يقول جيل دولوز "بأن الحقيقة تنقدح في مواجهة صعبة بيننا وبين الأشياء التي تكرهنا على التفكير والبحث عن الحقيقة". Proust et les signes
تمثل الحداثة نسقا معقدا من الظواهر التي يصعب تحديدها، ويتفق عدد من مفكري الحداثة مثل أدورنو Adorno وهوركايمر Horkheimer وفوكو Foucault بأن المجتمعات الحديثة بدات انطلاقتها في تخوم عام 1800، تحت تأثير مجموعة من التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية الواسعة ، وقد شكلت هذه التحولات العمق التاريخي للتفكير الحديث الذي نعيشه في المرحلة المعاصرة. لقد احتضن القرن التاسع عشر عالما استنفر طاقته الكلية في البحث عن الدلالات والمعاني الكونية للعقل الغربي الذي فرض نفسه في كل مناحي الوجود وجوانب الحياة الإنسانية. وقد تجلت غاية هذا العقل في صورة إنسانية تهدف إلى تحرير الإنسان والإنسانية من كل أشكال العبودية والقهر ، ولكنه ما لبس أن وظف لاحقا كأداة لترسيخ كل أشكال العبودية والمظالم والقهر الذي استطاع أن يسحق روح الإنسان ويحطم أحلامه وأمنياته.
يتحدث أدورنو في هذا السياق عن التطور الذي شهدته المجتمعات الغربية بوصفه قوة تكنولوجية فرضت نفسها كأيديولوجية للهيمنة على المجتمعات الإنسانية مع بداية القرن التاسع عشر، وقد شكلت هذه القوة تدريجيا موضوعا لنقد المفكرين منذ لحظة تشكلها وتكونها تاريخيا. وقد أخذت هذه الانتقادات للمجتمعات الحديثة صيغا مختلفة ومتناقضة عند المفكرين والباحثين: لقد وصفها البعض بأنها "سوق رأسمالية"، ورأى فيها بعض آخر انتصار للتكنولوجيا والميديا، بينما رأى فيها آخرون تجسيدا للمجتمعات الشمولية. ويرى ميشيل فوكو في هذا السياق أن المجتمعات الحداثية تتميز بهيمنة شاملة "لمؤسسات الضبط والرقابة التي تطورت على إيقاع التطور الذي شهدته العلوم الإنسانية في المرحلة الراهنة[1].
ومن صلب هذه التصورات النقدية للحداثة اتجه عدد من المفكرين لرفض لمبدأ الاعتقاد بعقلانية العالم، ورفض الاعتقاد بأن الأحداث التي تحدث ناجمة عن عقل كلي يمتلك القوة والاقتدار، ووفقا لهذا التصور فإن الحداثة ستكون نوعا من المسائلة حول الحداثة نفسها كحداثة لما بعد الحداثة نفسها، وهي مساءلة تجعلها وكأنها شيئا آخر غير هذا الذي تزعمه، أي: بوصفها أداة لتحرير الإنسان باستحضار عقل كلي وتجسيده في مسار الحياة الإنسانية عبر التاريخ.
نهاية الأساطير
تمثل الحداثة في جوهرها نهاية للأساطير الكبرى " La fin des grands récits " كما يقول جان فرنسوا ليوتارد Jean-françois Lyotard. أي نهاية الأساطير الشمولية التي أسس لها الإنجيل ورسخها في عقائد إيمانية مطلقة وشاملة كما هي أساطير الصليبيين، ومنها الأساطير التي تتعلق بتحرير الإنسان وكرامته. ويمكن التأريخ لبداية أساطير التحرير الإنساني بالمعرفة والعقل مع كومينيوس مع كتابه فن التعليم العظيم Grande Didactique،أو مع موسوعة ألامبير وديدرو[2] في القرن الثامن عشر.، وقد ترسخ الاعتقاد آنذاك بإمكانية السيطرة على العالم بقوة العقل كما بقدرة الفعل الإنساني نفسه.
