"ليس ثمة من صورة بريئة، لكن بالطبع لا وجود لصورة آثمة، لأن من يفرض على نفسه شيئا من خلالها هم نحن"[1]
استهلال:
لم تنل الصورة منذ القديم الحظوة التي تليق بها سواء من طرف الدين أو من طرف الفلسفة وذلك لواقع الإقصاء والتهميش الذي تعرضت له واعتبارها محل الخساسة وجسد الدناسة ومادة شيطانية ما انفكت تتسبب في غواية الإنسان وتضليله، زد على ذلك ترتبط بالمادة وتنبع من الحواس والتخيل والتذكر واقترانها بمحاكاة الطبيعة وجعلها اللامرئي الغائب شاهدا مرئيا ووجودها بالقرب من دوائر الانطباع والاندثار والوهم والزيف والتحريف والخداع.
غير أن مظاهر التجديد الذي شهدته الأديان واستئناف باب الاجتهاد وبروز فقه الواقع أفرزت الانتقال من منطق المنع والتقييد إلى منطق الإباحة والتحرير ورفع عنها الضيم وتم استغلال هذا الفضاء المرئي والوسيط الرمزي من أجل توسيع الدعوة الدينية ونشر العقائد في العالم والعناية بالمقدسات والبرهنة على وجود الله وتخليص الرؤى اللاهوتية من الشوائب والأساطير وتقريبها من الأفهام وتبسيط أصولها وعرض أركانها للمتعلمين.
علاوة على ذلك أنهت الفلسفة المعاصرة وضع النسيان وحالة الحصار التي كانت تعاني منهما الصورة وأعادت لها الاعتبار على الصعيد المعرفي والوجودي ومن جهة القيمة والمعنى وأصبحت تمثلا أداة اتصال بين الإنسان ونفسه والعالم والآخر ومركز الثقل في الحياة اليومية بحيث وسمت العصر الذي تعيش فيه وصار يسمى عصر الصورة. فما المقصود بالصورة؟ وماهي أنواعها والعناصر التي تتكون منها؟ وكيف تتم صناعة الصور؟ وماهي المواد والمسافات والفضائيات والأرضيات التي تستعملها؟ وكم من وظيفة تقوم بها في حياتنا المعاصرة؟ وأي مكان للعرض وأي تعليم تستلزم؟ وما معنى مجتمع المشهد؟ وكيف يتراوح وجود الصورة بين الإيديولوجيا واليوتوبيا؟ وأي معنى تطلقه الصورة؟ وهل تقول الحقيقة أم الكذب؟ ولماذا تعتبر الصورة ركنا أساسيا في الدعاية والإشهار؟ وهل تقرب بين الناس أم تعزل بينهم؟ والى أي مدى يمكن أن نثق في الصور؟ وماهي النظرية الفلسفية القديمة حول الصورة؟ ولماذا تأخرت دراسة الصورة على دراسة اللغة بهذا القدر؟ وأي استعمال للصور في نظرية المعرفة؟ وبماذا يتميز الاستعمال التقني المعاصر للصور بعد الثورة الرقمية وتطور وسائل الاتصال؟ وما المقصود بالوسائطية؟ وأي سلطة للصورة؟ وماهي الأطراف التي توجد بينها؟ ومن يراقبها وماهي وجهتها؟ وهل تقدر الصورة على تغيير الواقع الذي تعكسه أو تسلط الضوء عليه؟
ما نصبو إليه من خلال هذا الانشغال هو أن يكون العمل الفني بمستوى حقيقة وقيمة وجمال الأشياء التي يصورها وليس الإقناع بإثارة الأحاسيس وتحريك المشاعر ولا التفسير بالمنطق العلمي والبرهنة على صدق الظواهر المرئية التي ندركها من خلال أدوات التصوير ذاتها.
1- مفهوم الصورة:
" الانسان هو الثديي الوحيد الذي يرى بشكل مضاعف. فشبكة العين ترسل اليه بصورة يحللها المخ ويمنحها دلالة."[2]
لقد تغير نمط حضور الانسان في العالم زمن الحداثة وصارت الذات هي السيدة والعالم مجرد تمثل لها وامتلكت الذات القدرة على التجريد والعقلنة وحولت الوجود بأسره الى فكرة عقلية ومقولة منطقية ولكن الجديد في عصر العولمة أن العالم كل صار قطرا واحدا وأن الكوكب تحول الى صورة بسيطة وتم اختزال التنوع والاختلاف والثراء الهائل في اطار واحد معد للرؤية وبطاقة رمزية صالحة للتوقيع. لقد ساعدت الثورة الرقمية على التقريب بين المسافات وسرعة الاتصال بين أجزاء المعمورة وصار الناس يسمعون أخبار بعضهم البعض ويتبادلون صور عن حياتهم اليومية وأنشطتهم الاحتماعية في لمح البصر.
