قبل بضعة أيام من اليوم التقيت بصديق لي يشتغل أستاذا لمادة الفلسفة، له نصيب واهتمام كبير في المعرفة الفلسفية، خاصة وأنه يعتبر من الجيل الثاني الذي تخرج من جامعة محمد الخامس بمدينة الرباط، مما جعله ينسج علاقات وطيدة مع أغلب المفكرين المغاربة، وبينما كنا نناقش موضوعا من مواضيع الساعة خارج صرامة الفكر الفلسفي، ابتدرته متسائلا عن أحد أصدقائه المفكرين، حيث كان يتميز بغزارة ونوعية ما يكتب، إلا أنه توقف توقفا غريبا، وهو ما جعلني أتحسر على هذا الأمر خاصة وأن صديقه هذا لازالت أمامه عديد السنين للعطاء، عندها أجابني مخاطبي بأن من نتكلم عنه إنما توقف فقط كي يعود بنفس جديد، وأن من بين مميزاته أنه لا ينغمس في مدرسة فلسفية بعينها أو في فيلسوف بعينه ، بقدر ما أنه يأخذ منه ما يهمه ثم يعرج بعدئذ إلى ما يجب الذهاب إليه، حينها صمت برهة ثم أردف قائلا: صديقي هذا مفكر براغماتي وهو ما نفتقده في مفكرينا المغاربة.
عندما اختليت بنفسي أثارتني هاته الخلاصة التي أدلى بها صديقي، حيث لم أكن متفقا مع هاته الصفة، إذ البراغماتية قوة فطرية في الإنسان لا تميز هذا عن ذاك، بقدر ما أن وجودها مرتبط بالضرورة وكل فرد منا، ربما كان من الأجدر أن يتكلم عن مثقف تقني وليس مثقف براغماتي بما أن الفكر براغماتي بطبعه، حينها توقفت مليا أمام هاته الصفة ـ المثقف التقني ـ إذ ما أحوجنا إلى مثل هذا الصنو من مفكرينا.
خلال القرن العشرين وبسبب هيمنة الماركسية عن الفلسفة كنا أمام تقسيمات للمثقف لم يسلم منها مثقفونا المغاربة على حد سواء، حيث كنا نتحدث وبكثير من الثقة عن المثقف العضوي والمثقف الملتزم... بل إن البعض منا لا زال يسعى إلى مثيل لهؤلاء المثقفين، لكن وبما أن تاريخ الإنسانية قد عرف ما عرف من متغيرات جمة، فإنه من الصعوبة بمكان البحث اليوم عن هؤلاء المثقفين لأسباب عدة من بينها أن المثقف فطن إلى أن ممارسة السياسة بشكلها المباشر يقتل فيه الجانب الفكري لصالح السياسي بمختلف بقاع العالم فما بالك بدول العالم الثالث، كما أن المثقف الذي ينتصر لإيديولوجيا على حساب أخرى إنما يقع له كحاطب الليل الذي لا يفرق بين ما يريد وما لا يريد.
المثقف التقني هو المثقف الذي يعرف كيف يشتغل وعلى ماذا سيشتغل، فلنعد مثلا إلى فكرنا المغربي باحثين في أغلب ما كتب، والذي لا يتجاوز التعليقات حول ما كتب من طرف كتاب كتبوا هم الآخرين على كتاب سابقين عليهم، الحال أن هاته الدوامة تجمد صيرورة الزمن فينا، وتسقطنا نحو فكر ثابت لا يجيب على أسئلة الحاضر بقدر ما يهتم بأسئلة الماضي، وهو ما يعلق كل محاولة في الكتابة بين السماء والأرض، فيصبح فكرنا عندئذ مجرد محراث في الماء، لا ينتج ولا يُؤَشْكِلُ الواقع بقدر ما يجتر أسئلة واقع مغاير لغيرنا، قد يقول قائل بأن كل فكر إنما هو فكر من الإنسان وإلى الإنسان، بيد أنه من الصعوبة بمكان جزم هذا الأمر عندما سنقف أمام الشروط التاريخية والسياقات الإبستيمولوجية المساهمة في ظهور أفكار واختفاء أخرى، فالوجودية مثلا جاءت نتيجة الحربين العالميتين الكونيتين وما رافق ذلك من تبلور العدمية الأوربية ووصولها إلى أرقى أشكالها الصماء، بالتالي فإنه من الطبيعي ألا يكون بيننا مفكر وجودي على غرار كيركجارد ونيتشه وياسبرز وسارتر... إذ وإن كانت هناك بعض المحاولات من قبيل كتابات عبد الرحمن بدوي في هذا الشأن إلا أنها لم تتمكن من ان تصنع لنفسها مجالا خاصا على غرار ما ذكرناه آنفا.
