أنطولوجي” المطبق على الفكر الهايدجري. مع ذلك، يبدو لنا من الضروري استخدامه هنا لسببين. من ناحية، يستخدم فيه هايدجر صفة "أنطولوجي" لوصف حقيقة "الموجود كما هو"، وليس من التعسف استخدام صفة "أنطولوجي" لوصف حقيقة "الوجود ذاته"، بشرط فهم هذا المصطلح، ليس في حمولتهة التاريخية والتقليدية، ولكن حصريا في اختلافه عن مصطلح "أنطيقي"، كما هو محدد هنا. ومن ناحية أخرى، لأن هذا التمييز يقترحه هايدجر نفسه صراحة حتى في كتيبه السابق قليلاً: "ماهية العقل". لم يتم هنا فحسب عرض المستويات المختلفة التي ميزناها للتو، بل تمت كذلك الإشارة إليها بأسماء خاصة. للتدليل على ما يقول، استخرج بيليدور من كتيب هايدجر بعض الاستشهادات وفق الترتيب التالي: (1) الحقيقة الحملية (الإسنادية): "الحقيقة
تعني اتفاقا، لا يعدو من جانبه كونه توافقا مع ما هو يظهر في الهوية باعتبارها فريدة من نوعها. (2) حقيقة القضية متجذرة في حقيقة (وجود-مكشوف) أكثر سموا في الأصل، في حالة شاخصة للموجود الذي هو قبل-حملي، ويسمى الحقيقة الكينونية (الأنطيقية)، والتي تستهدف الموجود الذي يتلاقى مع ذاته في العالم. (3) فقط لأن الوجود يكون مكشوفا، يصبح من الممكن للموجود أن يظهر. هذا الكشف الذي يُفهم على أنه حقيقة على الوجود، هو ما نعنيه باسم الحقيقة الأنطولوجية.
يجب ألا ننسى أن الكاتب انطلق من الحقيقة الحملية. وأظهر من أين تستمد هذه الحقيقة مصدرها، ثم استطاع، وهو يبتعد عنها شيئا فشيئا، أن بين بإيجاز لماذا تبدو الحقيقة الإسنادية وكأنها تحقق جوهر الحقيقة، وهو ما قاده إلى الحقيقة الأنطيقية. من خلال البحث عن أساس تمكين المطابقة، وجدنا أن هذا التمكين مؤسس على الحرية. والآن، بعد ذكر المستويين المختلفين المذكورين أعلاه، أي "الأنطيقي" و"الأنطولوجي"، تكون الحرية التي يتحدث عنها "في ماهية الحقيقة" مرئية بوضوح ومحددة، من حيث ماهيتها، من خلال الموقع الذي تحتله في "شبكة الارتدادات". بالفعل، إذا كان أحد المستويين هو مستوى "الموجود كما هو"، وإذا كان الآخر هو مستوى "الوجود نفسه"، فمن الضروري مطلقا أن يكون الوسيط والممر من أحدهما إلى الآخر يتمثل في "دع الموجود-يوجد". هذه العبارة يجب أن تؤخذ بمعناها الصارم، وهذا يعني أنه يجب إعطاء أهمية متساوية لـ "دع" و"وجود". لن يقدم الكاتب هنا والٱن صياغة وافية لهذه العبارة "دع الموجود-يوجد"، بل حسبه أن يتحدث عنها بإيجاز، وهو حريص على تقديم تحليل مفصل في موضع آخر. تمهيدا لهذا الغرض، طرح هذا السؤال: كيف نتفكر كشيء واحد الاقتران بين هاتين الكلمتين، "دع ووجود"؟
