مدخل:
مع ظهور فلسفة التأويل في الفكر الغربي، اتسعت التطبيقات المتعددة للتأويلية في الفكر الغربي والشرقي معا.
ولعل مسألة التأويل لم تكن وليدة اليوم، على الرغم من "الطابع العلمي" الذي أضفي عليها في التأويلية المعاصرة، بل شكل التأويل أساس وجود النص، فكل نص يفترض قراءة، والقراءة تستدعي الفهم، وما دام الفهم محكوما بالذات في مختلف السياقات التي تحكم القراءة، فإنه سيبقى نسبيا ومتعددا ومختلفا ومتنوعا حسب الذوات والسياقات التي حكمها، وهذا أساس قيام التأويل ووجوده.
شكل العصر الوسيط في الحضارة العربية الإسلامية أهم العصور التي نمت فيه النزعة التأويلية، حيث شكل علم الكلام مجالا خصبا للمجادلة حول "النص الديني" حيث ظهرت تيارات عديدة تهتم بالتأويل والتفسير معا.
ومع كثير من التحفظ فإننا لا نسوق هنا الحديث عن التفسير باعتباره شرحا وتوضيحا من أجل الفهم بل التأويل كفعل لاستبطان ما هو مضمر في النص ك "الآيات المتشابهات" و "الآيات المحكمات"...
إن الجدال لم ينصب حول ضرورة التأويل، بل حول جملة القضايا التي شكلت أساس علم الكلام وبالقدر الذي نجد دعاة التأويل يسعون إلى إعادة تفكيك النص الديني من أجل إيجاد ما يشفي الغليل وما يروي ضمأ "الشغف إلى الاستطلاع" فإننا نجد في المقابل تنامي النزعة "اللاتأويلية" (إن جاز هذا الاستعمال) والمتمثلة في جملة التيارات والجماعات السلفية التي تنبذ التأويل وتذمه.
وإذا كان اقتناعنا تاما على أن أي نص سيظل يكتنفه الغموض ما دام محكوما بسياق ما وبشروط جعلته كذلك يتأطر كإجابة مرحلية على ضرورة ما، فهذا لا يعني أننا سننساق إلى دعاة التأويل ونذهب بعيدا إلى الترويج لفلسفة التأويل ما لم يتضح أكثر السياق التاريخي، وهو ما يستدعي فهم عميق للثرات الذي يختزن "أثرا تاريخيا وفكريا" يستحق كل الاهتمام. وحسبنا نروم هنا في هذا الموضوع إبراز وجهين بحثا مسألة التأويل من زاويتين مختلفتين، وان كان لا يجمع بينهما مجمع في زمان ما، ولا مأدبة سجال، فإننا نتوخى حقيقة معالجة موقف سني ـ سلفي يذم التأويل، وموقف عقلي يدعو إلى التأويل ويشرع " الاعتبار" بالمعنى الرشدي.
ويتعلق الامر بابن قدامة المقدسي الذي قدم في سنه العاشر من فلسطين إلى دمشق حيث تلقى العلم على مشاييخها، والذي انتهى به الامر إلى التقوقع في أحضان السلفية منكفأ على نفسه وسار يشرع ويأصل لأهل "الجماعة والسنة"، كما يتعلق الأمر بزعيم الموحدين ومؤسس "التوحيد" في المغرب، ويتعلق الامر بمحمد بن تومرت الذي ارتحل إلى المشرق بدافع طلب الحكمة والعلم، وإن نشأ في أحضان المدرسة النظامية البغدادية المرتبطة بالغزالي (أبو حامد) فإنه استطاع أن يؤسس مذهبا له أثره في الفكر المغربي الوسيط، ففكره لم يقتصر على الدعوة إلى التأويل واستعمال العقل، بل امتد الى ممارسة السياسة عبر التوغل في أصله الامازيغي (مصمودة) شارحا لبني بلدته ما تعلمه بالمشرق بلغتهم الامازيغية، وباني الدعوة التي اقتنع بها وقاوم بها المرابطين في سبيل نظام سياسي ومعرفي وضع حدا للفقه السياسي في المغرب حتى العصر الحديث حيث سينبثق من جديد وكأنه بوم منيرفا. كما سنعرج على موقف الدكتور محمد عمارة كأحد المواقف المعاصرة التي تدعو إلى تذميم التأويل، وعليه فإن هذا العرض سيقف على:
أولا: موقف ابن قدامة المقدسي من خلال كتابه "ذم التأويل"
ثانيا: موقف ابن تومرت
ثالثا: موقف محمد عمارة من خلال كتابه "قراءة النص الديني، بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي"
-------------
أولا: موقف ابن قدامة المقدسي من خلال كتابه "ذم التأويل"
عن الكتاب : "ذم التأويل"، من وضع عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، نشر عن: الدار السلفية – الكويت، في طبعتة الأولى سنة 1406 ميلادية ومن تحقيق: بدر بن عبد الله البدر.
نبذة مختصرة عن ابن قدامة:
اسمه ونسبه: هو أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمَّاعيلي والدمشقي الصالحي الحنبلي شيخ المذهب الإمام بحر علوم الشريعة المطهرة ـ رحمه الله .
مولده ونشأته: ولد بجمَّاعيل من عمل نابلس في فلسطين سنة 541 هـ ، وقدم إلى دمشق مع أهله وعائلته واقاربه وكان عمره 10 سنين تلقى علومه من كبار مشايخ دمشق وعلمائها، وتوفى يوم الفطر عام 620 هجرية ودفن في دمشق بجبل قاسيون خلف الجامع المظفري .
تعليمه: حفظ القرآن دون سن البلوغ وحفظ مختصر الخرقي وتعلم اصول الدين، وكتبَ الخط المليح، وتتلمذ على يد كبار مشايخ دمشق واعلامها فنبغ ، ثم سافر إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبدالغني المقدسي سنة إحدى وستين، وأقاما بها أربع سنوات يدرس على شيوخها. وعاد الى دمشق.
من مؤلفاته: 1. العمدة . 2. المقنع . 3. الكافي . 4. المغني ، وهو أكبر كتبه ومن كتب الإسلام المعدودة . 5. الاستبصار ، في الأنساب . 6. الاعتقاد . 7. التوابين . 8. ذم التأويل 9. ذم الوسواس . 10. روضة الناضر وجنة المناظر . 11. فضائل الصحابة 12. القدر . 13. لمعة الاعتقاد . 14. مسألة في تحريم النظر في علم الكلام . 15. مناسك الحج .
يعرض في مقدمة الكتاب موقفه وغرضه منه:
إبراز قول السلف في أسماء الله تعالى وصفاته، وينصح بضرورة اتباعهم ومحبتهم.
الرد على الشقاق عن الرسول باعتبار مآلهم نار جهنم.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
الباب الأول: لبيان مذهب السلف الصالح وسبيلهم.
الباب الثاني: الحث على اتباعهم ولزوم أثرهم.
الباب الثالث: لبيان صواب ما صار إليه وأن الحق فيما كانوا عليه.
الباب الأول: في بيان مذهبهم في صفات الله تعالى
وفيه يدعو السلف (رحمة الله عليهم) إلى الإيمان بصفات الله، وهي الصفات التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله وعلى لسان الرسول (عليه الصلاة والسلام) من غير زيادة ولا نقصان ولا تجاوز لها ولا تفسير ولا تأويل، بما يخالف ظاهره.
ويعتبر أن السلف لم يقبلوا التأويل بدليل، أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار الرسول نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها. ويحاج بسيل من الروايات والمحكيات لبيان صدق وصحة أهل السلف في عدم الدعوة إلى التأويل وخاصة صفات الله لذلك يقول:
" أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي إذ أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق ابن عبد الرازق الزعفراني أنبأنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الطيب قال أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول إن معنى اليد القدرة ولا أن معنى السمع والبصر العلم ولا نقول إنها الجوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل ونقول إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" الشورى (11)، وقوله تعالى" ولم يكن له كفوا أحد". الإخلاص (الآية 4)
كما يذهب إلى أن المعتزلة والجهمية أصحاب تحريف وتشبيه " تحريف المعتزلة والجهمية".
ويعتبر أن من لم يؤمن بالصفات كما هي فهو كافر، لذلك يقول: "وقال يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به فقال لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله القول بها فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية ولا بالفكر". ولبيان بطلان النظر العقلي في صفات الله يقول: "حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه". فكل تفكير في الصفات هو تفكير غير جائز وحرام، وينبغي القبول بالصفات كما هي في النص وبشكل ظاهري دون أي تأويل أو زيادة أو نقصان، وأن العقل قاصر ولا يجوز له التعقل. ومن زعم غير ما أقره ظاهر النص فهو معطل جهمي " ونقول الرحمن على العرش استوى ومن زعم غير هذا فهو معطل جهمي"، والقول على العرش استوى قول معقول " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود له كفر".
