هكذا هي لغة الواقع، لو يخون الطلاء شواهده لحظة واحدة...
فعندما يصير التعبير الأثير والمحبب من منظور الخطاب الإعلامي ـ الرسمي منه وغير الرسمي..، وكذا الأوساط العالمة والمهتمة ـ الأكاديمية منها وشبه الأكاديمية ـ...، قولهم "الحقل الديني" ! فذلك اختيار موح، لا يخلو فعلا من دلالة أو دلالات، طبعا لا تعارض ما يطرحه عالم الإجتماع الفرنسي (بيير بوورديو) مثلا..، ولكنها ترجع ـ إذ يتردد صداها في الأروقة الرسمية ـ إلى نوع من (اللاوعي السياسي) المتحكم..، فحتى (الفلاحة) التي هي أصل هذه الصورة المجازية.. غادرت مبكرا إلى وعي غير تقليدي أو قروسطوي، هو (القطاع): "القطاع الفلاحي"، رغم أنها ظلت في الحقول ولم تغادرها في يوم من الأيام، ولا ينتظر منها ذلك، ربما يقال: (الدين) شيء ينتمي إلى الماضي، يمكن أن نستصحبه في الحاضر، ولكن دائما كشيء تقليدي موغل في التقليدانية ـ جزءا من بنيته ـ فينبغي أن يبقى كذلك ! ومن أراد غير ذلك فقد أحدث و(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، لكن (الزراعة) أيضا شيء قديم.. على الأقل قدم الدين نفسه.. وإذا كان الدين شيئا مقدسا، فالزراعة كذلك كانت شيئا مقدسا منذ الإنسان القديم، وإلى اليوم المقدس الأعظم عند الإنسان المغربي: (الخبز) بمختلف أنواعه وأشكاله...
وأنا هنا سأقدم بضعة شواهد أن هذا "الحقل" فعلا: "فدان"، أي حقل بالمعنى الإقطاعي، حيث "الفلاحة" مثلا حقل أو حقول لكن بالمعنى القطاعي..
فالأوقاف ـ عند المهدي المنجرة ـ مؤسسة فيودالية.. كذا يصرح باللفظ (راجع كتابه: قيمة القيم..)، فيعفينا جزءا من الحمل، طبعا القارئ عندما يسمع هذا يقفز إلى ذهنه المداخيل الخيالية (مجهولة المصير) التي تجنيها [الأوقاف الوزارة] من [ الأوقاف الأملاك] من الغابات والحقول والفيرمات والعقارات والعمارات مما حبسه الآباء والأجداد...
وإلى حدود الساعة لا زال كل شيء عندنا يمشي في الاتجاه المعاكس.. ففي الوقت الذي قام فيه الأوربيون بـ(نزع أملاك الكنيسة)، ونقلها للمجال العام، وبعد أن عرفت التجربة الإسلامية (الوقف) ـ مذ عرفته ـ مؤسسة اجتماعية وعامة بامتياز، نشأة واشتغالا.. ترانا هنا وإنا لنعالج قضايانا بطرق ارتكاسية نكوصية..
وللإفادة، وللأمانة التاريخية فقد كانت الوزارة دائما تشترط في المساجد ـ بعد أن يشيدها الناس ـ أن يكون لها مستوى معين من المداخيل، وإلا لا تضمها إليها، إنها حينئذ تشكل عبئا إضافيا بالنسبة إليها، وإنها لفي غنى عنه.
ربما لهذا السبب تم فك الارتباط بين (الأوقاف) و(الشؤون
الإسلامية) في إطار ما سمي (إعادة هيكلة الحقل الديني)، وصار لكل منهما مديرية خاصة مركزيا، وعلى المستوى الجهوي والإقليمي أحدثت (مندوبيات الشؤون الإسلامية) إلى جانب (نظارات الأوقاف) كأسلوب حداثي طبعا.! أي احتراما لمشاعر الناس وخصوصا العاملين المحسوبين على الوزارة والذين هم تحت مسؤوليتها، ودفعا لأي توهم أو سوء فهم أو تأويل من قبل هؤلاء أن تكون ثمة علاقة ما بين (الأوقاف) و(الشؤون الإسلامية) في طبيعة
كل منهما واتجاهه، أي فيما يخص العلاقة بين الأجور والمنح من جهة والمداخيل من جهة أخرى من حيث إعادة التوزيع، ما دامت (الأوقاف) الحقول فيها منتجة، وبوفرة. أما (الشؤون الإسلامية) فغير منتجة.. كما هي العقيدة السياسية السائدة، وهكذا تكون (الشؤون الإسلامية) بهذا الاعتبار أخية التعليم مع فارق، أن هذا الأخير عندهم (قطاع) أما تلك فـ"فدان".. بمعنى أن الدولة رغم ما تحاول أن تحدثه من فصل وتجاوز، فإنها لا تستطيع ذلك على
المستوى الذهني.. بل استمرت تقول أن (المسألة الدينية): إن هي إلا (حقل) من بين آلاف الحقول عندها، حقول يمكن للجرارات أن تخطها في كل اتجاه، وتلقى فيها ما تشاء كما تشاء.
كثيرا ما تلجأ الجهات الوصية إلى نوع لغة مضللة تبغي التزييف، وتعتمد أساليب هروبية تبغي الدعاية لنفسها، وكثيرا ما تنجح ! عندما تلقى هذه الجهات إلى وسائل الإعلام ـ ودائما تلقي ـ أنها تعتزم ـ ودائما هي تعتزم فقط ـ منح زيادات للقيمين الدينيين تصل مثلا إلى مائة في المائة.. هنا هذه الزيادات المرصودة لن تجد قيمتها الإجمالية تصل في مجموعها الكلي إلى قيمة ما يمكن أن تدفعه شركة من الشركات لمنبر من منابر الإعلام المرئي أو المكتوب مقابل إعلان تجاري خاص أو دعاية تخدم سمعتها... وكما قال أحد الظرفاء (كولونا بعدا شحال كاتعطيوهم، عاد نشوفو شحال زدتوهم) !!، لكن قبل هذا ذرونا نعرج على الأهم ونطلع على المستور ونرسل أبصارنا إلى الداخل في القبو الممتد هنالك.. لنرى إلى أي حد هي الطريقة التي تسلم بها (الشؤون الإسلامية) هؤلاء مكافآتهم ـ كما يحلو لها أن تسميها ـ إلى أي حد هي طريقة مهينة ولا إنسانية ومفتقدة لأبسط مقومات الكرامة، وبالتأكيد ومن غير مبالغة تكون أكرم منها تلك التي يتسلم بها العمال في المزارع (الفدادين) أو المناجم أجورهم قبل المغادرة آخر كل يوم...
