علاقة المسلمين بتراثهم الديني شديدة الغرابة والتعقيد، فهم ملزمون بتصديق وتقديس كل ما جاء فيه من " حقائق " لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ومنهيون في الوقت نفسه عن الخوض في كل ما من شأنه أن يزعزع الإيمان بالثوابت التي أرستها المنظومة الدينية، حتى وإن خالفت الواقع والعلم ووقائع التاريخ، والحس والذوق الإنسانيين السليمين....
ولا بد من الإشارة هاهنا، أنه وحينما نتحدث عن تراثنا الديني الإسلامي، فإننا نعني به ـ وإذا ما استثنينا النص القرآني الخالص ـ أنه هو ذلك المجهود الفكري الذي أنتجه رجال الدين المسلمون على مر العصور الماضية، بل أنه وحتى النص القرآني نفسه لم يسلم من اللمسة البشرية، إبان عمليات الكتابة والتصحيف والتدوين والتنقيط والتشكيل والتهميز... وهو ما يفسر وجود قراءات متعددة للقرآن، واختلاف بعضها عن بعض في العديد من الكلمات والمقاطع.
لا جدال إذن، أن تراثنا الديني هو عمل بشري خالص، يتسم بما اتسم به الفكر البشري على مر العصور من قصور ونسبية، وما تضمنه من أخطاء يتم تداركها جيلا بعد جيل، بحسب درجة تطور المجتمع الإنساني والتراكمات المعرفية التي تحدث فيه. إلا أنه، وحينما يتحول ذلك التراث الإنساني البشري إلى فكر مختوم بخاتم الصحة الأبدية المقدسة التي لا جدال حول نسبيتها، وحينما يضحى ذلك التراث بكل أخطائه وغرائبه وخرافاته... المرجعية الرئيسية في تشكيل العقل الجمعي للمسلمين، فإن ذلك يضحى بالضرورة، معيقا حقيقيا أمام كل أمنية في تحقيق تقدم ما، وأمام كل محاولة للاندماج في المجتمع الإنساني بما أجمع عليه من قيم كونية، وأمام كل طموح في اللحاق بركب التقدم الذي يبتعد عنا يوما بعد آخر.
والحقيقة أن ما دفعني لاختطاط هذه الأسطر؛ هو غرابة ما قرأته عن حكم قضائي صادر عن المحكمة الشرعية بمكة(1)، تم بموجبه إلحاق نسب طفل برجل كان قد توفي قبل ازدياد ذلك الطفل بخمس سنين، مع ما ترتب عن ذلك قانونا. فلم أستوعب بالمطلق، كيف يمكن أن يكون الرجل المتوفى قبل خمس سنوات، أبا لطفل ولد بعد موته بكل تلك المدة؟ وأي عقل هذا الذي يمكنه أن يسلم بمعقولية هكذا حكم في ظل ما بلغه الطب من تقدم وتطور؟
من المؤكد جدا، أن القاضي قد استند في حيثيات حكمه على المرجعية الفقهية عوضا عن المرجعية العلمية، كما أنه من المؤكد جدا كذلك، أن القاضي نفسه صاحب ذلك الحكم الشاذ والغريب، ما كان له ليعترف بنسب طفل وضعته زوجته من دون أن يمسسها لمدة 10 أشهر فقط وليس لخمس سنوات كاملة. فلماذا إذن كل هذا الإصرار على تقديس منتوج فقهي بشري، والعمل به كمرجعية لتنظيم حياة المسلمين، على الرغم من كون العلم والواقع أثبتا بكل وسائل الإثبات الممكنة، أنه وفي الكثير من أحكامه، بني على معطيات مغلوطة وغير دقيقة، فكان طبيعيا أن تشوب تشريعاته عيوبا خطيرة تتسبب في العديد من المآسي للمسلمين؟
ومن المعلوم؛ أن فقهاء الإسلام السنة، قد اختلفوا اختلافا كبيرا حول أقصى مدة الحمل، فذهب أصحاب المذهب الحنفي إلى إمكانية استمراره لسنتين، فيما الشافعية والحنابلة قالوا بأربع سنوات، أما المالكية فمددوا من مدته حد سبع سنين، هذا في الوقت الذي أصبح في حكم الحقيقة العلمية، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، أن مدة الحمل الطبيعية بالنسبة للإنسان، لا يمكن أن تزيد في جميع الأحوال، عن التسعة أشهر إلا بأيام معدودة.
