يهدف هذا المقال الى معالجة المنهج الجدلي الموظف من قبل كتاب ماركس رأس المال، مع ضبط علاقة جدل التواصل والتفاصل بين جدل المنطق الكبير وجدل رأس المال.
مقدمات غنية:
تشكل مقدمات رأس المال عنصرا شارحا هاما لنظرية ماركس وانجلز الاقتصادية. وهي لا تكتفي، في الغالب، بتقديم رؤى عامة توضيحية حول نتائج فصول الكتاب، وإنما تتجاوز ذلك نحو شرح الموضوع الذي ينصب نحوه مجهود ماركس العلمي، وكذا طريقته الديالكتيكية الموظفة في الكتاب. وبعد اطلاعنا على: -مقدمة الطيعة الألمانية الأولى، تذييل الطبعة الألمانية الثانية، مقدمة الطبعة الألمانية الثالثة، مقدمة الطبعة الإنجليزية، ومقدمة الطبعة الألمانية الرابعة، وجدنا أنه من الضروري مقاربة بعض النصوص المفتاح لاستيعاب جدة نظرية ماركس من حيث الموضوع والمنهج (طريقة البحث وطريقة العرض) والمفاهيم الموظفة.
النص الأول مقتطف من مقدمة الطبعة الألمانية الأولى وفيه يعلن ماركس ما يلي:
" إن عالم الطبيعيات، لكي يقف على طرائق الطبيعة، إما أن يدرس الظاهرات حين تعرض ذاتها في أبلغ أشكالها وأقلها تشوشا بحالات الفوضى والخلل، أو أنه يجري تجاربه في شروط تؤمن انتظام سيرها ما أمكن. إنني أدرس في هذا المؤلف أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وعلاقات الإنتاج والتبادل المطابقة لها. وإنجلترا هي المكان التقليدي (الكلاسيكي) لهذا الإنتاج (خط التشديد منا م.م).[1]"
إن إنجلترا هي المكان الذي كان بإمكانه أن يحقق لماركس الظروف المواتية لدراسة نمط الإنتاج الرأسمالي في أبلغ أشكاله وأوضحها، وبالتالي فهي المكان الكلاسيكي-لكونها قد بلغت من التطور الرأسمالي ما لم تبلغه الدول والمجتمعات الأخرى-للتحقق من نظرياته حول الرأسمالية. إن إنجلترا، هي أولا بلد علم الاقتصاد السياسي، وهي ثانيا البلد التي تعكس اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا افاق واحتمالات التطور الرأسمالي للبلدان الأخرى، أي أنها الصورة المستقبلية للبلدان الأخرى. ولنأخذ على سبيل المثال ألمانيا: لقد كانت في ذلك الحين مرتعا خصبا للوعي الأيديولوجي الرومانسي[2]، وكانت في نفس الوقت مقارنة بإنجلترا ذات إحصائية اجتماعية بائسة. وذلك لبقاء أنماط انتاج بالية مع نمط الإنتاج الرأسمالي المهيمن وما تنتجه هذه الوضعية من بقاء علاقات وقوانين سياسية واجتماعية في غير محلها زمنيا مولدة من قبل تلك الأساليب البالية، ولهذا كانت ألمانيا تعاني الالام بسبب الموتى والأحياء معا، على حد تعبير ماركس نفسه.
أما النص الثاني فمأخوذ من تذييل الطبعة الألمانية الثانية، وهو نص يشرح منهج ماركس في البحث لم يكتبه لا ماركس ولا انجلز، وإنما كتبه سيابر أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة كييف بروسيا، وصاحب كتاب: "نظرية ريكاردو في القيمة ورأس المال". يعرض ماركس هذا النص بعد اشارته الى ان منهجه الموظف في رأس المال لم يفهم الا فهما ضئيلا، أي ان طريقته في البحث لم يتم استيعابها على نحو علمي، من موقع المفاهيم المتناقضة التي كونها الناس عنها. على سبيل المثال، فالمجلة الوضعية التي كانت تصدر في باريس، انتقدت ماركس لأنه قد جعل من الاقتصاد السياسي علما ميتافيزيقيا (خط التشديد منا)، وأنه اكتفى بتحليل بسيط للعناصر المعطاة، في حين رأى سيابر ان طريقة ماركس لا تختلف في شيء عن طريقة علم الاقتصاد السياسي الإنجليزي، أي أنها الطريقة الاستنتاجية (خط التشديد منا)، أما موريس بلوك، صاحب كتاب "منظرو الاشتراكية في ألمانيا"، فقد رأى أن طريقة ماركس تحليلية (خط التشديد منا)، أما مجلة الرسول الأوربي التي كانت تصدر في سان بطرسبرغ فقد أعلنت في مقالة مكرسة لبحث المنهج الموظف من قبل رأس المال أن منهج ماركس في البحث هو منهج واقعي بصورة دقيقة، ولكن طريقة عرض ماركس فهي لسوء الحظ متمشية مع المنهج الديالكتيكي الألماني (خط التشديد منا).
يضبط ماركس اذن أربع مواقف تصدت لمنهجه الموظف في رأس المال يمكننا ان نلخصها على النحو الاتي:
- الموقف الأول رأى أن منهج ماركس هو منهج ميتافيزيقي، وهو موقف يذكرنا بموقف ك.شميدت في الرسالة التي وجهها الى انجلز بخصوص مفهوم القيمة الماركسي.[3]
- الموقف الثاني رأى ان منهج ماركس منهج استنتاجي.
- الموقف الثالث رأى في منهج ماركس منهجا تحليليا.
- أما الموقف الرابع فقد قسم منهج رأس المال الى لحظتين حاسمتين هما: طريقة البحث التي كانت واقعية تجريبية، وطريقة العرض، أي عرض النتائج، والتي كانت طريقة ديالكتيكية.