يصطف (الأئمة والخطباء والمؤذنون والمنظفون وغيرهم) داخل (مندوبية الشؤون الإسلامية) في طوابير مزدحمة لا تنتهي... وفي الغالب لا تحضر السيولة النقدية في اليوم الأول من الأيام المخصصة، أو تتأخر في أحسن الأحوال إلى فترة الزوال.. المؤكد أن الواحد من هؤلاء لا تكفيه مرة واحدة يأتي فيها من أقصى المدينة أو خارجها مستقلا أكثر من وسيلة نقل، ويتسلم راتبه بطريقة سلسة وإنسانية، بل لابد للواحد أن يكرر العملية نفسها ويأتي إلى هنالك أكثر من مرة، كثيرا ما تصل إلى أربع أو خمس... معاناة حقيقية !! دع عنك الطريقة المزاجية المتقلبة والمزرية التي يتصرف بها المسؤول عن الأداء حيث يمكنه، مثلا، أن يتوقف عن العمل ويوقف الأداء، ويصرف الناس إلى بيوتهم في أي لحظة شاء، لسبب ولغير سبب، وكل من يعتريه إحساس معين أو تنتابه مشاعر ما، فله مصير معلوم... مثل هذا سيصنف.. وحتما سينتهي به الحال إلى التوقيف (=العزل) بعد أن يهيئ له ملف بأسباب ومبررات جاهزة ومعروفة، سيصير حينها مخلا بالخصوصية المغربية.. والتسامح الديني.. بالوسطية والاعتدال والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وطريقة الجنيد...
هذه هي الطريقة المثلى المتبعة إلى اليوم، أما الأماكن التي لا وجود فيها لتلك المندوبيات فيستحسن بخصوصها الجهل وعدم السؤال!
أنا أعتقد أن النتيجة في تشخيص حالة الذهنيات الوصية عندنا ربما يؤول إلى أن العائق في (الإصلاح الديني) عائق ديني بالأساس، وفقهي بالذات.. وربما يحتاج الأمر فقط إلى استصدار فتوى من (المجلس العلمي الأعلى) أو رأي اجتهادي حول (أجرة الإمام).. وهي المسألة المختلف في جوازها بين فقهاء المذاهب قديما..
لذلك الوزارة تعتبر ما تصرفه (مكافآت) وليس (أجورا)، نعم هي ليست أجورا فكيف بموضوع (الحد الأدنى) وأخواته من الموضوعات الأخرى !.( وهل يصح الحديث في العبادة عن عطلة مثلا أو تقاعد... إذا كان الله يقول: ﴿واعبد ربك حتى ياتيك اليقين﴾)... وعندما نقول (مكافآت) فنحن نقترب بلا شك من مفهوم (الصدقة) و(التفضل)، وفي أحسن الأحوال مفهوم (التضامن)، هنا يعترضنا عائق آخر، (مفهومي) هذه المرة، ففي هذه الأيام اعتدنا أن نسمع جملا غربية إذا حصلت كارثة ما ـ زلازل أو فيضانات أو حرائق ـ نسمع أن (الجماعات المحلية والسلطات العمومية تتضامن مع المواطنين...)كذا !! فهذا إذن عائق في ماهية (التضامن) وعلاقته بـ(الواجب)..
أيضا لغة الخطاب الرسمي تعتمد مصطلح (الاهتمام).. فتقول: (الاهتمام بأوضاع القيمين الدينيين)، فإذن القضية إنما تفهم في نطاق الاهتمام والعناية فحسب، وهو نطاق بطبيعته دائما يعني الفوضى والغموض... والقابلية للتحلل من أي التزامات أو تعاقدات مفترضة ولو كانت شرفية.. (خطوات من قبيل [التغطية الصحية] و[المنح] يمكن قراءتها وفق هذا المنظور، وهذا لا يمنع أن تكون مما يستحق الإشادة في الظاهر..).
هذا (الاهتمام) تراه وكأنه من عالم غير عالمنا، لا يستطيع الخروج إلى الأحياء، ولا العيش معهم أو المشي بينهم ولو مرة واحدة، بل له لحظته المواتية التي لا يظهر إلا فيها، لحظة الموت! حيث تصرف الوزارة على الإمام بعد موته ما كانت تدخره له... فتجمع له في تلك اللحظة ـ لحظة اليقين الذي يأتيه بعد عمر كامل من العبادة ـ حقوقه كلها.. ما وجب له في الحياة وبعد الممات..وهكذا تريح ضميرها بـ(ألفي درهم)!!! يتسلمها الميت لتجهيز مراسم دفنه وعزائه.. حتى تنقطع حجته عند الله.
صبغة اللاتنظيم هذه التي تميز هذا المجال من بين سائر المجالات وتعتبر من أخص خصائصه اليوم نجدها واضحة في الطريقة التي تسير بها الوزارة شؤون المساجد، حيث مثلا المندوبية الجهوية أو الإقليمية الواحدة تجدها المشرف المباشر على مئات المساجد.. كيف ذلك؟ !! الله أعلم، المهم أنها المسؤول المباشر.. (مسؤولية مباشرة.. خالية من أي قنوات تنظيمية مساعدة، أو آليات إجرائية وسيطة..). لذلك هي تكتفي بالتحكم والضبط والمراقبة (الأمنية لا الخدماتية)، ويكون ذلك في مثل هذه الحالات هو كل ما يهمها، بل كل ما تقدر عليه.. لهذا نجد مساجدنا تعاني الإهمال والضياع واللامبالاة والفوضى وانعدام النظافة (وبالمناسبة كان يمكن التفكير في صيغ حديثة لتدبير مثل هذه المشاكل، كالتعاقد مع [شركات خاصة للنظافة] مثلا بدلا من صفقة الشاشات التلفزيونية المثيرة لردود أفعال استهجانية) بل أصبحت مساجدنا من الناحية الأدبية في كثير من الأحيان مرتعا خصبا لأنواع مع العادات الاجتماعية السيئة كالغيبة والنميمة والتلصص (الحضية) والسرقة والتسول العلني والمقنع وما إلى ذلك.. بل فضاء متنفسا لكل أشكال الكبت والقهر الفردي والجماعي..
عفوا، بل الوزارة تدبر شؤون المساجد حتى النهاية وتؤمن إيمانا ليس بعده شرك أن للمساجد ربا يتكفل بمصاريفها واحتياجاتها ـ إن كانت أصلا تعتقد أن لها مصاريف واحتياجات ـ إنها تعول تماما في ذلك على المحسنين.. لا تريد المسكينة أن تكون سببا في انصراف الناس عن فعل الخير أو انقطاع الإحسان من هذه الدنيا، إنها تتمثل خلقا من أخلاق الله فـ(تحب ـ هي كذلك ـ المحسنين)..حتى إن صنابير مياه مثلا لو فسدت في مسجد ما أو تعطلت، أو بضعة مصابيح جاء أجلها.. فإن الأمر يبقى كذلك ما شاء الله له أن يبقى، حتى إذا مل الناس واستغربوا لتلك الحال وعجبوا وعلمت إدارة الوزارة بذلك (علمت بالتذمر والاستياء طبعا لا بتعطل الخدمات، فليست لها عيون بعد ترصد تعطل الخدمات.. وهو مؤشر مكشوف على مدى التعاطي الأمني الفج، إذ دائما الفتنة أشد من القتل) قابلت ذلك باستغراب مثله أو أشد، كيف لم يبادر أحد إلى إصلاح ما فسد، وجلب ما نقص، ألم يبق في الناس محسنون، (أليس منكم رجل رشيد)؟! الشيء الوحيد التي ظلت الوزارة وفية له في هذا السياق، تلك الماركة المسجلة من الحصير المتفرد الذي ظلت تمد به المساجد دون انقطاع، وهو متفرد قطعا بصلابته وخشونته التي تدمي الأقدام، وتسجل أثر السجود على الجباه.. وتلك حقا هي العبادة والتقرب.. لأن النبي (ص) قام حتى تورمت قدماه، ﴿والذين معه... سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾..
