حسب معجم "لالاند" يحمل الوجود عدة معان منها الوجود "بذاته en soi " كوجود بمعزل عن المعرفة, و الوجود في التجربة أي واقع الوجود الماثل حاليا في إدراك الأنا و وعيه أو على الأقل ماثلا كموضوع اختبار ضروري رغم عدم راهنيته. كذلك هناك الوجود كحقيقة حية و واقعة معاشة في مقابل التجريدي النظري. ثم الوجود المنطقي حين تعطى مجموعة أفكار معينة واقع أن صنفا ما لا يكون خاليا عادما في المدلول. و نورد هنا ما استهل به "جان بول سارتر" كتابه "الوجود و العدم L'Être et le Néant" من المفاهيم التي يجب استحضارها عند التعاطي مع هذا الموضوع، ألا و هي:
* الوجود-في-ذاته l' Être -en-soi: هو الوجود غير الواعي، و هو وجود الأشياء، المتجانس الممتلئ وجود العالم, و وجود الظاهرة. إنه هو هو دائما و لا شيء غير ذلك، إنه أشبه بالامتداد عند "ديكارت". [...الوجود ليس محايثة Immanence، ليس رابطة مع الذات بل هو ذاته، إنه محايثة لا يمكن أن تتحقق، إيجاب لا يمكن أن يتوجب، و فاعلية لا يمكن أن تفعل، لأنه تعجن بذاته...]. الوجود إذن ليس له داخل يقابل خارجا. إن ما هو –في-ذاته لا سر فيه، متكتل، قد يكون تركيبا لكنه يستعصي على الانحلال، فهو تركيب الذات مع الذات، منعزل في وجوده و لا يعقد أي صلة مع ما ليس إياه. إنه لا يعرف الغيرية.
* الوجود-لذاته l' Être-pour-soi: هو الشعور أو الوعي، منظورا إليه في ذاته, و كأنه في حالة وحدة و انعزال، و هو انعدام للوجود-في-ذاته، و شعور بنقص الوجود. يتجاوز وجود الأشياء و الوجود المادي بوجه عام. إنه كمرادف للشعور، ليس بنفسه دائما. له ارتباط وثيق بالعدم الذي هو أساس في الشعور، فلولا العدم ما استطعنا أن نشعر بالأشياء، حيث أني لكي أتخيل و أشعر بشيء فإني أضعه على هامش الواقع و أطرحه جانبا و أتجاوزه، فأنا أعدمه طالما وضعت ذلك الموضوع في خيالي. كذلك عندما أفكر في الماضي فأنا أبتعد عنه و أضع بيني و بينه نوعا من الفراغ أو العدم، هذه القدرة على الإعدامpouvoir néantisant هي الحرية الإنسانية.
* الوجود-للغيرl' Être-pour-autrui : هو الشعور و لكن منظورا إليه من حيث علاقته بالشعورات الأخرى، أي من وجهة النظر الاجتماعية و الوجود مع الآخرين. و هو بعد جديد للوجود فيه يوجد (الأنا) خارجا كموضوع بالنسبة للآخرين. إنه في صراع دائم مع الوجود-للذات.
أما لفظ الوجودية (Existentialisme) فيستعمل للدلالة على مختلف المذاهب الحاملة لصفة الوجودية بما لحضور الوجود الفردي فيها بمزاياه التي لا تقبل الخفض. و كذا اتخاذ المسافة الكافية بين التجريدات النظرية و التجربة العينية. كما يصطلح بها على مذهب سارتر المعروض فلسفيا في كتابه "الوجود و العدم" كتعبير ميتافيزيقي عن الاعتقاد بالحرية المطلقة.
نعرج كذلك على مفهوم "العملية" الوارد في عنوان البحث وصفا لوجوديتنا للدلالة على مسألة الممارسة بمعنى [القيام بعمل إرادي يبدل ما يحيط بنا, تتعارض الممارسة مع النظرية بنحو عام]. مسألة العملية كانت سمة و محددا أساسيا للمرحلة التي برزت فيها الوجودية كتجل جديد من تجليات الوجود، بل العمل و الفعل كشرط للوجود، و سنأت على الموضوع لاحقا.
نختم بمفهوم "الفلسفة الوجودية" و هي موسومة بكونها لا تعتبر الواقع موضوعا في مواجهة فاعل عارف بقدر ما تعتبره وجودا يحولنا الاحتكاك به، و هي لا تعزل فينا الملكة العارفة لباقي كائننا (كوننا)، إذ تجعل الفرد بكامله، بكل استجاباته الوجدانية و الشعورية تجاه الأشياء يشارك في البحث الفلسفي.
