قبل كل شيء، "لا يوجد مفهوم بسيط، كل مفهوم يملك محددات ويكون محددا بها"([1]). إن الإعلان عن المفهوم على شكل لفظة يحيل إلى مرجعية معرفية (كيان علمي، نظري، مذهب، و يشير إلى موضوعات يفترض أنها قابلة للتعريف أو الوصف أو التمثل والإدراك الخ...([2] ). إن المفهوم لا يتم الإعلان عليه من طرف الفيلسوف إلا بعد أن تكون قد اكتملت معالمه داخل النسق الفكري الذي يشتغل من داخله، وهذا ما نجد بعضه في القول التالي "إن انبثاق أو بناء المعنى يمر لذا الفيلسوف عبر مجهود تعريفي رصين أو صارم "للمفاهيم العامة" notion و تكونه أو إنشاء الإشكاليات التي تثيرها"([3])، و بذلك يكون الإعلان بمثابة تجميع و تنظيم للنظام الداخلي لخطاب الفيلسوف، كما أن الإعلان عن المفهوم لا يتم إلا بعد أن يكون الفيلسوف قد ضمن لمفهومه، بدرجة كبيرة، العيش خارج محيط الخاص الذي بني داخله.
فإذا كان إعلان الفيلسوف عن مفهوم ما هو بمثابة اختزال أو تركيب لقضية معينة داخل نظامه العام، من هنا تكون معرفة المفهوم و إدراك معناه، والإحاطة به، لن تتم إلا من خلال استيعاب النظام العام الذي نُحث من داخله، فالتعاريف القاموسية لا تعطي إلا المشترك، و ما يتقاسمه المفهوم مع غيره، أو في مقابلته مع غيره، أما إدراكه في حقيقته و دلالته العميقة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال معايشة المحيط الذي صنع من داخله ذلك المفهوم، ولعل هذا ما عبر عنه طه عبد الرحمان "فلا ينفهم المفهوم الفلسفي إلا ضمن مجال تداولي مخصوص"([4]). من هذا المنطق، تكون مهمة المفهوم وظيفية لا أقل ولا أكثر، ولا معنى له في حد ذاته كلفظة، إلا بالقدر الذي يحيل به إلى النظام الخاص بالفيلسوف.
وإذا ما اتبعنا هذا المنطق، فإنه يمكن القول إن كل فيلسوف مجبر على خلق وإبداع مفهوم أو مفاهيم، وذلك من منطلق أن كل فيلسوف يشتغل بقضية أو قضايا ومن داخل نسق حدد، و يتأمل و يتفكر من داخله، فيحلل و يفسر و يبرهن و يستدل و يحاجج، و بذلك تكون النتيجة المنطقية و الحتمية إذا ما نظرنا بعيون "جيل دولوز" الذي يساوي بين إبداع و خلق المفاهيم و مكانة الفيلسوف، فالفيلسوف هو من ينتج و يبدع مفاهيمه الخاصة، يجسد مسار بحثه و اشتغاله، و ينظم خطابه الذي ظل يشتغل من داخله، إن ولادة المفهوم بالنسبة للفيلسوف شيء، يمكن وضعه موضع الواجب، أو بمعنى أخر إن كل فيلسوف، و بحكم اشتغاله بالقضايا الفكرية و غيرها، محكوم عليه بإبداع مفهوم أو مفاهيم. من جهة أخرى، يمكن أن نعتبره تحصيل حاصل، وإلا وجب التساؤل عن مهمة الفيلسوف، هل تقتصر على التأمل والتفكر؟ و يحتفظ بذلك لنفسه في انغلاقية؟، إن عدم الإعلان عن المفهوم يبقى التأمل و التفكر حبيس الذات المفكرة و المتأملة، وإعلان المفهوم هو خروج من الانغلاق نحو الانفتاح، هو انفتاح الفيلسوف على عالمه الخارجي، هذا الانفتاح الذي يكتسب روحه و قوته في تفاعل ذلك المولود مع عالمه الخارجي، و مدى قدرته على الصمود و الثبات أمام مفاهيم أخرى توجد على نفس السطح، بعد أن كان قابعا في أحضان النظام الداخلي للفيلسوف، إن هذا الخروج و الإعلان عن الذات ليس بالشيء الهين و اليسير، من منطلق أن المفهوم و أثناء خروجه يدخل في معركة إثبات الذات بعد أن كان متمركزا حول ذاته، إنه بحث عن المشروعية، بعد أن كان يستمدها فقط من داخل النظام الداخلي، لكن مع الإشارة إلى أن المفهوم بخروجه هذا لا يعني انسلاخه عن أصله بقدر ما يبقى موصولا بمجاله الذي يستمد منه إنفهاميته، يقول طه عبد الرحمان معبرا عن هذا المعنى "... يكون الانتساب التداولي شرطا في حصول الانفهام من اللفظ، فلا ينفهم المفهوم الفلسفي إلا ضمن مجال تداولي مخصوص"([5]) . و بهذا تكون معرفة الدلالة الحقيقية - و في إطار بناء المفاهيم داخل الدرس الفلسفي– المفهوم إلا بالعودة إلى النظام الذي نُسج من داخله، لأجل الوقوف على ملابسات صياغته، والإجراءات التصاعدية التي ارتقى عبرها الخطاب ليتجسد أخيرا في تلك الصيغة، "فليس السياق المباشر لمفهوم ما هو الذي يشكل أفق معناه، و لكن النسق الفلسفي هو الذي يحدد ويضبط العناصر التي يتضمنها، هذا ما يدعونا بالضبط إلى تجنب اختزال دراسة تشكل المفهوم في عمليات محدودة داخل النص، و لكن بتوسيع مجال الدراسة و تحليل تراجعاته وتحولاته "([6]) ،لكن السؤال الذي نجد أنفسنا مضطرين لطرحه بصدد هذه النقطة الأخيرة هو لماذا اللجوء إلى النسق الفلسفي؟.
