لم يحظ أي مشروع فكري أو ثقافي مُعرب أو عربي ببلوغ القدر الكافي من الوصول إلى العقل والتعمّق فيه ودراسة أشكال السيطرة عليه ومحاولة تحريره منها؛ بل إن أغلب المساع غرقت في التنظير لأسئلة القيم ومجارات الحركة العلمية الغربية أو الحديث عن الثقافة بمنظور شاحب لا يعطي ملامح التفكير والبناء.
إنّي على قدر من القول: "بأن كل محاولاتنا لم تخرج عن أحاديث السوق الشعبية" والذي يسميه البعض مشروعات ومشاريع فكرية وفلسفية وثقافية هو مجرد تنظيم للأفكار البدائية المستمدة من العقل المجتمعي واستوضاعها في الكتب تحت طائلة مجموعة من المفاهيم المقتبسة عن الثقافة الغربية أو التفلسف بطريقة غربية في أفكار جماعية معروفة ومدركة سلفا.
بالأساس لم نكلف أنفسنا عناء خوض غمار مشكلتي المعرفة والوعي، فمن اللامعقول أن نُشرّح مشكلة نكوصنا الحضاري من منظورات الثقافة والقيم، بل أن نعود للأقسومية البدئية "حالنا مع المعرفة"، و"تقدمنا في مراحل الوعي" وما الثقافة والقيم إلا نتاج تقدم الحركتين الأوليتين لإدراك الإنسان "ذاته" بوصفها عارفة ثم واعية.
وهذه الغفلة التي تطال من يسمُّون أنفسهم "مفكرينا" أي أولئك الذين يعتقدون أو يعتقد المتأثرون بهم أنهم -حاملو لواء الصراع الحضاري- ما بعد الفترات الاستعمارية الكبرى، بدأت من حيث أن هؤلاء حاولوا تأسيس نصوص فكرية انطلاقا من المقدمات الغربية وفي الغالب هو ذلك "الاندهاش" بما قدمته المذاهب الغربية الكبرى من فلسفات ومناهج ومفاهيم ورؤى غيرت مجرى تاريخ بيئتهم نحو مستقبل جديد مستقل عن الماضي الفوضوي الذي غمر أعمار كبرى من أزمنتهم السابقة.
لم تكن هذه الغفلة الوحيدة التي نالت من عقولهم بل هي بداية البداية لما يسمى "تفكير عربي معاصر" من حيث أن هذا التفكير لم يخرج عن نطاق السلطات السياسية السائدة في الدول المستبدة فكيف نؤمن بمشروع فلسفي تحت ظلال النِّعم التي يقدمها الملك للفيلسوف أو المكانة التي يحظى بها هذا المفكر عند الملك أو الرئيس؟ وبالنظر لمسار الفلسفات الغربية الكبرى و-نتوجه هنا تخصيصا للمرحلة الحديثة والمعاصرة- كان حاملو مشروعات التغيير العلمي والسياسي والأخلاقي مناضلين ومهمومين بالحقيقة والمعرفة وأغلبهم قضى أزمانه في معاداة كل المعايير التي سادت في عصره.
لابد من التّأكد أن هذا العفن والتخلف الذي يغتال المجتمعات العربية لا يعود سببه فقط لما يوصف بـ "ما بعد الكولونيالية" أو "الحركة العالمية" بل في جوهره هو احتشام محاولات وفروض التغيير لعدم اكتساحها المجالات الحيوية وقصور منابت التفكير من أولها، وهذا ما يجعلنا كثيرا ما نتهمها بالولاء للنصوص التقليدية والخضوع للسلطة السياسية بأنواعها الاستبدادية.