يؤكد ماركس على ان أفضل رد على كل ما قيل حول منهج رأس المال قد كتبه سيابر نفسه بعد ان أورد نصا منقولا من مقدمة ماركس لكتابه اسهام في نقد الاقتصاد السياسي، وفيه يكتب سيابر ما يلي:
" ثمة شيء واحد يشغل ماركس: وهو ان يجد قانون الظاهرات التي يدرسها، وليس فقط القانون الذي يتحكم في شكلها المتوقف وفي ارتباطها الذي يمكن ملاحظته خلال برهة معينة من الزمن. لا. فالذي يهم ماركس، فوق كل شيء، إنما هو قانون تغيرها، قانون نموها، يعني قانون انتقالها من شكل الى اخر، من نظام ارتباط الى نظام اخر، وحين يكتشف ماركس هذا القانون، يفحص بالتفصيل النتائج التي يظهر بها في الحياة الاجتماعية... وهكذا-إذن-لا يهتم ماركس إلا بشيء واحد، وهو ان يقيم الدليل، ببحث علمي صارم، على ضرورة النظم المعينة للعلاقات الاجتماعية، وأن يثبت جهد المستطاع من صحة الوقائع التي استخدمها كنقطة انطلاق ونقطة ارتكاز (خط التشديد منا). ولهذا يكفيه ان يبين مع ضرورة النظام الحالي، ضرورة نظام اخر، عليه ان ينتقل حتما إليه، سواء أ كان الناس يؤمنون به أم لا يؤمنون، ويدركونه ام لا يدركون. إنه يواجه الحركة الاجتماعية بوصفها سياقا طبيعيا من الظاهرات التاريخية، وهو سياق خاضع لقوانين ليست فقط مستقلة عن إرادة الانسان وإدراكه ومقاصده، وإنما هي على العكس، تعين إرادته ووعيه ومقاصده (خط التشديد منا) ... فإن كان العنصر الواعي يلعب دورا ثانويا على هذا النحو في تاريخ الحضارة، فغني عن البيان ان النقد، الذي يهدف الى نقد الحضارة نفسها، لا يمكن ان يتخذ قاعدته من أي شكل من أشكال الادراك ولا أي حدث من أحداثه. فليست الفكرة، وإنما فقط الظاهرة الخارجية هي التي يمكن للنقد ان يستخدمها نقطة انطلاق له (خط التشديد منا). فالنقد لا يكتفي بالمقارنة، بالمجابهة بين حدث وفكرة، وإنما هو يقابل بين حدث وحدث اخر. غير أنه يقتضي ان تجري مراقبة الحدثين بأدق ما تكون المراقبة، وعلى قدر الإمكان، وأن يشكلا في الواقع أحدهما إزاء الاخر مرحلتين مختلفتين من مراحل النمو. وهي تقضي فوق هذا، أن تدرس سلسلة الظاهرات، والنظام الذي تبدوا فيه كمراحل تطورية متعاقبة، بدقة صارمة أيضا (خط التشديد منا).
ولكن قد يقال ان القوانين العامة للحياة الاقتصادية هي واحدة، ودائما هي هي، وأنها تنطبق على الحاضر انطباقها على الماضي، وهذا على وجه التحديد، ما ينكره ماركس. فهذه القوانين المجردة ليست موجودة بالنسبة إليه، (بل على العكس، فكل حقبة تاريخية كما يرى، لها قوانينها الخاصة) وما ان تنحسر الحياة عن فترة معينة من فترات التطور، وما ان تنتقل من مرحلة الى أخرى، حتى تبدأ بالخضوع الى قوانين أخرى. وبكلمة موجزة نقول، إن الحياة الاقتصادية تعرض في نموها التاريخي الظاهرات نفسها التي نجدها في فروع أخرى من علم الحياة (خط التشديد منا) ...
لقد كان علماء الاقتصاد القدامى يخطئون في فهم طبيعة القوانين الاقتصادية حين كانوا يقارنونها بقوانين الفيزياء والكيمياء...فلقد بين تحليل أعمق للظاهرات ان الأجهزة العضوية الاجتماعية يختلف بعضها عن بعض مثل اختلاف الأجهزة العضوية الحيوانية والنباتية، بل ثمة أكثر من هذا، فظاهرة واحدة معينة تخضع لقوانين مختلفة تمام الاختلاف، حين تختلف البنية العامة لهذه الأجهزة العضوية، وحين تتغير أعضاؤها الخاصة وحين تتغير الظروف التي تعمل هذه الأعضاء داخلها، إلخ (خط التشديد منا) ... فماركس ينفي مثلا ان يكون قانون السكان هو نفسه في كل زمان ومكان. وهو يؤكد، على العكس، ان كل عهد اقتصادي له قانونه الخاص بالسكان (وأن ما يحدث في الحياة الاقتصادية مرهون بدرجة إنتاجية القوى الاقتصادية) فمع وجود تطورات تتراوح في قوتها، تتغير العلاقات الاجتماعية كما تتغير قوانينها الضابطة، وباتخاذ وجهة النظر هذه لفحص النظام الاقتصادي الرأسمالي، لا يقوم ماركس الا بالتعبير على نحو علمي صارم، عن المهمة المفروضة على كل دراسة صادقة دقيقة للحياة الاقتصادية، فالقيمة العلمية الخاصة لدراسة كهذه، هي ان تكشف عن القوانين التي تتحكم بولادة جهاز عضوي اجتماعي معين، وحياته ونموه، وموته، واستبداله بجهاز عضوي اخر أرفع منه، هذه هي القيمة التي يتمتع بها مؤلف ماركس (خط التشديد منا).[4]"
على النقيض من علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، الذي رأى انه ما من تطور تاريخي واجتماعي بإمكانه ان يجب المجتمع الرأسمالي، أي الذي كان يعالج المجتمع الرأسمالي ليس باعتباره مرحلة تاريخية محددة من مراحل تطور المجتمع الإنساني، وإنما بوصفه المجتمع الطبيعي للإنسان، كان مجهود ماركس العلمي في رأس المال يهدف الى تبيان نقيض ذلك. فرغم كون دافيد ريكاردو أول من انطلق عن قصد من التناقضات بين المصالح الطبقية، من التناقض بين الاجر والربح، وبين هذا الأخير والدخل، إلا أنه قد توصل الى نتيجة مفادها على ان المنازعات والتناقضات هي "القانون الطبيعي" الذي لا يتغير للمجتمع الإنساني. تحدد غرض ماركس في ضرورة ضبط قانون الانتقال والتغير من نظام علاقات إنتاجية واقتصادية معينة الى نظام اخر، ومن ثم ضبط النتائج التي يظهر عليها في الحياة الاجتماعية. هذا ما يجعل الممارسة النقدية في منطق النظرية الماركسية مختلفة ومجابهة لباقي الممارسات الأخرى. لا يكتفي النقد الماركسي، الموجه نحو حضارة ومجتمع معينين، الى الاكتفاء بالوعي الذاتي الذي كونه هذا المجتمع عن نفسه، ونعني الأفكار الأيديولوجية التي ينتجها ويعيد انتاجها هذا المجتمع عن نفسه، وإنما بتحليل تناقضاته الموضوعية بدقة علمية صارمة. إن ظواهر إنسانية محض، من قبيل: الحياة الاجتماعية، النشاط الإنتاجي، نمو الوعي والفكر والثقافة إلخ هي الموضوعات الأساسية التي تعالجها العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية بالدراسة والوصف والتحليل، ولئن كانت لهذه الظواهر بنية وتاريخ في نفس الوقت، فلقد مالت بعض المناهج الى ضرورة فهم البنية وتفسيرها على حساب دراسة تطورها ونشوؤها التاريخي، في حين مالت المناهج الأخرى، الى ضرورة ضبط التطور التاريخي على حساب دراسة وتحليل البنية. إننا لا نجد لدى ماركس هذه المقابلة، فالدراسة العلمية الجادة تقتضي في التحليل الأخير الجمع الديالكتيكي بين المنهجين بهدف الإحاطة الشاملة بالظواهر المدروسة.