نتفهم جيدا، وبالنظر لما بلغه التقدم العلمي والتكنولوجي ومناهج البحث في عصرنا الحالي، سقوط فقهاء الإسلام في أخطاء من مثل هذا القبيل؛ كون درجة التطور والتقدم التي كان عليها المجتمع الإنساني لحظتها، لم تكن لتسعفهم على استخراج أحكام شرعية مستمدة من حقائق علمية قطعية الثبوت. لكن، أن يصر قاضي عاش في القرن العشرين، على تطبيق تلك الاحكام الفقهية على تلك النازلة، في ظل ما بلغه الطب الحديث من تقدم، أصبح بالإمكان معه تحديد المدة القصوى للحمل، ليخرج علينا بحكم قضائي غريب وشاذ كذاك، فذاك ما لا يمكن القبول به، ولا بالحيثيات التي اعتمد عليها مهما بلغت درجة قداستها.
يبدو من الواضح إذن؛ أن المنتوج الفقهي كمكون من مكونات المنظومة الدينية، تضمن العديد من الأحكام التي أثبت الواقع والعلم الحديث، أن المرتكزات التي قامت عليها كانت خاطئة، فكان طبيعيا أن تكون تلك الأحكام نفسها شاذة وغير منطقية. وقد كان بالأحرى؛ الاعتراف بنسبية فكر فقهاء الإسلام، والعمل على فتح باب الاجتهاد المستمر بما يتوافق ومنطق العصر، وما بلغه من تقدم في المعارف والعلوم، عوض الإصرار على كون ذلك المنتوج الفكري البشري هو من صميم الدين الإسلامي، والذي لا يحق للمسلم في جميع الأحوال، المجادلة بشأنه أو التشكيك في صحته، وإلا صنف ذلك مروقا وخروجا عن صحيح الدين، مع ما رتبه الفقهاء من أحكام شديدة القسوة في هذا الشأن.
لقد اعتمد فقهاء السنة من بين ما اعتمدوا عليه في استخراج الأحكام الشرعية؛ الأحاديث المروية عن الرسول، خصوصا تلك المعتمدة من قبلهم والمصنفة فيما يعرف بكتب الصحاح، فكان طبيعيا أن تصدر العديد من الأحكام الشاذة، خصوصا وأن العديد من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، تسربت إلى تلك الكتب، وتم التعامل معها على أنها موسومة بطابع الصحة المقدسة.
ففقهاء الإسلام السنة مثلا، يقدسون كتاب "صحيح البخاري " وكأنه وحي منزل من السماء، على الرغم من كونه لا يغدو أن يكون عملا بشريا، اجتهد صاحبه فأصاب وأخطأ كما هو حال كل البشر، بل إن درجة التقديس؛ بلغت حد اعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله، فأضحى كل نقد لمضامينه، هو خروج بالضرورة عن صحيح الدين، ومس بمقدسات الإسلام.
وهكذا؛ فإنهم يصرون إصرارا ما بعده إصرار، على صحة الكتاب وكل ما تضمنه من أحاديث مروية عن الرسول، حتى وإن سجل على العديد منها الكثير من المؤاخذات التي لا تستقيم مع منطق العلم والعقل، بل ومبادئ الدين الإسلامي نفسه من قبيل:
ـ تناقض مضامين العديد من الأحاديث المدرجة بالكتاب بعضها مع بعض، كأن يروى عن الرسول قول الشيء ونقيضه؛
ـ مخالفة مضامين العديد من الأحاديث لما جاء به القرآن؛
ـ تضمنه للعديد من الأحاديث التي تسيء إلى الرسول؛
ـ تضمنه للعديد من الأحاديث التي تتضمن أخطاء تاريخية؛
ـ تضمنه للعديد من الأحاديث التي تتضمن أخطاء علمية....
ولا بد من التذكير هنا، أن كتاب صحيح البخاري، لم يكن يوما محل إجماع فقهاء الإسلام السنة أنفسهم، فقد تعرض لنقد شديد من قبل العديد منهم من أمثال: مسلم، والترمذي، والدارقطني وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم الجوزية وغيرهم كثير...
قد لا يتسع المجال لسرد كل ما يتضمنه كتاب البخاري من مؤاخذات وأخطاء وتناقضات...(2)، وسنكتفي بسرد حديث واحد تضمن خطأ تاريخيا واضحا، للتدليل على صحة ما ذهبنا إليه، من كون صحيح البخاري لم يكن يوما كامل الصحة.
ورد في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري في الحديث المشهور بحديث الإفك " ...فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك ...." (إلى آخر الحديث)، ومن المعلوم؛ أن سعد بن معاد هذا الذي تدعي الرواية أنه انبرى أمام الرسول مخاطبا إياه، كان قد توفي قبل ذلك اليوم بحوالي سنة واحدة، وبالضبط بعد غزوة الخندق بشهر واحد، أي في السنة الخامسة للهجرة، في حين أن حادث الإفك وكما هو معلوم، كان في السنة السادسة للهجرة.