تفترض حقيقة الموجود حقيقة الوجود، ويجب على هذا الحدوث لوجود الموجود كما أن بحوز موقعا متميزا، موقعا لا يمكنه أبدا خلق الوجود (أو محوه)، ولكن يستطيع أن يقبل (أو يرفض) استقبالا، ولهذا السبب لا ينفصل عن الوجود. هذا هو الموقع المميز الذي سماه هايدجر في كتابه "الوجود والزمان" الدازاين، والذي حدده هنا بشكل أضيق في كلمة حرية. هذه الحرية لا تعني حرية الإنسان تجاه الموجودات. إنها حرية الوجود، بالمعنى المزدوج لهذا المضاف: حرية يمنحها الإنسان للوجود، وبطريقة معينة، حرية يمنحها الوجود للإنسان - حرية الوحود في الحقيقة. وبهذا المعنى فهي مرتبطة بالدازاين (أي الوجود-هنا): ليس بمعنى أنها تنتمي إليه (كملكية)، ولكنها تشكله في ماهيته، لأنها تقول علاقة الدازاين بالوجود، وهي علاقة ليست شيئا ٱخر غير الدازاين نفسه. وعلى من يهتم بالدقة القصوى، ويسأل عما تكون بالضبط الحرية في علاقة بالدازاين، أجاب الكاتب بأنها صلة وصل تفصل وتوحد الDa-sein في وسطه. الحرية، بالمعنى الدقيق للكلمة، هي ما ترخص لل”الوجود” بأن يكون له "هنا"، لSein بأن يكون له "Da". ولأنها هي بالتحديد هذا الترخيص، الممنوح للوجود، بالوجود "هنا"، توضح وتحديد رجوعا ماهية الدازاين؛ أي ما أسماه هيادجر Ek-sistenz. "تعريف" الحقيقة كوجود-مكشوف ووجود كاشف ليس مجرد شرح لغوي لكنه جاء من تحليل سلوكات الدازاين التي اعتدنا أولا على وصفها بكونها "صحيحة". الوجود الحقيقي كوجود-كاشف نمط من أنماط وجود الدازاين. لكن ما يجعل الشيء في ذاته ممكنا، هذا الكشف ينبغي تسميته "حقيقيا" بمعنى أكثر أصالة. الأسس الأنطولوجية-الوجودية للكشف ذاته تبين لأول مرة الظاهرة الأكثر أصالة للحقيقة. يعني الكشف عند هايدجر نمط وجود الوجود-في-العالم. هذا الأخير (العالم) يقبل كشيء مكشوف. إنه "حقيقي" بمعنى ثان. ويكون الدازاين حقيقيا، أي كاشفا. لكن هذا الاكتشاف للموجود الدنيوي بتأسس على انفتاح العالم. هكذا، إذن، بكون الانفتاح هو النمط الأساسي للدازاين الذي وفقه يكون (هنا)ه.
يتشكل الانفتاح بالعاطفة، بالفهم وبالكلام، كما يهم بشكل أصيل متبادل العالم، الوجود-هنا والوجود في ذاته. إنما معه، يواصل هايدجر، كان الوجود-المنكشف، وبالتالي إنما فقط مع انفتاح الدازاين يتم الوصول إلى الظاهرة الأكثر أصالة للحقيقة. بقدر ما يكون الدازاين في الأساس هو انفتاحها، وباعتباره منفتحا يفتح ويكشف، بكون "حقيقيا". يوجد الدازاين "في الحقيقة". لندرك أن لهذه العبارة معنى أنطولوجيا. وهو لا يقصد أن الدازاين، من الناحية الأنطيقيية، هو دائمًا أو حتى فقط في كل مرة خبير "بكل حقيقة"، بل إلى تشكله الوجودي ينتمي انفتاح وجوده الأكثر خصوصية. هذا الانفتاح الأصيل يظهر ظاهرة الحقيقة الأكثر أصالة. الانفتاح الأكثر أولية وكذلك الأكثر أصالة حيث يمكن للدازاين أن يكون قوة-وجود هو حقيقة الوجود. إنه فقط في سياق تحليل أصالة الدازاين سوف تحظى هذه الحقيقة بتعينيتها الأنطولوجية-الوجودية. المعنى الانطولوحي-الوجودي التام للقضية: "الدازاين موجود في الحقيقة" يقول في نفس الوقت، وبشكل أولي متبادل: "الدازاين موجود في اللاحقيقة". إنما بالقدر الذي يكون الدازاين منفتحا يكون منغلقا كذلك؛ ومع ذلك إنما مع الدازاين المنكشف في كل مرة للموجود الدنيوي يتم فيها تغطية (إزالة) هذا النوع من الموجود الدنيوي المختفي في إمكان اللقاء الدنيوي.