بإمكاننا اختزال القول بخصوص هذا السؤال و محاولة الإجابة عليه من خلال القول التالي "يتوجب تعريف المفاهيم و تحديدها داخل كل نظرية فلسفية، وذلك تفاديا للغموض و الخلط "([7]) ، و كذلك "إن للكلمات عندما تتحول إلى مفاهيم تاريخ آخر أوسع و أغنى. إن المفاهيم كائنات فكرية تولد بفعل ظروف معينة ترتبط بها وتحيل إليها وتكتسي منها مضمونها التصوري وقوتها المفهومية "([8]).
يمكن أن نخلص مما سبق إلى تأكيد خلاصتين:
الأولى، تتمثل في كون العلاقة بين الفيلسوف والمفهوم هي علاقة إلزام ومحايثة، من منطلق أن قيمة الفيلسوف وقوته تكمن في قيمة وقوة المفاهيم التي يبدعها.
والثانية، يمكن صياغتها على الشكل التالي، إن انفهامية مفهوم ما، لن تتم بالشكل المطلوب إلا إذا تم الرجوع إلى الحيثيات و الملابسات التي نحث من خلالها ذلك المفهوم، بذلك يكون لزاما علينا الرجوع به إلى أصله، و جعل العمل أثناء البناء أشبه ما يكون "جينالوجية" مفهومية، تتبع مساراته لإخراجه من الدلالة التداولية، والرقي به نحو دلالته العلمية الأصلية، أو بتعبير آخر، العود به إلى المعنى الذي أراده له صاحبه، لكن دون الفهم من هذا القول أنه تكريس "للانغلاقية" و "التجميدية" لمعاني المفاهيم، بقدر ما هو عَوَدٌ من أجل التأثيل(**) و تحديد المعنى، و من ثمة الانفتاح على الآفاق التي لا حدود لها، و لعل هذه الجدلية تجد تبريرها في القول التالي: "عند قراءتنا لنص فلسفي ما يحصل لدينا انطباع بأننا منغلقين داخل عالم يشكل نظامه المرجعي الخاص عبر خلق قاموس لغوي مجرد، و في نفس الوقت نفسه و بفضل المجهود الفكري للقراءة و نحن في تألفنا معه يغمرنا الإحساس بأن الأمر يتعلق بعالمنا الخاص، و النص هو بمثابة وسيلة عبور من المجرد إلى المشخص "([9] )، بقدر ما أن الأمر يتعلق بالوقوف على معنى المفاهيم من عند أصحابها ما دمنا قد سلمنا مند البداية بأن التعاريف القاموسية تظل عاجزة عن تزويدنا بالمعنى الأصلي، الشيء الذي يجعلنا عاجزين عن القيام بقراءة خاصة لتلك المفاهيم في مقابل ذلك يعتبر " شرح وتعريف الفلاسفة لمفاهيمهم، وتوضيحهم لها أمر يسهل مأمورية قارئ النصوص الفلسفية"([10]).
[1] )جيل دولوز و فيليكس غاتاري، ماهي الفلسفة، ترجمة ومراجعة مشروع مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1997.
[2] ) منشورات كلية الآداب و العلوم الانسانية بالرباط، المفاهيم و أشكال التواصل، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، ص24.
[3] ) حميد اعبيدا، إشكالية "المفهمة" في الفلسفة و تدريسها، مقال سابق.
[4] ) طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة 2، القول الفلسفي، كتاب المفهوم و التأثيل، الطبعة 2، 2008، ص121.
[5] ) نفسه، ص 121
[6] ) حميد اعبيدا، (مقال)، اشكالية المفهمة، في الفلسفة و تدريسها، مرجع سابق.
[7] ) نفسه.
[8] ) محمد عابد الجابري، مواقف – إطارات و شهادات. الكتاب 38، الطبعة الأولى أبريل 2005 ص،25- 26 .
(** ) ورد تعريف هذا المفهوم لذا طه عبد الرحمان في كتابه فقه الفلسفة، القول الفلسفي، كتاب المفهوم و التأثيل، بمعنى "التأصيل" و هو المقصود لدينا في هذا المقام، أنظر معناه في نفس الكتاب . ص129.
[9] ) حميد اعبيدا، اشكالية "المفهمة" في الفلسفة و تدريسها، مرجع سابق.
[10] ) حميد اعبيدا، إشكالية المفهمة في الفلسفة و في تدريسها، مجلة فكر ونقد، العدد 64.