تجربة غريبة دفعني إليها صديقي الذي أوْقعَني أكثر من مرة في مَواقِفَ لم أكُنْ أُحسَد عليها، ولم أكُنْ أُجيدُ الخروجَ منها. هو زيرُ نساءٍ بامتياز، لذلك لا يُراعي أية حدود إذا تعلق الأمر بمغامرة ستُفضي به إلى ربط علاقات جديدة، أو حتى مجرد التملي بوجوه نسائية جميلة... يستطيع أن يبيع أي شيء، أن يبيع نفسه حتى، في سبيل الحصول على تلك اللحظة. من ذلك مثلا أنه كثيرا ما كان يتردد على الحي الذي أسكُنه، لأنه لمَح ذات مرة بعضَ جاراتي، فأُعجِب بهن، أو بإحداهن، خصوصا بعد أن فتح شَهِيتَهن للحديث معه، مُتذَرِّعًا بالسؤال عني. ضَبطتُه ذات صباح يحمل باقة كبيرة من الورود، ويقف على مقربة من الزقاق، يختلس النظر إلى الأبواب والنوافذ، في انتظار أن تفتح إحداهن الباب لِيُهديَها الباقة... ولما اسْتيْأَس من خروجهن تَقدَّمَ نحو أحد الأبواب ليَطرُقها، لولا أنني منعتُه، مخافة أن يَخرجَ الزوج فنصبحَ، جميعا، في مأزق... بصعوبة صرفتُه عن فكرته، فاكتفى بوضع الباقة على عتبةِ بابٍ من تلك الأبواب، ثم انصرفنا، وهو يُشيِّعها، آمِلا أن يَحظى، على الأقل، برؤية إحدى تلك الجارات، وهي تلتقط الورود، كي تَعلَمَ أنها هديةٌ منه هو بالذات...
أما في هذه المرة، فقد كنتُ على موعد معه، كي نجلس في أحد المقاهي الفاخرة بهذه المدينة الحديثة التي نزورها، بعيدا عن مدينتنا الصغيرة الهادئة، النائمة في أحضان مجدها العريق... تأخَّر بعضَ الوقت عن الموعد، وكان ذلك دَيْدَنَه في غالب الأحيان، إذْ لم يكن ذلك يَضيرُه في شيء، ولا يَجدُ فيه أدنى حرَج... فمَنْ يَعرفه جيدا يَعلَم أنّ مِن عاداته ألا يَحضُر في الوقت المضبوط، لأنه، وهو في الطريق إليه، قد تَلفِتُ انتباهَه فاتنةٌ فتُنسيه مواعيدَه، ويُلاحقها حتى تعودَ إلى بيتها، أو تضيعَ منه في الزحام، أو تُسْلِمَه لأخرى أشدَّ منها فتنةً... كثيرا ما دعوتُ له بالهداية، وبالشفاء من هذا الابتلاء الشديد، ولكن يبدو أن داءَه هذا توغّل في خلاياه، حتى بلغ مرحلة مَيْؤوسًا من شفائها... أخيرا حضر، وبرفقته صديق له... وسأعرف في ما بعد أن صديقه هذا هو الذي اقترح عليه المكانَ المفضّل لجلستنا هذا المساء. بدا، طول فترة الطريق، متحمِّسا لاكتشاف هذا المكان، بناءً على إغراءاتِ صديقه، الذي يعرف بالتأكيد نوع ابتلائه، فراهَن عليه، ليَضمَنَ موافقتَه بسهولة.