الحقيقة (وجود-منكشف) يجب دائما أن تُنتزع من الموجود أولاً وقبل كل شيء. الموجود منتزع من السحب. في كل مرة، اكتشاف الحقائق، إذا جاز التعبير، يكون دائما بمثابة عملية اختطاف. يعبر اليونانيون عن ماهية الحقيقة باستخدام تعبير خاص a-lèthèia. لكن، بالنسبة لهايدجر، ليس من قبيل الصدفة أن يعبروا عنها بهذه الطريقة، لأنه بهذا النمط من التعبير عن الدازاين، يعلن عن نفسه فهم الوجود الأولي الذي سنوضحه باتباع الخيط الموجه للفكر الهايدجري مع إضاءة إجمالية للمذهب الأفلاطوني حول الحقيقة. في بداية هذه الفقرة الخاصة بمذهب أفلاطون حول الحقيقة، أكد بيليدور أن المعرفة بالعلوم، كما رأى هايدجر في بداية كتيبه "أسئلة 2"، عادة ما يتم ذكرها على شكل قصايا وتقدم للإنسان كمجموعة من النتائج التي يمكن فهمها بسهولة وكل ما عليه فعله هو استخدامها. إن "مذهب" مفكر بالنسبة إليه هو ما بقي ، في كلماته، غير مصوغ، بل ما هو مفتوح، "معروض" للإنسان. فإذا أردنا أن نفهم ونعرف من الآن فصاعدا ما لم يقله مفكر مهما كانت طبيعته، يجب علينا أن ننظر في ما قاله. تلبية هذا المطلب تقتضي تناول كل "محاورات" أفلاطون وفحصها في علاقاتها المتشابكة. وبما أن هذا مستحيل، فسوف نسلك طريقا آخر يقود إلى ما ظل، في فكر أفلاطون، غير مصوغ. ما بقي غير مصوغ هو حركة دوارة في تعين ماهية الحقيقة، الموضوع الأساسي لدينا في هذه المحاولة. السؤال عما إذا كانت حركة التحول هذه قد حدثت بالفعل، وفيم تتنثب، وما الذي تستند إليه: هذا ما نود توضيحه بتفسير مختصر لـ”أسطورة الـكهف".
ترد «أسطورة الكهف» في بداية الكتاب السابع من «المحاورة» ماهية المدينة الجوهر (بوليتيا، السابع، 514 أ إلى 517 أ، 7). هذه "الأسطورة" هي عبارة عن قصة يتقدم سردها خلال حوار بين سقراط وجلوكون. يروي سقراط القصة، ويعبر جلوكون عن دهشة يقظة. ولأغراض دراستنا، سيكون كافيا بالنسبة إلينا أن نختبر ماهية الحقيقة الأفلاطونية من خلال ممارسة تأويل "الأسطورة".
بعد قراءة هذه القصة بعناية، ما المعنى الذي تحمله إلينا؟ بدون حاجة إلى الذهاب بعيدا، يعطينا أفلاطون نفسه الجواب، لأن القصة يتبعها على الفور تأويل (517أ،8 حتى 518د،7). المسكن الذي على شكل كهف هو "صورة " عن مكان الإقامة الذي ينكشف (يوميًا) لمن ينظر حواليه. النار المشتعلة في الكهف، فوق سكانه، يُفهمنا أفلاطون أنها "صورة" عن الشمس، بينما قبة الكهف تمثل القبة السماوية. تحت هذه القبة، يعيش أناس، مرتبطين بالأرض ومعتمدين عليها. ما يحيط بهم، على هذه الأرض، يشكل بالنسبة إليهم "الواقغ"، أي ما يوجد. في هذا المسكن، يشعر الناس، حسب فكر أفلاطون، بأنهم "في العالم و"في منزلهم"، إنما هنا يجدون ما يثقون فيه. "الأشياء" المهمة في الأسطورة والتي تظهر خارج الكهف هي على العكس من ذلك صورة لما هو، في الأشياء الموجودة، موجود بشكل خاص؛ وهذا يعني، بحسب أفلاطون، أن ما يوجد به الموجود يظهر في "مظهره" أو "صورته" المحددة (Aussehen)، ( ترجمة للكلمة اليونانية Eidos). لنفهم أن هذا "المظهر"، بالنسبة إلى أفلاطون، ليس "ظهورا" بسيطا. ما زال ل"المظهر" بالنسبة إليه نوع من المخرج، من خلاله يقدم شيء نفسه. منتصبا على "شكله"، هو ذا الموجود نفسه الذي ينكشف. يتوافق هذا الزوج الألماني الفرنسي مع Eidos أو Idea. الأشياء المعرضة لضوء النهار، خارج الكهف، حيث الرؤية حرة من جميع الجهات، ترمز في الأسطورة ل"الأفكار". وما يُرى على ضوء الشمس يمثل ما يمكن إدراكه بالفكر {Noûs).. من الواضح لدى أفلاطون أنه إذا كان نظر الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الأفكار؛ أي مظهر الأشياء، الكائنات الحية، البشر، الأعداد، الآلهة، فلن يستطيع أبدا أن ينظر إلى هذا أو ذاك على أنه منزل، أو شجرة، أو إله. هذه الطريقة في تفكير أفلاطون تجعلنا نفهم أن عالم الوجود والزمان هو النسخة الوجودية الهايدجرية لعالم الصور الأفلاطوني، من حيث أنه يحدد "ما تكونه" الأشياء.