ويذهب أكثر من ذلك الى اعتبار السؤال عن النص بدعة " والسؤال عنه بدعة لأنه سؤال عما لا سبيل إلى علمه ولا يجوز الكلام فيه ولم يسبق في ذلك في زمن رسول الله ولا من بعده من أصحابه"، والحجة هنا حجة ضعيفة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتباط النص بسياق تاريخي واجتماعي وسياسي ما يحكم مضمونه كإجابة عن متطلبات تلك الشروط، ولو أن الكلام في النص في زمن الرسول وفي زمان الصحابة من بعده لم يتم فهذا لا يعني أن الجواز باطل، لأن سياق ظهور علم الكلام والكلام في الصفات والآيات المتشابهات والمحكمات مختلف تماما عن السياق الذي يتحدث عنه ابن قدامة، ولأنه محال أن تكون الشروط متطابقة عبر أزمنة مختلفة، وإن كان ذلك ممكنا فما الذي يجعلها كذلك؟
ويجمل هذا الباب بقول في إثبات الصفات حسب مذهب السلف واعتراف العلماء به حيث يقول: "فقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رحمة الله عليهم بما نقلناه عنهم جملة وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل قد بلغني عمن يذهب إلى التأويل لهذه الأخبار والآيات الاعتراف بأن مذهب السلف فيما قلناه ورأيت لبعض شيوخهم في كتابه قال اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها وهو مذهب السلف فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه والحمد لله "، وصحة ما ذكره ابن قدامة هو موضع إجماع حيث لا يجوز التأويل، في حين أن ابن قدامة لا يذهب كثيرا في بيان عدم صحة موقف الجهميين حول التجسيم ولا في اجتهاد المعتزلة وأسس التأويل العقلي لديهم.
الباب الثاني: في بيان وجوب اتباعهم والحث على لزوم مذهبهم وسلوك سبيلهم وبيان ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة
يفتتح هذا الباب بالآية الشهيرة التي سالت مداد أهل النقل والعقل معا، ويتعلق الأمر بالآية 115 من سورة النساء والتي تقول:
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا"، فهي حجة عل عدم جواز التأويل وعلى ضرور ذمه وتحريمه. ومن اتبع أهل التأويل فمصيره جهنم، ويضيف من جهة الدليل القرآني الآية 110 من سورة التوبة حيث وعد الله فيها متبعيه بالرضوان والجنة " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه". ومن السنة يورد قول النبي "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
تعتبر الآيتين وقول النبي أهم الدلائل على عدم جواز التأويل وعلى ضرورة اتباع السلف، ومن لم يتبع فقد "احدث في الدين وابتدع"، وأن "من لم يتبع السلف رحمة الله عليهم وقال في الصفات الواردة في الكتاب والسنة قولا من تلقاء نفسه لم يسبقه إليه السلف فقد أحدث في الدين وابتدع وقد قال النبي كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وشر الأمور محدثاتها.
ويمكن أن نلخص بيانه في: في وجوب اتباع أهل السلف بدلائله النصية:
وقال عبد الله اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة
وقال إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر
وقال رحمة الله عليه عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله وإنكم ستجدون قوما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق
وقال أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أو رجيل أدركه ذلك الزمان.
وقال ابن مسعود من كان منكم متأسيا فليتأسى بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
ويذهب أيضا في القول أن قول الفلاسفة بدعة لأنه قول في الأعراض والأجسام: "وروى نوح الجامع قال قلت لأبي حنيفة رحمه الله ما تقول فيما أحدث الناس من كلام في الأعراض والأجسام فقال مقالات الفلاسفة عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة". فأهل السنة يقتدون ولا يبتدون ويتبعون ولا يبتدعون، ولا يزعمون بل عليهم بالعتيق وبلزوم السنة والسلف، " فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع والعبرة دلت عليه فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم لأن اتباع الصواب واجب وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراط المستقيم ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه ونهى عن اتباع ما سواه فقال "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" الأنعام 15" . هكذا يتضح ثبوت وجوب اتباع السلف، بالكتاب والسنة والاجماع والعبرة دلت على اتباع الصواب باعتباره واجبا لأن ركوب الخطأ في الاعتقاد حرام. " وإن زعم زاعم أنهم مخطئون كان قادحا في حق الإسلام كله لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا جاز خطؤهم في غيره من الإسلام كله وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها ولا تثبت معجزات النبي التي رووها فتبطل الرواية وتزول الشريعة ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا ولا يعتقده ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا إما أن يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف علمناه نحن وإن علموه فوسعهم إن يسكتوا عنه وجب أن يسعنا ما وسعهم ولأن النبي من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي الصفات وهو حجة الله على خلق الله أجمعين يجب عليهم اتباعه ويحرم عليهم خلافه وقد شهد الله تعالى بأنه على الصراط المستقيم وأنه يهدي إليه وأن من اتبعه أحبه الله "ومن عصاه فقد عصا الله ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا" الأحزاب 36 "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين" النساء 14"، وبهذا القول يختتم ابن قدامة الباب الثاني حيث يبين بالاستناد على الكتاب والسنة ضرورة اتباع أهل السلف وعلى ضرورة اتباع مذهبهم وذم التأويل.
الباب الثالث في بيان أن الصواب ما ذهب إليه السلف رحمة الله عليهم بالأدلة الجلية والحجج المرضية وبيان ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى
في القرآن آيات متشابهات وآيات محكمات، ومن اتبع التشابه إنما في قلبه زيغ يبتغي التأويل، في حين أن التأويل لله وحده في نظر ابن قدامة: "أما الكتاب فقوله تعالى "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله" آل عمران 7."
ومن يبتغي تأويل النتشابه يقترن بمن يريد الفتنة وذلك بين في نظره من خلال تفسيره للآية أعلاه (آل عمران الآية 7)، حيث يورد سبع نقاط أساسية:
أولا: أن الله ذم مبتغي التأويل ولو كان معلوما للراسخين لكان مبتغيه ممدوحا غير مذموم.
ثانيا: أن النبي قال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم يعني كل من اتبع المتشابه فهو من الذين في قلوبهم زيغ فلو علمه الراسخون لكانوا باتباعه مذمومين زائغين والآية تدل على مدحهم والتفريق بينهم وبين الذين في قلوبهم زيغ وهذا تناقض.
الثالث: أن الآية تدل على أن الناس قسمان لأنه قال فأما الذين في قلوبهم زيغ وأما لتفصيل الجمل فهي دالة على تفصيل فصلين أحدهما الزائغون المتبعون للمتشابه والثاني الراسخون في العلم ويجب أن يكون كل قسم مخالفا للآخر فيما وصف به فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم آمنا به كل من عند ربنا تاركين لابتغاء تأويله وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى ولم يجعل الراسخين قسما آخر ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح.
الرابع: أنه لو أراد العطف لقال ويقولون بالواو لأن التقدير والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون.
الخامس: أن قولهم آمنا به كل من عند ربنا كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده.
السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا رأوا من يتبع المتشابه ويسأل عنه استدلوا على أنه من أهل الزيغ ولذلك عد عمر صبيغا من الزائغين حتى استحل ضربه وحبسه وأمر الناس بمجانبته ثم أقرأ صبيغ بعد بصدق عمر في فراسته فتاب وأقلع وانتفع وعصم بذلك من الخروج مع الخوارج ولو كان معلوما للراسخين لم يجز ذلك
السابع: أنه لو كان معلوما للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد فقد خالف النص على كل تقدير.
ثبت من خلال هذا التفسير للآية (7 من سورة آل عمران) "أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى وأن متبعه من أهل الزيغ وأنه محرم على كل أحد "، وذلك من جهة النص حسب الدلائل النصية الواردة في هذا المتن، ومن جهة السنة لأمرين:
1 - قول الرسول: "كل امر ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا ليس عليه أمر".
2 – أن النبي "تلا هذه الآيات وأخير بالاخبار وبلغها أصحابه وأمرهم بتبليغها ولم يفسرها ولا أخبر بتأويلها ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع" فلو كان لها تأويل لزمه بيانه ولم يجز له تأخيره. وأن ما سكت عنه الرسول لزم علينا اتباعه لقوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". (الأحزاب 21).
والصحابة أجمعوا على ترك التأويل لأنه ابتداع وبدعة، والاجماع حجة قطعية على حد تعبير ابن قدامة، ولا يجمع أمة محمد على ضلالة. وكذلك الأئمة الذين أوصوا بالنهي عن النفسير والتأويل معا. لذا يجب اتباع الرسول والصحابة وعلمائهم، فإذا علموا بالتأويل ووسعهم السكوت عنه وسعنا ما وسعهم، وإذا لم يعلموا بالتأويل فكيف يجوز أن يعلمه غيرهم؟ وهل يجوز أن يكون قد خبأ عنهم علما وخبأ للمتكلمين لفضل عندهم.
إن الصفات في نظر ابن قدامة لا تدرك بالعقل، على عكس ما يذهب إليه المعتزلة، لذا يقول: "صفات صفات الله تعالى وأسماءه لا تدرك بالعقل لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه فلا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف"، ويحاج على ذلك بالآية 33 من سورة الأعراف " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطل والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".
وهكذا يختم ابن قدامه اجتهاده ـ إن صح اعتباره اجتهاد ـ بالتأكيد على أن:
التأويل من أهل جهنم والزنادقة.