بدأ الليل يُرخي سدولَه على المدينة، حين وقفتْ بنا السيارة أمام مكان تَلمَع أضواؤه الزاهية... فاجأَتْني اللوحةُ المُضاءة بمصابيحَ ملوّنة، تومِض في سكون الليل، كأنها تَحجُب الصخب المُندفع من داخل المكان... أبديتُ نوعا من الاحتجاج على صديقي الذي يبدو أنه سيُوَرِّطني معه في الدخول إلى مرقص ليلي، يَغصّ بالسكارى وبِبَنات الهوى... امتنعتُ عن الدخول، وحَرَنْتُ مثل بغلٍ عَنيد... أقسَمَ صديقي بأغلظ الأيْمان أنه، أننا لن نشرب، ولن نَسكر، ولن نُعربِد، بل سنكتفي باستكشاف المكان، والاستمتاع برؤية مَن فيه من الحسناوات، ثم ننسحب بعد ذلك، كما دخلنا أولَ مرة، ونحن في كامل قوانا العقلية... بَقينا نتجادل أنا وإياه فترةً، بينما دَلَفَ صديقُه إلى الداخل بسرعة... يبدو أنه مُتعوِّد على المكان، ومن زبائنه الأوفياء... بعد فترة قصيرة عاد يُطِلُّ برأسه، مثل أفعى متربصة بفريستها، وهو يستَحِثنا على الدخول، بعد أن استطلع البضاعة الموجودة، فأٌقنَعَتْه بجودتها... كاد صديقي ينفجر غاضبا حين لمَس إصراري على عدم الدخول، دون أن يَكُفَّ عن الحَلِف... بل إن صوته تهَدَّج كأنه مُوشِكٌ على نَوبةِ بُكاء... ثم في لحظة من اللحظات لِنْتُ له، وأسلمتُ أمري لله، عفوا للشيطان، مبرِّرا إقدامي على الدخول إلى هذا المَرقَص، بمجرد الرغبة في الاكتشاف، ومعرفة حقيقة هؤلاء الرواد الذين قرأتُ عنهم في بعض الروايات، أو شاهدتُهم في بعض الأفلام... قلت في نفسي هي فرصة لأراهم رأْيَ العين، وأُشاهدَهم بلحمهم وشحمهم... كاد صديقي ينِطُّ من جِلده فرَحًا، وهو يَسحَبُني من يدي إلى الداخل... ابتسم لي العملاقُ الذي يحرس باب المَرقَص ابتسامة فيها الكثير من المكر والتشَفّي... في الداخل احتاجتْ عيناي إلى بعض الوقت لتتكيّفا مع الأضواء الخافتة التي تمنح المكانَ خصوصيةً مميَّزة... سُحُبٌ من الدخان الكثيف تُعانِق أشعّةَ المصابيح الباهتة التي تُوزِّعها في كل اتجاه... بينما موسيقى غربيَّة قوية تنبعث من مكبرات الصوت الهائجة والمبثوثة في أركان القاعة... لمَحتُ أجسادا تتلوّى في حركاتٍ طافِحة بالإغْواء، محاوِلةً الانسجام مع إيقاع الموسيقى الصاخبة...
أخيرا جلسنا إلى جانب طاولة فارغة... بُهِتَ النادلُ حين طلبتُ عصيرَ ليمون، واكتفى صديقي بقنينة ماء، حفاظا على حِمْيَتِه من داء السكري... لوى النادلُ بوزَه، ساخرا، ثم اختفى وسط الدخان... مُرافِقُنا الذي ذاب وسط موجةِ الرقص، يقترب منا حينا، ويجُرُّ صديقه من كفه، حينا آخر، ليُراقصَه أو يُراقصَ إحدى الغانيات... استغربتُ ثباتَه في مكانه، فأدركتُ أنه ما زال واقِعًا تحت تأثيرِ دَهْشةِ الداخل... أثار انتباهَنا معا رجلٌ مُسنٌّ لم يَمنعْه عمرُه المتقدم من الانصهار وسط جوقة الراقصين والراقصات... بدا عليه نشاطٌ كبير، وسعادةٌ قصوى وهو يُراقص فتاة في عمر بَناته، أو حفيداته... كانت ترتدي في الجزء السفلي من جسدها سروالا شفافا يُبدي بشكل صارخ ومستفِزّ فخذين مكتنزِتيْن، ورِدفيْن مستديريْن... وفي الجزء العلوي ترتدي قميصا قصيرا يَعتصِر نهديْن نافِريْن، ويَكشف في وسط البطن عن حُفرة صغيرة وعميقة هي السُّرَّة... يبدو أن الكشف عن هذه المنطقة بالذات من الجسد أصبح صرخة من صرخات هذا العصر لدى الفتيات...