ولفهم أفضل لهذه الطريقة نلاحظ مثلا أن الوزارة منعت منذ سنين استعمال سخانات الماء الكهربائية، وعمدت إلى نزعها من جميع أماكن الوضوء، لأن الوضوء عندها لا يكون إلا بالماء المطلق (والماء المطلق مصطلح فقهي.. يقابله الماء المتغير والماء المستعمل...)، بل غسل الأطراف بالماء البارد وكذا الأماكن الحساسة من الجسد هو بلا شك من عزم الأمور ودليل على قوة الإيمان وإخلاص العمل..(إسباغ الوضوء على المكاره)...إلا أنها مع ذلك رخصت لمن ليسوا من أهل تلك المنازل والمقامات باستعمال (السخانات الغازية)، وهذه الخطوة انطوت على أبعاد واضحة، أهمها: أنها لم تقم بتزويد المساجد بهذه السخانات حين نزعت الأولى بل تركت ذلك لمن يريد أن يقرض الله قرضا حسنا.. ثانيا: السخانات الغازية كما هو معروف كثيرة العطل وتحتاج إلى صيانة متكررة ومراقبة دائمة، فهي إذن غير عملية، مما يدعها مطروحة على الحوائط كالفزاعات. ثالثا: هذه السخانات على فرض جاهزيتها مرتبطة بـ(قارورة الغاز) التي تباع في الحانوت.. وهذه هي (الحكمة الكبرى).. نخشى أن يأتي على الناس يوم يطلب من كل داخل للمسجد أن يأتي وفي يده شمعة إذا هو أراد الصلاة، لأن قرارا بمنع الإنارة الكهربائية قد صدر.. قرار أو فتوى! وعندها يمكنهم أن يسموها دون خوف: صلاة الشموع..
ومع أن التقاليد الممهدة منذ قرون تعطي إمام المسجد في العادة الإشراف المباشر على شؤون المسجد، إلا أن الجهات الوصية وإن كانت هي كذلك ترى الأمر كذلك إلا أنها في الواقع لم تقم في يوم من الأيام بتفعيل مثل هذه الأعراف أو تقديم الضمانات والشروط اللازمة لتجسيدها عمليا، فالمسجد بحق يحتاج إلى نوع من المتابعة الفعلية اليومية بل اللحظية، ما دام يعتبر جزءا مما هو (يومي) بالنسبة للمسلم.. واليوم الوزارة في ارتباط إداراتها المحلية بالمساجد التابعة لها وفي تواصلها معها تبقى مغرمة بآلية واحدة ووحيدة.. الآلية الأزلية المقدسة في التفكير المخزي من غير منازع، آلية (الاستخبار).. أو (التقنية التي يشتغل بها جهاز المقدمين والشيوخ في المغرب). وبالمقابل هي ترفض (فكرة المسؤولية) و(الإدارة)، أو (المسجد كمؤسسة) (= المسجد كجامع)، رغم ما يحققه ذلك من تدبير جيد ومردودية عالية... والسبب لهذا الرفض عندها أن ذلك يمس هيبة المساجد وحرمتها، وقد يدنس قدسيتها، وفي رواية أخرى أن ذلك بدعة، وكل بدعة ضلالة. ؤ(تامقدميت) في المساجد ألا تمس هيبتها وحرمتها؟!، أليست بدعة؟! أم أنها بدعة حسنة، أم أن الله في المغرب تعبدنا بهذا النوع من الأوضاع والعلاقات الغامضة والملتبسة، وهذا قدرنا !.
حتما لن تتغير الحقائق على الأرض ما دمنا نلغي الإنسان من الاعتبار ونزيله من الحسبان إذ نريد الإصلاح، لابد من التوجه صوب (الإنسان) بما هو مركز العملية الاجتماعية والحركة الكونية، في المغرب كما في غيره منذ بداية الاصطدام بالغرب كثقافة ثم دخول الاستعمار بعد ذلك، كانت حينها كثير من القيم والمفاهيم تنقلب وتختل، وكانت وظيفة (الإمامة) وكل ما يدور في فلك (التعليم الديني) له قيمة وقدسية في النفوس واحترام حقيقي في الوجدان العام.. ولم تكن مجرد إمامة مهنية في المسجد بل كانت أكبر من ذلك وأعمق.. كانت إمامة اجتماعية ودنيوية مع ذلك.. ليس ذلك لأن المجتمع كان مجتمعا تقليديا ببنيات تقليدية، لا. المهم أنها كانت بنيات منسجمة متآلفة ليست هجينة، اليوم وبعد تصدع كل شيء وتقويض كل شيء ثم التفريط في البقية الباقية صارت النظرة إلى مثل هذه (الأدوار) تستصحب نوعا من المشاعر أقل ما يقال عنها أنها متباينة وغير مفهومة، مثل كثير من الأشياء في هذا الواقع وهذه المجتمعات تجدها متباينة وغير مفهومة.. مشاعر الاحترام والاحتقار، الدونية والاعتزاز، الشفقة والاتهام، الحاجة والاستغناء، اللعنة والتقديس، اليأس والرجاء، التسلية والألم، التمجيد والتجميد، الإعجاب والهزء...
صحيح أن هذه الوضعية لها أسباب ذاتية عميقة أيضا، لكن تبقى الدولة المسؤول الأول عن هذا المآل، خصوصا أنها تعمل بشكل مطرد ليل نهار في محاولة تأميم هذا (الحقل) ومصادرته نهائيا..
لعمرك أي (دور اجتماعي) أو (ديني) يمكن أن يضطلع به بشر أريد له أن يبقى عالة على مجتمعه.. أن يكون مطرحا لأوساخ الناس (وهذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) كما في الحديث، وإذا كانت هناك هدايا يعتبرها العرف والقانون والدين رشاوى، فإنه يمكن أن يكون كذلك صدقات وعطايا تسول في صورة هدايا... وكما قال الحسن البصري ـ نموذج المثقف العضوي ـ "استغنينا عن دنياهم فافتقروا إلى ديننا"، ودائما ظل المعروف (=الإحسان) أداة من أدوات الاستعباد..
هذا وجه، ووجه آخر أشد قتامة، لا أقول يتم تجفيف منابع التدين ـ فالقوم تجاوزوا هذا المفهوم، ومنذ مدة. وتفننوا في طرائق أخرى هي أضمن لـ(الكفاية التدميرية) ـ وذلك تحويل تلك المنابع إلى مستنقعات.. تحويل الدين من غاية إلى وسيلة.. إذ في مثل هذه الأجواء تشيع أشكال كاملة من (الوصولية الدينية).. في أسخف صورها وأمسخها، وأبأسها وأشقاها. ويتم تقريب هؤلاء من قبل (الجهات الوصية) والتمكين لهم، وتقديمهم في المجتمع وأمام الناس على أنهم (النماذج الدينية)، المعتمدة، وحيث لا يتورع الواحد من هؤلاء أن يبيع نفسه في اليوم الواحد مائة مرة، وطبعا تكون الإدارة الوصية أحد المشترين كل يوم.. وهؤلاء حين تنبعث روائحهم في كل اتجاه، ويصلون إلى درجة يعريهم فيها الزمن وتفضحهم الأيام، وحتى يصير الواحد من المومنين يسأل عن دينه، وصحة عبادته مع استمرار وجود مثل هؤلاء، ويتساءل عن (الأمن الروحي) الذي تتعهد الدولة بضمانه وحفظه، هل صار في مهب الريح.. لكن لا ينتبه المسكين إلى أن هذه العبارة (الأمن الروحي) مجرد ( تقسيم مجالي) لا (تحديد نوعي).. فالأمن واحد، هو ما يفهمه المخزن، لا يتعدد أو يتنوع..