لقد غدت الصورة في عالمنا المعاصر شيئا أسياسيا لا يمكن الاستغناء عنه وأصبحت أحد أهم وسائل الاتصال والربط بين المنتجين والمتقبلين ومفهوما ماديا بإمتياز يستخدم بكثافة في التجارب الفنية والمؤسسات الاقتصادية والوسائط الرقمية والعمليات التقنية والفضاءات الاجتماعية ويوظف في الإشهار السياسي والدعاية الفكرية والترويج التجاري للمنتوجات.
ثمة دلالات عديدة تشير إلى ظاهرة الصورة ولكن يوجد تعريف متفق عليه يقول أن الصورة تكشف عن خاصيتين لا ينفي كل منهما الآخر. الخاصية الأولى هي تلك التي تقوم بتمثيل شيء آخر غير ذاتها ، والثانية هي تلك التي تظهر حد أدنى من التشابه أو العلاقة التأشيرية مع الموضوع أو الفكرة المشار إليها. لكن الصورة هي أيضا رمزية وبمعنى أكثر اتساعا يشكل أي مكان يتضمن علامات تشكيلية قابلة للتأويل صورة وعلى خلاف ذلك يمكن أن تظهر الأيقونة خصائص تشكيلية دالة. إن الفوتوس هو تعبير عن الواقع وإعادة تشكيل له، وان التصوير هو تحويل الوجود إلى مظهر والأصل إلى نسخة وإضفاء معالم رمزية وتقنية على الواقع وذلك عن طريق توقيف الزمان وتحنيط الظواهر وعزلها واجتثاثها من منبتها.
هكذا نجد ثلاثة معان للصورة: المعنى اللغوي هو محاكاة وتمثيل وتمثال والمعنى المجازي هي رمز وأيقونة وعلامة والمعنى التقني هي خيال أي مشهد منعكس في مرآة. من هذا المنطلق ليست الصورة الواقع ذاته التي تقوم بتصويره وفق نسخة مطابقة للأصل بل هي الوجه الآخر للواقع وذلك عن طريق التعبير والكشف وتقوم بشرح الوقائع وتأويل الأحداث وتبرز معطيات فنية وأبعاد جمالية حول هذا الواقع الحقيقي الذي تحل محله وتعرضه للمشاهدة والفرجة والرؤية من قبل الجمهور. كما تتردد الصورة بين الحقيقة والوهم وبين الصدق والخداع وتحاول جاهدة المطابقة مع الحياة ولكنها كثيرا ما تسقط في التحريف والانتقاء وتمارس إستراتيجية الإهمال وتقنية الإقصاء وتركيز الاهتمام على المفيد والأصلح.
إن الصورة هي دائما وجهة نظر جزئية حول العالم الواقعي ولا ترتقي البتة إلى بناء نظرة كلية على الرغم من التقدم الكبير الذي عرفته الوسائل التقنية والثورة الرقمية في الرصد والملاحظة. لقد أعاد الاهتمام بالصور المجد إلى العين وافتكت هذه الأخيرة الريادة من الأذن والفهم واليدين ومهدت لنشأة والمرآة والنظارة والعدسة والمقراب والمجهر وآلة التصوير. هكذا " تتمثل عملية التصوير في اعطاء السديم طابعا مرئيا ومنظما"[3].
إن حاسة النظر لدى الإنسان هي مختلفة ومميزة عن النظر لدى بقية الكائنات الحية وملية تسمية الأشياء وإضفاء المعنى على الظواهر ومنح القيمة من عدمها بالنسبة إلى الأشخاص. لكن كيف تم التعامل مع الصورة من وجهة نظر ثقافية؟ وهل بقيت الصور موضع تبكيت أم أصبحت محل ترحيب؟ وماهي النظرة الفلسفية النقدية لمجتمع المشهد؟
2- النظرة إلى الصورة:
" إن الصورة ليست ضارة بطبعها وإنما هي تغذي بجهد قليل أو كثير...نزوعا محاكاتيا لاشعوريا لدي المتفرجين"[4]
والحق أن تاريخ البشر مر بثلاثة مراحل: الأولى هي مرحلة الخطاب الشفوي، والمرحلة الثانية هي مرحلة التدوين والنص المكتوب، والمرحلة الثالثة هي مرحلة المشهد والمرئي والصورة وبالتالي ان الصورة أفضل من الكلمة ومن النص وأكثر تعبير عن الحقيقة، فاللغة يمكن أن تخون الفكر وتشوه الواقع بينما الصورة شفافة وصادقة وتعكس الحقيقة الواقعية.