المثقف التقني يعرف على ماذا يشتغل ومتى يشتغل وكيف يشتغل، يحاول أن يشرك معه عموم الجمهور وليس جمهور مجال بعينه، كما يعنى بالتراث الذي سيفيده في الإجابة على أسئلة واقعه وحاضره، بدل الاستجابة لرغباته الفكرية الفردية، والمثقف التقني أيضا يعرف متى يشتغل أي يربط علاقة حميمية مع تاريخه ومع حضوره، ومن تمكن من أن يكون صديقا حميما للتاريخ فإن بإمكانه أن يلعب دور طبيب الحضارة الذي يقدم العلاج المناسب في الوقت المناسب، قد يأخذ عمن سبقوه قطع الغيار وهذه ليست بكبوة تحسب عليه بقدر ما إنها خطوة محمودة من خلالها يأخذ الطريقة فارغة ثم يعمل على تجريبها وافتراض نتائجها بدقة قبل العمل على تطبيقها، هذا ولا شك أن مثقفنا التقني إنما يقوم بذلك كي يبقي فكره ملازما للواقع.
ومن مميزات المثقف التقني أيضا أنه يلعب دور الميزان بين الفكر والواقع، فإذا انتصر الواقع على الفكر في كتاباته سقط ومن حيث لا يدري في شباك الواقعانية التي تبرر الحس المشترك le sens commun وبادئ الرأي بدل الانتصار للبديل، أما إذا أعطى للفكر نصيبا كبيرا مقارنة بالواقع فإنه يصاب بالعزلة الفكرية والتي تبعده أكثر مما تضعه على صميم الجرح، هذا ويعتبر المثقف التقني خريج مدرسة تمزج بين المعارف، فتأخذ حس المغامرة من الفلسفة، والدقة من العلوم الحقة، والمنهج من السوسيولوجيا وعلم التاريخ... هكذا مثلا يمكن أن نعثر على عناوين مهمة يعتمدها المثقف التقني، من قبيل الفكر العلاجي، والمنطق المتساهل، والبناء الزماني...
عندما نعود إلى ما كتب عندنا، نتساءل وبكثير من الأسى عن مصير إنتاجات أساتذتنا الذين غادرونا إلى الأبد، حيث لا نحتفي إلا بما قالوه احتفاءً لا يتعدى أهل الاختصاص، كما لا نعمل على تجديد ما جاؤوا به، أو حتى البحث عن طرف الخيط لإكمال ما توقفوا عنده، إذ هل ترك الجابري تلامذته المشاغبين الذي يكرسون منطق تجاوز التلميذ لأستاذه؟ وهل يوجد منا من تمكن من إعادة شرح تراث محمد أركون وفق أسئلة الحاضر وتعميمها، ليس على المهتمين وإنما على كل من يهمهم الأمر من سياسيين واقتصاديين وطلبة وإعلاميين ؟ الواقع أنه لو كان لدينا مثقف تقني من الطراز الرفيع، لتمكنا من صنع فكر مغربي لديه الشجاعة على الخلق والإبداع بدل اجترار وإعادة كتابة ما قاله السابقون بلغة مختلفة.