لكن ما معنى القول التالي: "إنه يواجه الحركة الاجتماعية بوصفها سياقا طبيعيا من الظاهرات التاريخية، وهو سياق خاضع لقوانين ليست فقط مستقلة عن إرادة الانسان وإدراكه ومقاصده، وإنما هي على العكس، تعين إرادته ووعيه ومقاصده."
ألا يعني هذا أن ماركس يفسر التاريخ ويعلله من موقع القوانين الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية على سبيل المثال؟ جوابنا هو: لا. وهذا ما يبينه النص السالف على نحو فذ. ثم إن ماركس قد عبر في عدد من ابحاثه عن نقده للتعليلات والتفسيرات التقنية المحض للحقب التاريخية: العصر الحجري، العصر الحديدي، العصر البرونزي إلخ كما ان ماركس قد رفض ضبط الحقب التاريخية انطلاقا من الطبيعة السائدة لمجتمع ما من المجتمعات: مجتمع تقليدي، مجتمع زراعي إلخ. طبعا لا يرفض ماركس هذه التصنيفات رفضا قاطعا لكنه يؤكد على ان أهميتها تتضح بجلاء حالما يتم احتوائها نقديا في مفاهيم شمولية تناسب طبيعة الموضوع الذي تعالجه العلوم التاريخية والاجتماعية. لهذا كانت مفاهيم ماركس تستند على خصائص اجتماعية واقتصادية محددة: المشاعية البدائية، الاقطاع، إلخ عوض الطرح الأحادي الجانب القاضي بالاعتماد فقط على خصائص التقنية السائدة وأدواته المستخدمة، وذلك لأن التكنولوجيا وأدواتها هي في أساس الامر نتاج تطوري وتراكمي للعمل الإنساني المنفق الجسدي والذهني معا. لكن، لا ينبغي ان ننسى ان الواقع البيولوجي، الطبيعي إلخ موجود في خلفية تحليلات ماركس وتفسيراته. من هنا يمكننا ان نستوعب إصراره الدائم على ان الأساس الطبيعي لتحليلاته موجود في كتاب داروين "أصل الأنواع. والحق ان ما يضبطه النص بقوله ان: " القيمة العلمية الخاصة لدراسة كهذه، هي ان تكشف عن القوانين التي تتحكم بولادة جهاز عضوي اجتماعي معين، وحياته ونموه، وموته، واستبداله بجهاز عضوي اخر أرفع منه، هذه هي القيمة التي يتمتع بها مؤلف ماركس." هو ما يجعل العلم الماركسي علما ثوريا مناقضا للأطروحات السوسيولوجية والاقتصادية المحافظة.
إننا، ومن خلال النص السالف، نستطيع ان نستخلص المنهج الذي وظفه ماركس في رأس المال، والذي شرحه نص سيابر دون ان يسميه باسمه، إنه المنهج الديالكتيكي، ولكنه ليس المنهج الديالكتيكي الهيجلي وإنما المنهج الديالكتيكي الماركسي. وهذه المسألة سنتوقف عندها لاحقا.
نصل الان الى النص الثالث المقتطف من مقدمة الطبعة الإنجليزية لرأس المال.
يكتب انجلز في النص المومأ إليه ما يلي:
" ولكن ثمة صعوبة لم نتمكن من صرفها عن القارئ، وهي استخدام بعض التعابير في معنى مختلف عن معناها ليس فقط في الحياة اليومية وإنما في علم الاقتصاد السياسي الشائع. ولكن ما كان لنا تجنب هذه الصعوبة، فكل وجه جديد من وجوه العلم يقتضي ثورة في التعابير الفنية لهذا العلم، وأفضل دليل على ذلك هو الكيمياء، حيث تتغير مجموعة مصطلحاتها تغيرا جذريا كل عشرين عاما تقريبا، وحيث يصعب ان نجد مركبا عضويا واحدا لم يمر بسلسلة من التسميات المختلفة. (...) وهكذا فممثلو الاقتصاد السياسي لم يتخطوا ابدا المفاهيم القديمة عن الأرباح والدخل ولم يفحصوا ابدا الجزء من أجزاء المنتوج غير المدفوع ثمنه (والذي يسميه ماركس النتاج الصافي) لم يفحصوه في كليته من حيث هو كل، لذلك لم يتوصلوا ابدا الى فهم واضح لأصل المنتوج ولا لطبيعته، ولا للقوانين التي تنظم توزيع قيمته في التالي."
نستنتج من النص السالف الأطروحتين المتضايفتين التاليتين:
- إن المفاهيم العلمية الواردة في رأس المال، هي مفاهيم، -وإن بدت مفاهيم مشابهة لعلم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي-، مثورة للعلم القديم. وهذا لا يعني البتة انها مفاهيم تقطع على نحو مطلق مع مفاهيم علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وإنما أنها تتضمن النفي الجدلي الذي يقتضي الحفاظ على كل ما هو نقدي وعلمي واحتوائه في نظام مفاهيمي أكثر شمولا وعلمية.
- عجز علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي عن تخطي المفاهيم القديمة وتثويرها مما لم يسمح له بضبط النتاج الصافي وفهم أصل المنتوج وطبيعته وكذا القوانين التي تنظم سير وتوزيع قيمته، لكن ما السبب وراء ذلك؟ أولا لغياب المفهوم المادي للتاريخ في تنظيراتهم، وثانيا لغياب المنهج الديالكتيكي في تحليلاتهم، مما جعلهم ينظرون الى الإنتاج الرأسمالي الحديث ليس بما هو مرحلة مؤقتة من التاريخ الاقتصادي الإنساني.
قمنا بتحليل هذه النصوص لننجز مدخلا فلسفيا لمعالجة نظرية ماركس الاقتصادية. لكننا لم ننتهي بعد، فمازالت مسألة لم نبحث فيها بعد بالقدر الكافي، ونعني قضية طبيعة العلاقة القائمة بين الديالكتيك الهيجلي والديالكتيك الماركسي.