تحتل الوجودية بشكل عام مركز السيادة المطلقة في الفترة المعاصرة ضمن الفكر الفلسفي. و خاصة فلسفة سارتر لدرجة أن هناك من وصف القرن العشرين بأنه قرن "سارتر" و ذلك لحضوره الثقافي و السياسي عبر فلسفة ديناميكية تحاول الرقي بالواقع و تنميته بدل التأثير فيه. كذلك لمعانها لأنها جاءت لمواجهة القلق الذي سيطر على العقول بعد الحربين العالميتين المدمرتين و تعيد للإنسان استقراره و تركيزه و قيمته، فإذا كانت المادية تضع المادة فوق كل اعتبار، و الروحية تجعل الروح فوق الكل، و المثالية تنطلق من عالم الفكر، في حين الوضعية تعتمد الأوضاع القائمة كأساس فكري لتفسير كل الحقائق، فالوجودية تضع الوجود كحقيقة فوق كل اعتبار.
الحديث في هذا المقام عن المكانة التي تحتلها الوجودية في الفكر الفلسفي يضعنا أمام التغيير الذي أحدثته على مستوى الفكر الحديث، و هذا يضعنا أمام فكرة جوهرية عند سارتر هي "فكرة الظاهرة" التي فصل فيها في كتابه "الوجود و العدم", و التي تقول بأن الفكر الحديث رد الموجود إلى سلسلة من المظاهر التي تكشف عنه. فكرة كان من تبعاتها التخلص من ثنائية الظاهر و الباطن, فالمظاهر التي تكشف عن الموجود ليست باطنية و لا خارجية، إنها الاثنين معا. و تلك المظاهر و الأفعال لا تدل على شيء وراءها بل تدل على نفسها و على السلسلة الكلية التي تجمع هذه المظاهر. إنه زمن رد الاعتبار للظاهر الذي طالما اعتبر سالبا محضا ليتحول إلى إيجابية مليئة حيث أنه لا يخفي الماهية بل يكشف عنها، إنه هو الماهية، و هنا نشير ببساطة إلى كون ماهية الموجود هي القانون الجلي المهيمن على توالي تجلياته. كذلك سقطت ثنائية القوة و الفعل لصالح الفعل, فكل شيء بالفعل. و بهذا تخلص الوجودية إلى ثنائية جديدة هي ثنائية "المتناهي و اللامتناهي", فالوجود أمام تجل واحد, لكنه بالمقابل أمام أوجه عدة للنظر إلى هذا التجلي (عدم نفاذ), فما يتجلى فعلا هو فقط مظهر من الموضوع، و الموضوع كله هو في هذا المظهر و خارج هذا المظهر. فالظهور لا يحيل إلى الوجود.[...إن الموضوع لا يحيل إلى الوجود كما يحيل إلى معنى، فمن المستحيل مثلا أن نحد الوجود بأنه حضور ما دام الغياب يكشف هو الآخر عن الوجود، لأن عدم الوجود هنا هو أيضا وجود...]. و بهذا يكون الوجود هو وجود كل الصفات على السواء, و لا يوجد إلا بمقدار ما ينكشف و تبعا لذلك يتجاوز و يؤسس المعرفة التي لدينا عنه. استقى سارتر فلسفته من "هوسرل" و "هيدغر" عبر ظاهريتهما حيث جاء بفكرة "الظاهرة" التي تقول بأن وجود الموجود هو ما يظهر عليه. و الظاهرة تدل على نفسها دلالة مطلقة و بالتالي يمكن تفسيرها و دراستها. و يبقى الوجود وجودا بالفعل و ليس وراءه أي وجود بالقوة. نضيف أن الظاهر لا يخفي الماهية بل يكشف عنها و أكثر من ذلك الظاهر هو الماهية. لقد ابتكر "سارتر" لونا جديدا من الفلسفة الديناميكية التي لا تتطلع للتأثير على الواقع، بل تعمد إلى تنمية الواقع. فإذا كانت المادية تضع المادة فوق كل اعتبار و الروحية تجعل الروح فوق الكل، و المثالية تنطلق من عالم الفكر، و الوضعية تعتمد الأوضاع القائمة كأساس فكري لتفسير كل الحقائق، فالوجودية تضع الوجود كحقيقة فوق كل اعتبار.
لقد صرح "سارتر" في مقدمة كتابه "نقد العقل الجدلي" بأنه لا يحب الكلام عن الوجودية، في إشارة منه إلى "سارترية" تتجاوز الوجودية، أو بمعنى وجودية عامة تتجاوز الوجودية المحدودة. هذه الدينامية جعلت سارتر يصبح مثالا يحتدى به في مسألة دور المثقف في التاريخ. فالسارترية في تحولاتها الأخيرة صارت مصدر قلق عميق و مصدر إحساس بمسؤولية ثقيلة حيال الأحداث الفكرية و الإيديولوجية للعصر، فحتى المسرح عنده هو مسرح مواقف. و الأدب عنده هو ذاتية المجتمع و هو بصدد ثورة متجددة مستمرة، و موضوع الأدب الدائم هو الإنسان في العالم. لقد كان يدافع عن حرية الشعوب و ينبذ الاستعمار.
يمكن تقسيم فكر سارتر إلى مرحلتين؛ مرحلة أولى انتهت مع كتاب "الوجود و العدم" طبعها التركيز على الإطار الذهني للوجودية، و مرحلة ثانية بدأت مع العدد الأول من "مجلة العصور الحديثة" في 1945 تحول فيها إلى إطار الممارسة من أجل تغيير الوجود.
... يتبع.