في الماضي قبل هيمنة نظام (الدولة الحديثة) كانت هذه الفئة تتقاضى أجورها من المجتمع عبر الأطر التنظيمية التي أحدثها هذا الأخير لنفسه (=الوقف)، وكانت تأخذها كأجور، أي منطلق (الحق)، والمجتمع يعطي من منطلق (الواجب)، وكان هناك نوع اتفاق ضمني و(عقد اجتماعي)، أما اليوم فأين نحن من هذا، الدولة تريد اليوم أن تجعل هذه الفئة في منزلة بين المنزلتين، لا هي محسوبة عليها ولا هي محسوبة على المجتمع، والله يقول ﴿فلا تميلـوا كل الميل فتذروها كالمعلقـة وإن تصلحـوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيـما﴾.
إن الدولة تعتبر ما تدفعه مجرد (مساعدات) كما يصرح المسؤولون فيها، ربما هي مساعدات مقابل أن تظل جاثمة على أنفاس هذا الفاعل (سابقا)، خانقة هذا (المارد) وقد أنهكه المرض والعجز، وأجد مخيلتي هنا مأخوذة تماما بصورة: الجاني الذي يرسل بعض المال لأسرة الضحية مواساة لها ومساعدة، وهي مواساة ومساعدة صادقة، ولكنها الضرورة.. (الضرورة الملعونة) فقط هي التي تدفعه لتدمير حبيبه وشريكه.. واغتصاب حقه في الحياة..
الإصلاح المتحدث عنه اليوم يقول بـ(تكوين الأئمة)، تكوين تتولاه (المجالس العلمية)، وأنا لست أدري ما هذا (التكوين)، هل هو شرط جديد من شروط الإمامة كانت المذاهب الفقهية في ذهول عنه خلال تاريخها الطويل، أم ماذا؟ أخشى أن يشكل هذا في ذاته مسا بالصورة التاريخية للممارسة الدينية في هذا البلد، وتشكيكا في القيمة الرمزية لمقوم من مقومات هذا المجال.. فهل يعني هذا أن أئمتنا الذين نقتدي بهم في الصلاة منذ أربعة عشر قرنا يفوتهم مثل هذا الشرط ومن ثم فصلاتنا التي أديناها وراءهم غير صحيحة وعلينا اليوم أن نعيدها، نعم نعيدها لولا (خروج الوقت)، بل لولا أنه خرج ـ في هذه النازلة التي لم تعهد ـ بأربعة عشر قرنا لأعدناها استحبابا.. أم ماذا؟ !.
ونحن مع احترامنا لهذه المجالس (العلمية) واختصاصاتها، وإشفاقنا عليها في الوقت نفسه.. نعتقد مع ذلك أن هذه الإمامة (صنعة)، أي لها أهلها.. أهلها الذين يفهمونها وهم بلا شك أدرى بها من غيرهم، حتى لو كان هذا الغير المجالس العلمية أو بعض أعضائها. والكل يعلم ومنذ أمد بعيد أن اختصاصات هذه المجالس في علاقتها بالأئمة لم تكن في يوم من الأيام اختصاصات علمية إطلاقا، بل (التزكية) التي تسلمها للواحد من هؤلاء ـ حين تطلبها منه ـ إن هي إلا (تزكية أمنية وسياسية)..لا شيء غير ذلك، والجميع يعرف هذا. ذرونا نقول إن (عملية تحفيظ القرآن) ـ بما هي عملية متداخلة وتركيبية، مغربيا على الأقل، ليست ساذجة أو سطحية كما يخيل للكثيرين ـ هي نفسها (عملية تخريج الإمام)، أو على الأقل هما عمليتان متداخلتان أو تتمان في آن واحد، فالطالب وهو يحفظ القرآن في الوقت نفسه هو يتشرب طرائق مهنته المحتملة وتقنياتها حتى تصير (صنعة) بين يديه..
على أن هذا (التكوين) المدعى، أو (التأهيل) ليس شيئا جديدا بتاتا، بل هو مما جرى به عمل وزارة الأوقاف مذ عرفت أو مذ عرفناها، وكان الباشوات والقواد كثيرا ما ينوبون عنها في هذا، فضلا عن أفراد من الطابور الخامس، ولا زال الأمر كذلك في كثير من الأماكن على هذا العهد.. فـ(التكوين) المراد إذن مصطلح يكاد يكون مرادفا لمصطلح (تعليمات) إن لم يكنه، أو هو (الإقراء) [مترجم إلى الدارجة]. وبعبارة غير مخالفة، لكن فصيحة هذه المرة، (التكو/ي/ن) كلمة اختصار لعنوان أطول وغاية أوضح، ليست شيئا سوى (التكوّم في الرّكن)!! هذا فقط لمن لم يستطع أن يتحلل (جرعة تخدير)، أو ينتصب (بوق دعاية).. أو يجد نفسه يتطور طبيعيا (سوسة نخر فكرية)..
يا سادة، أئمتنا لديهم ما يكفي من العلم، لديهم القدر المطلوب.. ليس ينقصهم (الحضور العلمي) ولكن (الحضور الوجودي)، ينقصهم الإحساس بالذات، بالكرامة.. الكرامة المهدورة.. الإنسانية المستلبة.. الوجود الممسوخ..
هل هناك اليوم دراسة ميدانية واحدة يمكن أن نعتمدها لنقول: إن المشكلة عند هؤلاء مشكلة تطرف وتحريض، المشكلة من نوع آخر تماما، المشكلة مشكلة (تجويع) تسفر بالنهاية عن (أزمة كرامة).. المشكلة تبدأ من التكريس الممنهج للدونية والتحقير، الممزوجين بنظرة الشفقة ثم المقاربة البئيسة خماسية الأضلاع: التبركية.. الخرافية.. القبورية.. الفلكلورية.. وبالنهاية الكاركاتورية.. ولا تنتهي عند اللغة المعزرة لكل ذلك، وأقرب مثال يمكن أن نضيفه إلى ما سبق، عبارة: (القيمين الدينيين) نفسها، هذه العبارة التي تستخدم ليس كتحديد إجرائي مساعد، ولكن كمحاولة لإضفاء نوع من الحياد والموضوعية (=التعويم) على هذه الوظيفة، وبالتالي نوع من العمى والصمم، لتصير عندها بدون مضمون أو هوية أو مرجعية أو اختلاف.. ومن ثم من غير قيمة وجودية أو وظيفة في الحياة..