التأويل ليس بواجب بالإجماع ولو كان كذلك فالنبي وأصحابه أخلوا بهذا الواجب وهذا محال، وغير جائز قوله.
يتعين تحريم التأويل.
لا يلزم أحدا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى
ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم .
وطريقة السلف رحمة الله عليهم جامعة لكل خير.
يتضح مما سبق أن صاحبنا يعمل جاهدا على رفض التأويل كما عمل غيره من أهل السلف، وإن كانت محاولته لا تنطوي على أي تقدم بخصوص ذم التأويل، حيث أن عمله ما هو إلا جرد واجترار لدلائل السلف، وان كان الأولون عليه من سلفه قد ساجلوا أهل "القول بالصفات" و"التشبيه" و"التجسيم"، فإنه في عمله هذا يكتفي فقط بإصدار الأحكام في عموميتها، دون أي يخوض في سجال مع من ينتقدهم.
ثانيا: موقف ابن تومرت **
1 – الفرق بين التأويل والتفسير:
يذهب الدكتور عبد الحميد درويش في كتابه "الفلسفة الإلهية عند محمد ابن تومرت"، إلى أن ابن تومرت سار على نهج من سبقه من الأئمة والفقهاء وبعض علماء الكلام. على الرغم من أنه لم يلجأ إلى تأويل أو تفسير القرآن بالقرآن. وهذا ما جعل تأويله أقرب إلى العقل منه إلى النقل، مثلا تأويله لمعنى "كرامة الإنسان"، وقبل أن نعالج مسألة التأويل عند ابن تومرت، نرى ضرورة التمييز بين التأويل والتفسير.
فحسب قول الماتريدي*: إن التفسير هو القطع بأن مراد الله تعالى كذا... أما التأويل فهو ترجيح أحد المحتملات بدون قطع.
ولدى البعض الآخر التفسير أهم من التأويل، فالتفسير للمعنى الظاهر والتأويل للباطن، والتفسير يؤخذ من وضع العبارة والتأويل يستفاد من طريق الإرشاد، ووظيفة التأويل الإجابة وكشف المعطى عن طريق الاستدلال والرجوع إلى الأصل أي رد الشيء إلى الغاية المرادة منه.
التأويل عند ابن تومرت:
اعتمد ابن تومرت على ما يذهب عبد الحميد درويش، على قول من سبقه من المفسرين للوصول إلى النتيجة العقلية التي يفترضها في التأويل، ومن أهدافه في التأويل:
التأويل وسيلة لتفسير وبيان أصل الطبائع وتركيب الأرواح والأنفس في الأجسام عن طريق بيان حقيقة هذه الاشياء وتفسير نشأة الخلق الآدمي ونشأة الكون...
التأويل وسيلة لنشر الفكر الإسلامي الصحيح، لأن التأويل يؤدي إلى العلم، والعلم أصل الهدى واليقين.
التأويل وسيلة للتوفيق بين الآراء المتعارضة عند المفسرين لأن التأويل لا يكون إلا بالرجوع إلى الأصل.
التأويل وسيلة لا ستخلاص الأحكام من الشريعة وتسهيل عملية التطبيق، وذلك لأن التأويل يعتمد على العقل الذي به نهتدي إلى الحكمة...(كنز العلوم).
التأويل هو السبيل للرد على المخالفين من جميع المذاهب سواء متطرفي أهل السنة أو الرافضة أو غيرهم من المجسمة...
وفي هذا يؤكد ابن تومرت على دور العقل في فعل التأويل، فالعقل، نظر حقيقي مهمته ووظيفته محددة: التمييز بين الحق والباطل. أي أن التأويل ضرورة لأنها المصدر الذي يشمل كل الأدلة البرهانية والجدلية والخطابية، وهو يرى أيضا أن الشريعة تخاطب كل فريق على قدر عقولهم وينبغي تأويلها للعامة والخاصة على السواء، وعلى هذا الأساس ألف العديد من الرسائل كالمرشدة في التوحيد (التي تؤكد وجوب الاجتهاد والأخذ بالأدلة العقلية والسمعية والقرآنية...).
تأويله لمفهوم الكرم:
يستدل بقوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء الآية 70). ويقول ابن تومرت في هذا: "ويحتمل أن يكون الإكرام عما خصه الله به من المعاني التي هي للعقل والعلم والإيمان وغير ذلك من الخواص الحميدة" (أعز ما يطلب، ص66، طبعة الجزائر 1903). ويضيف: "اعلم هداك الله تعالى أن الإنسان أفضل المخلوقات وأكرمها على الله تعالى وأكملها وأحسنها خلقا بما أودع الله فيه من بديع حكمته ورفيع صنعته وذلك أن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وفضله على سائر خلقه وركبه في أحسن صورة" (كنز العلوم والدر المنظور، الفصل الرابع، ص97،98).
إن العقل في نظر ابن تومرت هو الأداة الأساسية لاعمال التأويل باعتبار التأويل الضرورة الأساس، ولقد كان موقف ابن تومرت وسطيا بين دعاة النقل ودعاة العقل. هكذا يجتمع (في ابن تومرت) الفقيه المجتهد والسياسي المحنك الذي يتطلع إلى إرساء دعائم دولة مبنية على أسس مغايرة للمرابطين وللفقه السياسي المتزمت. ولا يقتصر ابن تومرت على الدعوة إلى إعمال التأويل والأخذ به، بل رد أيضا على المعارضين أي "كارهي التأويل" وهذا ما سنبينه:
كراهة التأويل:
رد ابن تومرت على من يكرهون التأويل بعدة دلائل:
كراهة التأويل تعني الفصل التام بين الحكمة والشريعة، أي بين العقل والنقل وهو ما ثبت فساده شرعا ومنطقا.
الإجماع والقياس يدخلان في الشريعة، فالإجماع يستمد من قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء، الآية 59). وهي نفس الحجة التي نجدها لدى أهل السنة وخاصة ابن قدامة المقدسي.
التأويل هو طريق ثبوت فرع دون أصل وأصل دون فرع,
كراهة التأويل مصدرها الخوف (الخوف من الاعتماد الكلي على العقل).
لقد حاول ابن تومرت في كتابه "أعز ما يطلب" أن يرد على رافضي التأويل في باب كامل عنوانه: "الدليل على أن الشريعة لا تثبت بالعقل من وجود مؤكد"، وفي هذا الباب يرى أن رفض التأويل لا اساس له لاعتقاد كارهيه:
أن العقل ليس فيه إلا الإمكان والتجويز وهما شك والشك ضد اليقين ومحال أخذ الشيء من ضده.
قولهم أن ضرورات العقل ثلاث: الواجب، الجائز، المستحيل. والعبادات ليست من قبيل الواجب في العقل ولا من قبيل المستحيل فلم يتبقى إلا الجائز، والجواز يؤدي إلى التمانع.
الأعيان كلها متساوية عقلا فليس بعضها بأولى بالاباحة أو الحظر من بعض، وإذا تساوت تمانعت وإذا تمانعت بطلت.
أن الله مالك الأشياء يفعل ما يشاء، فليس للعقول تحكم ولا مدخل فيما حكم به المولى.
وإذا كانت هذه بعض دعاوي الكارهين، فابن تومرت يرد عليهم بقوله: (أعز ما يطلب، ص 163، 174)
"ذهب الرافضة أن الشريعة لا حكمة فيها وأنها ليست على سنن العقل جارية طعنا منهم في الدين وجهلا بحكمه الله تعالى، وذهب آخرون إلى الاستنباط من عقولهم وتحسين الأشياء على ما أدتهم إليه وجعلوا أقيسة في الشرع عدولا منهم عن الحق وذلك كله فاسد".
لقد كان ابن تومرت جريئا من سابقيه حيث قرر أن التأويل ضرورة يفرضها الشرع ويأمر بها وهو السبيل لنشر الدين وحقيقة التوحيد وإفهام العام ونشر اللغة الصحيحة بينهم بل إنه السبيل لتحقيق الوحدة بين الجميع.
لقد اعتمد التأويل في بداية القرن السادس الهجري ومما لا شك فيه أن ابن رشد القرطبي استفاد مما تركه المهدي الموحدي. فالنص القرآني عند ابن تومرت لا يتعارض مع العقل وان حصل ذلك ينبغي تأويله وتفسيره بحيث يتفق مع العقل. (أليس هذا هو الموقف الرشدي في فصل المقال؟). وهو بذلك يتفق مع الموقف المعتزلي الذي يعتبر أن العقل أصل والشرع فرع يحمل عليه.
تأويل المتشابهات:
تعتبر مسألة التجسيم والتشبيه، من أهم القضايا التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، تفرعت عنها عدة قضايا، تمس: العقيدة، الإيمان، التوحيد، الذات والصفات، الاستواء، الرؤية، التشبيه... وقد سلك ابن تومرت في مواجهة أهل التجسيم والتشبيه في شمال افريقيا مبدأ التأويل والإقناع أولا، والمواجهة بالسلاح والقتال ثانيا.
لقد قدم بيان المعنى للافهام والتوضيح وبيان حقيقة التنزيه والتوحيد لأنها عنده الدليل على رد التشبيه ودحض آراء المجسمة ونفي أي مشابهة بين الله والإنسان.
