يتفق علماء السرد (Narratology) على أن اغلب قراء القصة القصيرة يشهدون بأن القص الجميل يمكن أن يصل إلى أعلى مراتب الفنون، وخاصة عندما يقبض موضوعها على هم إنساني كبير. فالقاص المجيد يطول بقلمه ما تطوله الفنون الأخرى، تقنية وإخراجا حيث يقود قصته شكلا ومضمونا لما تصل إليه تقنيات التكنولوجيا في السينما الحديثة، ويستطيع ان يحملها موسيقى هائلة، ويوقعها في نفس قارئه، وتظل تلازمه حتى وان انتهت القراءة فالنص الجميل سوف يبقى في الذهن يطارد قارئه، يمسك به لأجل أن يعود إليه مستدرجا اللذة إلى كمّها الأخير.. (فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأغلاط عليم، والقوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستمل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر- الجاحظ)، فإذ تتشكل كل مرة بمنظور جديد، وتعطي ذاتها كل مرة معاصرة لأحداث قد تنبأ النص بها، فالذهن يقارن اليوم وغداً، ويستشرف دائماً من خلال الإبداع، المهارة، والاستباق.. وقد اثبت المبدع (حسن كريم عاتي) في كتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافية (2007م)، الموسوم بـ(عزف منفرد) بان فن القصة يستطيع ان ينافس الفنون الأخرى، شكلا ومضمونا إن توافر على مادة شيقة قد تكامل فيها كل ما يؤشر لصالح الكتابة المبدعة، حيث جاءت القصص (ألاثني عشر) بلغة متينة ارتقت إلى التعدد في المعنى، لتقرأ أكثر من مرة بتمحيص بحثا عن الاكتشاف الممتع لما فيها من جهد أنساني رفيع يبشر بتأشير جليل على خريطة الإبداع العراقي المتمكن، فتبلورت في جملة جماليات مقتدرة أجادها القاص المتمكن من سرد استنبط الأسس التي قامت بعقلانية من خلال نظم واضحة التعبير حكمت نتاجه وتلقيه.. في قص يأخذ القارئ ليركب بحرا عظيم اللجّة متلاطم الأمواج، ما بين موت محدق، وحياة حرّة كريمة..قصة مواجهه ذئب جسور وأنثاه الشرسة.. بتحدّ هائل الوقع أتقن القاص تصويره بموضوعية حاسمة دقيقة التفصيل… فـ(القصة الأولى- ليل الذئاب) بدأت فيها أنثى الذئب بالعواء التواصل لأجل ذكرها المقتول في غارة على قطيع تعودا النهش فيه كل ليلة حدّ الفناء.. ذئبان قويا الشكيمة، هما اللذان شكلا خطرا بليغا على الإنسان، وكلبه، وقطيعه.. بعد أن تعودا على إهانة ملكيته، وهدر كرامته، صار الصراع حتميا لن ينتهي إلا بالفصل القائم بالسلاح المواجه بكل مشروعيه، وعقلانية.. مصرا فيها الإنسان على احتراف قدره العظيم في الغلبة الدائمة على ظهر هذه البسيطة.. حيث يحفر حفرة دفاع أعدت بعد تفكير ملي.. لذلك الشأن وبقي بداخلها في ليل طويل ماطر، متشبثاً بالبندقية حبل خلاصه الذي لا يريم، إذ يصيب مقتلا في إلتماع العينين المتوقدة بالفتك.. بعد صبر، وخبرة الأربعين الرصينة.