وانظر ـ عافانا الله وإياك، وحفظ علينا رشدنا وحياءنا ـ كيف تتم المسارعة في هذا الذي نقول، وذلك إذ ترى الوزارة الموقرة تتساهل في منح (تزكية الإمامة)، فلا تعود تشترط حفظ القرآن !!، بل انظر بعد ذلك إلى الحرص على هذه التشظية المتعمدة لهذه المهمة حتى صارت بموجبها اثنتين لا واحدة: (إمام الخمس الراتبة) مهمة، و(خطيب الجمعة) مهمة ثانية، ليس يجمع بينهما في مسجد واحد إلا ما قد سلف، وهو ما يجرد الوظيفتين معا من كل قيمة اجتماعية أو أبعاد تنويرية (دعوية) أو تربوية، بل يلقيهما على هامش الحياة أشباحا بلا أرواح، بعبارة أخرى تم إضفاء الطبيعة التقنية الميكانيكية على العمليتين معا (إمامة الخمس، وخطبة الجمعة)، وصار خطيب الجمعة يأتي من أقصى المدينة لحظة من أسبوع ويصعد المنبر، لا يعرفه أحد ولا يعرف أحدا.. ربما هو يقيم في مكان مجهول، كأنه كائن غريب.. قادم من كوكب آخر ثم يغادر بعد أن يكون أدى مهمته بمهنية عالية، أي ببرودة، حتى لو ألقى خطبته بنبرة صاخبة أو حماسة... إنه ليس إفرازا طبيعيا للوسط الذي يتحرك فيه، بل ظاهرة مفروضة فوقيا وطارئة ، إنه حتى الرصاص أو الكهربائي أو أي صاحب صنعة يدوية تستأجره عندك ساعة من نهار تجده جارك وابن حيك أو مقيما في الزقاق المقابل الذي تمر منه كل يوم، بل (خطيب الجمعة) اليوم صار مثل أي شركة تقنيات متخصصة تأتي لتصلح عطبا أصاب أشياءنا ثم تنصرف ومعها آلياتها وعمالها..
أما (إمام الخمس) فصار في وظيفته التي يؤديها مثل آلة صماء إلا أنها تشتغل بإحكام.. تقوم وتركع وتسجد وتقعد، ولا شيء بعد ذلك.. أو ككائن لا يسمع ولا يبصر، ولا يعي أو يعقل شيئا، وإن كان يتلمظ شظف القسوة والجوع.. هكذا أريد له أن يكون، أن يفصل عن (دور الفاعلية والتأثير) وتصير (إمامة جوفاء)، مصابة بأخطر أنواع الفشل وأشدها فتكا.. وهكذا فمن شدة الإمعان في هذا الفصام أن تم تشطيب (الوعظ والإرشاد) كفعل حي واجتماعي، واستبدل بوعظ بائت.. ومصبّر في أحسن الأحوال.. (وعظ علب) توزعه الشاشات على الناس بالتساوي، حدث هذا بعد أن تم الاستغناء عن خطب العيدين، وخطب الاستسقاء والخسوف.. وهم الآن يستنجدون بكل الحيل الفقهية وغير الفقهية للالتفاف على خطبة الجمعة والسلام.
كثيرا ما تلجأ الجهات الوصية إلى نوع لغة مضللة تبغي التزييف، وتعتمد أساليب هروبية تبغي الدعاية لنفسها، وكثيرا ما تنجح ! عندما تلقى هذه الجهات إلى وسائل الإعلام ـ ودائما تلقي ـ أنها تعتزم ـ ودائما هي تعتزم فقط ـ منح زيادات للقيمين الدينيين تصل مثلا إلى مائة في المائة.. هنا هذه الزيادات المرصودة لن تجد قيمتها الإجمالية تصل في مجموعها الكلي إلى قيمة ما يمكن أن تدفعه شركة من الشركات لمنبر من منابر الإعلام المرئي أو المكتوب مقابل إعلان تجاري خاص أو دعاية تخدم سمعتها... وكما قال أحد الظرفاء (كولونا بعدا شحال كاتعطيوهم، عاد نشوفو شحال زدتوهم) !!، لكن قبل هذا ذرونا نعرج على الأهم ونطلع على المستور ونرسل أبصارنا إلى الداخل في القبو الممتد هنالك.. لنرى إلى أي حد هي الطريقة التي تسلم بها (الشؤون الإسلامية) هؤلاء مكافآتهم ـ كما يحلو لها أن تسميها ـ إلى أي حد هي طريقة مهينة ولا إنسانية ومفتقدة لأبسط مقومات الكرامة، وبالتأكيد ومن غير مبالغة تكون أكرم منها تلك التي يتسلم بها العمال في المزارع (الفدادين) أو المناجم أجورهم قبل المغادرة آخر كل يوم...
يصطف (الأئمة والخطباء والمؤذنون والمنظفون وغيرهم) داخل (مندوبية الشؤون الإسلامية) في طوابير مزدحمة لا تنتهي... وفي الغالب لا تحضر السيولة النقدية في اليوم الأول من الأيام المخصصة، أو تتأخر في أحسن الأحوال إلى فترة الزوال.. المؤكد أن الواحد من هؤلاء لا تكفيه مرة واحدة يأتي فيها من أقصى المدينة أو خارجها مستقلا أكثر من وسيلة نقل، ويتسلم راتبه بطريقة سلسة وإنسانية، بل لابد للواحد أن يكرر العملية نفسها ويأتي إلى هنالك أكثر من مرة، كثيرا ما تصل إلى أربع أو خمس... معاناة حقيقية !! دع عنك الطريقة المزاجية المتقلبة والمزرية التي يتصرف بها المسؤول عن الأداء حيث يمكنه، مثلا، أن يتوقف عن العمل ويوقف الأداء، ويصرف الناس إلى بيوتهم في أي لحظة شاء، لسبب ولغير سبب، وكل من يعتريه إحساس معين أو تنتابه مشاعر ما، فله مصير معلوم... مثل هذا سيصنف.. وحتما سينتهي به الحال إلى التوقيف (=العزل) بعد أن يهيئ له ملف بأسباب ومبررات جاهزة ومعروفة، سيصير حينها مخلا بالخصوصية المغربية.. والتسامح الديني.. بالوسطية والاعتدال والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وطريقة الجنيد...
هذه هي الطريقة المثلى المتبعة إلى اليوم، أما الأماكن التي لا وجود فيها لتلك المندوبيات فيستحسن بخصوصها الجهل وعدم السؤال!
أنا أعتقد أن النتيجة في تشخيص حالة الذهنيات الوصية عندنا ربما يؤول إلى أن العائق في (الإصلاح الديني) عائق ديني بالأساس، وفقهي بالذات.. وربما يحتاج الأمر فقط إلى استصدار فتوى من (المجلس العلمي الأعلى) أو رأي اجتهادي حول (أجرة الإمام).. وهي المسألة المختلف في جوازها بين فقهاء المذاهب قديما..
لذلك الوزارة تعتبر ما تصرفه (مكافآت) وليس (أجورا)، نعم هي ليست أجورا فكيف بموضوع (الحد الأدنى) وأخواته من الموضوعات الأخرى !.( وهل يصح الحديث في العبادة عن عطلة مثلا أو تقاعد... إذا كان الله يقول: ﴿واعبد ربك حتى ياتيك اليقين﴾)... وعندما نقول (مكافآت) فنحن نقترب بلا شك من مفهوم (الصدقة) و(التفضل)، وفي أحسن الأحوال مفهوم (التضامن)، هنا يعترضنا عائق آخر، (مفهومي) هذه المرة، ففي هذه الأيام اعتدنا أن نسمع جملا غربية إذا حصلت كارثة ما ـ زلازل أو فيضانات أو حرائق ـ نسمع أن (الجماعات المحلية والسلطات العمومية تتضامن مع المواطنين...)كذا !! فهذا إذن عائق في ماهية (التضامن) وعلاقته بـ(الواجب)..