إن التأويل عند ابن تومرت يشمل الآيات المتشابهات وآيات الوحدانية والتنزيه والآيات المحكمات على حد سواء. ففي كتابه "كنز العلوم" يبدا بتأويل آيات الالوهية والتنزيه: - تأويله "باسم الله الرحمان الرحيم". و – "ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم". ومن خلالهما تتأكد الوحدانية بالدليل والتنزيه أيضا، وكذلك الشأن في مسألة الرؤية والابصار والسمع ولا مجال للتشبيه مع الإنسان، لذلك يقول: "بما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله فكيف نصفه بالجسمية وبالصورة الإنسانية كصورة جوهرية معقولة الشكل كالإنسان ونحوه من الجواهر المجسمات المدركات بالحس".
إن صورة الله عنده صورة معلومة الوجود بالمعنى المفهوم بالعقل لا بالحس والخيال. ونفس الشيء ينطبق أيضا على آيات النزول والعرش لنفي الجسمية والمكانية عن الذات الإلهية. فالأصل عنده هو التنزيه التام للألوهية في الذات والصفات والاسماء والأفعال، والأصل الفصل بين ما هو إلهي وما هو بشري وما هو روحي ولذلك نفى أن يكون الله جسما أو مادة أو حيز أو في جهة أو مكان لأنه منزه عن كل جسمية وشبه. هذا ولا يسعنا أن نحيط بكافة القضايا التي عالجها ابن تومرت بصدد التأويل، فله العديد من التأويلات التي تستحق الاهتمام، للتأصيل لنزعة التأويل في الفكر الاسلامي الوسيط، وخاصة بالمغرب.
إن دعوة ابن تومرت للتأويل العقلي لا مراء فيها، فهي دعوة بينة وواضحة في مختلف انتاجاته، على الرغم من أنها محكومة ومطلوبة بأمرين:
موقفه التوفيقي بين أهل العقل والنقل، وهنا نفهم هجومه على أهل السلف / السنة والجماعة، وعلى أهل التجسيم والتشبيه.
الازدواج بين الفقه والسياسة، فكونه فقيها لا يلغي كونه سياسيا محنكا ومحاربا في سبيل الاصلاح والتجديد، وكونه سياسيا لا يلغي كونه فقيها، بل شجعه ذلك على إيجاد صيغة جديدة في الفقه السياسي تميزه عن خضومه من المرابطين.
وإذا كان الحال هكذا بالنسبة لهذين الموقفين، كما هو الحال بالنسبة للعديد من المواقف الموزعة على خارطة الفكر الوسطوي فإن هذا لا يعني على الرغم من كل الدراسات الخصبة والقراءات المتعددة التي يحفل بها الثرات العربي ـ الاسلامي، أن مسألة التأويل قد حلت وأننا حسمنا بين أمرين: إما الدعوة إلى التأويل، وإما الانكفاء وراء تذميمه. بل نعتقد أن هذه المسألة ظلت حاضرة إلى اليوم وحتى لا نقول أنها راهنية لأنها لم تنمحي ولم تختفي قط في هذا الثرت، فإننا نود أن نقف على أهم المواقف المعاصرة على الرغم من المحاولات التقدمية التي همت الفكر العربي ـ الإسلامي المعاصر وذهبت أبعد من التأويل، فإن التذميم لايزال متواصلا مع البعث الجديد للسلفية الوهابية أساسا.
يشكل الدكتور محمد عمارة أحد أعمدة الفكر الاسلامي المعاصر الذي تظل كتاباته ال 185 تزخر بمواقفه السلفية في جملة من القضايا المعاصرة المطروحة على الفكر العربي المعاصر. فهو الوجه الأمثل كغيره من الوجوه الأخرى الأكثر تشددا بصدد التأويل والتي يقاسمها نفس الرأي.
ثالثا: موقف محمد عمارة من خلال كتابه "قراءة النص الديني، بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي"
يفتتح كتابه بحكم مسبق وقطعي حول التأويلية حيث يقول "هذه الهيرمينوطيقا، قد بلغت في الغلو إلى الحد الذي حكمت فيه بموت الإله، في تأويل النصوص المقدسة لدى اليهود والنصارى". وهو حكم ينطوي على انتقائية كما سنرى.
يتناول الكتاب: الهيرمينوطيقا من علم موت المؤلف إلى هيرمينوطيقا النص الديني، متوقفا على التأويل في مذاهب الإسلاميين على مستوى النص القرآني والسنة النبوية وفي اللغة والاصطلاح، كما ساق الحديث عن القانون الإسلامي لفلسفة التأويل، كما هو الشان عند الصوفية والتأويل الباطني. ودون الوقوف على كل الحيثيات التي تؤطر هذا التصور فإن موضوعنا سيقف أساسا على الفصل المعنون ب: "هرطقة الهيرمينوطيقا في الدراسات الإسلامية المعاصرة"، والذي يتخذ فيه لا حكم قيمة وفقط بل موقفا متأصلا، وما تعنيه كلمة هرطقة وما تحمله من دلالات.
إن عمارة هنا يستجيب لموقف عصره وفق ما يتصوره كما استجاب له "ابن قدامة المقدسي" و "ابن تيمية"، ففي هذا الفصل يقر بالعلاقة بين "التأويل الهيرمينوطيقي الغربي الوضعي العلماني والتأويل الغنوصي الباطني الديني"، وأكثر من ذلك فإن الهيرمينوطيقا المعاصرة في نظره تجاوزت الغنوصية، فهذه الأخيرة تنتقل بالنص من "جسده" إلى "روحه" في حين أن "الهيرمينوطيقا الوضعية العلمانية" تنتقل به من روحه إلى جسده، "تنتقل بالدين من الإلهية إلى "الطبيعة"، ومن الميتافيزيقا إلى الفيزيقا، ومن الوحي إلى العقل والتجربة الحسية، فهذه الهيرمينوطيقا بلغة عمارة "عملت على "أنسنة" الاله والصفات الالهية والنبوة ونفي التنزيل والإعجاز عن القرآن والوحي ونفي الخلود وأنسنة عالم الغيب وإلى "تأليه العقل" والاستغناء به وبالحواس عن الوحي والغيب. وإلغاء عقائد التوحيد والبعث والجزاء".
يركز عمارة في نقده "لدعاة الهيرمينوطيقا في الفكر الإسلامي المعاصر" على نماذج أساسية: حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، طيب تيزيني، محمد أركون، علي حرب. معتبرا أن العالم العربي أو وفق مصطلحاته الخاصة "مجتمعات عالم الإسلام"، يعج بهذه الدعوة الهيرمينوطيقية التي "حملتها رياح الغزو الفكري " الغربي إلينا، والتي يحتاج استقصاؤها إلى مجلدات. فهذا الكتاب موضوع فقط لتبيان المخاطر التي تحملها هذه الدعوة الاستعمارية، وتركيزه على أولئك انما بهدف ابراز "التأويل العبثي" الذي مس المقدسات حيث يقول: "وإذا كانت بلوى هذا التقليد قد عمت أغلب بلاد الإسلام، وذلك عندما شلتها رياح الغزو الفكري الذي جاء إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة.. فإن نماذج هذا التأويل العبثي، الذي اجتاح ـ أو حاول ـ مقدسات الإسلام، والمحكم من آيات القرآن ـ في العقيدة والشريعة والقيم ـ قد امتدت وانتشرت على امتداد مجتمعات عالم الإسلام ... بحيث يحتاج استقصاؤها إلى مجلدات..." (ص78). إلا أنه يتبين مما ورد في المتن على أن عمارة بعيد كل البعد عن النقد فلا هو قرأ نصوص النماذج التي ذكرها ولا هو انتقدها بل تعامل معها بكل انتقائية تخلو من أي منهج علمي.
لقد ذهب به الأمر إلى حد اعتبار "دعاة التأويل" في الفكر الإسلامي المعاصر "يمثلون الإمتدادات السرطانية للغزو الفكري الغربي في "عالم الإسلام" حيث يقول: " إن معركتهم الكبرى ـ يقصد دعاة التأويل ـ والحقيقية إنما هي ضد الذات الإلهية .. والوحي.. والنبوات والرسالات .. والعقائد والمقدسات.. والشرائع والقيم والأخلاق أي ضد كل الذي حقق ويحقق تماسك المجتمعات المؤمنة (...) فالإمبريالية عند أصحاب هذا التأويل العبثي هي "إمبريالية الذات الإلهية"، وليست الإمبريالية الغربية المتوحشة، التي جاءتنا بالنهب الاستعماري.. وبهذا التأويل العبثي لمقومات صمودنا ومقاومتنا.. هذا التأويل الذي يبشر به هؤلاء الذين مثلوا ويمثلون الامتدادات السرطانية للغزو الفكري في عالم الإسلام". (ص80).