تتراوح النظرة إلى الصورة عبر العصور ومن مختلف المرجعيات والأديان والتقاليد بين المنع والإباحة وبين الحجب والإظهار وبين الاستهجان والاستحسان وبين النفي والإثبات.
إن تاريخ الصورة في الأديان قد تأرجح بين الرفض والتحريم تفاديا للوقوع في التجسيم والتشبيه وتدنيس المقدسات من جهة وبين الثقة المتواصلة والاستعمال المستمر من أجل التعبير عن المطلق من خلال المحسوس والكشف الأيقوني عن جلالة الالهي من جهة أخرى.
والحق أن التصوير مباح في الاسلام وأنه رديف التكريم واحترام الانسان وقد جاء في التنزيل الحكيم:" ولقد خلقناكم ثم صورناكم"[5]، وجاء أيضا:" لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم"[6]
إن تهميش الفلسفة للصورة منذ الإغريق يعود إلى القسمة الأفلاطونية بين المحسوس والمعقول وانتصاره للفكر على حساب الظن وللمثال على حساب التجربة واعتبار العالم المرئي هو عالم الأوهام والضلال وعالم الحقائق هو العالم المحجوب والتشكيك في كل ما تقدمه حاسة الإبصار من معارف والثقة في الأفكار التي ننظر إليها بعيون الروح. هكذا تعتبر الفلسفة المثالية الإدراك البصري والمواضيع المرئية وكل ما يراه المرء بعينيه المجردتين هو مجرد بداهة مباشرة ويقين حسي ومظهر خارجي وتمثل عفوي يجب تخطيه وتجاوزه.
غير أن الفلسفة النقدية المعاصرة هي فلسفة الصورة خاصة عندما أعادت العقلانية المنفتحة الاعتبار إلى الخيال والذاكرة واللغة وجعلت من الصور سواء أكانت منقوشة أو مرسومة أو مكتوبة أو مرئية تعبر عن مقصد المعنى وقوة الأفكار وجمال المشهد وقيمة الفعل الإنساني.
هكذا تظهر سلطة الصور بالمعنى المادي في إنتاج الآثار وتغيير سلوك الناس عن طريق التأثير في الرأي العام وصناعة القناعات لدى الجماهير وتتدخل في اختياراتهم وترويضهم من خلال الترغيب والترهيب الذي تمارسه الصور التي تسيل اللعاب وتحمس وتخفف عن النفس من جهة والصور التي تثير الغثيان والقشعريرة وتجرح وتقتل من جهة أخرى.
على سبيل المثال يلعب الإشهار التجاري دورا حيويا في الحياة اليومية وفي النشاط الاقتصادي اذ يركز على سلطة الصورة ويحدث تأثيرا سلبيا على المتفرجين وتغير السلوك وتوجه الرأي العام وتؤثر في نتائج الانتخابات السياسية وتمارس نوع من الغواية والفتنة على العيون ويكون حافزا على العنف وانحراف المراهقين وتكوين العصابات على سبيل المثال ولذلك يجب نقده والتحكم فيه وتوجيهه نحو التقدم الاقتصادي وجلب المنفعة.
لقد أصبحت الصور تلعب دور فلسفة الواقع وتحولت الى مؤثر في سلوك الأفراد تنوم العقول وتبرمج الذكاء وتعيد تشكيل المشهد وفق برنامج اقتصادي معلوم وبذلك ساهمت في انحطاط الحياة المتماسكة. ان تلفزة الواقع على سبيل المثال التي تقوم بارسال صور مباشرة عن حياة الناس قصد التعريف بها ونقل الحقائق كماهي لا تمثل مرآة عاكسة لنشاط هؤلاء الناس ولا تنقل مجرد صور بريئة وبرامج محايدة بل تتدخل في نظرتهم الى الكون وتفقدهم قيمتهم وتفسد عليهم ودهم وترحابهم بالضيف وبراءتهم الأصلية وتتجسس عليهم وتعتدي على خصوصياتهم وتفكك هوياتهم وتعرضهم الى تجربة خلع للكرامة بالمعنى الحقيقي للكلمة. لكن هل يتعارض تصنيع الصور من وجهة نظر تقنية مع حقها الطبيعي في الوجود؟
3- الحق في التصوير:
" في البدء كانت الصورة"[7]
غني عن البيان أن مجتمع المشهد هو مجتمع الفرجة والاستعراض حيث تحول كل شيء في الحياة الانسانية الى صور متنوعة وأصبحت أنشطة المجتمع مرئية من الجميع بحكم تزايد وسائل الضصبط والرقابة من طرف الدولة وتكاثر الفضائيات والأقمار الصناعية والبرامج الاعلامية وابتلاع الشاشة الطبيعة وميلاد الانسان المرآوي.