أيضا لغة الخطاب الرسمي تعتمد مصطلح (الاهتمام).. فتقول: (الاهتمام بأوضاع القيمين الدينيين)، فإذن القضية إنما تفهم في نطاق الاهتمام والعناية فحسب، وهو نطاق بطبيعته دائما يعني الفوضى والغموض... والقابلية للتحلل من أي التزامات أو تعاقدات مفترضة ولو كانت شرفية.. (خطوات من قبيل [التغطية الصحية] و[المنح] يمكن قراءتها وفق هذا المنظور، وهذا لا يمنع أن تكون مما يستحق الإشادة في الظاهر..).
هذا (الاهتمام) تراه وكأنه من عالم غير عالمنا، لا يستطيع الخروج إلى الأحياء، ولا العيش معهم أو المشي بينهم ولو مرة واحدة، بل له لحظته المواتية التي لا يظهر إلا فيها، لحظة الموت! حيث تصرف الوزارة على الإمام بعد موته ما كانت تدخره له... فتجمع له في تلك اللحظة ـ لحظة اليقين الذي يأتيه بعد عمر كامل من العبادة ـ حقوقه كلها.. ما وجب له في الحياة وبعد الممات..وهكذا تريح ضميرها بـ(ألفي درهم)!!! يتسلمها الميت لتجهيز مراسم دفنه وعزائه.. حتى تنقطع حجته عند الله.
صبغة اللاتنظيم هذه التي تميز هذا المجال من بين سائر المجالات وتعتبر من أخص خصائصه اليوم نجدها واضحة في الطريقة التي تسير بها الوزارة شؤون المساجد، حيث مثلا المندوبية الجهوية أو الإقليمية الواحدة تجدها المشرف المباشر على مئات المساجد.. كيف ذلك؟ !! الله أعلم، المهم أنها المسؤول المباشر.. (مسؤولية مباشرة.. خالية من أي قنوات تنظيمية مساعدة، أو آليات إجرائية وسيطة..). لذلك هي تكتفي بالتحكم والضبط والمراقبة (الأمنية لا الخدماتية)، ويكون ذلك في مثل هذه الحالات هو كل ما يهمها، بل كل ما تقدر عليه.. لهذا نجد مساجدنا تعاني الإهمال والضياع واللامبالاة والفوضى وانعدام النظافة (وبالمناسبة كان يمكن التفكير في صيغ حديثة لتدبير مثل هذه المشاكل، كالتعاقد مع [شركات خاصة للنظافة] مثلا بدلا من صفقة الشاشات التلفزيونية المثيرة لردود أفعال استهجانية) بل أصبحت مساجدنا من الناحية الأدبية في كثير من الأحيان مرتعا خصبا لأنواع مع العادات الاجتماعية السيئة كالغيبة والنميمة والتلصص (الحضية) والسرقة والتسول العلني والمقنع وما إلى ذلك.. بل فضاء متنفسا لكل أشكال الكبت والقهر الفردي والجماعي..
عفوا، بل الوزارة تدبر شؤون المساجد حتى النهاية وتؤمن إيمانا ليس بعده شرك أن للمساجد ربا يتكفل بمصاريفها واحتياجاتها ـ إن كانت أصلا تعتقد أن لها مصاريف واحتياجات ـ إنها تعول تماما في ذلك على المحسنين.. لا تريد المسكينة أن تكون سببا في انصراف الناس عن فعل الخير أو انقطاع الإحسان من هذه الدنيا، إنها تتمثل خلقا من أخلاق الله فـ(تحب ـ هي كذلك ـ المحسنين)..حتى إن صنابير مياه مثلا لو فسدت في مسجد ما أو تعطلت، أو بضعة مصابيح جاء أجلها.. فإن الأمر يبقى كذلك ما شاء الله له أن يبقى، حتى إذا مل الناس واستغربوا لتلك الحال وعجبوا وعلمت إدارة الوزارة بذلك (علمت بالتذمر والاستياء طبعا لا بتعطل الخدمات، فليست لها عيون بعد ترصد تعطل الخدمات.. وهو مؤشر مكشوف على مدى التعاطي الأمني الفج، إذ دائما الفتنة أشد من القتل) قابلت ذلك باستغراب مثله أو أشد، كيف لم يبادر أحد إلى إصلاح ما فسد، وجلب ما نقص، ألم يبق في الناس محسنون، (أليس منكم رجل رشيد)؟! الشيء الوحيد التي ظلت الوزارة وفية له في هذا السياق، تلك الماركة المسجلة من الحصير المتفرد الذي ظلت تمد به المساجد دون انقطاع، وهو متفرد قطعا بصلابته وخشونته التي تدمي الأقدام، وتسجل أثر السجود على الجباه.. وتلك حقا هي العبادة والتقرب.. لأن النبي (ص) قام حتى تورمت قدماه، ﴿والذين معه... سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾..
ولفهم أفضل لهذه الطريقة نلاحظ مثلا أن الوزارة منعت منذ سنين استعمال سخانات الماء الكهربائية، وعمدت إلى نزعها من جميع أماكن الوضوء، لأن الوضوء عندها لا يكون إلا بالماء المطلق (والماء المطلق مصطلح فقهي.. يقابله الماء المتغير والماء المستعمل...)، بل غسل الأطراف بالماء البارد وكذا الأماكن الحساسة من الجسد هو بلا شك من عزم الأمور ودليل على قوة الإيمان وإخلاص العمل..(إسباغ الوضوء على المكاره)...إلا أنها مع ذلك رخصت لمن ليسوا من أهل تلك المنازل والمقامات باستعمال (السخانات الغازية)، وهذه الخطوة انطوت على أبعاد واضحة، أهمها: أنها لم تقم بتزويد المساجد بهذه السخانات حين نزعت الأولى بل تركت ذلك لمن يريد أن يقرض الله قرضا حسنا.. ثانيا: السخانات الغازية كما هو معروف كثيرة العطل وتحتاج إلى صيانة متكررة ومراقبة دائمة، فهي إذن غير عملية، مما يدعها مطروحة على الحوائط كالفزاعات. ثالثا: هذه السخانات على فرض جاهزيتها مرتبطة بـ(قارورة الغاز) التي تباع في الحانوت.. وهذه هي (الحكمة الكبرى).. نخشى أن يأتي على الناس يوم يطلب من كل داخل للمسجد أن يأتي وفي يده شمعة إذا هو أراد الصلاة، لأن قرارا بمنع الإنارة الكهربائية قد صدر.. قرار أو فتوى! وعندها يمكنهم أن يسموها دون خوف: صلاة الشموع..