إن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه منذ قرن من الزمن والذي يشكل جوهر الحداثة ذاتها يتمثل في الإشكالية التي يطرحها فرانسوا ليوتارد بطريقة راديكالية متسائلا: هل يمكننا أن نقوم بتنسيق هذا الركام الهائل من الأحداث الإنسانية وغير الإنسانية وفقا لفكرة إنسانية تاريخية محددة واضحة المعالم؟([3]) لقد ارتسمت الأفكار والأفعال في القرنين التاسع عشر والعشرين تحت عنوان التحرير الإنساني. ومما لاشك فيه أن هذا التحرير قد حدث وانتظم بصورة مختلفة وفقا لما يسميه فلاسفة التاريخ بالأيديولوجيات الكبرى التي عملت على تنظيم الأحداث وتوجيهها، على غرار الفكرة المسيحية القائلة بالخلاص من الخطيئة الآدمية عبر الحب والتسامح، وفكرة تحرير الإنسانية من الجهل والعبودية عبر المعرفة والعلم والمساواة، وفكرة الخلاص الماركسي عبر نضال الطبقات والثورة البروليتارية، حيث تعلن الماركسية بضرورة تحرير الإنسانية من الفقر والفاقة عبر التطور التقاني للصناعة ورأس المال. ومن البداهة هنا القول بأن هذه الأيديولوجيات عاشت حالة اختلاف وصراع وصل إلى حد نشوب الحروب الأهلية والقومية، ومع ذلك فإن هذه الأيديولوجيات جميعها تقوم بتنظيم المعطيات والأحداث وفقا لمنطقها الخاص ونزعتها الأيديولوجية التاريخية المحددة تحت عنوان الحرية الإنسانية الشاملة التي تشمل المجتمع الإنسانمي برمته.
ازدواجية المعرفة
شكلت ازدواجية العلم متركزا بنيويا في الحداثة، ولم تكن هذه الازدواجية واضحة على مدى قرنين من الزمن. فالناس كانوا يرددون دائما بأن العلم من غير ضمير ليس إلا تدميرا للروح، ومع ذلك وبالمقابل كانوا يجهلون الدلالة الكامنة في دلالة العلاقة بين الضمير والعلم. فالعلم كما نعرفه هو الأداة التي تمكن الإنسان من التنبؤ والاستكشاف والاستباق، هو الأداة التي تجعلنا أكثر قدرة على الاستفادة من تجاربنا وتجنب الأخطاء التي وقعنا فيها، وهذا يعني أن العلم وفقا لهذه الصيغة هو أداة للحرية، إذ أنه من الواضح هنا بالنسبة لنا أننا قد تعلمنا بمشقة كيف نقوم بتنظيم البيئة التي تمكننا من العيش فيها رغم تحولات الطقس ودون الاعتماد على الأحوال الجوية، وكيف نقوم بالتواصل مع الآخر بكل ثقة وإيمان، والعلم يعني لنا ايضا التحرر من الألم أي من ألم الجسد ونلجأ إلى الطب بكل ما ينطوي عليه من خلاص إنساني. ومع ذلك كله فنحن نعلم اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن التقدم العلمي والتكنولوجي قد امتطى صهوة الحرب وجعلها إمكانية متاحة، وهذا التقدم العلمي عمق التفاوت الطبقي بين الناس كما عمق هذا التباين الرهيب بين الشمال والجنوب، حيث تمركز الغنى في الشمال وتمحور الفقر المدقع في الجنوب، فالبطالة والفقر اليوم يقفان لنا على الأبواب، والعطالة الثقافية بدأت بقوة مع أزمة التربية والتعليم في أكثر الدول الفقيرة والنامية، وما نعنيه هنا بأزمة التربية عملية تحويل المعرفة بعيدا عن عملية تقدم الإنسانية[4].
في علاقتناالمعقدة والمؤلمة مع العلم غالبا ما نمتلك الأمل ونعاني من الألم، وفي دورة الأمل والألم غالبا ما نشعر بأن هناك أمورا خفية تمنع استمرار المشروع الحداثي لتحرير الإنسانية عبر المعرفة. والأمر الذي يجعل الأشياء أكثر تعقيدا، ونحن ندرك ذلك، بأن المشروع الحداثي لتحرير الإنسانية لن يتراجع أبدا، حيث لا يمكن أن يكون هناك أي تراجع في مجال المعرفة والمعارف العلمية التطبيقية. إن ما تكتشفه العلوم والإبستيمولوجية الحديثة أن التقدم التكنولوجي والعلمي لا يمكنه أن يلبي حاجات الإنسان بصورة نهائية، وأن التكنولوجيا تؤدي إلى خير الإنسان وبؤسه في آن واحد، وهناك اليوم ما يدعو إلى الشك بأن التاريخ الإنساني يسير إلى الأفضل وهناك من يعتقد بأن الأسوأ قادم على دروب هذا التطور.