المنطق الكبير[5]:
" لا يمكننا ان نستوعب تماما كتاب ماركس رأس المال، خاصة الفصل الأول منه، دون دراسة وفهم عميقين وجادين لكل المنطق الهيجلي."[6]
إن ملاحظة لينين الأنيقة والذكية لهي حقا في محلها. فرغم كون ماركس وانجلز قد عملا في مجموعة من الأبحاث على تبيان ما يميز منهجهم الجدلي عن الديالكتيك الهيجلي الصوفي ذو القشرة اللاعقلانية، وماديتهم الفلسفية عن مادية فيورباخ السكونية، إلا أن ذلك كان قد تم في مرحلة كانت فيها ألمانيا المثقفة تعلن عن نفسها باعتبارها ألمانيا هيجلية، أي ان الأيديولوجية المهيمنة آنذاك قد عبرت عن نفسها من خلال فلسفة هيجل التأملية. من هنا، على سبيل المثال، يمكننا ان نستوعب إصرار انجلز في كتابه لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية على ان أهمية هيجل لا تكمن في الجانب التأملي الصوفي في فلسفته، وإنما في منهجه الجدلي الذي افتقدته كل المادية السابقة (الساذجة، والميكانيكية...)، وإصرار ماركس، في مقدماته لرأس المال، وفي مجمل الكتاب، على استعارة التعابير الفنية الهيجلية، في وقت كانت فيه ألمانيا مرتعا خصبا للوعي الرومانسي الارتدادي الرجعي، وحيث كان ينظر مثقفوها الى هيجل وكأنه "كلب ميت"[7]. لا ينبغي ان يفوتنا انه حينما كان يتعلق الأمر بالجانب التأملي الصوفي لفلسفة هيجل كان ماركس وانجلز دائما يبرزان نقدا علميا حازما، اما فيما يخص المنهج الجدلي فلقد كانا دائما يؤكدان على أهميته وعلى ضرورة قلبه واستخراج اللب العقلاني منه.
لكن، لنعد الى موضوعنا الرئيس، وأعني منطق هيجل، ومدى أهميته بالنسبة للماركسيين ولجميع العلوم.
يتصدى هذا الكتاب، الذي مع الأسف لازال القارئ العربي يفتقد ترجمته العربية، على نحو نقدي، للصور والمقولات التي كان معمولا بها في المنطق الصوري الكلاسيكي. ويعالج العديد من المسائل الفلسفية والعلمية والمنطقية والمنهجية، كنظرية الوجود، ونظرية الجوهر، نظرية المفهوم أو المنطق الذاتي. إننا سنعمل على فحص مفاهيم منطق هيجل الجدلي من اجل تحقيق النتيجة المزدوجة التالية:
أولا: التدليل على أهمية هيجل النظرية ليس فقط من اجل استيعاب الديالكتيك الماركسي وإنما أيضا من اجل استيعاب الفصل الأول من رأس المال الذي يناقش فيه ماركس مفاهيم القيمة.
ثانيا: ضبط سمات ومميزات عناصر المنهج الديالكتيكي عند هيجل كما عرضها في علم المنطق. وضبط ما يميز جدل رأس المال عن جدل المنطق.
في الواقع، يتضمن كتاب هيجل، «Wisseschaft der Logik»، "علم المنطق"، ثلاث كتب صدرت في نورنبرغ. يعالج هيجل في الكتاب الأول، نظرية الوجود، بداية سنة 1812، اما الكتاب الثاني، فيعالج نظرية الجوهر، وذلك سنة 1813، ثم الكتاب الثالث، الذي صدر سنة 1816، حيث يعالج فيه هيجل نظرية المفهوم.
لقد عارض هيجل على نحو حازم، تعريف المنطق باعتباره "علما للتفكير الخالص او المحض": فإذا كان كانط قد قدم معنى ذاتيا للمقولات والصور المنطقية، فإن هيجل، قد أصر على انه ضمن المقولات والصور المنطقية ما يمكننا ضبطه تحت مسمى "القيمة الموضوعية". من هذا المنطلق بإمكاننا ان نؤكد على ان المنطق القديم كان منطقا ذاتيا ترنسندنتاليا (متعاليا) في حين كان منطق هيجل منطقا مثاليا موضوعيا. المنطق القديم، بالنسبة الى هيجل، كلعبة الأطفال التي تشترط جمع الصور والعناصر المتفرقة لصورة ما. كذلك، يعارض هيجل بشدة، كل من سبينوزا وفولف، بحيث يعلن على ان منهج الفلسفة ينبغي ان يكون منهجها الخاص لا منهج الرياضيات. وانطلاقا من هذا النقد الهيجلي الموجه نحو موضوعة سبينوزا، تلك التي تقر على ان المنهج الفلسفي ينبغي ان يكون منهجا رياضيا بحثا أو لا يكون، بإمكاننا ان نستوعب لماذا أصر ألثوسير على: أولا، اعتبار كل التفكير الفلسفي منذ ديكارت الى هيجل وفيورباخ تفكيرا أيديولوجيا محضا، ثم رفع سبينوزا عن هذا التحديد، انطلاقا من نزعته التصورية، ثم تعويض علاقة تأثير هيجل على ماركس، بعلاقة أخرى هي علاقة تأثير سبينوزا في ماركس، بعبارة أخرى، فإن ما يتممه ماركس ليس هو الديالكتيك الهيجلي وإنما المنهج التصوري السبينوزي. هذا ما سيتضح على نحو أكثر وضوحا، في حال عدنا، الى الجزء الثاني من قراءة الرأسمال، خاصة الفصل المكتوب من قبل رفيق ألثوسير إتيان باليبار، حول المادية التاريخية، بحيث يعلن على نحو صريح ان منهج المادية التاريخية ليس الا المنهج الرياضي الأكسيومي. بصراحة، توضح لنا قراءة منطق هيجل، ما هو أعمق من ذلك بكثير، وأعني، لماذا اضطر التفكير الفلسفي البرجوازي المعاصر دائما عندما كان يتعلق الأمر بتقويض الماركسية بالارتداد حتى عن منجزات منطق هيجل نفسها، واحياء تلك النزعات التصورية، الميكانيكية، والسكونية التي كان هيجل قد أعلن موتها منذ زمن غابر[8].