فهل بعد هذا يمكن أن يظل الإصرار نفسه على كون كتاب صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله؟
فهذا الحديث يتضمن خطأ تاريخيا واضحا، من المؤكد أنه كان نتيجة تداخل الأحداث والوقائع والشخصيات على رواته، وهذا أمر طبيعي جدا وشائع الحدوث فيما يتعلق بالرواية الشفوية، خصوصا إذا ما تم الاعتماد عليها بعد مرور وقت طويل على حدوث الحدث، وانتقلت عبر العديد من الرواة ومن مختلف الأجيال، ذلك أن الذاكرة البشرية، معرضة طبيعيا للتشويش و النسيان و تداخل الأحداث والوقائع...، لذلك؛ فإن علماء التاريخ، يضعون شروطا صارمة، للقبول بالرواية الشفوية كمصدر من مصادر التاريخ؛ من قبيل موافقتها للمنطق والمعقول، وتعدد مصادرها ورواتها ، ومعاصرة ومعاينة رواتها للأحداث ... لكن؛ " علماء الحديث " المسلمون كانت لهم منهجيتهم الخاصة، فمتى كان الرواة من الثقات متى كانت الرواية صحيحة، حتى وإن بلغت من القدم ما بلغت، وانتقلت بين الطبقات (الأجيال) ما انتقلت، وتضمنت من الغرائب والخرافات والتناقضات ما تضمنت... ولعل ذلك ما يفسر تضمين كتب الأحاديث لعدد كبير من الروايات الشاذة والمقززة، والمخالفة للعلم والمنطق والعقل والمنافية للحس والذوق الإنسانيين السليمين...، فقد روي مثلا عن عبد الله بن عباس 1660 حديثا متفرقة في كتب الصحاح، تفرد له البخاري ب 110 من الأحاديث، هذا في الوقت الذي كان سنه إبان وفاة الرسول، لا يتجاوز عشر سنوات. فكيف يمكن القبول برواية طفل صغير لكل هذا الكم الهائل من الأحاديث؟ والأخطر من ذلك؛ كيف يمكن الاعتماد على ما تمت روايته من قبله كمرجع مقدس وموثوق الصحة، يعتمده فقهاء الإسلام لاستخراج "الأحكام الشرعية" المدموغة هي الأخرى بطابع الصحة والقدسية والأبدية. ولا غرابة إذن، والحالة هاته؛ أن تصدر باسم الإسلام أحكام شاذة وغريبة ومضحكة؛ كجواز نكاح المرأة الميتة، وجواز إرضاع الكبير، وجواز وطئ البهيمة، وجواز أكل لحم الجن، وجواز الاستمناء بالجزر... وغير ذلك كثير.
إن أول ورش علمي وفكري وجب على المسلمين إنجازه، إن هم رغبوا في الانخراط في عصرهم، ومواكبة ركب الحضارة الإنسانية، هو ورش إعادة قراءة تراثهم الفكري بصفة عامة، وتراثهم الديني على وجه التحديد، خصوصا وكونه المحدد الرئيسي لملامح العقل الجمعي للمسلمين، الموغل في الخرافة والغيبيات، والمعادي للعقل والعلم ومكتسبات الحضارة الإنسانية...، وذلك عبر وضعه ـ أي التراث - بمنضدة التشريح العلمي، وإخضاعه لمناهج البحث العلمية شديدة الصرامة، في أفق انتزاع صفة القداسة المزعومة عليه، وإرجاعه إلى حظيرة الفكر البشري الخالص الموسوم بالنسبية والقصور، فذاك لعمري هو المدخل الذي لا محيد عنه لخروج المسلمين من عصور الظلمات التي يحيون في ظلها مطمئنين، وبما لديهم فرحين.
هوامش:
1 – تمت الإشارة إلى الحكم القضائي ومراجعه عند "عبد الرشيد بن محمد أمين بن قاسم: " أقل وأكثر مدة الحمل دراسة فقهية طبية" منشورة بالموقع الإلكتروني لمكتبة مشكاة الإسلامية.
2-أحيل القارئ الكريم الراغب في التوسع في هذا الموضوع إلى كتاب " الإلزامات والتتبع" للدارقطني وهو من كتب التراث، وإلى كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة " لكاتبه رشيد أيلال، وإلى كتاب " جناية البخاري " لكاتبه زكريا أوزون وهما من الكتاب المعاصرين.