وتأسيسا على هذا التصور فإن كل شئ في عالمنا الفكري يوضع في قفص الاتهام ويخضع للنقد: مشروع التنوير، عقلانية الغرب، والعقائد الدينية نفسها، وحتى مفهوم الله كما يتجلى في عقل المؤمن حيث يكون الاعتقاد بأن الله يتركنا نفعل ما نشاء، وهل يعقل أن يترك الله للإنسان مشيئة أن يفعل ما يشاء أليس الله هو القدرة الكلية للكون والوجود؟ وهل يمكن للمرء أن يتخلى عن فكرة تتميز بقدرتها الهائلة على الاستقرار في عقل المؤمن. وهذا النقد يشمل أيضا صورة الإنسان نفسه والأمل الذي وضعه الإنسان في إمكانية بناء إنسان يتميز بمواصفات القدرة على تعزيز القيمة الإنسانية نفسها، والأمل في تجاوز حدود العنف، وهذه الرؤى الانتقادية تضع المشروع الحداثي برمته في دائرة النقد وإعادة النظر.
العقلانية
وفي هذا السياق يتناول ميشال هنري Michel Henri في كتابه "البربرية La Barbarie " مسألة العقلانية الأخلاقية حيث يتناول عقيدة أفلاطون القائلة بأن: "المعرفة تؤدي إلى الخير الذي يبدع الجمال في الوقت الذي يقوم فيه المقدس بإضاءة كل الأشياء"، فيقوم بتفنيد هذا التصور ونقده. لقد خبرنا وعاشت الحداثة الأمل بأن المعرفة تؤدي إلى الخير وإن الخير ينتج الجمال وأن المقدس ينير دروب الأشياء جميعا.
وهنا يمكن طرح السؤال التالي: هل يمكن للإنسانية أن تنهج بطريقة أخرى؟ أي هل يمكن للمعرفة أن تؤدي إل الخير والخير الإنساني فحسب؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف لنا أن نفهم التجربة التاريخية الضارية للغرب وهي الأكثر حضورا في الوعي وفي التجربة الإنسانية: الشعوب الغربية الأكثر تحضرا وتثقيفا في العالم هي الشعوب التي ارتكبت أكثر الأفعال همجية وبربرية وجنونا في التاريخ ! وهنا يجب علينا أن نعي هذه الحقيقة المؤلمة المرّة.
الثقافة والعقلانية الأخلاقية
نحن نعرف جيدا أن الجلادين يمكنهم أن يكونوا عشاقا لموسيقا باخ وبيتهوفن وهذا ليس من قبيل الإدهاش. وهذا يعني أن يكون الإنسان قادرا على التماهي بالإنجازات الفكرية العظيمة للإنسانية في مجال الأدب والفن ومختلف أشكال التعبير الإنساني فإن ذلك كله لا يمنعه من اقتراف أبشع الجرائم الإنسانية وضد الإنسانية. ونحن لا نعلم اليوم كيف تعجز الأشكال العليا من الثقافة عن منع الإنسان من السقوط في مستنقع العنف والجريمة وهي المعنية في الأصل بحمايتنا من البربرية والهمجية التي شابت كثيرا مراحل التاريخ الإنساني. فالثقافة الأخلاقية عانت كثيرا من الإخفاقات ومنها إخفاق مبدأ العقلانية الأخلاقية وسقوط الكوجيتو الكانطي المتمثل في الكمال الأخلاقي الكوني وفقا لقاعدة الكلية التي تقول " اعمل دائما بحيث تستطيع أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليا شبيها بقانون الطبيعة". ففي زمن الحرب على سبييل المثال هل يجب على المحارب أن يترك ساح المعركة؟ ومع أن ذلك قد يبدو مرغوبا حيث يمكن للحرب أن تتوقف إذا امتنع الجميع عنها، ولكن ومع الأسف فإن هناك من يتشبث بها فيجعل من الاحتراب ضرورة أو شرا لا بد منه كي لا تقع البلاد بأيدي الغزاة والطغاة[5].
من الخصوصية إلى الكونية
هناك شعور واضح اليوم بأن العالمية تنضوي على أشياء كثيرة سلبية لم تؤخذ بعين الاعتبار، وهذا ما أكدته الحروب الاستعمارية حيث تأخذ هذه العالمية الحداثية الداعية إلى حرية الإنسان من حيث الشكل صورة الأداة التي يستخدمها الإنسان الأبيض لفرض إرادته وسلطته على الشعوب الأخرى.