في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب الأول للمنطق، يلاحظ هيجل، أنه بالنسبة للفلسفة النقدية، فإن العلاقة بين "المصطلحات الثلاث": أل نحن، الفكر، والأشياء، تعبر عن نفسها باعتبارها علاقة يأخذ فيها الفكر موقع الوسط، بين الأشياء وأل نحن، وأن هذا الوسط يفصلنا (abschliesst) عنها عوض ان يوحدنا بها (zusammenschliessen). ويرى هيجل، انه من أجل الرد على هذا القول، يكفي تسجيل "الملاحظة البسيطة" التالية: إن الأشياء المتوقع انها توجد وراء (jenseits) أفكارنا، هي عينها أشياء مفكر فيها (Gedankendinge)، وأن الزعم بوجود الشيء في ذاته ليس إلا موجودا فكريا للتجريد الفارغ (Gedankinding der leeren Abstraktion). إن عمق هذه الحجة يتمثل في كونها تؤكد أولا، على أن وظيفة المعرفة عند كانط هي فصل الطبيعة والانسان، في الوقت الذي ينبغي توحيدهما، ثم ثانيا، على ان التجريد الفارغ المسمى عند كانط بالشيء في ذاته، يأخذ مكانه مفهوم المسار والحركة عند هيجل، تلك التي تقوم بإثراء معرفتنا الجدلية لطبيعة الأشياء. إذن، عوض الفصل نجد الوحدة، وعوض الشيء في ذاته لدينا الحركة. لهذا أصر هيجل على ان المنطق ليس نظرية لأشكال الفكر الخارجية، وإنما لقوانين كل الأشياء المادية، الطبيعية والروحية، أي قوانين تطور كل المضمون والمحتوى المشخص للعالم ومعرفته، إنه، أي المنطق، خلاصة، وعصارة، ومجموع تاريخ معرفتنا للعالم. لأن الحقيقة غير متناهية، وان نهايتها هي نفي لها. إن الصور والمقولات المنطقية، إذا تمت معالجتها كصور مختلفة للمحتوى والمضمون وخارجية عنه، تكون غير قادرة على معانقة الحقيقة. إن فراغ هذه الصور، أي في نهاية المطاف فراغ المنطق الصوري، يجعلها دون المستوى وباعثة للسخرية. من هنا اعتبار هيجل لقانون الهوية: أ هي أ فارغا وغير محتمل. فقانون الهوية هذا، الذي يسترشد به المنطق الصوري التقليدي، ينطوي ضمنا على قانون التناقض، انطلاقا من كون (أ) لا تساوي (أ) إلا بقدر ما تكون في تضاد مع (لا أ)، أي أن هوية (أ) لا تنتج عن التماثل وإنما عن التناقض وتتضمنه، وأن (أ) لا تناقض (لا أ)، وإنما (لا أ) هي التي تنتمي الى صميم هوية (أ)، وبالتالي فإن (أ) مناقضة لذاتها. (خط التشديد منا).
لقد عانى المنطق القديم أيضا، -وهذه مسألة من المسائل الحاسمة التي يثيرها هيجل-، أولا من غياب الربط الضروري، أي الموضوعي، بين كل أوجه، قوى، ونزعات إلخ للمجال المعطى للظواهر، وثانيا، لا نجد في المنطق القديم مرورا وانتقالا وتطورا للمفاهيم والفكر. وهنا تكمن أهمية المنطق الجدلي. والمنطق الجدلي حسب هيجل، ليس بالمنطق الجديد كليا. ولكنه علم قديم لم يتم تطويره كما ينبغي من قبل الفلاسفة والعلماء السابقين، ويمكننا ان نسجل الملاحظة التي دونها هيجل حول الجدل الافلاطوني في محاورة بارميندس:
"تتم معالجة الجدل ضمن هذا الجدل كفعل خارجي سلبي، والذي لا ينتمي الى الشيء في ذاته، والذي يجد اسسه في الغرور النقي كعاطفة ذاتية تزعزع وتحل ما هو منغلق وحقيقي أو على الأقل ذلك الذي يقود الى لا شيء سوى الى غرور الموضوع المعالج ديالكتيكيا."
وأهمية كانط تكمن في كونه قد نزع عن الديالكتيك مظهره التعسفي.
طبعا، هيجل، ومن موقعه كمثالي موضوعي، كان يؤكد على موضوعية الجدل، وهذا ما جعله يرى في الجدل الافلاطوني نوعا من الفن، وكأنه يتوقف على موهبة ذاتية ما، وأنه لا ينتمي البتة الى موضوعية المفهوم.
لنتذكر الان مناقشة ماركس الموجودة في تذييل الطبعة الألمانية الثانية حيث يعمل على مناقشة الآراء الأربعة التي عملت على محاولة تقصي منهج رأس المال مقحما ما كتبه أستاذ الاقتصاد السياسي الروسي سيابر، ولنقارن بين الطريقة والمنهج المشروحين في نص ماركس، وبين عناصر المنهج الديالكتيكي كما شرحها هيجل في كتابه المنطق، يمكننا ان نلخص هذه العناصر فيما يلي:
تعريف المفهوم انطلاقا منه، أي ان الشيء في ذاته ينبغي ان يعالج في علاقاته وفي تطوره. قارئ رأس المال المتمعن يعي جيدا ان هذه واحدة من العناصر التي أكد عليها ماركس في وجه كل اختزالية ميكانيكية، تلك التي كانت تدعوا عزل الأشياء وفحصها في تفاصيلها ودقائقها لا في علاقاتها. لا، إننا سنذهب أبعد من ذلك ونقول، إنه وبفضل ماركس، تعرض هذا المنهج الاختزالي الى هزيمة نكراء، فبعد رأس المال صار المنهج الاختزالي السكوني غير وارد. فتفسير الاقتصاد السياسي من خلال منهج المدعو: «Robinson Crusoé»، "تخيلوا شخصين في جزيرة قاحلة..."، رغم كونه مع الأسف لازال واردا في بعض الكتب الدراسية السيئة، وكذا عند بعض الذين يحاولون شرح الاقتصاد السياسي بطريقة جد مبتذلة. لكن، ومع ذلك، لا يمكن لهذه الطريقة ان تأخذ على نحو جدي، الأزمات الاقتصادية والثورات لا تحدث بين فردين اثنين في جزيرة قاحلة! لقد حلل ماركس الاقتصاد السياسي ليس باعتباره المجموع الكامل لتبادلات الأفراد، ولكن كنظام معقد، يتحرك ويعمل من خلال قوانينه الخاصة، التي تضل دائما مستقلة نسبيا عن قوانين الطبيعة. تم ذلك، في وقت كان فيه علماء الفيزياء، يدافعون عن ان الكل ليس مجرد تجميع بسيط للأجزاء. طبعا، لا ينبغي ان يفوتنا التأكيد على ان دراسة هذه الأجزاء في تفاصيلها ودقائقها قد يساعدنا كثيرا في ضبط القوانين المحركة للنظام المعقد حينما يكون ذلك ممكنا، ولكن النظام المعقد هو في نهاية التحليل يتحرك من خلال قوانين ليست هي عينها قوانين الأجزاء.