يتميز مجتمع المشهد بتأكيده المظهر والنظر الى الحياة الاجتماعية كمجرد مظهر ويعطي أهمية للبصر والرؤية على حساب اللمس والاصغاء أين تختفي العلاقة المباشرة بين الانسان والعالم وتظهر علاقة جديدة مركبة تعتمد على وسائط رمزية مثل وسائل الاتصال، وقد ساعد هذا الوضع على التطور السريع للعقلانية التقنية التي أثرت على نمط الحياة وعمقت الهوة بين الانسان وذاته وزادت من درجة العنف الذي يمارسه المرء تجاه غيره.
" لكي نؤكد ترابط المادي والروحي في الصورة ، علينا باللجوء إلى علم متعدد المباحث هو الوسائطية. فهي برفعها لعائق النزعة الإنسانية، التي لا تقبل بأن تكون الذات وموضوعاتها امتدادا لبعضها البعض، تمكننا من نظرة منسجمة لمتغيرات الفاعلية الأيقونية."[8]
من هذا المنطلق يجب أن يهتم المرء اليوم في مجتمع المشهد بفعالية الصور أكثر من اهتمامه بفعالية الكلمات وذلك لقدرتها للنفاذ الى رحم الواقع والالمام بالتفاصيل والتقاط الجزئيات ويجدربه أيضا أن يؤمن بأن الرؤية تمنح الناس امكانية الانتقال الى الفعل ببراعة وسحر عجيبين وتساعدهم على الهبوط من العالم الافتراضي الرقمي الى العالم الحقيقي والمتعين.
ان الميكانزيم الذي يشتغل وفقه تأثير الصور في هو النماذج المتخيلة للتماهي وعلى سبيل المثال يؤثر العنف المعروض في السينما على سلوك المراهقين ويدفعهم بطريقة لاواعية الى الانحراف والجريمة ، كما أن الصور الاشهارية المبثوثة في الفضائيات تتدخل في اختيار الجمهور لطريقته في اللباس والغذاء ونوعية المسكن الذي يقطنه والسيارة التي يستعملها.
لكن ماهي العلاقة بين الرؤية والتصوير؟ وهل كل صورة ضوئية هي من انتاج العين؟
في الواقع إن " الصورة الضوئية تنتج عن اشتغال ذهني توفر له شبكة العين ما يحتاجه من تموين فيما تتكلف الأعصاب باستراتيجياته"[9]، وهي تختلف عن الصورة الحسية والذهنية. كما تمتلك الصورة فعالية رمزية تفوق فعالية العين الانسانية وذلك لأن البصر ليس هو شبكة العين ولأن العين هي مجرد لاقط للأشعة وتحدد الاتجاه وتشرف على الارسال العصبي والبيولي للصور الى المخ ويقوم هذا الأخير بتحليلها ومعالجة الاشارات ومنحها دلالات.
غاية المراد أن تطور تقنيات التصوير قد أدى الى تطوير نظرة الانسان إلى نفسه والى العالم، "فكل تقنية جديدة تخلق ذاتا جديدة عبر تحديد مواضيعها. فالصورة الفوتوغرافية لقد غيرت من ادراكنا للفضاء والسينما قد غيرت ادراكنا للزمن (عبر المونتاج ولصق الأزمنة في الصور البلور العزيزة على جيل دولوز)"[10]. لكن اذا كانت الصورة هي مجردوسيط رمزي يكتفي بالاشارة الى الشيء المراد عرضه للفرجة فإن ما يحصل هو القذف بالوساطة الى مقصورة القيادة وجعل الوسائطية مجرد تراكمات للسبابت المشهرة تجاه ما يستحق المشاهدة. " فالوسائطي إذن هو ذلك الأبله الذي حين يشار له الى القمر يحدق في الاصبع المشير."[11] فكيف تمحو تقنية الشاشة كل شاعرية انسانية وتضع مكانها ردود أفعال مبرمجة؟
خاتمة:
" لقد كانت الصور وسيلتنا الأولى في ارسال المعلومات"[12]
صفوة القول أن الصور مهمة اليوم في تسريع القوى البشرية وتحريكها نحو الفعل في الواقع وتغيير الطبيعة ورغم نرجسية الصور وقذفها بالانسان نحو الخلف وتمارس نوع من التنويم والغواية خاصة وان المرء يتلقاها وهو ممدد إلا أنها تعتبر وسيطا رمزيا وتؤثث التواصل بين الذوات والمجتمعات طالما ان الناس بإمكانهم أن يستقبلوا الصور ويشاهدوها جماعة أمام التلفزة أو في المتاحف أو في دور السينما والمسرح أو في المخيال والذاكرة الجماعيتين.