وهذا كله يجعل من مفهوم العالمية موضوعا للتساؤل ولاسيما فيما يتعلق بسمتي التحرير أو الاستعباد، وتتجلى هذه الازدواجية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث تتضمن المقدمة هذه المفارقة بين العالمية والخصوصية، فالمقدمة أي مقدمة الإعلان عالمية ولكنها تعلم باسم الشعب الفرنسي. وهنا يمكن الإشارة إلى تطرح نفسها باستمرار: ما مصدر شرعية السلطة؟ حيث بجيب الجميع بأن الشعب هو مصدرها بالتأكيد. ولكن من هو الشعب؟ حيث نجد أن تعددا في الإجابة واختلافا كبيرا في تقديم تصور واضح عن الشعب. وهنا نجد تفسيرا للحروب الأهلية التي تندلع بين الشعوب، وهذه الحروب التي تقوم بين ألأخوة تكون أخطر الحروب وأشرسها على الإطلاق. وفي هذا السايق يقول جان فرانسوا ليوتارد " لماذا يأخذ التأكيد على الجانب العالمي إذا كانت من يعلتها قوة محلية (مثل الشعب الفرنسي)؟ فالكانتيون (أتباع كانط) يعتقدون أن كل حقيقة جزئية خاصة تتناقض مع الحقيقة العامة، والحل يكون في تسييد مبدأ العالمية وفقا لمبدأ العقل. والسؤال هنا هل يكون فرض العالمية أمرا مشروعا؟
الحداثة التربوية:
تتمثل الحداثة التربوية في نسق من الشعارات تتمثل في قولنا للأطفال سنعلمكم، وللنساء سنحرركن، وللناس سنرسخ لكم السلام. والحداثة التربوية كما تعلن نفسها راسخة الحضور في المجتمعات الغربية ويمكن الاستدلال على حضورها عبر نسق من المؤشرات البسيطة. أولها وأكثرها تواترا وحضورا مؤشر الديمقراطية التربوية الذي يفرض نفسه ضرورة تنأى عن التحقق، إنه يفرض نفسه عبر الطلب الاجتماعي المكثف على التعليم، وهو في الوقت نفسه يبدو مستحيل التحقيق لأن حصول الجميع على النجاح المدرسي وفقا للمعايير الديمقراطية المطلوبة سيفرغ الشهادات العلمية والمدرسية من قيمتها ومعناها ولا سيما في سوق العمل وفي مجال الحياة الاجتماعية. وفي هذا السياق سبق لبيرنار شارلو أحد المفكرين الفرنسيين القول " لم يكن الإخفاق المدرسي في يوم من الأيام مشكلة بل كان دائما وأبدا هو الحل لمسألة الاصطفاء التربوي، وهو حلّ ياخذ مكان الحلول السابقة التي تمثلت في مسألة الإرث والاصطفاء الطبيعي. وهنا وفقا لهذا التصور سيجد المربون والمعلمون أنفسهم إزاء معضلة ثنائية التكوين متناقضة البنيان: فالكثير من النجاح يعني تغييبا للنجاح ذاته، وفي الوقت نفسه إذا كان النجاح قليلا فإن ذلك قد يعني إخفاقا في نشاط المؤسسة المدرسية ذاتها وإخفاقا لجهود المربين أنفسهم في عملية التعليم. فهذه الديمقراطية التي تفرض نفسها وتمتنع عن التحقق أو بعبارة أخرة هذه الديمقراطية التي تقتضي الضرورة حضورها وغيابها في آن واحد، الديمقراطية المطلوبة وغير الممكنة تشكل منطلقا للقطيعة بين الأجيال المتلاحقة. وهنا يمكن التعبير عن هذه الوضعية بلغة إدكار بو حيث يقول بأن المعارف تتجدد بدرجة أكثر تسارعا وتراكما من تجدد الأجيال المتلاحقة. وهذا يعني أن المسافة الثقافية بين الأجيال تتسع ما بين جيل وآخر، فعلى سبيل المثال يجب أن تكون المسافة الثقافية التي تميّزني عن والدي ليست كبيرة ولكنها ستكون أكبر عندما يتعلق الأمر بالمسافة التي تفصل بيني وبين أبنائي في المستقبل. وهذا يعني أن الهوة الثقافية بين الأجيال تميل إلى الاتساع والتراكم تدريحيا عبر الأجيال. وهذا يتم عبر عملية الانتقال الثقافي التي تتم وفقا لعملية الفقدان المستمر للقيم التقليدية التي كانت سائدة بين الأجيال السابقة والتي تخضع لمبدأ الفائدة والفاعلية [6] .