ثم بعد ذلك، ضبط التناقض ضمن الشيء في ذاته، القوى والنزعات المتناقضة في كل ظاهرة. بالإضافة الى وحدة التحليل والتركيب. مع التأكيد على ان هذا العرض هو عرض عام لعناصر المنهج الديالكتيكي المعروض في «Wissenschaft der Logik»، أما إذا شئنا عرضها على نحو أكثر تدقيقا يمكننا ان نقول ان المنهج الديالكتيكي هو أولا منهج يقتضي التحديد الموضوعي للفحص والدراسة، لا امثلة، لا استطراد، ولكن الشيء في ذاته. مع ضرورة ضبط مجموع العلاقات المتنوعة والمتعددة لهذا الشيء في ذاته، وتطور هذا الأخير، حركته الخاصة وحياته الخاصة. ثم ضبط الأوجه، النزعات، الداخلية المتناقضة في هذا الشيء في ذاته باعتباره وحدة لمتناقضات، وضبط الصراع بين هاته النزعات ضمن هاته الوحدة نفسها. ناهيكم عن وحدة التحليل والتركيب، والذي يقتضي فصل مختلف الأجزاء وجمعها، وتعميم هذه الأجزاء جميعها. فالعلاقات بين كل شيء، (ظاهرة، إلخ)، ليست فقط متعددة ومختلفة، ولكنها كونية. كل شيء، ظاهرة، عملية، إلخ مرتبطة بأخرى. لا يهتم المنهج الجدلي، فقط بوحدة الاضداد، وإنما أيضا بانتقال كل تحديد، أثر، كيفية، وجه، ملكية الى اخر. ويأخذ بعين الاعتبار العملية اللامتناهية لتجدد الأوجه والعلاقات، وكذا العملية اللامتناهية لتعميق معرفة الأشياء، الظواهر، العمليات، إلخ، من قبل الانسان، منطلقا من الظواهر الى الجوهر ومن جوهر ما الى جوهر أكثر عمومية وعمقا. بالإضافة الى الانتقال من التواجد إلى السببية، ومن شكل تعلق وارتباط الى اخر، أكثر عمقا وعمومية. ثم تكرار بعض المعالجات على مستوى أرقي من المستوى الذي كانت فيه. (نفي النفي). وفي الأخير صراع الشكل والمضمون والعكس. وما تقتضيه هذه العملية من نقض للشكل، وتعديل للمضمون. والانتقال من الكم الى الكيف والعكس صحيح.
نظرية القيمة ووثنية السلعة:
يبدأ ماركس تحليلاته في رأس المال من السلعة، وذلك لكون المجتمعات ذات النمط الإنتاجي الرأسمالي تبدوا ثروتها وكأنها تراكم لا حد له من السلع. ليصل الى ضبط كل من جوهر القيمة وقياس القيمة. وانطلاقا من ذلك يقوم بتفسير كيف تنتج كل التناقضات القائمة في الاقتصاد الرأسمالي. يفسر أيضا ماركس في الفصل الأول المختص بالقيمة، الطابع المزدوج للسلعة، بمعنى السلعة كقيمة استعمالية وكقيمة تبادلية. فإذا كانت السلعة هي، أولا وقبل كل شيء، شيء يكفي بخصائصه الحاجات البشرية، فإن القيمة الاستعمالية، أو ما يسميه ماركس أيضا، بجسم السلعة، تحدد انطلاقا من منفعتها وتتحقق من خلال عمليتي الاستهلاك والاستعمال، وتمثل الدعائم المادية للقيم التبادلية. أما القيمة التبادلية، وهي الوجه الاخر للسلعة، فتبدوا في البداية وكأنها علاقة كمية، أي النسبة التي يتم بمقتضاها تبادل قيم استعمالية مختلفة النوع بأخرى، مع التأكيد على ان هذه العلاقة تتغير حسب الزمان والمكان. المجتمع الرأسمالي هو من يقوم بإضفاء هذا العنصر الجديد الى القيم الاستعمالية، هذه الأخيرة التي وجدت في كل المجتمعات البشرية، وبذلك لا تصير تلك القيم الاستعمالية مجرد سلع للاستهلاك المباشر، وإنما للبيع أيضا. إن إمكانية ضبط هذه العلاقة التبادلية في شكل معادلة لهو أمر يستدعي الانتباه: فأن تكون بين كمية من الحديد وكمية من الحنطة علاقة تبادلية، فمعناه ان طرفا المعادلة (كمية الحديد وكمية الحنطة) متساويان، مما يعني بالضرورة وجود طرف ثالث في المعادلة، "خفي"، "غير مرئي"، يحقق هذا التساوي ويوجده. أي ان كل من كميتي الحديد والحنطة مساويان لشيء اخر ثالث. ما هو هذا الشيء الثالث المشترك حسب ماركس؟ إن ثمة عملا بشريا مشتركا فيها. وبالتالي، يصل ماركس إلى ضبط جوهر القيمة الذي هو العمل، ومقياس كمية القيمة الذي هو مدة العمل.
إن التعبير النهائي عن القيمة التبادلية هو النقد. إنه معادلها الكوني، الذي من خلاله تعبر كل السلع عن قيمتها. وهذا الطابع المزدوج للسلعة يعبر عن التناقض المركزي للمجتمع الرأسمالي، ونعني الصراع بين العمل المأجور ورأس المال. فالعامل يظن أنه يبيع عمله لرب العمل، لكن، في الواقع، فإن ما يبيعه العامل لرب العمل ليس هو عمله وإنما بالأحرى قوة عمله التي يستخدمها رب عمله على النحو الذي يراه مناسبا. والقيمة الزائدة التي تمثل المصدر الأساسي لتراكم رأس المال هي من نتاج العمل الغير المؤدى عنه للطبقة العاملة.
كشف ماركس عن العلاقة القائمة بين السلع والنقد، وكشف عن الكيفية التي من خلالها يتحول النقد الى رأس مال، وبرهن على ان هذا التحول يتم من خلال شراء وبيع قوة العمل. إن هذا التمييز الحاسم الذي أقامه ماركس بين العمل وقوة العمل هو مفتاح ضبط القيمة الزائدة الذي ما كان ريكاردو بقادر على ضبط طبيعتها الحقيقية، أي التناقضية. ومن خلال تمييزه أيضا بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير، تمكن ماركس من ضبط مجموع عمليات تكون رأس المال، وتفسير ما استعصى على علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي.