لم أُعِرْ هذا الأمر كبيرَ اهتمام ، لولا أن العجوزَ المُتصابي الذي ظل يطارد تلك الحسناء، ويلتصق بها كلما وجد فرصة مواتية، قام بحركة جريئة أثارتني وأثارت صديقي الذي لاحظتُ أنه لم تُفارق عيناه حركاتِ ذلك المُتصابي... انفجر ضاحكا حين رأى الشيخ، وهو يقف وجها لوجه أمام البطن العاري، يستغل لحظة انتشاء الفتاة برقصتها، فيَغرِز سبّابتَه في سُرّتها، ويصيح بملء فيه الأدْرَد: "البوط... البوط"*... لم يَصدُر عن الحسناء أيُّ ردِّ فعل، كأنها تعيش في عالم آخر لا تدري هي نفسُها حدودَه... ويبدو أن تجاهلها لِما حدث شجّع الشيخَ على التمادي في حماقته، فبات يقتنص الفرص المواتية ليَغرِزَ سبّابتَه من جديد في الحفرة المُغرية، ويَصرخَ منتشيا: "البوط... البوط"... ظل شيخُنا مُمْتشِقًا سبّابتَه يَطعَن بها السرة كلما وجد الطريق إليها سالِكا، إلى أن أعيَتْه مطاردةُ فريسته، وأنهكه الطعنُ المتلاحق، فخَرَّ صريعًا على أول كرسي صادفه في ممشاه، وراح في غيبوبة أشبه بإغماءَةِ الانتشاءِ المطلق...
غطّتْ قصةُ هذا الطاعنِ في السن، الطاعنِ للسُّرَّة، على ما سواها من أحداثٍ في تلك الليلة، وأصبحتْ حديثَ مجالسِنا، كلما جمَعَتنا المصادفات، إلى أن غلبَتْ عليها أمور أخرى، فطمسَتها، وجعلتها تترسّبُ في قعر الذاكرة، حتى كادت تصبح نَسْيًا مَنسِيّا... ثم حدث أن طفت على السطح من جديد عندما قرأتُ رواية "حفلة التفاهة" لميلان كونديرا، فاستوقفَني ذلك الهوس لدى بطلها "آلان" بالسُّرَّة... إنه يتحدث بنوع من العشق الصوفي عن هذا "المكان" الذي ظل لقرون مُهْمَلا، إلى أن رُفِع عنه الستار فجأة، فاستحق الاهتمام. يقول "آلان" محاورا صديقه "رامون":
" – على جسد المرأة الإيروتيكي، ثمة بضعة أماكن ذهبية: ظننتُ دَومًا أنها توجد منها ثلاثة أمكنة: الفخذان، والردفان، والنهدان.
فكّر رامون وقال: لِمَ لا...
- ثم أدركتُ ذات يوم أنه يُمْكِنني أن أضيف إليها مكانا رابعا: السُّرَّة.
- وافق رامون بعد لحظةِ تفكير: أجل، ربما." **
بدا لي أن الشيخ يلتقي مع "آلان" في هذا الاستيهام الجنسي، بل إنه كان سبّاقا إلى اكتشاف الحمولة الإيروتيكية لهذا "المكان" المُهمّش من الجسد الأنثوي، فعاث فيه طعنًا بسبّابته، ومارس فيه شبَقَه المكبوت خِلسةً حينا، ثم جهارا وعُنوةً بعد ذلك... إنه يترجم ما قاله "آلان" بعده بعقود:
"... وسنعيش في أَلْفِيَّتِنا تحت شعار السُّرَّة. وتحت هذه العلامة، نحن جميعا جنود الجنس، نَرمُق بالنظرة ذاتها، ليس المرأة المحبوبة، وإنما الحفرة الصغيرة ذاتها وسط البطن التي تُمَثل معنى وحيدا وهدفا وحيدا ومستقبلا وحيدا لكل شهوة إيروتيكية." ***
لقد أيقظتْ هذه الحفرة الصغيرة، كما سمّاها "آلان"، ذكرى بعيدة في نفسه: ذكرى لقائه الأخير مع أمه، والتي كانت سببا في شغفه بلُغز السُّرَّة. لقاء لم يزد الشرخَ القائمَ في العلاقة المُلْتبِسة للأم مع ولدها إلا اتساعًا، منذ انفصالها عن والده بسببِ خلافٍ يتحمَّلان معا وِزْرَه، ثم اكتشف أنه، هو الطفل البريء، توَلّى كِبْرَه. لقد كانت تُصِرُّ على عدم الإنجاب، فجاء "آلان" ثمرة شهوة لم تستطع، هي ولا زوجُها، أن يُقاوِماها، ويَحولا دون بلوغ منتهاها... فكانت النتيجة أن ركِبَتْ عِنادَها فتخلَّتْ عن الزوج والولد كليْهما... وخلال زيارتها لهما في ذلك اللقاء الأخير ستَندلِعُ شرارةُ الشغَف الآسِر بالسُرَّة في نفس الطفل "آلان"، لِيُلازِمَه بقيةَ حياتِه...