وفي هذا السياق نجد إشارات حول هذه المسألة لدى حنا أرندت Hanna Arendt ولاسيما في كتابها "شرط الإنسان المعاصر " Condition de l'Homme moderne حيث تلمح بأن الحياة والموت يفترضان عالما يتميز بالحركة المستمرة، وبالتالي فإن الاستمرارية تفترض أيضا وجود عالم سابق على وجود الفرد ومستمر في الوجود بعد فنائه. فالعائلة عندما تستمر وفقا لمعايير التطور الجارية فإنها ستكون مجرد اجتماع أفراد يستخدمون الثلاجة التي توجد في المطبخ، فلم تعد العائلة هذا الكيان الذي يجتمع أفراده لمشاهدة التلفزيون حيث يوجد تلفزيون في كل غرفة من غرف المنزل، وليست هي العائلة التي تشترك في هموم وتطلعات واحدة، فلكل فرد فيها همومه وتطلعاته، كما أن أفرادها لا يتناولون وجبة واحدة في وقت واحد كما كانت العائلة تجتمع حول مائدة واحدة فلكل وجبته وأفضلياته، وهذا التغير يدعونا إلى التحسف على عالم مضى كانت فيه الروابط بين أفراد الأسرة على أشدها وبين الناس في أفضل حالاتها الإنسانية. هذا التفكك يجري أما أعيننا ونحن حتى لا نستطيع أن نكبح جماحه أو أن نوقف عجلاته. فعلماء الاجتماع يلاحظون اليوم تردي العلاقة بين الأجيال المتعاقبة كما يلاحظون أيضا أن العلاقات الثقافية والإنسانية بين هذه الأجيال تتم بطريقة معقدة وصعبة. وبصورة تفصيلية يلمح علماء الاجتماع إلى تآكل النسيج الاجتماعي بين الأجيال والشباب وغياب مفاهيم التقارب وتلاشي الشخصيات العائلية التي كانت آيام زمان مثل العم والخال والجد، وتنامي القطيعة بين عالمي الكبار والصغار، وغياب المربين المتطوعين الذين كانوا يساعدون الأطفال في عملية الانتقال بين عالم وآخر، وهذا كله يضعنا في مشهد ثقافتين متناقضتين متباعدتين تجهل إحداهما الأخرى. وبما أن كل ثقافة تجهل الأخرى فهذا يعني وجود علاقات متدنية وضعيفة بين عالمي الصغار والكبار.
فعنما ينقطع الحوار بين الأجيال فإن العلاقات بين الناس تتحول إلى علاقات نفعية وأداتية كما يرى آلان توران Alain Touraine، وكما يؤكد فرانسوا دوبيه François DUBET، فإن هذه العلاقة النفعية الأداتية تتجسد في المدرسة بصورة واضحة، حيث يكون شعار التلميذ في علاقته بالمعلم: سأعطيك بعضا من ساعات عمري فأعطني بعض الدرجات، اعطني شهادة في نهاية العام الدراسي لأن مثل هذه الشهادة ستسمح لي بالحصول على شهادات أعلى وعلى عمل في المستقبل، ولذلك فأنا هنا أناقش وأحاور وا,ساوم. لقد تعلم الأطفال والشباب أن يساوموا آباءهم حيث يقول الأب لابنه: إذا بقيت في المنزل فإنني سأزيد لك مصروفك اليومي وإذا خرجت فإنني سانقص لك منحتك اليومية. ونلاحظ اليوم أن هذه العلاقة السوقية قائمة وسارية المفعول في مختلف أوجه حياتنا التربوية في علاقتنا مع الأطفال ومع أنائنا وتلامذتنا. وهذا كله يعني أن المعارف قد اختزلت إلى أبعادها النفعية والمدرسية وهي ترتبط اليوم بمخطط مدرسي يعده التلاميذ الذين يحظون بتشجيع أبنائهم.
لقد خصص كورنيلوس كاستورياديه Cornélius Castoriadis فصلا كاملا من كتابه المعنون " صعود اللامعنى " La montée de l'insignifiance لدراسة هذه الظاهرة النفعية في المدرسة حيث يقول " فالسر هنا لا أحد يتفوه به: لا الشباب ولا الصغار ولا الراشدون يهتمون بما يجري في المدرسة. فالتربية لا تقوم بتنمية الشخصية كما كانت سابقا بل تحولت إلى عبء ومصدر رزق للمعلمين وإلى معاناة قاسية مزعجة بالنسبة للتلاميذ "([7]).