ومع أن التقاليد الممهدة منذ قرون تعطي إمام المسجد في العادة الإشراف المباشر على شؤون المسجد، إلا أن الجهات الوصية وإن كانت هي كذلك ترى الأمر كذلك إلا أنها في الواقع لم تقم في يوم من الأيام بتفعيل مثل هذه الأعراف أو تقديم الضمانات والشروط اللازمة لتجسيدها عمليا، فالمسجد بحق يحتاج إلى نوع من المتابعة الفعلية اليومية بل اللحظية، ما دام يعتبر جزءا مما هو (يومي) بالنسبة للمسلم.. واليوم الوزارة في ارتباط إداراتها المحلية بالمساجد التابعة لها وفي تواصلها معها تبقى مغرمة بآلية واحدة ووحيدة.. الآلية الأزلية المقدسة في التفكير المخزي من غير منازع، آلية (الاستخبار).. أو (التقنية التي يشتغل بها جهاز المقدمين والشيوخ في المغرب). وبالمقابل هي ترفض (فكرة المسؤولية) و(الإدارة)، أو (المسجد كمؤسسة) (= المسجد كجامع)، رغم ما يحققه ذلك من تدبير جيد ومردودية عالية... والسبب لهذا الرفض عندها أن ذلك يمس هيبة المساجد وحرمتها، وقد يدنس قدسيتها، وفي رواية أخرى أن ذلك بدعة، وكل بدعة ضلالة. ؤ(تامقدميت) في المساجد ألا تمس هيبتها وحرمتها؟!، أليست بدعة؟! أم أنها بدعة حسنة، أم أن الله في المغرب تعبدنا بهذا النوع من الأوضاع والعلاقات الغامضة والملتبسة، وهذا قدرنا !.
حتما لن تتغير الحقائق على الأرض ما دمنا نلغي الإنسان من الاعتبار ونزيله من الحسبان إذ نريد الإصلاح، لابد من التوجه صوب (الإنسان) بما هو مركز العملية الاجتماعية والحركة الكونية، في المغرب كما في غيره منذ بداية الاصطدام بالغرب كثقافة ثم دخول الاستعمار بعد ذلك، كانت حينها كثير من القيم والمفاهيم تنقلب وتختل، وكانت وظيفة (الإمامة) وكل ما يدور في فلك (التعليم الديني) له قيمة وقدسية في النفوس واحترام حقيقي في الوجدان العام.. ولم تكن مجرد إمامة مهنية في المسجد بل كانت أكبر من ذلك وأعمق.. كانت إمامة اجتماعية ودنيوية مع ذلك.. ليس ذلك لأن المجتمع كان مجتمعا تقليديا ببنيات تقليدية، لا. المهم أنها كانت بنيات منسجمة متآلفة ليست هجينة، اليوم وبعد تصدع كل شيء وتقويض كل شيء ثم التفريط في البقية الباقية صارت النظرة إلى مثل هذه (الأدوار) تستصحب نوعا من المشاعر أقل ما يقال عنها أنها متباينة وغير مفهومة، مثل كثير من الأشياء في هذا الواقع وهذه المجتمعات تجدها متباينة وغير مفهومة.. مشاعر الاحترام والاحتقار، الدونية والاعتزاز، الشفقة والاتهام، الحاجة والاستغناء، اللعنة والتقديس، اليأس والرجاء، التسلية والألم، التمجيد والتجميد، الإعجاب والهزء...
صحيح أن هذه الوضعية لها أسباب ذاتية عميقة أيضا، لكن تبقى الدولة المسؤول الأول عن هذا المآل، خصوصا أنها تعمل بشكل مطرد ليل نهار في محاولة تأميم هذا (الحقل) ومصادرته نهائيا..
لعمرك أي (دور اجتماعي) أو (ديني) يمكن أن يضطلع به بشر أريد له أن يبقى عالة على مجتمعه.. أن يكون مطرحا لأوساخ الناس (وهذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) كما في الحديث، وإذا كانت هناك هدايا يعتبرها العرف والقانون والدين رشاوى، فإنه يمكن أن يكون كذلك صدقات وعطايا تسول في صورة هدايا... وكما قال الحسن البصري ـ نموذج المثقف العضوي ـ "استغنينا عن دنياهم فافتقروا إلى ديننا"، ودائما ظل المعروف (=الإحسان) أداة من أدوات الاستعباد..
هذا وجه، ووجه آخر أشد قتامة، لا أقول يتم تجفيف منابع التدين ـ فالقوم تجاوزوا هذا المفهوم، ومنذ مدة. وتفننوا في طرائق أخرى هي أضمن لـ(الكفاية التدميرية) ـ وذلك تحويل تلك المنابع إلى مستنقعات.. تحويل الدين من غاية إلى وسيلة.. إذ في مثل هذه الأجواء تشيع أشكال كاملة من (الوصولية الدينية).. في أسخف صورها وأمسخها، وأبأسها وأشقاها. ويتم تقريب هؤلاء من قبل (الجهات الوصية) والتمكين لهم، وتقديمهم في المجتمع وأمام الناس على أنهم (النماذج الدينية)، المعتمدة، وحيث لا يتورع الواحد من هؤلاء أن يبيع نفسه في اليوم الواحد مائة مرة، وطبعا تكون الإدارة الوصية أحد المشترين كل يوم.. وهؤلاء حين تنبعث روائحهم في كل اتجاه، ويصلون إلى درجة يعريهم فيها الزمن وتفضحهم الأيام، وحتى يصير الواحد من المومنين يسأل عن دينه، وصحة عبادته مع استمرار وجود مثل هؤلاء، ويتساءل عن (الأمن الروحي) الذي تتعهد الدولة بضمانه وحفظه، هل صار في مهب الريح.. لكن لا ينتبه المسكين إلى أن هذه العبارة (الأمن الروحي) مجرد ( تقسيم مجالي) لا (تحديد نوعي).. فالأمن واحد، هو ما يفهمه المخزن، لا يتعدد أو يتنوع..
في الماضي قبل هيمنة نظام (الدولة الحديثة) كانت هذه الفئة تتقاضى أجورها من المجتمع عبر الأطر التنظيمية التي أحدثها هذا الأخير لنفسه (=الوقف)، وكانت تأخذها كأجور، أي منطلق (الحق)، والمجتمع يعطي من منطلق (الواجب)، وكان هناك نوع اتفاق ضمني و(عقد اجتماعي)، أما اليوم فأين نحن من هذا، الدولة تريد اليوم أن تجعل هذه الفئة في منزلة بين المنزلتين، لا هي محسوبة عليها ولا هي محسوبة على المجتمع، والله يقول ﴿فلا تميلـوا كل الميل فتذروها كالمعلقـة وإن تصلحـوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيـما﴾.
إن الدولة تعتبر ما تدفعه مجرد (مساعدات) كما يصرح المسؤولون فيها، ربما هي مساعدات مقابل أن تظل جاثمة على أنفاس هذا الفاعل (سابقا)، خانقة هذا (المارد) وقد أنهكه المرض والعجز، وأجد مخيلتي هنا مأخوذة تماما بصورة: الجاني الذي يرسل بعض المال لأسرة الضحية مواساة لها ومساعدة، وهي مواساة ومساعدة صادقة، ولكنها الضرورة.. (الضرورة الملعونة) فقط هي التي تدفعه لتدمير حبيبه وشريكه.. واغتصاب حقه في الحياة..
الإصلاح المتحدث عنه اليوم يقول بـ(تكوين الأئمة)، تكوين تتولاه (المجالس العلمية)، وأنا لست أدري ما هذا (التكوين)، هل هو شرط جديد من شروط الإمامة كانت المذاهب الفقهية في ذهول عنه خلال تاريخها الطويل، أم ماذا؟ أخشى أن يشكل هذا في ذاته مسا بالصورة التاريخية للممارسة الدينية في هذا البلد، وتشكيكا في القيمة الرمزية لمقوم من مقومات هذا المجال.. فهل يعني هذا أن أئمتنا الذين نقتدي بهم في الصلاة منذ أربعة عشر قرنا يفوتهم مثل هذا الشرط ومن ثم فصلاتنا التي أديناها وراءهم غير صحيحة وعلينا اليوم أن نعيدها، نعم نعيدها لولا (خروج الوقت)، بل لولا أنه خرج ـ في هذه النازلة التي لم تعهد ـ بأربعة عشر قرنا لأعدناها استحبابا.. أم ماذا؟ !.