"كان عمره عشر سنوات يومَذاك. وكان هو ووالده وحيديْن يُمضيان عطلة صيفية في فيلا مستأجَرة لها حديقة وحوضُ سباحة. وكانت المرةَ الأولى التي تأتي فيها لزيارتهما بعد غيابِ سنواتٍ عديدة. اختلَتْ بزوجها السابق في الفيلا... كم من الوقت بقيَتْ؟ ليس أكثر من ساعة أو ساعتين على الأرجح، حاول "آلان" خلالهما أن يتسلى وحيدا في حوض السباحة. خرج منه عندما توقَّفتْ لِوداعِه. كانت وحدها. ماذا قالا؟ لا يعرف. تَذكَّرَ فقط أنها كانت جالسة على كرسي في الحديقة، وأنه هو، بسروالِ السباحة الذي لا يزال مبلّلا، وقف مقابلها. ما قالاه بات طيَّ النسيان. لكنها لحظةٌ لا تُمحى من ذاكرته، لحظة ملموسة، ومحفورة بدقة: جالسة على كرسيها، تُحدِّق بإمعان في سُرَّة ولدِها. نظرة، ظل يَشعُر دومًا بها فوق بطنه. نظرة يَصعب فهمُها؛ بدت له مزيجا غامضا من العطف والازدراء؛ إذِ اتخذَتْ شفَتا الأم شكلَ ابتسامة (ابتسامة عطف وازدراء)، ثم مالت نحوه دون أن تنهض عن كرسيِّها، ولمستْ سُرَّتَه بسبّابتها. نهضت بعد ذلك مباشرة وقبَّلَته (هل قبّلته حقا؟ على الأرجح، لكنه ليس متأكدا من ذلك) وغادرتْ. ولم يَرَها ثانية قَطّ." ****
هل مسحتْ لَمستُها تلك آخرَ الآثار المتبقِّية من الحبل السُّرِّي الذي جمعهما حين كان جنينا في بطنها؟ وهل استأصَلتْ سبّابتُها كلَّ أواصر الدم ووشائج القربى التي ألَّفتْ بينهما؟ وما نوع الإحساس الذي انتابها حين احتكّتْ سبّابتُها بسُرَّة ولدِها؟ وكيف انتقل ذلك "المكان" من مَعبَرٍ للغِذاء، ومصدرٍ للحياة، إلى مكانٍ لالتماسِ اللذة وإنتاج الاستيهامات الجنسية؟ ذلك هو اللغز الذي حاول "آلان" أن يَجدَ له تفسيرا، دون أن يتمكَّن حقيقةً من بلوغه.
عَودًا إلى شَيخِ المَرقَص المتصابي، ستظل حركتُه تلك الليلة لُغزا مُحيِّرا كذلك. فلن أستطيع أنا، ولا صديقي، ولا مُرافِقُه أن نُدرك سِرَّ ارتباطه بالسُّرَّة، ولا الدافعَ إلى المجازفة باقتحام ذلك "المكان" الذي أثاره، دون غيره من الأمكنة الأخرى، في جسد تلك الفاتنة الحسناء.
* "البوط" بالعامية المغربية هو السُّرَّة.
** حفلة التفاهة: ميلان كونديرا – ت: معن عاقل – المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى – 2014 – ص. 102.
*** حفلة التفاهة: ص. 103.
**** حفلة التفاهة: ص. 38.
المصطفى السهلي