لقد أصبحت هذه النزعة النفعية الأداتية في العلاقات بين الأجيال اليوم في منتهى الوضوح، وهذا يتساوق مع كل مظاهر الفوضى والعدمية، ومما لا شك فيه أن هذه العلاقات العدمية ليست جديدة كل الجدة فمنذ مئة عام استخدمت الدولة العنف للسيطرة على العنف الذي اندلع في بعض المدارس الفرنسية الثانوية، واليوم يشكل العنف لسان حال المدارس والمؤسسات المدرسية، ويكفي اليوم لمجموعة صغيرة من الطلاب المتمردين الذين يمارسون العنف لجعل الحياة المدرسية صعبة ومعقدة في داخل الصف أو في داخل المدرسة، أو على الأقل لتعطيل مسار العملية التربوية الطبيعية. ومما لا شك فيه أن تمرد الطلاب أصبح اليوم ظاهرة اجتماعية تجري أحداثه خارج المدرسة كما هو الحال في داخلها. فبعض الأطفال العدوانيين في بعض المدارس لا يستطيعون التوقف عن ممارسة رغباتهم حتى في داخل الصفوف والقاعات، إنهم يخرجون من الصف من أجل شرب الماء ومن ثم يعودون بعد نصف ساعة بعد أن يكونوا قد قاموا بعدة أشكال من العنف الذي يمارس ضد المقتنيات المادية للمدرسة والطلاب. وهؤلاء الأطفال العدوانيون لا يستطيعون حتى فهم ما يقال لهم وذلك لأنهم لا يملكون أية أداة للتفاهم والتواصل مع الآخرين. وهذا يدعونا إلى طرح التساؤل نفسه الذي طرحه بستالوتزي منذ زمن بعيد: كيف يمكن التواصل عقليا مع طفل يفتقد إلى العقل والتفكير العقلاني؟ وكم هو عدد المعلمين الذين ينهكون أنفسهم في إقناع الشباب والطلاب وهدايتهم إلى الصراط المستقيم دون أن يلحظوا أن هؤلاء الشباب لا يمتلكون الحد الأدنى من القدرة العقلية على الفهم والتفكير؟ إنهم في عالم آخر يختلف عن العالم العقلاني والرمزي الذي ننتمي إليه، إنهم يعيشون في عالم خيالي حيث كل شئ يبدو لهم ممكنا وقابلا للتحقيق. وتحت تاثير هذا العالم المتخيل ينمي هؤلاء الشباب سلوكا عدميا فوضويا يتسم بالعنف والعدوانية والانحراف ويسلكون في سبيل تحقيق أهدافهم كل سبيل ممكن وكل درب مخيفة. فالمعرفة لم تعد تستثمر كما يفترض وكما يجب أن تكون بل توظف كأداة في تحقيق النجاح المدرسي والنجاح فحسب.
وإنه لمن التراجيدي في حقيقة الأمر ان ينخفض الوعي التربوي عند الطلاب إلى درجة يتصور فيها بعد الطلاب بأن مادة الرياضيات قد أعدها المدرسون والخبراء التربويون من أجل اصطفاء الطلاب إلى الصفوف العليا، فالرياضيات وغيرها من المواد تحتل مكانها في عقول كثير من التلامذة والطلاب بأنها وسائل اصطفائية وتمارين معدة مسبقا لأجل اصطفاء التلاميذ مدرسيا وتربويا حيث يمكن لبعضهم أمن ينجح وبعضهم الآخر أن يخفق مدرسيا. وهم بالتالي لا يمتلكون أية فكرة حقيقية عن أهمية الرياضيات في عملية بناء العقل والمعرفة الإنسانية في مختلف وجوهها ومناحيها. فالرياضيات كما تقع في تصورهم هي مجرد أداة تسمح لبعضهم بالنجاح وللبعض الآخر بالإخفاق والرسوب في المدرسة، وهي علم ينفصل كما يعتقدون عن أية غاية علمية حية ترتبط بالحياة والوجود. وهذا يبرر لهم السلوك الأداتي والنفعي الذي يسود في المؤسسات المدرسية والتربوية. ويمكن القول في هذا الخصوص بأن السلوك الفوضوي أصبح واضحا، حيث يتم الإعلان غالبا عن انحراف الشباب في الضواحي والمدن، وهذا الانحراف يعمل وظيفيا على تقليص الثقافة واختزالها إلى مستوياتها النفعية والأداتية المباشرة.
وفي عمق التفاعلات التربوية لهذه الثقافة بدأ المعلمون يشعرون بضرورة تقديم التربية بأبعادها الثقافية على التعليم، وهنا يمكن الاستفادة من الشعار الذي رسمه أفلاطون والذي على مدخل أكاديميته: " لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا"، بصياغة شعار آخر مماثل: "لا يدخل إلى هذه المدرسة من لم يحظ بالتربية مسبقا " وهذا يعني أنه يجب على المرء أن يكون متعلما ومثقفا ويقظا ومؤدبا قبل دخوله إلى المدرسة، وأن يكون مهذبا يقظا عارفا قادرا على احترام المعلم وأن ينظر إليه باستحياء واحترام. فعندما ندخل إلى مدارس اليوم نشعر بأن المتعلمين يفتقرون إلى التربية والمربي هنا يتوجب عليه أن يقوم بمهمة التربية والتعليم في آن واحد.