إن النص لا يقارع الحجة بالحجة، بل يذهب فقط إلى إصدار الأحكام من خلال مقتطفات معزولة عن سياقها ويتصرف في النصوص حسب ما يستهويه ويتماشى وغاياته المرسومة سلفا، وما لهذه الإنتقائية من سلبية على كل فكر يعتبر نفسه فكرا مؤسسا ومنهجيا. فالمسلمون دعاة الفكر ما عودونا على الانتقائية بل قارعوا الحجة بالحجة، وبنو مواقف متماسكة بدلا من الأحكام القيمية. ولعل الأمر يذهب به أكثر من ذلك (أكثر من الانتقائية) حيث يورد نصا لابن رشد دون أي سند مرجعي ويقول: "إننا نقدم إليهم رأي ابن رشد في "تأويلهم العبثي"، والذي ذهب فيه أبعد مما ذهب أبو حامد، حيث دعا ـ ابن رشد ـ إلى قتلهم كزنادقة" (ص82).
هوامش ومراجع:
* الماتريدي: أبو منصور محمد بن محمد محمود الماتريدي السمرقندي.
** ابن تومرت: محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، أبو عبد الله،485 ـ 524هـ/1092 ـ 1130م المتلقب بـ المهدي، ويقال له مهدي الموحدين: صاحب دعوة السلطان عبد المؤمن بن علي ، وهو من قبيلة «هَرْغة» من «المصامدة» من قبائل جبل السوس، بالمغرب الأقصى. وتنتسب هرغة إلى الحسن بن علي. ولد ونشأ في قبيلته. ورحل إلى المشرق، طالباً للعلم (سنة 500هـ) فانتهى إلى العراق. وحج وأقام بمكة زمناً. واشتهر بالورع والشدة في النهي عما يخالف الشرع، فتعصب عليه جماعة بمكة، فخرج منها إلى مصر، فطردته حكومتها، فعاد إلى المغرب.
عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد: "ذم التأويل"، الدار السلفية – الكويت، الطبعة الأولى 1406م، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر.
د. عبد الحميد درويش، "الفلسفة الإلهية عند محمد ابن تومرت"، دار المنار، القاهرة.
مصطفى محمد الحديدي، "اتجاه التفسير في العصر الوسيط"، القاهرة 1975.
حسين مروة: "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، الطبعة الرابعة، 1981، دار الفارابي، بيروت، لبنان.
مقدمة ابن خلدون، دار الجيل، بيروت.
د، محمد عمارة: "قراءة النص الديني، بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي"، سلسلة هذا هو الإسلام، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 2006.
أولا: موقف ابن قدامة المقدسي من خلال كتابه "ذم التأويل"
ثانيا: موقف ابن تومرت
ثالثا: موقف محمد عمارة من خلال كتابه "قراءة النص الديني، بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي"
-------------
أولا: موقف ابن قدامة المقدسي من خلال كتابه "ذم التأويل"
عن الكتاب : "ذم التأويل"، من وضع عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، نشر عن: الدار السلفية – الكويت، في طبعتة الأولى سنة 1406 ميلادية ومن تحقيق: بدر بن عبد الله البدر.
نبذة مختصرة عن ابن قدامة:
اسمه ونسبه: هو أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمَّاعيلي والدمشقي الصالحي الحنبلي شيخ المذهب الإمام بحر علوم الشريعة المطهرة ـ رحمه الله .
مولده ونشأته: ولد بجمَّاعيل من عمل نابلس في فلسطين سنة 541 هـ ، وقدم إلى دمشق مع أهله وعائلته واقاربه وكان عمره 10 سنين تلقى علومه من كبار مشايخ دمشق وعلمائها، وتوفى يوم الفطر عام 620 هجرية ودفن في دمشق بجبل قاسيون خلف الجامع المظفري .
تعليمه: حفظ القرآن دون سن البلوغ وحفظ مختصر الخرقي وتعلم اصول الدين، وكتبَ الخط المليح، وتتلمذ على يد كبار مشايخ دمشق واعلامها فنبغ ، ثم سافر إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبدالغني المقدسي سنة إحدى وستين، وأقاما بها أربع سنوات يدرس على شيوخها. وعاد الى دمشق.
من مؤلفاته: 1. العمدة . 2. المقنع . 3. الكافي . 4. المغني ، وهو أكبر كتبه ومن كتب الإسلام المعدودة . 5. الاستبصار ، في الأنساب . 6. الاعتقاد . 7. التوابين . 8. ذم التأويل 9. ذم الوسواس . 10. روضة الناضر وجنة المناظر . 11. فضائل الصحابة 12. القدر . 13. لمعة الاعتقاد . 14. مسألة في تحريم النظر في علم الكلام . 15. مناسك الحج .
يعرض في مقدمة الكتاب موقفه وغرضه منه:
إبراز قول السلف في أسماء الله تعالى وصفاته، وينصح بضرورة اتباعهم ومحبتهم.
الرد على الشقاق عن الرسول باعتبار مآلهم نار جهنم.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
الباب الأول: لبيان مذهب السلف الصالح وسبيلهم.
الباب الثاني: الحث على اتباعهم ولزوم أثرهم.
الباب الثالث: لبيان صواب ما صار إليه وأن الحق فيما كانوا عليه.
الباب الأول: في بيان مذهبهم في صفات الله تعالى
وفيه يدعو السلف (رحمة الله عليهم) إلى الإيمان بصفات الله، وهي الصفات التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله وعلى لسان الرسول (عليه الصلاة والسلام) من غير زيادة ولا نقصان ولا تجاوز لها ولا تفسير ولا تأويل، بما يخالف ظاهره.
ويعتبر أن السلف لم يقبلوا التأويل بدليل، أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار الرسول نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها. ويحاج بسيل من الروايات والمحكيات لبيان صدق وصحة أهل السلف في عدم الدعوة إلى التأويل وخاصة صفات الله لذلك يقول:
" أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي إذ أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق ابن عبد الرازق الزعفراني أنبأنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الطيب قال أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول إن معنى اليد القدرة ولا أن معنى السمع والبصر العلم ولا نقول إنها الجوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل ونقول إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" الشورى (11)، وقوله تعالى" ولم يكن له كفوا أحد". الإخلاص (الآية 4)
كما يذهب إلى أن المعتزلة والجهمية أصحاب تحريف وتشبيه " تحريف المعتزلة والجهمية".
ويعتبر أن من لم يؤمن بالصفات كما هي فهو كافر، لذلك يقول: "وقال يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به فقال لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله القول بها فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية ولا بالفكر". ولبيان بطلان النظر العقلي في صفات الله يقول: "حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه". فكل تفكير في الصفات هو تفكير غير جائز وحرام، وينبغي القبول بالصفات كما هي في النص وبشكل ظاهري دون أي تأويل أو زيادة أو نقصان، وأن العقل قاصر ولا يجوز له التعقل. ومن زعم غير ما أقره ظاهر النص فهو معطل جهمي " ونقول الرحمن على العرش استوى ومن زعم غير هذا فهو معطل جهمي"، والقول على العرش استوى قول معقول " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود له كفر".
ويذهب أكثر من ذلك الى اعتبار السؤال عن النص بدعة " والسؤال عنه بدعة لأنه سؤال عما لا سبيل إلى علمه ولا يجوز الكلام فيه ولم يسبق في ذلك في زمن رسول الله ولا من بعده من أصحابه"، والحجة هنا حجة ضعيفة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتباط النص بسياق تاريخي واجتماعي وسياسي ما يحكم مضمونه كإجابة عن متطلبات تلك الشروط، ولو أن الكلام في النص في زمن الرسول وفي زمان الصحابة من بعده لم يتم فهذا لا يعني أن الجواز باطل، لأن سياق ظهور علم الكلام والكلام في الصفات والآيات المتشابهات والمحكمات مختلف تماما عن السياق الذي يتحدث عنه ابن قدامة، ولأنه محال أن تكون الشروط متطابقة عبر أزمنة مختلفة، وإن كان ذلك ممكنا فما الذي يجعلها كذلك؟
ويجمل هذا الباب بقول في إثبات الصفات حسب مذهب السلف واعتراف العلماء به حيث يقول: "فقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رحمة الله عليهم بما نقلناه عنهم جملة وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل قد بلغني عمن يذهب إلى التأويل لهذه الأخبار والآيات الاعتراف بأن مذهب السلف فيما قلناه ورأيت لبعض شيوخهم في كتابه قال اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها وهو مذهب السلف فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه والحمد لله "، وصحة ما ذكره ابن قدامة هو موضع إجماع حيث لا يجوز التأويل، في حين أن ابن قدامة لا يذهب كثيرا في بيان عدم صحة موقف الجهميين حول التجسيم ولا في اجتهاد المعتزلة وأسس التأويل العقلي لديهم.
الباب الثاني: في بيان وجوب اتباعهم والحث على لزوم مذهبهم وسلوك سبيلهم وبيان ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة
يفتتح هذا الباب بالآية الشهيرة التي سالت مداد أهل النقل والعقل معا، ويتعلق الأمر بالآية 115 من سورة النساء والتي تقول:
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا"، فهي حجة عل عدم جواز التأويل وعلى ضرور ذمه وتحريمه. ومن اتبع أهل التأويل فمصيره جهنم، ويضيف من جهة الدليل القرآني الآية 110 من سورة التوبة حيث وعد الله فيها متبعيه بالرضوان والجنة " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه". ومن السنة يورد قول النبي "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
تعتبر الآيتين وقول النبي أهم الدلائل على عدم جواز التأويل وعلى ضرورة اتباع السلف، ومن لم يتبع فقد "احدث في الدين وابتدع"، وأن "من لم يتبع السلف رحمة الله عليهم وقال في الصفات الواردة في الكتاب والسنة قولا من تلقاء نفسه لم يسبقه إليه السلف فقد أحدث في الدين وابتدع وقد قال النبي كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وشر الأمور محدثاتها.