إن الصورة هي خاصية الإنسان وأولى أفعاله وأول ساكن للمكان وصاحبة المحل والصور المدهشة تسكن الوجدان الإنساني وتسري في دمه، ولذلك تحولت الصور إلى معجزة بشرية وقوتها بدائية لأن الفعل التصويري أقدم من الحرف المخطوط والعقل الكتابي قد انحدر من العقل الأيقوني والصورة متعددة الأبعاد لا ترتبط فقط بتقدم العلوم والتقنيات بل ترجع الى الكتابة الصوتية التي سمحت في الماضي بأنسنة الطبيعة عبر الرسم والتخطيط والتصوير.
ان الصورة تفرض ثقلها على الجميع وتعتمل في الجسد وتفتن بالغرائز وتعمي الأبصار وتسطع وتلمع وتستأثر باهتمام الكل وتخترق الخيال وتتحكم في اللاشعور عن طريق اللذة. كما تمتلك الصورة السبق في كل شيء وتضفي القداسة على الدنيوي وتتمتع بقوة دينوزوسية تريد الحياة وتمنح المرء القدرة على الحلم والنشوة وتجعله فريسة الاستيهام بإشباع الرغبة.
تخرج الصورة للنور ما كان مطمورا ومهجورا وتعيد الحياة الى المواضيع المحنطة وتبعث الحرارة في الآثار الجامدة وتشتغل مع الأحاسيس والذكريات والمتخيلات في ترابط وتداخل.
ان معاداة التصوير هو فعل متناقض مع قيمة الحرية ويحول دون تذكر الماضي واستحضار الذكرى الطيبة للأفراد والجماعات والاستفادة من نقاطه المضيئة وتفويت الفرصة على صناعة صور تحتفظ ببعض الحياة. غير أن ذلك لا ينفي وجود التأثير السيء للصور التي تنتمي الى زمن العاطفة والموت وتثير في المرء مشاعر استعادة غريبة للمكبوتات والعقد الدفينة وتنحدر به الى منطق ردود الأفعال وتطلق فيه وحشيته المهملة وهمجيته الأولى.
لقد اتخذت الوسائطية القرار الحاسم تجاه ميتافيزيقا الصورة إذ:" لا وجود لعين خارجية (بصر) وعين داخلية ( بصيرة)...، ولا لتاريخين للبصر، احداهما لشبكية العين وأخرى للسنن، وإنما تاريخ واحد يصهر اجترار وساوسنا وبناء تصويراتنا. فالذهني أصبح ينصاع أكثر فأكثر للاتجاه المادي، والرؤى الداخلية تنسخ أجهزتنا البصرية."[13]
هكذا توجد الصور المحسوسة غير بعيد عن الأنشطة الروحية العليا وتستمد قوتها التنبؤية من الديناميات النفسية العميقة ومن ميولات المرء نحو اللعب والضحك والحلم والحدس وتحول الإبداع المتخيل إلى خلق فني وابتكار صناعي وإنشاء ثقافي واختراع علمي. لكن هل تساعدنا الوسائطية على ضبط حالة وجود الصورة وفعاليتها؟ وكيف نخرج من مأزق وضع الطابع المادي للصور في عالم وبناء مشهد ميتافيزيقي في عالم آخر؟
المراجع:
ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق للنشر. الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000.
كاتب فلسفي
[1] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق للنشر. الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000،ص .88.
[2] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.88.
[3] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص .87.
[4] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص .87.
[5] القرآن الكريم، سورة الأعراف، آية 11.
[6] القرآن الكريم، سورة التين، آية 4.
[7] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.100.
[8] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.83.
[9] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.88.
[10] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.101.
[11] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.112.
[12] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.92.
[13] ريجيس دوبريه، حياة الصورة وموتها، ص.102.