وإذا كان المربي معني بعملية صقل شخصية المتعلم وتعليمه فإن يجب علينا في هذا السياق أن نعرف مفهوم المربي من أجل إزالة الغموض الذي يحيط به حيث يجب التمييز بين المربي والمعلم في بداية أية محاولة لتعريف مفهوم المربي. فالمربي هو الذي يعني ببث ثقافة أخلاقية ووجدانية وعملية عند المتعلم، أما المعلم فهو الذي يبث المعرفة ويعلم الأطفال وفقا لمنطق اكتساب المعرفة وآلياته المعروفة. ويمكن في هذا السياق التمييز بين المعلم والمربي وفقا للمثال التالي: المربي هو الذي يساعد الطفل التلميذ على حمل حقيبته، وضمان أمن التلميذ في الشارع، وحمايته أيضا من أي خطر محتمل في داخل المدرسة وخارجها، ولاسيما المخاطر الأخلاقية والقيمية، أنه ذلك الشخص الذي يحمي الأطفال من العنف ويسهر على راحتهم ويحرص على تكوينهم أخلاقيا وإنسانيا.
وقد حظي المربي باهتمام واحترام متزايد عبر المراحل التاريخية. ففي المرحلة الرومانية والإغريقية أيضا كانت مهمة التربية موزعة بين الوالدين والمعلمين، ولم يكن المربي يفارق الطفل حتى أنه كان يتوجب عليه أن يرافقه حتى المنزل، وكان ينتظر من المربي حتى أن يساعد التلميذ في كتابة واجباته ووظائفه، كما كان يقوم بمساعدة تلميذه على حفظ دروسه، ولكن في مستوى التعليم والمعرفة العلمية فكان الأمر منوطا بالمعلم. ووفقا لهذا التصور كان المربي يمهد لعمل المعلم ويجعل التلميذ في حالة تأهب لاستقبال المعرفة والتعليم في المدرسة. وهذا يعني أن المعلم لا يمتلك القدرة الكافية على أداء عمله من غير مساعدة المربي الذي يشكل وجوده شرط الضرورة من أجل النهوض بالتلميذ والمتربي عموما. وهذا ما يذكرنا به بستالوتزي Pestalozzi في كثير من وصاياه وأعماله. فالتعليم هو منهج وطريقة تعمل على تمرين القدرات العقلية بصورة عامة التي تتصل بالانتباه والفهم والتحليل والتذكر وإصدار الأحكام ومن ثم اكتساب المعلومات والمعارف الضرورية. ووفقا لهذه الوظيفة فإن المعلم لا يمكنه أن يتجاوز المربي أو أن يتجاهله علما بأن المعلم غالبا ما كان يعمل على تجاوز هذا الدور والقيام بدور المربي.
الحداثة التربوية: محاصرة الأخطاء بالسيطرة.
في هذا المسار يمكن القول بأن التحاق أفواج كبيرة من الأطفال بالمدرسة دون أن يكون لديهم اية تربية أو رعاية تربوية مسبقة يشكلون وضعا دراماتيا في النسق التربوي للمدرسة. ومن أجل مواجهة هذه الوضعية فإن الحداثة التربوية تقوم بتطوير استراتيجيات احتواء ولكن هذه الاستراتيجيات تفتقر غالبا إلى الفعالية. وهنا يترتب علينا الخوض في رؤيا روسو التربوية، ففي الكتاب الثاني من إميل نجد نصا رائعا حول عملية تحويل إميل وجعله كائنا آخر مختلفا تماما، لقد كتب يقول " فالطفل لا يجب عليه أن يفعل إلا ما يرغب به المربي، ولكن لا يجب على الطفل أن يرغب ويريد ما يريده المعلم". ويتمثل دهاء روسو هنا في صورة مفارقة: فالطفل لا يستطيع أن يحدد ويختار ما يجب أن يتعلمه، وفي الوقت نفسه فإن الطفل لن يتطور وينمو إلا إذا تعلم بعض الأشياء التي تناسبه بصورة فردية وشخصية، اي يما يتوافق مع طبيعته الخاصة. وهذا يعني أنه لا يجب ممارسة التأثير في ذات الطفل مباشرة بل في الوضعية التربوية التي تحيط به. والمربي هنا هو المعني بالتحضير لمختلف الوضعيات التربوية الممكنة حيث يترك للطفل حرية السلوك في حدود الوضعية المتاحة والمحددة مسبقا من قبل المربي نفسه، وهذا يعني أن نعطي للطفل مطلق الحرية وبدون أي إكراه يمارس عليه في ممارسة الوضعية التي يجد نفسه في داخلها.
