إذا كان من فضل للكندي 185ه/256ه على الثقافة العربية والإسلامية فهو أنه أول من إشتغل بالفلسفة وعلومها، أسبقية جعلته يلقب بفيلسوف العرب، لأن جميع من إشتغلوا بالعلم كانوا من العجم حسب ابن خلدون 732ه/808ه، هذا الإستثناء العربي سيكون له أثر كبير على تشكل الحضارت الإسلامية، لكن كيف إشتغل الكندي على الفلسفة؟ وهل وجد الطريق سالكة لهذا الإشتغال؟ ألم يكن العرب والمسلمون في بداياتهم ينفرون من العلوم والنظر العقلي؟ ألم تكن أولى المشكلات التي واجهت المسلمين هي إشكالية العقل والنقل؟
لقد وجد المسلمون الأوائل، وخاصة العرب منهم بعد أن فتحوا بعض أجزاء من الحضارات المجاورة لهم، أنفسهم في مشكلة حقيقة لم يكن أحد يتوقعها. فقد كانت الحضارات المجاورة كالفرس والرومان واليونان والهنود والمصريين...أصحاب علوم ومعارف واسعة. إختلفت عن ثقافة الفاتحين الجدد التي تقوم على القران الكريم والسنة النبوية. وزاد من تأزم الموقف إعتناق هؤلاء للدين الجديد ومنهم الفيلسوف والطبيب والفلكي...و اختلطت الأمور وبدأت تظهر مشكلات طبعت تاريخ الفكر الإسلامي حتى اليوم كمشكلة الإمامة أو السياسة الشرعية ومشكلة خلق القران وصفات الله وعلمه. ومشكلة التأويل وثنائية الباطن والظاهر وهي المشكلات التي سيعرف العلم الذي يهتم بها بعلم الكلام وأصحابه بالمتكلمين. ونتيجة لهذا كله ظهرت الفرق والنحل والمذاهب الإسلامية التي ستشكل تاريخنا الإسلامي.
في هذا الجو الثقافي ظهر الكندي وهو يحمل من الهموم الكثير، فناضل من أجل المساهمة في حل بعض هذه المشكلات، طبعا لم يجد الرجل الطريق سالكا لمشروعه ولا وجد ترحيبا من أهل زمانه، لكن لم يستسلم وكان شعاره الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها كما جاء في الأثر، هذه الحكمة التي بذل الكثير من أجل البحث عنها وشرحها لأهل زمانه، ففي كتابه الشهير كتاب الفلسفة الأولى والذي كان بمثابة رسالة موجهة للخليفة العباسي المعتصم بالله 179ه/227ه تحمل مشروعه الفكري وتصوره لحل مشكلات عصره- وهي للأسف ماتزال مشكلاتنا إلى اليوم- دافع عن الحكمة والعلوم مهما كان مصدرها في إشارة الى علوم الحضارات التي احتك بها الإسلام، وقال: "وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق، ولا تصغير بقائله ولا بالأتي به".(رسائل الكندي الفلسفية.تح: عبد الهادي أبوريدة.ط.2. دار الفكر القاهرة.ص33.( .
إن المتأمل لهذا النص سيجده دعوة صريحة للاستفادة من الأخر المختلف عنى في اللغة والدين، وقد يفهم منه دعوة للحوار معه وقبوله لأن الحق قد يكون عنده والاستفادة منه واجب، لهذا فقد عكف الكندي على ترجمة ودراسة علوم اليونان وحكمته وطلب الحق عندهم لأن الحق لا ملة له ولا لغة، فالمسلم يطلبه أينما وجده ولا يبخسه أو يحتقر صاحبه مهما كان. بل شكرهم واجب علينا سواء كان هذا الحق يسيرٌ أو كثيرٌ، لذلك يقول الكندي: "ومن أوجب الحق ألا نذم من كان أحد أسباب منافعنا"(ن.م.ص32(
ومن أهم العلوم عنده الفلسفة أو الحكمة وهي أشرفها، لأنها تبحث عن الحق ويقول: "إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة"(ن.م.ص25( الفلسفة كبحث عن حقيقة الأشياء وجوهرها، اشتغل بها المسلمون كما اشتغل بها غيرهم ولها غاية نبيلة هي علم الحق الأول الذي هو كل شيء، لأن هذا هو غرض كل فيلسوف مهما اختلفت الملل واللغات، فعلم حقيقة الأشياء يؤدي إلى معرفة الحق الأول وهو الله عز وجل، وقد عرف الله عند الفلاسفة المسلمون بالواحد أو المحرك الأول و واجب الوجود.
يقول الكندي: "واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله، جل ثناؤه" في إشارة إلى أن الأديان لها نفس الهدف و هو الوصول إلى معرفة الواحد الحق وإن اختلفت طرق البحث، هذه الإشارة سنجدُ صداها عند فيلسوف أخر هو ابن رشد 520ه/595ه الذي سيعتبر في أهم أفكاره أن الفلسفة حق والشريعة حق والحق لا يُضادُ الحق بل يشهد له، وسيقدم أدلة كافية من العقل ومن القران على ُوجُوب الفلسفة والاشتغال بها.
غير أن الأفكار المستنيرة لا تجد دائما ترحيبا في زمنها، وكثيرا ما يواجه أصحابها بعنف ومقاومة، تعبر عن رفض كل تغيير وإصلاح وهو ما حدث لفيلسوف العرب الذي تعرض له الخصوم والأعداء خاصة الفقهاء ورجال الدين، وقد وجدوا في دعوته تهديدا لمصالحهم وللمكانة التي يتمتعون بها بين الناس، و حاول الكندي الرد عليهم ومواجهتم في الكثير من كتبه بأدلة عقلية وحجج شرعية، لأنه كان يعلم أن الكثير منهم سوف يسيء فهم فلسفته ويناصره العداء حفاظ على مكاسبهم ويقول: دفاعا"...عن كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تاجر بشيء باعه ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تاجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين"(ن.م.ص35) شهادة تعبر عن حجم ما كان يعانيه الكندي من تجار الدين المدافعين عن مصالحهم وكراسيهم، فالمشكل لم يكن حسب الكندي في الدين، فهو عالم متبحر في علوم الدين وقدم الحجج والبراهين على أن الدين فيه دعوة للنظر العقلي والتفلسف، المشكل حسب الكندي في تجار الدين الذين يستغلون الدعوة الدينية للحصول على مكاسب دنيوية، وهو أمر عانى منه كل مفكر حر في تاريخ الإسلام، نذكر منهم على سبيل المثال الإمام الغزالي الذي تعرض لحملة تكفير من طرف فقهاء الأندلس وأحرقت كتبه الدينية، والإمام البخاري الذي عانى المرارة مع فقهاء زمنه والإمام مسلم، و الإمام ابن حنبل الذي قتله الفقهاء في محنة تحرق الفؤاد، واضطهاد الطبري، وإحراق كتب ابن رشد ونفيه وإهانته بعد أن بلغ من العلم المكان المرموق، ولا زلنا إلى اليوم نعاني من هؤلاء المتاجرين بالدين، فما من مفكر حر إلا نصبوا له العداء ورموه بكل تهمة وحرضوا عليه العامة والجمهور.