الان، ما المقصود بوثنية السلعة عند ماركس انطلاقا من هذا العرض الوجيز لمضمون الفصل الأول من رأس المال المختص بنظرية القيمة؟
المقصود بها هو ان علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يحول السلعة الى وثن. طبعا، للوثن وظيفة معينه، من خلال الباسه بخصائص ليست هي بخصائصه، مثلا حينما نقوم باعتبار ان فضلات الطيور حين سقوطها على ملابس أحد أنها تجلب الحظ فإننا نحول تلك الفضلات الى الوثن. حول علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي رأس المال، الذي هو سلعة، الى وثن، انطلاقا من ادعائه بأن رأس المال هو من يخلق الفائض على شكل فوائد وأرباح وريوع إلخ. في حين ان من يقوم بذلك هو الجهد الإنساني الخلاق، والعمل الإنساني المنفق في تلك السلع، أي قوة العمل. في المقابل، نجد ان ما يتم تحويله الى سلعة من خلال منظور الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في ظل فعالية السلعة وطاقتها الخلاقة هي قوة العمل، وبالتالي يتم تغريبها وتشييئها. بكثير من التلخيص: هذا هو عمق ما يقصده ماركس بوثنية السلعة.
إن الطريقة التي يوظفها ماركس هي الطريقة الديالكتيكية الواردة في منطق هيجل، ولقد عبر ماركس عن ذلك، بعد عرضه لما كتبه أستاذ الاقتصاد السياسي، الروسي سيابر، في تذييل الطبعة الألمانية الثانية-كما سبق وذكرنا-، ولا داعي للتذكير ان الكتاب الثالث من المنطق "نظرية المفهوم او المنطق الذاتي"، وبالضبط حيث يعالج هيجل الذاتية، نجده في الصفحة 125 يعلق على القياس "الشهير" التالي: كل البشر فان، كيوس انسان، إذن كيوس فان. قائلا: "إننا على الفور نصاب بالملل حينما نسمع مثل هذا القياس". ثم يعلن هيجل أيضا ما يلي:
"كل الأشياء هي قياس، كوني موحد مع الفردانية (خصوصية) والجزئية، ولكن في الحقيقة لا يمثلون كلا متكونا من ثلاث قضايا." نقول، إن تحليل الأقيسة عند هيجل، (الواحد، الجزئي والكوني)، يذكرنا بالإشارة التي قام بها ماركس الى هيجل في الفصل الأول من رأس المال.
لكن ماركس لا يكتفي فقط بذلك، وإنما يعلن أيضا ما يلي:
"إن طريقتي الديالكتيكية لا تختلف عن الطريقة الهيجلية من حيث الأساس فحسب، بل هي ضدها تماما، فحركة الفكر، هذا الفكر الذي يشخصه هيجل ويطلق عليه اسم (الفكرة) هي في نظره خالق الواقع وصانعه، فما الواقع الا الشكل الحادثي للفكرة، أما في نظري فعلى العكس، ليست حركة الفكر سوى انعكاس الحركة الواقعية منقولة الى دماغ الانسان ومستقرة فيه.[9]"
الان ما هي النتائج الحاسمة لعملية القلب هاته؟ إذا كان المنهج الديالكتيكي الماركسي نقيضا للمنهج الديالكتيكي الهيجلي حسب ماركس، فما الذي يميز الأول عن الثاني، وما هي الفوارق الحاسمة والنتائج الحاسمة لاستعمال كلا المنهجين على حدة؟
خطأ الماركسية الهيجلية:
تتضح النتائج الحاسمة لاستعمال كلا المنهجين الديالكتيكي الماركسي والديالكتيكي الهيجلي على حدة، والنتائج الحاسمة أيضا لعملية القلب التي اجراها كل من ماركس وانجلز، أولا وعلى نحو جلي في عمل لوكاش: التاريخ والوعي الطبقي وكتاب اخر لكارل كورش: الماركسية والفلسفة، ثم في الأعمال والمؤلفات التي درست وأولت ماركس من موقع رفع المثالية الهيجلية لتستوعب مادية ماركس، خاصة اعمال منظري مدرسة فرانكفورت النقدية، ثم مؤلفات سارتر حول هذه المسألة. يتعلق الأمر بطبيعة القراءة التي من الممكن ان ننجزها للنقد الذي اجراه ماركس ووجه الى هيجل، تحاول الماركسية الهيجلية، من حيث الأساس والعمق، الى تبيان ان نقد ماركس لفيورباخ قد كان في أساسه نقدا من اجل استعادة الثنائيات الهيجلية بين الذات والموضوع وأن ماركس ما كان ليمارس النقد من موقع المادي الصريح. سنعتمد هنا على معالجة مقال "التشيؤ ووعي البروليتاريا" الوارد في التاريخ والوعي الطبقي[10]، والذي من خلاله يؤسس لوكاش لنظريته في الاغتراب الإنساني والتشييئ من خلال قراءته لنقد ماركس لوثنية السلعة.
لو عدنا الى مؤلف ماركس، مخطوطات 1844، نجد ماركس يوجه نقد صريحا الى هيجل لكونه قد قام بخلط غير علمي بتاتا بين الموضوعية والاستلاب، بحيث يصير الأول الشرط الحاسم للثاني وللتشييئ. ولا ينبغي ان يغيب عنا واقع ان ماركس قد أسس لبداية التمييز العلمي بين الموضوعية والاستلاب في كتابه العائلة المقدسة الموجه نحو نقد برونو باور ومن لف لفه، بمعنى ان الكتاب كان من حيث العمق موجها ضد المثالية والمثالية الهيجلية على نحو خاص[11]. بعبارة أخرى، لا تتحول الموضوعية، بالنسبة الى ماركس، الى استلاب وتشييئ إلا من خلال سيادة ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية محددة من الممكن سبر اغوارها بالدراسة العلمية. وهذا ما لا نجده لا عند هيجل ولا عند لوكاش. وبالتالي يتحدد رفض الاستلاب عندهم برفض الوجود الموضوعي للعالم المادي المستقل عن الانسان. تجدر الإشارة أيضا الى ان الفصل الأول من رأس المال الذي يعالج فيه ماركس: الاستلاب، ووثنية السلعة، والتشييئ، يتضمن هذه المفاهيم في معاني محددة ومستمدة من شروط تاريخية واجتماعية واقتصادية معينة، مهمة ضبطها ملقاة على كتاب رأس المال نفسه. فالتشييء والاستلاب إلخ هي نتاج تطور تاريخي واجتماعي معين وهي قابلة للزوال والتلاشي بزوال أسبابها وشروط وجودها. بالنسبة الى لوكاش (وهيجل أيضا) فإن كل موضوعية تقتضي الاستلاب، أما بالنسبة الى ماركس فليست كل موضوعية شرط للاستلاب والتشييئ.