ونحن مع احترامنا لهذه المجالس (العلمية) واختصاصاتها، وإشفاقنا عليها في الوقت نفسه.. نعتقد مع ذلك أن هذه الإمامة (صنعة)، أي لها أهلها.. أهلها الذين يفهمونها وهم بلا شك أدرى بها من غيرهم، حتى لو كان هذا الغير المجالس العلمية أو بعض أعضائها. والكل يعلم ومنذ أمد بعيد أن اختصاصات هذه المجالس في علاقتها بالأئمة لم تكن في يوم من الأيام اختصاصات علمية إطلاقا، بل (التزكية) التي تسلمها للواحد من هؤلاء ـ حين تطلبها منه ـ إن هي إلا (تزكية أمنية وسياسية)..لا شيء غير ذلك، والجميع يعرف هذا. ذرونا نقول إن (عملية تحفيظ القرآن) ـ بما هي عملية متداخلة وتركيبية، مغربيا على الأقل، ليست ساذجة أو سطحية كما يخيل للكثيرين ـ هي نفسها (عملية تخريج الإمام)، أو على الأقل هما عمليتان متداخلتان أو تتمان في آن واحد، فالطالب وهو يحفظ القرآن في الوقت نفسه هو يتشرب طرائق مهنته المحتملة وتقنياتها حتى تصير (صنعة) بين يديه..
على أن هذا (التكوين) المدعى، أو (التأهيل) ليس شيئا جديدا بتاتا، بل هو مما جرى به عمل وزارة الأوقاف مذ عرفت أو مذ عرفناها، وكان الباشوات والقواد كثيرا ما ينوبون عنها في هذا، فضلا عن أفراد من الطابور الخامس، ولا زال الأمر كذلك في كثير من الأماكن على هذا العهد.. فـ(التكوين) المراد إذن مصطلح يكاد يكون مرادفا لمصطلح (تعليمات) إن لم يكنه، أو هو (الإقراء) [مترجم إلى الدارجة]. وبعبارة غير مخالفة، لكن فصيحة هذه المرة، (التكو/ي/ن) كلمة اختصار لعنوان أطول وغاية أوضح، ليست شيئا سوى (التكوّم في الرّكن)!! هذا فقط لمن لم يستطع أن يتحلل (جرعة تخدير)، أو ينتصب (بوق دعاية).. أو يجد نفسه يتطور طبيعيا (سوسة نخر فكرية)..
يا سادة، أئمتنا لديهم ما يكفي من العلم، لديهم القدر المطلوب.. ليس ينقصهم (الحضور العلمي) ولكن (الحضور الوجودي)، ينقصهم الإحساس بالذات، بالكرامة.. الكرامة المهدورة.. الإنسانية المستلبة.. الوجود الممسوخ..
هل هناك اليوم دراسة ميدانية واحدة يمكن أن نعتمدها لنقول: إن المشكلة عند هؤلاء مشكلة تطرف وتحريض، المشكلة من نوع آخر تماما، المشكلة مشكلة (تجويع) تسفر بالنهاية عن (أزمة كرامة).. المشكلة تبدأ من التكريس الممنهج للدونية والتحقير، الممزوجين بنظرة الشفقة ثم المقاربة البئيسة خماسية الأضلاع: التبركية.. الخرافية.. القبورية.. الفلكلورية.. وبالنهاية الكاركاتورية.. ولا تنتهي عند اللغة المعزرة لكل ذلك، وأقرب مثال يمكن أن نضيفه إلى ما سبق، عبارة: (القيمين الدينيين) نفسها، هذه العبارة التي تستخدم ليس كتحديد إجرائي مساعد، ولكن كمحاولة لإضفاء نوع من الحياد والموضوعية (=التعويم) على هذه الوظيفة، وبالتالي نوع من العمى والصمم، لتصير عندها بدون مضمون أو هوية أو مرجعية أو اختلاف.. ومن ثم من غير قيمة وجودية أو وظيفة في الحياة..
وانظر ـ عافانا الله وإياك، وحفظ علينا رشدنا وحياءنا ـ كيف تتم المسارعة في هذا الذي نقول، وذلك إذ ترى الوزارة الموقرة تتساهل في منح (تزكية الإمامة)، فلا تعود تشترط حفظ القرآن !!، بل انظر بعد ذلك إلى الحرص على هذه التشظية المتعمدة لهذه المهمة حتى صارت بموجبها اثنتين لا واحدة: (إمام الخمس الراتبة) مهمة، و(خطيب الجمعة) مهمة ثانية، ليس يجمع بينهما في مسجد واحد إلا ما قد سلف، وهو ما يجرد الوظيفتين معا من كل قيمة اجتماعية أو أبعاد تنويرية (دعوية) أو تربوية، بل يلقيهما على هامش الحياة أشباحا بلا أرواح، بعبارة أخرى تم إضفاء الطبيعة التقنية الميكانيكية على العمليتين معا (إمامة الخمس، وخطبة الجمعة)، وصار خطيب الجمعة يأتي من أقصى المدينة لحظة من أسبوع ويصعد المنبر، لا يعرفه أحد ولا يعرف أحدا.. ربما هو يقيم في مكان مجهول، كأنه كائن غريب.. قادم من كوكب آخر ثم يغادر بعد أن يكون أدى مهمته بمهنية عالية، أي ببرودة، حتى لو ألقى خطبته بنبرة صاخبة أو حماسة... إنه ليس إفرازا طبيعيا للوسط الذي يتحرك فيه، بل ظاهرة مفروضة فوقيا وطارئة ، إنه حتى الرصاص أو الكهربائي أو أي صاحب صنعة يدوية تستأجره عندك ساعة من نهار تجده جارك وابن حيك أو مقيما في الزقاق المقابل الذي تمر منه كل يوم، بل (خطيب الجمعة) اليوم صار مثل أي شركة تقنيات متخصصة تأتي لتصلح عطبا أصاب أشياءنا ثم تنصرف ومعها آلياتها وعمالها..
أما (إمام الخمس) فصار في وظيفته التي يؤديها مثل آلة صماء إلا أنها تشتغل بإحكام.. تقوم وتركع وتسجد وتقعد، ولا شيء بعد ذلك.. أو ككائن لا يسمع ولا يبصر، ولا يعي أو يعقل شيئا، وإن كان يتلمظ شظف القسوة والجوع.. هكذا أريد له أن يكون، أن يفصل عن (دور الفاعلية والتأثير) وتصير (إمامة جوفاء)، مصابة بأخطر أنواع الفشل وأشدها فتكا.. وهكذا فمن شدة الإمعان في هذا الفصام أن تم تشطيب (الوعظ والإرشاد) كفعل حي واجتماعي، واستبدل بوعظ بائت.. ومصبّر في أحسن الأحوال.. (وعظ علب) توزعه الشاشات على الناس بالتساوي، حدث هذا بعد أن تم الاستغناء عن خطب العيدين، وخطب الاستسقاء والخسوف.. وهم الآن يستنجدون بكل الحيل الفقهية وغير الفقهية للالتفاف على خطبة الجمعة والسلام.