لا يُّعد هذا الوجه الوحيد للركود الفكري في البيئة العربية، فهناك تلك الجرأة الفضفاضة التي تعلن دروب التغيير من معارضتها لأصول وانتماء الفرد العربي أي محاولة استيراد النموذج الغربي في التحرر وتكييفه مع حال إنسان العقيدة والمرجعية، إن لم نتهم هذا النموذج بالعمالة فإن أقل ما يُقال عنه هو جنون الخطاب. بما هو استفزاز المرتكزات لنيل المراتب وتزعم حركة التحديث. فحيث لا يمكن التسليم بنموذج الآخر بأنه تكامل حضاري لا يمكن أن نعطي أي مصداقية لهذا النمط من التحرُّك؛ بل إنه من المهم في حاضرنا أن ندفنه حيث لا عودة له.
وبالعودة إلى تعرجات المعالجة الدقيقة لمشكلات "الاستقامة" فإن رسائل النص العربي لم تجارِ بعد الفكر المفتوح الذي لا يضع نفسه في مشكلة مع المقدس ولا مع التعاطي في موضوعات الآخر. إنّا بصدد الدعوة إلى نمط يملك مخارج استثنائية في المقاربة والحل يؤسس لوعي الفرد بذاته في ركب التحولات الكبرى ويخرجه في نفس الوقت من النسق العالمي المفروض عليه؛ أي خلق مدار موازي يُـمـَـكنه من التطلُّع واستشراف التباشير الـمُنقذة والـمُخرجة من القلق والاضطراب الذي يسكنه.
فمسألة اللاوعي لا تطرح فقط على مستوى المنطق الاعتيادي بل هي فراغ واسع يحيط بكل الأفراد بما فيهم هؤلاء الـمُتصنعين للغة التفكير فلم يتقرر بعد سبل الانزواء بالتفلسف نحو مدركات النزاع مع المعرفة أي ممارستها كنشاط ذهني وروحي ينادي للحقيقة وينزع نحو بناء استراتيجية لمناهضة مساع التغوّل واسترداد معالم الحكمة في تشخيص الأمراض المعرفية والتشوهات الفكرية التي طالت المجتمعات العربية.
وهذا الهجوم الذي أُدلي به ضد المتزعمين لحركة التفكير في الجغرافية العربية ليس لبروز جديد أو مخالفة لأجل المعارضة؛ وإنما الذي يَنظُر حال ما آل إليه الوضع يستفهم بشكل مباشر عدم قدرة هؤلاء في التأثير على العقل العربي بما أن أكثر من يسيطر عليه هو فكر الجماعات الشاذة تحت ألوية دينية مزيفة، أو تيارات غربية الفهم، أو منظمات عالمية الدعوة، وغيرها من صور إخضاع الفرد العربي وتلبيسه ما يبعثه على الهلاك والتحلل.
فهذا التراخي سمح بتجنيد آليات التوغل الشاذ لعدم وجود مقاومة جاهزة تصد حدَّة التأزم الجدلي بين الأطياف شائعة التداول بما ذكرت سابقا أو غيرها، فالفجوات المجودة تُنْبِئ بالمزيد من التفتيت لروح هذه المجتمعات في كل تجمع وفي كل عائلة حتىّ.
لقد مثلت المخططات الجاهزة مرحلة كبيرة من سنون الإنسان العربي الـمُقولب ومعه المؤدلج وحان الوقت لرفض الانتماء لأنماط وحقول الرَّسم الحضاري العالمي. لأنه صار بالإمكان التغلب على ضعف وخنوع المفكر العربي المزيف بما أن هناك صور وعي جزئية بدأ في تحريكها جيل الصد والرّد والذي لم يقتنع بأن يبقى تحت وصاية المنظور الـمُقدم له، إنه يدعو للانقلاب على التلاعبات التي يحسنُّها هؤلاء المفكرين بالكلمات والحروف، ويدعو إلى توليد مراجعات حقيقية لتاريخه ومصير ما انتهى إليه عِوض الاستسلام والتصديق بما حاولوا اقناعه به، وهذا هو الطريق نحو تصويب مساره وضرورة خلق مسالك مختلفة يعلو بها حضاريا.