بشكل عام، يتخيل الإنسان أنه يرى مباشرة هذا المنزل، وهذه الشجرة، وحتى كل ما هو موجود. في أغلب الأحيان لا يشك مطلقا في أنه يرى على ضوء «الأفكار» فقط كل ما هو دارج بالنسبة إليه، «واقعي» إذن. لكن كما يؤكد هايدجر في كتيبه: "كل ما يعتبر واقعيا بشكل صحيح، كل ما يمكننا رؤيته وسماعه وفهمه وحسابه على بشكل ىمباشر، ليس بالنسبة إلى أفلاطون إلا انعكاسا غامضا للأفكار، أي ظلا. هكذا التحق أهل الكهف جوهريا بالحياة اليومية ل"الوجود والزمان"، وديكتاتورية On. هذه الأشياء بلا تناسق، لكنها الأقرب إلى الإنسان، تشد بخناقه أسيرا كل يوم. يعيش في سجن ويترك وراءه كل "الأفكار". وكما هو لا يعرف هذا السجن كما هو، فهو يعتبر المجال اليومي يقع تحت القبة السماوية باعتبارها المكان المناسب لهذه التجربة وهذا الحكم اللذين، هما وحدهما، يمنحان مقياسهما لكل الأشياء وعلاقاتها ويضعان قواعد لترتيبها وتناسقها. الأشياء المرئية من تلقاء ذاتها هي في الأسطورة كما قلنا: "صورة" "الأفكار". غير أن الشمس تمثل "صورة" ما يجعل الأفكار مرئية. ولذلك فهي ترمز إلى فكرة الأفكار التي أطلق عليها أفلاطون تحت اسم “فكرة الخير”. ما الذي ظهر من خلال هذه المقاطع؟ ما الذي جعل هذه الأحداث ممكنة؟ من أين تستمد حتميتها؟ في السطور التالية، سوف يحاول بيليدور الإجابة على هذه الأسئلة جميعها.