يتضح أيضا تصعيد المثالية الهيجلية لتستوعب المادية الماركسية وتطمسها في التأويل المثالي للنظرية الماركسية السائد عند أغلب منظري مدرسة فرانكفورت، لدرجة انه يتم الخلط بين الثورة الكوبرنيكية المنجزة من قبل ماركس وانجلز في ميدان الدراسات التاريخية والاجتماعية بنظريات السوسيولوجيات المثالية المعاصرة. فانطلاقا مما أعلنه ماكس فيبر في بحثه الشهير الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، يتم التأكيد على ان القيم الاداتية (العقل الأداتي) إلخ هي التي صنعت الحداثة، أي المجتمع الرأسمالي الحديث ببناه التحتية والفوقية، أي أن فيبر ينظر هنا لأولوية القيمي، الثقافي، الأيديولوجي، إلخ على كل ما هو مادي وتاريخي واجتماعي، من هنا نزعة منظري تيار فرانكفورت النقدي نحو الاكتفاء ب "النقد الثقافوي" لقيم معينة! ففي مناقشة لماركس كان قد أوردها في احدى هوامش الرأسمال معلقا على رأي قدمته صحيفة ألمانية أمريكية عام 1859 يتحفظ فيه صاحبه على نظرية ماركس بصدد الاتساق والتطابق الجدليين بين البنية التحتية والبنية الفوقية. يقول ماركس ان صاحب المقالة يقول : "أن رأيي (بمعنى رأي ماركس) بأن البنية الاقتصادية للمجتمع هي الأساس الواقعي الذي تقوم عليه بنية حقوقية وسياسية وتطابقها اشكال اجتماعية محددة من الوعي الاجتماعي، صحيح فقط بالنسبة الى العالم الحالي، العالم الرأسمالي، حيث تسود المصالح الاقتصادية المادية على مجمل العلاقات الإنسانية، إلا أنه غير صحيح لا فيما يتصل بالعصر الوسيط حيث سادت وسيطرت الكاثوليكية، وكذلك فيما يخص أثينا وروما، حيث سادت وهيمنت السياسة..." (خط التشديد منا)
ويستمر "ماركس" معلنا ما يلي:
"بيد أنه واضح بما فيه الكفاية ان العصر الوسيط لم يكن بمقدوره ان يعيش بالكاثوليكية، نفس الامر ينطبق على العالم القديم فيما يخص السياسة. وإنما على النقيض من ذلك تماما، فالطريقة والأسلوب اللذان من خلالهما حققوا حياتهم، هما اللذان يوضحان لماذا مارست السياسة هناك والكاثوليكية هنا الدور الرئيسي[12]" (خط التشديد منا).
إذن، يكمن خطأ الماركسية الهيجلية في أنها تطمس فوارقا هامة بين جدل ماركس وجدل هيجل، فالأول مادي من حيث العمق، أما الثاني فمغلف بقشرة صوفية مثالية لا عقلانية. وهو ناجم عن عدم التمييز الحاسم والدقيق بين عناصر الفلسفة التأملية الهيجلية والمنهج الجدلي الهيجلي.
[1] : كارل ماركس، رأس المال، نقد الاقتصاد السياسي، الجزء الأول، ترجمة محمد عيتاني، مكتبة المعارف بيروت، مقدمة الطبعة الألمانية الأولى، ص 7.
[2] : ينبغي علينا ألا ننسى نقد ماركس الحازم والفذ الذي وجهه لما أسماه ب: "الاشتراكية الرجعية" أو "الاشتراكية الاقطاعية" أو "الاشتراكية الحقيقية" بالإضافة الى نقده ل " مدرسة التشريع التاريخية" في كتابه "البيان الشيوعي"، تلك النزعات الرومانسية الارتدادية التي وجدت في ألمانيا مرتعها الخصيب. لقد كان نقد ماركس موجها الى نزعات معينة ازدهرت في البلدان الأوربية الأكثر تخلفا تعمل على معاداة الرأسمالية الصناعية وتقدمها من موقع المرتد عن الرأسمالية تحت راية الحنين الرومانسية لصورة من صور العصور الوسطى الغابرة. طبعا، كان ماركس مستوعبا ان هذه النزعات تحيا وتتجذر كانعكاس أيديولوجي لواقع بقاء أنماط انتاج ما قبل رأسمالية في تلك البلدان الأوربية الى جانب نمط الإنتاج الرأسمالي المهيمن. تجدر الإشارة الى أن لينين قد طبق منطق النقد الماركسي هذا، في واحد من أهم مؤلفاته النقدية المهتمة بنقد الرومانسية الاقتصادية (سيزموندي والسيزمونديين الروس).
[3] : راجع مقالة: حول منهج وموضوع رأس المال من منظور ألثوسير.
[4] : كارل ماركس، رأس المال، نقد الاقتصاد السياسي، الجزء الأول، ترجمة محمد عيتاني، مكتبة المعارف بيروت، تذييل الطبعة الألمانية الثانية، ص 21.
[5] : http://www.gutenberg.org/cache/epub/6834/pg6834.html
http://www.gutenberg.org/cache/epub/6729/pg6729.html
[6] : Lénine : Résumé de la science de la logique de HEGEL. Source : volume 38 de la quatrième édition en français des œuvres de Lénine, Editions du progrès, Moscou.
[7] : نيتشه وشوبنهاور على سبيل المثال.
[8] : كارل بوبر على سبيل المثال.
[9] : كارل ماركس، رأس المال، نقد الاقتصاد السياسي، الجزء الأول، ترجمة محمد عيتاني، مكتبة المعارف بيروت، تذييل الطبعة الألمانية الثانية، ص22.
[10] : Georg Lukacs (1922), Histoire et conscience de classe, Essai de dialectique marxiste. Traduit de l’allemand par Kostas Axelos et Jacqueline Bois. Un document produit en version numérique par Jean-Marie Tremblay, bénévole professeur de sociologie au Cégep de Chicoutimi Courriel : عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته..
Site web: http://pages.infinit.net/sociojmt. Dans le cadre de la collection : "Les classiques des sciences sociales"
Site web: http://www.uqac.uquebec.ca/zone30/Classiques_des_sciences_sociales/index.html.
Une collection développée en collaboration avec la Bibliothèque Paul-Émile-Boulet de l'Université du Québec Chicoutimi. Site web: http://bibliotheque.uqac.uquebec.ca/index.htm.
[11] : Voir : V. Lénine, Cahiers philosophiques. Résumé de la sainte famille de MARX et ENGELS. Editions sociales : Paris. Editions du progrès : Moscou. P : 19.
[12] : أنظر مؤلف طيب تيزيني، من يهوه الى الله، في سياق مناقشة المفكر السوري لإشكالية العلاقة القائمة بين الشرق والدين، بين الجغرافية والدين والاقتصاد والدين. (الجزء الثالث من مشروع الرؤية الجديدة للفكر العربي).