ويمكن أن نلخص بيانه في: في وجوب اتباع أهل السلف بدلائله النصية:
وقال عبد الله اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة
وقال إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر
وقال رحمة الله عليه عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله وإنكم ستجدون قوما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق
وقال أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أو رجيل أدركه ذلك الزمان.
وقال ابن مسعود من كان منكم متأسيا فليتأسى بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
ويذهب أيضا في القول أن قول الفلاسفة بدعة لأنه قول في الأعراض والأجسام: "وروى نوح الجامع قال قلت لأبي حنيفة رحمه الله ما تقول فيما أحدث الناس من كلام في الأعراض والأجسام فقال مقالات الفلاسفة عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة". فأهل السنة يقتدون ولا يبتدون ويتبعون ولا يبتدعون، ولا يزعمون بل عليهم بالعتيق وبلزوم السنة والسلف، " فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع والعبرة دلت عليه فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم لأن اتباع الصواب واجب وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراط المستقيم ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه ونهى عن اتباع ما سواه فقال "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" الأنعام 15" . هكذا يتضح ثبوت وجوب اتباع السلف، بالكتاب والسنة والاجماع والعبرة دلت على اتباع الصواب باعتباره واجبا لأن ركوب الخطأ في الاعتقاد حرام. " وإن زعم زاعم أنهم مخطئون كان قادحا في حق الإسلام كله لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا جاز خطؤهم في غيره من الإسلام كله وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها ولا تثبت معجزات النبي التي رووها فتبطل الرواية وتزول الشريعة ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا ولا يعتقده ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا إما أن يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف علمناه نحن وإن علموه فوسعهم إن يسكتوا عنه وجب أن يسعنا ما وسعهم ولأن النبي من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي الصفات وهو حجة الله على خلق الله أجمعين يجب عليهم اتباعه ويحرم عليهم خلافه وقد شهد الله تعالى بأنه على الصراط المستقيم وأنه يهدي إليه وأن من اتبعه أحبه الله "ومن عصاه فقد عصا الله ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا" الأحزاب 36 "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين" النساء 14"، وبهذا القول يختتم ابن قدامة الباب الثاني حيث يبين بالاستناد على الكتاب والسنة ضرورة اتباع أهل السلف وعلى ضرورة اتباع مذهبهم وذم التأويل.
الباب الثالث في بيان أن الصواب ما ذهب إليه السلف رحمة الله عليهم بالأدلة الجلية والحجج المرضية وبيان ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى
في القرآن آيات متشابهات وآيات محكمات، ومن اتبع التشابه إنما في قلبه زيغ يبتغي التأويل، في حين أن التأويل لله وحده في نظر ابن قدامة: "أما الكتاب فقوله تعالى "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله" آل عمران 7."
ومن يبتغي تأويل النتشابه يقترن بمن يريد الفتنة وذلك بين في نظره من خلال تفسيره للآية أعلاه (آل عمران الآية 7)، حيث يورد سبع نقاط أساسية:
أولا: أن الله ذم مبتغي التأويل ولو كان معلوما للراسخين لكان مبتغيه ممدوحا غير مذموم.
ثانيا: أن النبي قال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم يعني كل من اتبع المتشابه فهو من الذين في قلوبهم زيغ فلو علمه الراسخون لكانوا باتباعه مذمومين زائغين والآية تدل على مدحهم والتفريق بينهم وبين الذين في قلوبهم زيغ وهذا تناقض.
الثالث: أن الآية تدل على أن الناس قسمان لأنه قال فأما الذين في قلوبهم زيغ وأما لتفصيل الجمل فهي دالة على تفصيل فصلين أحدهما الزائغون المتبعون للمتشابه والثاني الراسخون في العلم ويجب أن يكون كل قسم مخالفا للآخر فيما وصف به فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم آمنا به كل من عند ربنا تاركين لابتغاء تأويله وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى ولم يجعل الراسخين قسما آخر ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح.
الرابع: أنه لو أراد العطف لقال ويقولون بالواو لأن التقدير والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون.
الخامس: أن قولهم آمنا به كل من عند ربنا كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده.
السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا رأوا من يتبع المتشابه ويسأل عنه استدلوا على أنه من أهل الزيغ ولذلك عد عمر صبيغا من الزائغين حتى استحل ضربه وحبسه وأمر الناس بمجانبته ثم أقرأ صبيغ بعد بصدق عمر في فراسته فتاب وأقلع وانتفع وعصم بذلك من الخروج مع الخوارج ولو كان معلوما للراسخين لم يجز ذلك
السابع: أنه لو كان معلوما للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد فقد خالف النص على كل تقدير.
ثبت من خلال هذا التفسير للآية (7 من سورة آل عمران) "أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى وأن متبعه من أهل الزيغ وأنه محرم على كل أحد "، وذلك من جهة النص حسب الدلائل النصية الواردة في هذا المتن، ومن جهة السنة لأمرين:
1 - قول الرسول: "كل امر ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا ليس عليه أمر".
2 – أن النبي "تلا هذه الآيات وأخير بالاخبار وبلغها أصحابه وأمرهم بتبليغها ولم يفسرها ولا أخبر بتأويلها ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع" فلو كان لها تأويل لزمه بيانه ولم يجز له تأخيره. وأن ما سكت عنه الرسول لزم علينا اتباعه لقوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". (الأحزاب 21).
والصحابة أجمعوا على ترك التأويل لأنه ابتداع وبدعة، والاجماع حجة قطعية على حد تعبير ابن قدامة، ولا يجمع أمة محمد على ضلالة. وكذلك الأئمة الذين أوصوا بالنهي عن النفسير والتأويل معا. لذا يجب اتباع الرسول والصحابة وعلمائهم، فإذا علموا بالتأويل ووسعهم السكوت عنه وسعنا ما وسعهم، وإذا لم يعلموا بالتأويل فكيف يجوز أن يعلمه غيرهم؟ وهل يجوز أن يكون قد خبأ عنهم علما وخبأ للمتكلمين لفضل عندهم.
إن الصفات في نظر ابن قدامة لا تدرك بالعقل، على عكس ما يذهب إليه المعتزلة، لذا يقول: "صفات صفات الله تعالى وأسماءه لا تدرك بالعقل لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه فلا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف"، ويحاج على ذلك بالآية 33 من سورة الأعراف " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطل والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".
وهكذا يختم ابن قدامه اجتهاده ـ إن صح اعتباره اجتهاد ـ بالتأكيد على أن:
التأويل من أهل جهنم والزنادقة.
التأويل ليس بواجب بالإجماع ولو كان كذلك فالنبي وأصحابه أخلوا بهذا الواجب وهذا محال، وغير جائز قوله.
يتعين تحريم التأويل.
لا يلزم أحدا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى
ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم .
وطريقة السلف رحمة الله عليهم جامعة لكل خير.
يتضح مما سبق أن صاحبنا يعمل جاهدا على رفض التأويل كما عمل غيره من أهل السلف، وإن كانت محاولته لا تنطوي على أي تقدم بخصوص ذم التأويل، حيث أن عمله ما هو إلا جرد واجترار لدلائل السلف، وان كان الأولون عليه من سلفه قد ساجلوا أهل "القول بالصفات" و"التشبيه" و"التجسيم"، فإنه في عمله هذا يكتفي فقط بإصدار الأحكام في عموميتها، دون أي يخوض في سجال مع من ينتقدهم.
ثانيا: موقف ابن تومرت **
1 – الفرق بين التأويل والتفسير:
يذهب الدكتور عبد الحميد درويش في كتابه "الفلسفة الإلهية عند محمد ابن تومرت"، إلى أن ابن تومرت سار على نهج من سبقه من الأئمة والفقهاء وبعض علماء الكلام. على الرغم من أنه لم يلجأ إلى تأويل أو تفسير القرآن بالقرآن. وهذا ما جعل تأويله أقرب إلى العقل منه إلى النقل، مثلا تأويله لمعنى "كرامة الإنسان"، وقبل أن نعالج مسألة التأويل عند ابن تومرت، نرى ضرورة التمييز بين التأويل والتفسير.
فحسب قول الماتريدي*: إن التفسير هو القطع بأن مراد الله تعالى كذا... أما التأويل فهو ترجيح أحد المحتملات بدون قطع.
ولدى البعض الآخر التفسير أهم من التأويل، فالتفسير للمعنى الظاهر والتأويل للباطن، والتفسير يؤخذ من وضع العبارة والتأويل يستفاد من طريق الإرشاد، ووظيفة التأويل الإجابة وكشف المعطى عن طريق الاستدلال والرجوع إلى الأصل أي رد الشيء إلى الغاية المرادة منه.