من الكهف إلى ضوء النهار وبالعكس من الأخير إلى الكهف يقتضي تعويد العيون على الانتقال من الظلام إلى النور ومن النور إلى الظلام. في كل مرة تعاني العيون من اضطراب كبير، وذلك لأسباب متعارضة. "اضطرابان إثنان يحدثان اضطرابات للعين، وذلك لسببين. (518أ،2) ماذا يعني هذين الاضطرابين؟ يريد أفلاطون أن يبين لنا أن هناك إمكانين للإنسان. أولاً، يمكنه التغلب على جهل مستوى به بالكاد، ليصل إلى حيث يظهر له الموجود تحت ضوء نهار أكثر أهمية (في شكله الحقيقي): إذن، في الأوقات الأولى، لا يكون الإنسان متلائما مع ما لديه الاتساق الكامل للوجود. وبعد ذلك، يمكنه أيضا أن يرفض ويترك موقفا أسند للمعرفة الأساسية، ليفشل حيث يكون الواقع المشترك هو الغالب، ولكن دون أن يكون قادرا على قبول ما هو رائج ومعتاد في هذه الجهة على أنه حقيقي. لكن، في فكر أفلاطون، كما يجب على العين أن تتكيف، بطريقة بطيئة ومستمرة، سواء مع النور أو مع الظلام، كذلك يجب على النفس أن تتعوّد بصبر وتقدم طبيعي، على مجال الموجود الذي تجد نفسه مسلَّمة إليه. مؤيدل لأطروحة أفلاطون، يؤكد هايدجر أن مثل هذا التعود يتطلب قبل كل شيء تغيير الاتجاه الذي من خلاله توضع النفس كلها في خط جهدها الجديد، وبالمثل فالعين لا تستطيع أن ترى جيدا أو تنظر من جميع الجوانب إلا إذا تموقع الجسم كله في مكان مناسب. لنطرح هذا السؤال: لماذا من الضروري أن يكون الاعتياد على جهة معينة بطيئا ومستمرا؟ لأن تغيير الاتجاه يهم الإنسان في جوهره، ويحدث بالتالي في أعماق وجوده. هذا يعني أن الموقف الحاسم الناتج عن تغيير الاتجاه يجب أن يتحدد ويصبح سلوكا راسخا، انطلاقا من علاقة تدعم قبلا جوهر الإنسان. هذا التوجه الجديد، هذا التكيف لوجود الإنسان مع المجال الذي المخصص له في كل مرة، يشكل جوهر ما يسميه أفلاطون التربية (Paideia). بالنسبة إلى هايدجر، هذه الكلمة ليست قابلة للترجمة بشكل صحيح. حسب تعريف أفلاطون نفسه «païdeia» هي توجه الإنسان نحو تغيير وجوده بأكمله. كذلك الpaïdeia هي في الأساس عملية انتقالية، أي من apaïdeusia إلى païdeia. وفقا لهايدجر، فإن المصطلح الألماني Bildung ("التكوين") هو الذي يستجيب أفضل، رغم أنه لا يزال غير مكتمل، إلى payeia اليونانية. يقتضي التكوبن تحويلا. إذا أعطينا لهذا المصطلح قيمته الدلالية وتخلينا عن معناه الخاطئ الذي كان ضحيته في نهاية القرن التاسع عشر. يكون لBildung، كما يقول هايدجر، معنيان. أولا، فعل المكون (ein Bilden) الذي يطبع على الشيء خاصيته، وفقها يتطور. وإذا كان هذا التكوبن «يُعلم» (يطبع خاصية)، فهو كذلك لأنه في نفس الوقت يطابق الشيء مع وجهة نظر محددة تسمى لهذا السبب (Vor-bild). لذلك يمكننا أن نفهم أن "التكوين" (Bildung) هو في نفس الوقت طبع للشخصية وتوجيه مستلم من نموذج. ضد païdeia هو apaydeusia، وهو عدم التكوين. فيه (aaideusia) لا تطور في الموقف الأساسي يجد نفسه مستيقظا، لا نموذج فعال يتم اقتراحه. القوة الرمزية لـ"أسطورة الكهف" يتمحور حول غرض جعل جوهر اللابيديا قابلا لأن يرى ويعرف من خلال الأشكال المحسوسة للقصة المروية. وفي نفس الوقت أراد أفلاطون استبعاد سوء التأويل وإظهار أن جوهر البايديا لا يتمثل في سكب معارف بسيطة في نفس غير مهيأة. أما التكوين الحقيقي، في رأيه، فهو على العكس من ذلك، يسطو على النفس ذاتها وبأكملها ويبدلها، وذلك بأن يقود الإنسان أولاً إلى مكان جوهره وتعويده على ذلك. أراد أفلاطون في "أسطورة الكهف" تسليط الضوء على جوهر البايديا، وهذا ما تقوله لنا بوضوح جملة من المقدمة افتتح بها الكتاب السابع: "بعد ذلك، اعرف كيف تكتشف، في طبيعة الأشياء المعاشة والمجربة (والتي ستكون موصوفة)، رؤية (جوهر) “التكوين"، وكذلك رؤية عدم التكوين، وكلتاهما لا تنفصلان وتتعلقان حتى بأساس شرطنا الإنساني".