ويمكن لنا القول في هذا السياق بأن علم النفس التربوي برمته، ولاسيما علم النفس التربوي السويسري وعلى رأسهم كلاباريد Claparede، يستلهم فكرة فكرة روسو وشعاره التربوي المشهور في التربية الطبيعية الحرة. لقد أشار كلابارايد في خطابه عام 1912، بمناسبة تدشين معهد العلوم التربوية، بأن جان جاك روسو قد نجح في التأسيس لعلم النفس التربوي، وأن تطور شروط النمو التربوي للطفل يوجد في أصل علم النفس التربوي معلنا بأن عملية تعليم الطفل يجب أن تقوم على أساس طبيعته الإنسانية وحريته الفردية في مناخ لا يواجه فيه قهرا وتسلطا أيا كان نوعه. وقد تمثلت فكرة روسو العبقرية في ظهور مفهوم التربية بالمشكلات Situations-problèmes وهي وضعية يترتب فيها على الطفل تطوير ذكائه للخروج من دائرة هذه الوضعيات الإشكالية والتكيف معها، كما ساهمت آراء روسو في ظهور التربية بالمشروع Pédagogies de projet والتربية بالتفاعل والتعاقب Pédagogie par alternance. وكل هذه الصيغ التربوية هي تجليات لفكرة الوضعية التربوية الحرة التي أسس لها جان جاك روسو في كتابه إميل.
لقد اكتشف اليوم كثير من المتخصصين في المناهج التربوية أن حيلة روسو قد أخفقت وأنها لم تعد قادرة على توجيه الحياة التربوية للتلاميذ، فإميل (الشخصية الرئيسة في كتاب إميل التربوي لروسو) طفل صغير رائع يستفيد من دروس خاصة تتم بعناية وفي شروط تربوية مناسبة، وإميل هذا طفل وديع يطيع مربيه ويخضع لإرادته. ولكن هذا الطفل الوادع ضمن الشروط التي يتحدث عنها روسو في كتابه إميل لم يعد موجودا. فأطفال اليوم أطفال يتصفون بالعناذ والفوضى والمشاكة والرفض، وهم لا يقبلون الألعاب التي نختارها لهم والأشياء التي نحضرها لتحقيق نمائهم، ومع أننا نبذل كل الجهود في توفير الأفضل لهم في مختلف جوانب الحياة فإن هذا لا يفي بمتطلباتهم.
فالمربي يريد أن يبني إنسانا حقيقيا أي إنسانا موهوبا وحرا، ولكن ما قيمة المعرفة والثقافة التي يقتنيها عبد؟ إنه لمن الواضح أن ثقافة العبد لا معنى لها ولا قيمة لأنها تستوطن العبودية، ولا يمكن للعبودية أن تحتضن الثقافة والمعرفة حق الاحتضان، وبعبارة أخرى لن يكون للثقافة والمعرفة قيمة ما بقي حاملها تحت نير العبودية والشقاء. فالثقافة حرية وليس مكان للثقافة في العبد ما لم يصبح حرا [8] .
فالحداثة التربوية تتآكل في أنساق ايتوبية تكنوقراطية وهي في سياق ذلك لا تستطيع أن تدرك بأنها تشكل اليوم مصدرا للعنف الذي تزعم بأنها تحاربه. وهي في دورة العمل على تحقيق سيادتها توّلد في ذاتها النزعة إلى المقاومة والتمرد، حيث تشدد على صراع الإرادات في الوظائف الأساسية للمؤسسات التربوية، إنها تولد التصلب والتمرد كما تفعل فعلها في رفض المعارف التي تزعن أنها تبثها في مجال الثقافة والتربية.
[1] - Philippe MEIRIEU , Le pédagogue et les défis de la modernité, Colloque PESTALOZZI (9-11 juillet 1996)
[2] - Encyclopédie de d’Alembert et Diderot.
[3] - LYOTARD Jean-François, Le postmoderne expliqué aux enfants, Paris, Galilée, 1988,P 39,40.
[4] - Philippe MEIRIEU , Le pédagogue et les défis de la modernité, Ov.CITE
[5] - Philippe MEIRIEU , Le pédagogue et les défis de la modernité, Ov.CITE
[6] - Philippe MEIRIEU , Le pédagogue et les défis de la modernité, Ov.CITE
[7] - CASTORIADIS Cornélius , La montée del’insignifiance, Paris, Le Seuil, 1996, P 19.
[8] - Philippe MEIRIEU , Le pédagogue et les défis de la modernité, Ov.CITE