التأويل عند ابن تومرت:
اعتمد ابن تومرت على ما يذهب عبد الحميد درويش، على قول من سبقه من المفسرين للوصول إلى النتيجة العقلية التي يفترضها في التأويل، ومن أهدافه في التأويل:
التأويل وسيلة لتفسير وبيان أصل الطبائع وتركيب الأرواح والأنفس في الأجسام عن طريق بيان حقيقة هذه الاشياء وتفسير نشأة الخلق الآدمي ونشأة الكون...
التأويل وسيلة لنشر الفكر الإسلامي الصحيح، لأن التأويل يؤدي إلى العلم، والعلم أصل الهدى واليقين.
التأويل وسيلة للتوفيق بين الآراء المتعارضة عند المفسرين لأن التأويل لا يكون إلا بالرجوع إلى الأصل.
التأويل وسيلة لا ستخلاص الأحكام من الشريعة وتسهيل عملية التطبيق، وذلك لأن التأويل يعتمد على العقل الذي به نهتدي إلى الحكمة...(كنز العلوم).
التأويل هو السبيل للرد على المخالفين من جميع المذاهب سواء متطرفي أهل السنة أو الرافضة أو غيرهم من المجسمة...
وفي هذا يؤكد ابن تومرت على دور العقل في فعل التأويل، فالعقل، نظر حقيقي مهمته ووظيفته محددة: التمييز بين الحق والباطل. أي أن التأويل ضرورة لأنها المصدر الذي يشمل كل الأدلة البرهانية والجدلية والخطابية، وهو يرى أيضا أن الشريعة تخاطب كل فريق على قدر عقولهم وينبغي تأويلها للعامة والخاصة على السواء، وعلى هذا الأساس ألف العديد من الرسائل كالمرشدة في التوحيد (التي تؤكد وجوب الاجتهاد والأخذ بالأدلة العقلية والسمعية والقرآنية...).
تأويله لمفهوم الكرم:
يستدل بقوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء الآية 70). ويقول ابن تومرت في هذا: "ويحتمل أن يكون الإكرام عما خصه الله به من المعاني التي هي للعقل والعلم والإيمان وغير ذلك من الخواص الحميدة" (أعز ما يطلب، ص66، طبعة الجزائر 1903). ويضيف: "اعلم هداك الله تعالى أن الإنسان أفضل المخلوقات وأكرمها على الله تعالى وأكملها وأحسنها خلقا بما أودع الله فيه من بديع حكمته ورفيع صنعته وذلك أن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وفضله على سائر خلقه وركبه في أحسن صورة" (كنز العلوم والدر المنظور، الفصل الرابع، ص97،98).
إن العقل في نظر ابن تومرت هو الأداة الأساسية لاعمال التأويل باعتبار التأويل الضرورة الأساس، ولقد كان موقف ابن تومرت وسطيا بين دعاة النقل ودعاة العقل. هكذا يجتمع (في ابن تومرت) الفقيه المجتهد والسياسي المحنك الذي يتطلع إلى إرساء دعائم دولة مبنية على أسس مغايرة للمرابطين وللفقه السياسي المتزمت. ولا يقتصر ابن تومرت على الدعوة إلى إعمال التأويل والأخذ به، بل رد أيضا على المعارضين أي "كارهي التأويل" وهذا ما سنبينه:
كراهة التأويل:
رد ابن تومرت على من يكرهون التأويل بعدة دلائل:
كراهة التأويل تعني الفصل التام بين الحكمة والشريعة، أي بين العقل والنقل وهو ما ثبت فساده شرعا ومنطقا.
الإجماع والقياس يدخلان في الشريعة، فالإجماع يستمد من قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء، الآية 59). وهي نفس الحجة التي نجدها لدى أهل السنة وخاصة ابن قدامة المقدسي.
التأويل هو طريق ثبوت فرع دون أصل وأصل دون فرع,
كراهة التأويل مصدرها الخوف (الخوف من الاعتماد الكلي على العقل).
لقد حاول ابن تومرت في كتابه "أعز ما يطلب" أن يرد على رافضي التأويل في باب كامل عنوانه: "الدليل على أن الشريعة لا تثبت بالعقل من وجود مؤكد"، وفي هذا الباب يرى أن رفض التأويل لا اساس له لاعتقاد كارهيه:
أن العقل ليس فيه إلا الإمكان والتجويز وهما شك والشك ضد اليقين ومحال أخذ الشيء من ضده.
قولهم أن ضرورات العقل ثلاث: الواجب، الجائز، المستحيل. والعبادات ليست من قبيل الواجب في العقل ولا من قبيل المستحيل فلم يتبقى إلا الجائز، والجواز يؤدي إلى التمانع.
الأعيان كلها متساوية عقلا فليس بعضها بأولى بالاباحة أو الحظر من بعض، وإذا تساوت تمانعت وإذا تمانعت بطلت.
أن الله مالك الأشياء يفعل ما يشاء، فليس للعقول تحكم ولا مدخل فيما حكم به المولى.
وإذا كانت هذه بعض دعاوي الكارهين، فابن تومرت يرد عليهم بقوله: (أعز ما يطلب، ص 163، 174)
"ذهب الرافضة أن الشريعة لا حكمة فيها وأنها ليست على سنن العقل جارية طعنا منهم في الدين وجهلا بحكمه الله تعالى، وذهب آخرون إلى الاستنباط من عقولهم وتحسين الأشياء على ما أدتهم إليه وجعلوا أقيسة في الشرع عدولا منهم عن الحق وذلك كله فاسد".
لقد كان ابن تومرت جريئا من سابقيه حيث قرر أن التأويل ضرورة يفرضها الشرع ويأمر بها وهو السبيل لنشر الدين وحقيقة التوحيد وإفهام العام ونشر اللغة الصحيحة بينهم بل إنه السبيل لتحقيق الوحدة بين الجميع.
لقد اعتمد التأويل في بداية القرن السادس الهجري ومما لا شك فيه أن ابن رشد القرطبي استفاد مما تركه المهدي الموحدي. فالنص القرآني عند ابن تومرت لا يتعارض مع العقل وان حصل ذلك ينبغي تأويله وتفسيره بحيث يتفق مع العقل. (أليس هذا هو الموقف الرشدي في فصل المقال؟). وهو بذلك يتفق مع الموقف المعتزلي الذي يعتبر أن العقل أصل والشرع فرع يحمل عليه.
تأويل المتشابهات:
تعتبر مسألة التجسيم والتشبيه، من أهم القضايا التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، تفرعت عنها عدة قضايا، تمس: العقيدة، الإيمان، التوحيد، الذات والصفات، الاستواء، الرؤية، التشبيه... وقد سلك ابن تومرت في مواجهة أهل التجسيم والتشبيه في شمال افريقيا مبدأ التأويل والإقناع أولا، والمواجهة بالسلاح والقتال ثانيا.
لقد قدم بيان المعنى للافهام والتوضيح وبيان حقيقة التنزيه والتوحيد لأنها عنده الدليل على رد التشبيه ودحض آراء المجسمة ونفي أي مشابهة بين الله والإنسان.
إن التأويل عند ابن تومرت يشمل الآيات المتشابهات وآيات الوحدانية والتنزيه والآيات المحكمات على حد سواء. ففي كتابه "كنز العلوم" يبدا بتأويل آيات الالوهية والتنزيه: - تأويله "باسم الله الرحمان الرحيم". و – "ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم". ومن خلالهما تتأكد الوحدانية بالدليل والتنزيه أيضا، وكذلك الشأن في مسألة الرؤية والابصار والسمع ولا مجال للتشبيه مع الإنسان، لذلك يقول: "بما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله فكيف نصفه بالجسمية وبالصورة الإنسانية كصورة جوهرية معقولة الشكل كالإنسان ونحوه من الجواهر المجسمات المدركات بالحس".
إن صورة الله عنده صورة معلومة الوجود بالمعنى المفهوم بالعقل لا بالحس والخيال. ونفس الشيء ينطبق أيضا على آيات النزول والعرش لنفي الجسمية والمكانية عن الذات الإلهية. فالأصل عنده هو التنزيه التام للألوهية في الذات والصفات والاسماء والأفعال، والأصل الفصل بين ما هو إلهي وما هو بشري وما هو روحي ولذلك نفى أن يكون الله جسما أو مادة أو حيز أو في جهة أو مكان لأنه منزه عن كل جسمية وشبه. هذا ولا يسعنا أن نحيط بكافة القضايا التي عالجها ابن تومرت بصدد التأويل، فله العديد من التأويلات التي تستحق الاهتمام، للتأصيل لنزعة التأويل في الفكر الاسلامي الوسيط، وخاصة بالمغرب.
إن دعوة ابن تومرت للتأويل العقلي لا مراء فيها، فهي دعوة بينة وواضحة في مختلف انتاجاته، على الرغم من أنها محكومة ومطلوبة بأمرين:
موقفه التوفيقي بين أهل العقل والنقل، وهنا نفهم هجومه على أهل السلف / السنة والجماعة، وعلى أهل التجسيم والتشبيه.