وبعبارات أفلاطون الواضحة، تفتح أمامنا صور «أسطورة الكهف» وجهة رؤية لجوهر "التكوين". التأويل الذي سوف نقوم به ل"الأسطورة" يجب أن يقودنا نحو ماهية الحقيقة. ألا نفرض على «الأسطورة» تأويلا غريبا عنها؟ ألن يجازف هذا التأويل بالتسبب في ممارسة عنف على النص، ويتحول إلى تأويل خاطئ؟ لنقبل هذا المظهر في هذه اللحظة إلى أن يحل اليوم الذي تتشكل فيه لدينا قناعة بأن فكر أفلاطون خضع لتغيير يتعلق بماهبة الحقيقة وأصبح القانون الخفي لما يقوله لنا. تبعا للتأويل الذي فرضته علينا اليوم المحنة التي كانت، في زمن أفلاطون، تنتمي إلى المستقبل، لا تحكي لنا «الأسطورة» فقط، بلغة مفهومة، عن وجود التكوين، بل تمنحنا أيضا نظرة ثاقبة إلى التغيير في ماهية "الحقبفة".
بالنسبة إلى هيدجر، إذا كانت "الأسطورة" تقوم بالأمرين معا، فمن الضروري أن توحد العلاقة الأساسية بين "التكوين" و"الحقيقة". تتمثل العلاقة في أن ماهية الحقيقة وطبيعة تغيرها هما اللذان جعلا "التكوين" ممكنًا لأول مرة، وهذا يحدث حتى في داخل بنيته الأساسية. ولكن ما الذي يجمع بين "التكوبن" و"الحقيقة" في وحدة ماهوية؟ ومجموعة أصلية؟ تشير كلمة païdeia إلى تغيير الإنسان الاتجاه في علاقة مع انتقاله، من مجال ما يقدم نفسه إليه أولاً إلى مجال آخر يظهر فيه الموجود ذاته، ويعتاد عليه الإنسان ويتلاءم معه. هذا الانتقال ممكن لأن الأشياء الظاهرة للإنسان تتغير، وكذلك الطريقة التي ظهرت بها. فلابد إذن أن يتغير كل ذلك، بما فيه ما كان عند الإنسان ظاهرا، "لا متحجبا"، وكيفية لاتحجبه.
لفظة " اللاتحجب" تقابلها في اليونانية أليثيا (alèthèia)، وهي الكلمة التي تُترجم إلى"الحقيقة". منذ زمن طويل، كانت "الحقيقة" تعني في الفكر الغربي اتفاق التمثل المفكر مع الشيء، تطابق الفكر والواقع. ومع ذلك، لن نكتفي پأن نترجم "حرفيًا" الكلمتين païdeia وalèthèia، لنحاول على العكس من ذلك أن نفكر، انطلاقا من المعرفة اليونانية، في الجوهر الخالص لما تحيل عليه الكلمتان المراد ترجمتهما: إذن، "تكوين" و"حقيقة" يؤكد هايدجر، يجتمعان في وحدة ماهوية. وإذا أصبح من الضروري أن نأخذ على محمل الجد المحتوى الدلالي الأساسي لكلمة "أليثيا"، ننقاد بعد ذلك إلى أن نسأل أنفسنا ما هي نقطة البداية التي وصل منها أفلاطون إلى مفهومه عن ماهية اللاتحجب. ومن يريد الإجابة على هذا السؤال يجد نفسه عائدا إلى المحتوى المحدد ل"أسطورة الكهف". يوضح الجواب بدوره كيف تتعامل "الأسطورة" مع جوهر الحقيقة. اللامتحجب ولاتحجبه يدلان على ما هو عند كل مرة في مكان إقامة الإنسان حاضر على نحو مكشوف. لكن "الأسطورة" تحكي لنا قصة تتعلق بالانتقالات من إقامة إلى أخرى. ثم، بشكل عام، يتم تقسيم هذه القصة وفقا لأربع إقامات مختلفة تشكل تدرجا صاعدا ونازلا يمثل أربعة درجات عرضها بيليدور على النحو التالي. سوف نلاحظ أن درجة "قابلية الرؤية" هي التي في كل مرة تحدد مستوى الوصول إلى "الحقيقة".
(يتبع)
المرجع:
RUBENS BÉLIDORA propos de la problématique de l Être: L ESSENCE DE LA VÉRITÉ ET DE LA LIBERTÉHUMAINE CHEZ HEIDEGGER