فتصير القصة وقائع احتدام أوزار معركة إنسان غيور مع ذئب ضروس ذي أنياب قاطعة جعلت قطيع الخراف، والكلب رفيق الإنسان الدائم في السراء والضراء في حالة من الهلع الدائم.. نمّت من خلال الوحدة السردية للكاتب عن معرفة طبائع الذئب.. يعتمد الذئب اتجاه الريح في الصيد، وسرعته في اختطاف فريسته، والعواء المتواصل الذي تطلقه الذئاب عندما تفقد الذكور إناثها، أو العكس. إضافة إلى تصوير الكيفية للذئاب وهي تحفر للدخول إلى الأماكن المستعصية. فالقاص في قصته قد أجاد سرد المعلومة بدقة ثاقبة، مضيفاً عليها الحبكة القصصية المقنعة (وهي من أهم مقومات الإبداع الفني..في كل الأشكال الكتابية على الإطلاق).. تقمصاً مجيداً لحالة الدفاع عن المال والعرض، بدقة جعلتنا نخاف خوف بطلها، وكأننا معه. متسلحون بإصراره، ونسمع بأذنه. متوكئأ على رصاصة أخيرة بقيت له في حجرة (السبطانة)، فكشفت لنا معرفة ما حلّ بالخراف، من رعب عبر تأكيد على اضطراب حركتها داخل الحظيرة تعني بدء هجوم الذئب، وموقع الذئب من خلال اتجاه نباح الكلب إضافة إلى بول الحملان من جراء الخوف، كذلك مدى رعب الخراف من جثة الذئب القتيل، فجعلنا في داخل القصة نترقب لما سيحدث؛ متحسبون مع المؤلف للأنثى (الذئبة) التي بقيت تستميت لأجل جثة ذكرها، من بعدما حول الإنسان ساحة الوغى إلى كائن آخر يتناسب مع الظرف الجديد. كما يقول كونديرا: (فن الإيجاز ضروري، انه يصر على ذهابنا مباشرة إلى قلب الأشياء)، بكيفية واعية نقل (الإنسان) الجثة (الذئب) إلى داخل بؤرة أخرى للقصة موسعا المساحة إلى مكان آمن.. هو الذي اختاره، ليتمكن من نقل الصورة إلى تحد آخر مجازف.. بعدما نفد العتاد إلا من واحدة، أبقاها العقل البشري الذي لا يفتقر للرجاحة مع الحيوان، فأنقذته الطلقة الأخيرة في اللحظة الأخيرة. بعد أن حفرت الذئب المستميتة تحت الجدار في النقطة التي انتهى فيه اثر دم جثة الذئب القتيل، فـ(يمكن للحبكة أن تكون جزءً كبيراً، أو صغيراً من الحدث الذي يتكون أيضاً من الفكرة أو الشخصية. بعدها عليه أن يقرر كيف يريد أن تكون ردة فعل القراء من شخوصه، وهم في أوضاعهم- سوزان لوهافر)، كذلك عدة أسئلة يوجهها النص الواضح التأويل حتى يستطيع أن يثبت دعامة ذاته الواعية لزمنها برغم اختلاف التفكير، والمناهج، كونه يبقى قادراً على فرض طرق قراءته، وبمسارات حددها مسبقا الكاتب قبل الناقد.. من أعماق نصه المسرود ضمن أعراف الحكاية التي يقول من خلالها خطابه، فالحكاية عمود كتابة القصة، أو سياقها ومقومها الحيوي الموحد من الشوائب الذي يحوي الصيرورة الخالصة لوحدة التعبير، ودونها لا يستوي تجنيس الخطاب، فالقاص المجيد يدرك جيدا؛ كلما غابت الحكاية المحبوكة.. صارت كتابة ساذجة لا ترتقي إلى الفن المقتدر، بدون الحكاية لن يستطع الحاكي اخذ قارئه إلى حيث متعته والحكم القاطع يكون قاسيا على ذلك الغياب في أية تجربة مهما عرض صيت قلمها، أو تأريخه.. بأنه يجرب جناحيه في جنس يفتقر إلى السرد بمعلومة جديدة، تعطي علما، (درجة عاطفة الفرد ترتبط عكسيا بمعرفة الحقائق- برتراند راسل)، ولان الكتابة المتفاعلة مع قارئها لا تتسم بالعشوائية، التناقض، او عدم الاتساق.. تقبل الفهم في كل سطر من سطورها، فالأدب هو تكامل العمل بذهن الأديب قبل تكامله على الورق، وهذه القصة تكاملت إلى حد ما في قياسات الأغلب- أنموذجا يُحتذى به- حكاية مقنعة بموضوعيتها.. ترتبط من حيث تشابه البطولة المحورية (رغم اختلاف التجنيس) بدقة رواية الشهيرة (الناب الأبيض - جاك لندن) التي كان بطلها ذئباً.. فيها سبر غور علم نفس الحيوان، وأيضا بذلك التحدي الملتهب بين الإنسان والسمكة في رواية (الشيخ والبحر- إرنست هيمغواي)، أو بين الإنسان والبطة الملكة في رواية (حين تركنا الجسر- عبد الرحمن منيف)… حيث قال محي الدين ابن عربي: (كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه)، والنصوص تستقر في أذهاننا بقدر فعلها بنا من شوق، وتفاعل.