الازدواج بين الفقه والسياسة، فكونه فقيها لا يلغي كونه سياسيا محنكا ومحاربا في سبيل الاصلاح والتجديد، وكونه سياسيا لا يلغي كونه فقيها، بل شجعه ذلك على إيجاد صيغة جديدة في الفقه السياسي تميزه عن خضومه من المرابطين.
وإذا كان الحال هكذا بالنسبة لهذين الموقفين، كما هو الحال بالنسبة للعديد من المواقف الموزعة على خارطة الفكر الوسطوي فإن هذا لا يعني على الرغم من كل الدراسات الخصبة والقراءات المتعددة التي يحفل بها الثرات العربي ـ الاسلامي، أن مسألة التأويل قد حلت وأننا حسمنا بين أمرين: إما الدعوة إلى التأويل، وإما الانكفاء وراء تذميمه. بل نعتقد أن هذه المسألة ظلت حاضرة إلى اليوم وحتى لا نقول أنها راهنية لأنها لم تنمحي ولم تختفي قط في هذا الثرت، فإننا نود أن نقف على أهم المواقف المعاصرة على الرغم من المحاولات التقدمية التي همت الفكر العربي ـ الإسلامي المعاصر وذهبت أبعد من التأويل، فإن التذميم لايزال متواصلا مع البعث الجديد للسلفية الوهابية أساسا.
يشكل الدكتور محمد عمارة أحد أعمدة الفكر الاسلامي المعاصر الذي تظل كتاباته ال 185 تزخر بمواقفه السلفية في جملة من القضايا المعاصرة المطروحة على الفكر العربي المعاصر. فهو الوجه الأمثل كغيره من الوجوه الأخرى الأكثر تشددا بصدد التأويل والتي يقاسمها نفس الرأي.
ثالثا: موقف محمد عمارة من خلال كتابه "قراءة النص الديني، بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي"
يفتتح كتابه بحكم مسبق وقطعي حول التأويلية حيث يقول "هذه الهيرمينوطيقا، قد بلغت في الغلو إلى الحد الذي حكمت فيه بموت الإله، في تأويل النصوص المقدسة لدى اليهود والنصارى". وهو حكم ينطوي على انتقائية كما سنرى.
يتناول الكتاب: الهيرمينوطيقا من علم موت المؤلف إلى هيرمينوطيقا النص الديني، متوقفا على التأويل في مذاهب الإسلاميين على مستوى النص القرآني والسنة النبوية وفي اللغة والاصطلاح، كما ساق الحديث عن القانون الإسلامي لفلسفة التأويل، كما هو الشان عند الصوفية والتأويل الباطني. ودون الوقوف على كل الحيثيات التي تؤطر هذا التصور فإن موضوعنا سيقف أساسا على الفصل المعنون ب: "هرطقة الهيرمينوطيقا في الدراسات الإسلامية المعاصرة"، والذي يتخذ فيه لا حكم قيمة وفقط بل موقفا متأصلا، وما تعنيه كلمة هرطقة وما تحمله من دلالات.
إن عمارة هنا يستجيب لموقف عصره وفق ما يتصوره كما استجاب له "ابن قدامة المقدسي" و "ابن تيمية"، ففي هذا الفصل يقر بالعلاقة بين "التأويل الهيرمينوطيقي الغربي الوضعي العلماني والتأويل الغنوصي الباطني الديني"، وأكثر من ذلك فإن الهيرمينوطيقا المعاصرة في نظره تجاوزت الغنوصية، فهذه الأخيرة تنتقل بالنص من "جسده" إلى "روحه" في حين أن "الهيرمينوطيقا الوضعية العلمانية" تنتقل به من روحه إلى جسده، "تنتقل بالدين من الإلهية إلى "الطبيعة"، ومن الميتافيزيقا إلى الفيزيقا، ومن الوحي إلى العقل والتجربة الحسية، فهذه الهيرمينوطيقا بلغة عمارة "عملت على "أنسنة" الاله والصفات الالهية والنبوة ونفي التنزيل والإعجاز عن القرآن والوحي ونفي الخلود وأنسنة عالم الغيب وإلى "تأليه العقل" والاستغناء به وبالحواس عن الوحي والغيب. وإلغاء عقائد التوحيد والبعث والجزاء".
يركز عمارة في نقده "لدعاة الهيرمينوطيقا في الفكر الإسلامي المعاصر" على نماذج أساسية: حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، طيب تيزيني، محمد أركون، علي حرب. معتبرا أن العالم العربي أو وفق مصطلحاته الخاصة "مجتمعات عالم الإسلام"، يعج بهذه الدعوة الهيرمينوطيقية التي "حملتها رياح الغزو الفكري " الغربي إلينا، والتي يحتاج استقصاؤها إلى مجلدات. فهذا الكتاب موضوع فقط لتبيان المخاطر التي تحملها هذه الدعوة الاستعمارية، وتركيزه على أولئك انما بهدف ابراز "التأويل العبثي" الذي مس المقدسات حيث يقول: "وإذا كانت بلوى هذا التقليد قد عمت أغلب بلاد الإسلام، وذلك عندما شلتها رياح الغزو الفكري الذي جاء إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة.. فإن نماذج هذا التأويل العبثي، الذي اجتاح ـ أو حاول ـ مقدسات الإسلام، والمحكم من آيات القرآن ـ في العقيدة والشريعة والقيم ـ قد امتدت وانتشرت على امتداد مجتمعات عالم الإسلام ... بحيث يحتاج استقصاؤها إلى مجلدات..." (ص78). إلا أنه يتبين مما ورد في المتن على أن عمارة بعيد كل البعد عن النقد فلا هو قرأ نصوص النماذج التي ذكرها ولا هو انتقدها بل تعامل معها بكل انتقائية تخلو من أي منهج علمي.
لقد ذهب به الأمر إلى حد اعتبار "دعاة التأويل" في الفكر الإسلامي المعاصر "يمثلون الإمتدادات السرطانية للغزو الفكري الغربي في "عالم الإسلام" حيث يقول: " إن معركتهم الكبرى ـ يقصد دعاة التأويل ـ والحقيقية إنما هي ضد الذات الإلهية .. والوحي.. والنبوات والرسالات .. والعقائد والمقدسات.. والشرائع والقيم والأخلاق أي ضد كل الذي حقق ويحقق تماسك المجتمعات المؤمنة (...) فالإمبريالية عند أصحاب هذا التأويل العبثي هي "إمبريالية الذات الإلهية"، وليست الإمبريالية الغربية المتوحشة، التي جاءتنا بالنهب الاستعماري.. وبهذا التأويل العبثي لمقومات صمودنا ومقاومتنا.. هذا التأويل الذي يبشر به هؤلاء الذين مثلوا ويمثلون الامتدادات السرطانية للغزو الفكري في عالم الإسلام". (ص80).
إن النص لا يقارع الحجة بالحجة، بل يذهب فقط إلى إصدار الأحكام من خلال مقتطفات معزولة عن سياقها ويتصرف في النصوص حسب ما يستهويه ويتماشى وغاياته المرسومة سلفا، وما لهذه الإنتقائية من سلبية على كل فكر يعتبر نفسه فكرا مؤسسا ومنهجيا. فالمسلمون دعاة الفكر ما عودونا على الانتقائية بل قارعوا الحجة بالحجة، وبنو مواقف متماسكة بدلا من الأحكام القيمية. ولعل الأمر يذهب به أكثر من ذلك (أكثر من الانتقائية) حيث يورد نصا لابن رشد دون أي سند مرجعي ويقول: "إننا نقدم إليهم رأي ابن رشد في "تأويلهم العبثي"، والذي ذهب فيه أبعد مما ذهب أبو حامد، حيث دعا ـ ابن رشد ـ إلى قتلهم كزنادقة" (ص82).
هوامش ومراجع:
* الماتريدي: أبو منصور محمد بن محمد محمود الماتريدي السمرقندي.
** ابن تومرت: محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، أبو عبد الله،485 ـ 524هـ/1092 ـ 1130م المتلقب بـ المهدي، ويقال له مهدي الموحدين: صاحب دعوة السلطان عبد المؤمن بن علي ، وهو من قبيلة «هَرْغة» من «المصامدة» من قبائل جبل السوس، بالمغرب الأقصى. وتنتسب هرغة إلى الحسن بن علي. ولد ونشأ في قبيلته. ورحل إلى المشرق، طالباً للعلم (سنة 500هـ) فانتهى إلى العراق. وحج وأقام بمكة زمناً. واشتهر بالورع والشدة في النهي عما يخالف الشرع، فتعصب عليه جماعة بمكة، فخرج منها إلى مصر، فطردته حكومتها، فعاد إلى المغرب.
عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد: "ذم التأويل"، الدار السلفية – الكويت، الطبعة الأولى 1406م، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر.
د. عبد الحميد درويش، "الفلسفة الإلهية عند محمد ابن تومرت"، دار المنار، القاهرة.
مصطفى محمد الحديدي، "اتجاه التفسير في العصر الوسيط"، القاهرة 1975.
حسين مروة: "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، الطبعة الرابعة، 1981، دار الفارابي، بيروت، لبنان.
مقدمة ابن خلدون، دار الجيل، بيروت.
د، محمد عمارة: "قراءة النص الديني، بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي"، سلسلة هذا هو الإسلام، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 2006.